Skip to main content

الملائكة والموت

جاء الملاك صباح أحد القيامة إلى البستان حيث كان القبر الذي وضع فيه جسد يسوع بعد موته، فدحرج الحجر الكبير عن باب القبر فدخله الهواء النقي ونور الصباح. لم يعد ذلك القبر حجرة موحشة بل أصبح مكاناً يشع منه مجد الإله الحي.

لم يعد سجناً مظلماً بل مكاناً يذكر كل ناظر إليه بالنور السماوي الذي يطرد أخيلة الموت. فإن قيامة يسوع غيّرت الوضع تغييراً تاماً. وقد صدق من قال:

ها القبر أمسى حجرةً مضاءةً          في بابها ترفرف الملائكة

تأتي وتمضي من علٍ حاملةً             بشرى رجاء للنفوس الهالكة

   لا يقدر الناس ولا الملائكة أن يصفوا عظمة المجد الذي أفاق عليه العالم عندما عاد يسوع حياً، مفلتاً من قبضة الموت. وكما يقول تشارلز وسلي في إحدى ترنيماته:

يا له سراً عظيمـاً              أن يموت سيــدي

هل ترى يسبر غور           قصد ربي السرمـدي.

عبثاً يسعى مـلاك            أو سروف من لهيـب

أن يعي عمـق وداد         بان من فوق الصليب

إنهـا نعمـة ربـي                فعلت أمـراً يـروع

فاسجدي يا أرض طراً        واعبديـه بخشـوع

واصمتوا يا جند ربي     عن سؤال ذي عيـاء

ها هنا سر عجيـب       ليس يجلـوه ذكـاء

   قام الرب يسوع ولن يموت بعد. أما نحن فنموت. لكن كما انشغل ملاك بأمر قيامة يسوع سيقدم الملائكة العون لدى موتنا. إن عالمنا الطبيعي هذا قريب جداً من العالم الروحي، لا يفصل بينهما إلا حجاب رقيق، نسميه الموت. لكن المسيح لاشى الموت وقهر تهديدات الملائكة الشرار الساقطين. والله الآن يحيط الموت بتأكيدات العون الملائكي لكل مؤمن مسيحي، مما يحيل اختبار الموت الأليم إلى تمتع بهيج بالحياة الحقيقية. إذ لا بد لنا نحن المؤمنين من أن نرث الحياة الأبدية.     

موت المسيحي المؤمن:

   ما الموت للمسيحي المؤمن إلا قطع ذلك الحبل الذي يقيدنا كأسرى في هذا العالم الحاضر الشرير، كي يتمكن الملائكة من نقل المؤمنين إلى أرض ميراثهم السماوي. فالموت هنا هو المركبة النارية، وصوت الملك اللطيف، والدعوة للسفر بلا توقف إلى بيت الوليمة في عالم المجد.

   سبق أن ذكرت لعازر الذي حملته الملائكة إلى حيث إبراهيم في النعيم. كنت كلما أفكر بالموت أجد في هذه القصة تعزية عظيمة: سيأتي يوم تحملني فيه الملائكة فعلاً إلى حضرة الله. هذه الأرواح الطاهرة التي ساعدتني وخدمتني في كثير من الأحوال ستكون معي في نزاعي الأخير العظيم على هذه الأرض. والموت معركة، بل حادث أزمة عظيمة. فلا عجب إذا كان بولس الرسول يدعو الموت "آخر عدو" (1 كورنثوس15: 26). وقد نزع المسيح شوكة الموت بموته الكفاري على الصليب وبقيامته. غير أن اجتياز هذا الوادي مازال يولد الخوف والتهيب. ولكن مهما جرى، فلا بد أن يكون الملائكة حاضرين ليساعدونا. جاء في المزمور23: 4 "إذا سرت في وادي ظل الموت لا أخاف شراًَ لأنك أنت معي، عصاك وعكازك هما يعزيانني". ألا يمكن أن يكون في العصا والعكاز ما يشير إلى مؤازرة الملائكة لنا وتعزيتنا ساعة انتقالنا؟

   إننا نحن الذين صولحنا مع الله لنا سلام معه لا بدّ أن يصير لنا ما صار للواعظ مودي (D.L.Moody). فعندما شعر مودي بأن موته اقترب، قال: "الأرض تتراجع، والسماء تنفتح أمامي". لقد بدا كأنه كان يحلم. ثم قال: "لا، هذا ليس حلماً ... إنه جميل، كأنه نشوة علوية. إذا كان هذا هو الموت، فما أحلاه. لا أرى أي واد هنا. الله يدعوني، ولا بد لي من الذهاب".

