Skip to main content

حقيقة عقيدة التثليث

الإنسان متدين بطبيعته، لأنه من يوم أن خلقه الله، وقد تعود الحياة معه والشركة الدائمة وإياه. ونحن نقرأ في سفر التكوين في صراحة كاملة أن الله كان يمشي في الجنة ليتحدث إلى آدم وحواء

حديث الحب والهناء (تك 3: 8).

لكن الإنسان أخطأ ضد الله، فأقامت الخطية حجاباً كثيفاً بينه وبين إلهه كما قال أشعياء النبي "ها إن يد الرب لم تقصر عن أن تخلص ولم تثقل أذنه عن أن تسمع بل آثامكم صارت فاصلة بينكم وبين إلهكم وخطاياكم سترت وجهه عنكم حتى لا يسمع" (أش 59: 1 و2) ومع أن الإنسان طرد من الجنة بأمر خالقه، لكنه مع ذلك استمر يتطلع إليه في آلامه وضيقاته وخطاياه. ولسنا نعلم إلى أي مدى من التاريخ ظل الإنسان يفكر في الله تفكيراً صحيحاً، لكننا نعلم أن غريزة العبادة في البشر دفعتهم إلى صنع آلهة يسجدون لها وينحنون عند مواطئ أقدامها.

والذي يدرس تاريخ الحضارة المصرية القديمة، يرى أن قدماء المصريين قد تعبدوا لآلهة صنعوها من مظاهر الطبيعة التي تحيط بهم فلما رأوا الشمس وهي تشرق في الصباح تبعث النور والحياة والنشاط في العالم المظلم رفعوا إليها هذه الصلاة "أيها الإله "رع" إننا نحمدك لأنك إذ تخرج إلى عالمنا نقوم لنعمل ونجتهد ونحيا، وإذ تغيب عنا نلجأ إلى بيوتنا لنستكين للنوم والسكوت". ولما رأوا النيل وهو يفيض على بلادهم خيراً، وأحياناً يفيض عليها خراباً ظنوه إلهاً، فاعتادوا أن يترضوا وجهه بالضحايا حتى يسكن غضبه عنهم. وهكذا فكروا في الحياة بعد الموت فجعلوا من أوزوريس حاكماً لهم ودياناً، وابتكروا عشرات الآلهة التي اعتقدوا أنها تعطيهم البركات أو ترسل عليهم اللعنات، تم فيهم القول الذي سجله بولس الرسول في رسالته إلى أهل رومية إذ يقول "لأن غضب الله معلن من السماء على جميع فجور الناس وإثمهم الذين يحجزون الحق بالإثم. إذ معرفة الله ظاهرة فيهم لأن الله أظهرها لهم. لأن أموره غير المنظورة ترى منذ خلق العالم مدركة بالمصنوعات قدرته السرمدية ولاهوته حتى أنهم بلا عذر. لأنهم لما عرفوا الله لم يمجدوه أو يشكروه كإله بل حمقوا في أفكارهم وأظلم قلبهم الغبي وبينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء وأبدلوا مجد الله الذي لا يفنى بشبه صورة الإنسان الذي يفنى والطيور والدواب والزحافات لذلك أسلمهم الله أيضاً في شهوات قلوبهم....وإلى أهواء الهوان....وإلى ذهن مرفوض ليفعلوا ما لا يليق" (رو: 18-28).

وإذ نترك جماعة المصريين القدماء، نرى أمامنا جماعة اليونانيين الحكماء، ومع حكمتهم وفلسفتهم، نجد أن عقلهم الكبير قد أضلهم عن معرفة الله الحقيقي، فسجدوا أمام عفروديت آلهة اللذة والغرام، وايفايستوس إله النار والحرارة، وأديس إله الجحيم والسافلين، واسقليبوس إله الطب، وزفس رب الأرباب وهرمس الإله العظيم....وهكذا انحرفت فلسفة اليونان الحكماء، فشابهت حكمة المصريين القدماء، فضل العقل اليوناني، كما ضل العقل المصري ولم يقدرا أن يعرفا الله الحي الحقيقي.