   بعد أن تلفظ مودي بهذه الكلمات صمت طويلاً، فظن الحاضرون أنه مات. لكنه عاد فأفاق وصار يتكلم بوعي وبيّن أن الله سمح له برؤية ما وراء الحجاب الرقيق الذي يفصل بين العالم المنظور والعالم غير المنظور. لقد كان، كما قال، "عبر الأبواب"، وقد لمح وجوهاً مألوفة لديه، وجوه أشخاص "أحبهم طويلاً وافتقدهم فترة وجيزة". ثم استطاع أن يتذكر وقتاً قبل ذلك بسنين عندما صرّح بحماسة: "ستقرؤون في الجرائد يوماً أن مودي مات، فلا تصدقوا أية كلمة من ذلك الخبر. في ذلك اليوم سأكون حياً أكثر مما أنا الآن. فإني حينذاك سأكون قد ارتفعت إلى مكان أعلى. ذلك كل ما في الأمر. سأرتفع من بيت الطين القديم إلى منزل دائم خالد، إلى جسد لا يؤذيه موت ولا تدنسه خطية، جسد ممجد يشبه جسد المسيح المجيد ... المولود من الجسد يمكن أن يموت، أما المولود من الروح فيحيا إلى الأبد". لو أتيح للواعظ مودي أن يشهد لنا الآن لكان بكل تأكيد أخبرنا بالاختبار المجيد لذي اختبره عندما حفّ به الملائكة وأدخلوه إلى حضور الرب.

   ليس الموت شيئاً سوياً، لأن الله خلق الإنسان في الأصل ليعيش ولا يموت. فالموت نتيجة دينونة الله بسبب خطية الإنسان وعصيانه لله. ومنظر الموت بشع رهيب لولا نعمة الله التي في المسيح. شهدت مراراً احتضار أناس ليس لهم رجاء في المسيح فكان المشهد مخيفاً. وشهدت موت أناس يموتون في المسيح فكان اختباراً مجيداً. قال تشارلز سبرجن (Charles Spurgeon) عن المجد الذي يرافق موت المفديين: "إذا كنت سأموت كما رأيت البعض يموتون فتلك فرصة رائعة لن أدعها تفلت مني. لن أرغب في3أن أهرب من وجه الموت إن كنت سأرنم لدى الموت كما رنموا. إذا أعطيت أن أهتف هتافات الأوصنا والهللويا، فتخرج متدفقة من فمي وتلمع مشعة من عينيّ، كما سمعتها من أفواه المؤمنين الذين شاهدتهم يموتون ورأيت إشراقتها في عيونهم، فيا لسعادتي عندما أموت".

   الموت للمؤمن الحقيقي فاقد الكثير من هوله، لكننا نظل في حاجة لعناية الله عندما يحين يوم الشروع في السفرة الأخيرة. في لحظة الموت تفارق الروح الجسد وتنطلق في الهواء، والكتب المقدس يعلمنا أن الشيطان هو "رئيس سلطان الهواء" (أفسس2: 2)، فلو أن أعين قلوبنا انفتحت لرأينا الهواء مملوءاً بالأرواح الشريرة المعادية للمسيح. إذا كان الشيطان استطاع أن يعيق الملاك ثلاثة أسابيع وهو في مهمة إلى الأرض، كما جاء في دانيال10، فلا بد أن يحاول مقاومة النفوس المنطلقة إلى السماء.

   لكن المسيح، بموته على الصليب شق طريقاً عبر مملكة الشيطان. عندما جاء المسيح إلى هذا العالم شق طريقه عبر أرض إبليس وأقام رأس جسر. إن هذا لهو أحد الأسباب التي جعلت جمهوراً من الجند الملائكي يصحبه عند ولادته (لوقا2: 8 – 14). وللسبب ذاته سيصحبه الملائكة القديسون عندما يجيء ثانية (متى16: 27). والآن، وقبل مجيء المسيح، تظل لدى الشيطان فرصة أخيرة لمهاجمة المؤمن الحقيقي، وذلك ساعة موته. لكن الله أرسل ملائكته، وهم على استعداد لحراستنا في تلك الساعة.

   عندما ذكر يسوع الحادثة الواردة في لوقا 16، قال عن لعازر المسكين: "وحملته الملائكة". لم يكتف الملائكة باصطحابه إلى النعيم، بل حملوه. ما أعظم اختبار لعازر المسكين حينذاك. كان من قبل مطروحاً عند باب الغني يستجدي الإحسان حتى مات، وفجأة وجد نفسه محمولاً على أكف ملائكة الله المقتدرين.

   وقفت يوماً في لندن، ورحت أشاهد الشعب يستقبل الملكة اليزابيث عند عودتها من رحلة عبر البحار. رأيت موكباً من عظماء الشخصيات وفرقاً موسيقية وجنوداً وبنوداً، وشهدت كل الأبهة التي يستقبل الناس بها الملكة وهي تعود إلى الوطن. لكن ذلك الاستقبال ليس شيئاً إذا قيس باستقبال مؤمن حقيقي يعود إلى مسكنه السماوي بعد أن يكون قد فارق إلى الأبد جميع لام هذه الحياة، إذ يحيط به الملائكة في الحال فيصعدون به إلى حيث يلقى ترحيباً مجيداً في محضر جميع المفديّين في السماء.