لماذا؟! لأن المخلوق لا يستطيع أن يعرف خالقه إلا بإعلان سماوي يأتي من الخالق السرمدي إلى المخلوق الترابي. وقد جاء الله في محبته وحنانه ورحمته وأمسك بيد خلائقه ليعلن لهم ذاته العلية، ويظهر لهم شخصيته الأزلية. ومع ذلك فليس في وسع الإنسان البشري المحدود العقل أن يدرك شخصية الخالق القادر على كل شيء إلا بمقدار ما يدرك طفل روضة الأطفال نظرية من نظريات الهندسة، أو قانوناً من قوانين الطبيعة. وليس في وسع العالم الكبير أن يضع الله جل وعلا في مخبار مدرج ليعرف كميته، أو أن يضعه في بوتقة الاختبار ليعرف نوعيته. لأن الله سبحانه وتعالى جلّ عن كل فحص، كما يقول بذاته في سفر أشعياء "ألا تعلمون. ألا تسمعون. ألم تخبروا من البداءة ألم تفهموا من أساس الأرض الجالس على كرة الأرض. وسكانها كالجندب الذي ينشر السموات كسرادق ويبسطها كخيمة للسكن. الذي يجعل العظماء لا شيئاً ويصير قضاة الأرض كالباطل....فبمن تشبهونني فأساويه يقول القدوس ارفعوا إلى العلاء عيونكم وانظروا من خلق هذه. من الذي يخرج بعدد جندها يدعو كلها بأسماء لكثرة القوة وكونه شديد القدرة لا يفقد أحد" (أش 40: 21-26).

هذا هو الإعلان السماوي الذي أرسله الله لبني الإنسان، وبدون إعلان سماوي لا يقدر الإنسان أن يعرف شيئاً عن خالقه وموجده.

ألا تذكرون يوم اجتمع التلاميذ مع سيدهم في مكان ما، وألقى عليهم هذا للسؤال "من يقول الناس إني أنا ابن الإنسان؟". لقد امتنع التلاميذ استحياء وتأدباً، أن يذكروا للمسيح كل ما يقوله الناس عنه فبعضهم قد قال "إنه سامري وبه شيطان" وبعضهم قد قال "إنه ببلعزبول يخرج الشياطين" وبعضهم قد احتقره "لأنه النجار بن مريم" لكن التلاميذ خافوا على مشاعر سيدهم أن تتأذى وهم يعرفون مقدار رقة مشاعر ملكهم الأعظم، فقالوا له "بعضهم يقولون إنك "إيليا"، وبعضهم إنك "أرمياء" وبعضهم إنك "واحد من الأنبياء" لكن المسيح لم يشبع، كل هذا فهو أعظم من إيليا، وأكبر من أرمياء، وأعلى من الأنبياء جميعاً- لذلك قال لهم "وأنتم من تقولون إني أنا؟" فأجاب بطرس معبراً عن عقيدة الرسل الباقين وقال له: "أنت هو المسيح ابن الله الحي" فبماذا أجابه السيد؟ هل قال له- يا بطرس يا لك من حكيم؟ أو يا سمعان بن يونا يا لك من رجل فيلسوف مفكر؟ كلا.... بل نطق بلسانه الملكي قائلاً: "طوبى لك يا سمعان بن يونا إن لحماً ودماً لم يعلن لك لكن أبي الذي في السموات" فكل معرفة بالله يجب أن تأتي رأساً بإعلان سماوي، لأن الفكر البشري. فكر ضال عندما ينحرف بصاحبه ينجرف إلى عبادة الأوثان.... لهذا أؤمن بعقيد التثليث، لا بناء على أفكار البشر الضعيفة المريضة بل أؤمن بها لأن الله قد أعلنها بذاته العلية وسأحاول بإرشاد الله وقدرة نعمته أن أبسط هذه العقيدة الخالدة في ثلاث كلمات واضحة، راجياً أن يعلن روح الله شخصية الإله الأبدي الجليل لكل نفس مخلصة ولكل عقل خاضع ولكل قلب مفتوح.

الكلمة الأولى: أنا أؤمن بعقيدة التثليث على أساس الإعلانات الكتابية.

كما قلت أعود فأقول إن كل معرفة بالله لا بد أن تأتي رأساً من الله، والكتاب المقدس هو الإعلان السماوي الذي أرسله الله للإنسان كما يقول بولس الرسول "كل الكتاب هو موحى به من الله" (2تى 3: 16) وكما يقول بطرس الرسول "لأنه لم تأت نبوة قط بمشيئة إنسان بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس" (2بط 1: 21) وعلى هذا فالإعلان الكتابي هو الأساس الأكبر لإيماني بعقيدة التثليث.

  • عدد الزيارات: 3412