   ينبغي للمؤمن بالمسيح ألا يحسب الموت مصيبة بل أن يرى الموت كما تراه الملائكة. إنهم يرون في الموت رحلة يحيط بها الفرح، من الزمن إلى الأبدية. الطريق إلى حياة الأبد تمر في وادي الموت، غير أن الانتصار يحيط بها من كل جانب. طفر الملائكة فرحاً بقوة قيامة يسوع. وهذه تؤكد لنا قيامتنا وتضمن لنا سفراً سعيداً إلى السماء.

   تحكى مئات القصص الواقعية التي تؤكد حقيقة مرافقة الملائكة للمؤمنين ساعة انتقالهم من هذا العالم. عندما توفيت جدتي لأمي بدت لها الغرفة التي كانت تنام فيهل مملوءة بنور سماوي. جلست جدتي في سريرها في لحظاتها الأخيرة وراحت تضحك وتقول: "إني أرى يسوع. إنه يفتح ذراعيه ويقترب مني. وأرى بنيامين (زوجها الذي كان قد مات قبل ذلك بسنوات)، وأرى الملائكة". بعد هذا أغفت متغرّبة عن الجسد لتستوطن عند الرب.

   عندما كنت طالباً في معهد للكتاب المقدس مرضت إحدى الطالبات، وكانت شابة متطوعة هي وزوجها للعمل الإرسالي. زارها الطبيب وقال إنها لن تعيش إلا بضع ساعات. وفي لحظاتها الأخيرة كان زوجها يقف بجانب سريرها مع واحد أو اثنين من أفراد الهيئة التدريسية. وفجأة سمعوها تصيح: "أنا أرى يسوع وأسمع ترنيم الملائكة".

   والقس أ.أ. تالبوت (A.A. Talbt)، المرسل إلى الصين، كان حاضراً إلى جانب فراش مؤمنة مسيحية صينية تحتضر. وفجأة بدا كأن الغرفة امتلأت ألحاناً موسيقية سماوية، إذ رفعت المرأة المحتضرة وجهها بابتسامة مشرقة وقالت: "إني أرى يسوع واقفاً عن يمين الله. وأرى مرغريت معه". (وكانت مرغريت هي ابنة تالبوت الصغرى التي كانت قد ماتت قبل ذلك ببضعة أشهر).

   يعطي الأطباء هذه الأيام مسكنات كثيرة للمرضى لدى موتهم، لذلك لم نعد نسمع الكثير من هذه القصص الآن. ومهما كان الأمر، تظل مواجهة الموت للذين سيموتون في الإيمان اختباراً مجيداً. الكتاب المقدس يضمن لكل مؤمن سفرة بحراسة الملائكة الأطهار إلى حضرة المسيح.

   لا يكتفي الرب بإرسال مبعوثيه من الملائكة لإحضار مفدييه إليه عند موتهم، بل أيضاً يرسل ملائكته ليزودوا بالرجاء والفرح ذوي المتوفيين وليعزوهم في حزنهم. لقد وعد الرب أن يعطي لنائحي شعبه "دهن فرح عوضاً عن النوح ورداء تسبيح عوضاً عن الروح اليائسة" (أشعياء61: 3).

   يعم الناس هذه الأيام شعور بالغم، وتتزايد نظرتهم إلى الحياة إظلاماً. وقد كتب أحدهم عن تفاهة ما يقدّم هذه الأيام من نصائح معالجة نفسية، ووصف مقدمي هذه النصائح فقال إنهم إنما "يحاولون التهرب من وضع لا يحتمل بالتربيت على ظهور مرضاهم والقول أن لا بأس عليهم". كما صارت الآن تقام الاجتماعات المتوالية للتكلم للمرضى في المراكز الطبية وتشجيعهم وإنارتهم حول موضوع الموت، وتجري محاولات متواصلة لتجنيد مجموعات من أطباء النفس وغيرهم للمشاركة في هذه الجهود.وقد كتب روبرت ج. لفتون Robert j. Lefton كتاباً في موضوع "توقف الحياة" ذكر فيه بعض الآراء التي يجملها الناجون من الدمار الذري الذي منيت به مدينة هيروشيما اليابانية في الحرب العالمية الثانية. يقول في ذلك الكتاب:

   هناك شعور دائم لدى أولئك الناجين بأنهم باستمرار يواجهون الموت. وكانت النتيجة انهياراً في الإيمان والثقة في أي تدبير بشري، وانقباضاً نفسانياً أصبح فيه الناس فاقدي الحس بأية مشاعر تجاه الموت، ولديهم شعور غامر بالذنب كما لو كان أولئك الناجون من الكارثة مسؤولين عن وقوعها ... إن الخوف من الموت المفاجئ يسيطر علينا ... ونعترف بأن طبيعة الحياة شيء لا يمكن التنبؤ به.

   كثيراً ما نسمع الناس يصفون الموت بأنه "عبور الأردن". ترد هذه العبارة في بعض الترانيم الروحية المسيحية، وهي تعود في أصلها إلى حادث عبور بني إسرائيل نهر الأردن عندما دخلوا أرض الموعد. وقد عبروا الأردن على أرض يابسة إذ توقف النهر عن الجريان. بطريق المشابهة يمكن القول إن الملائكة الذين يرسلهم الله في خدمتنا يساعدوننا لنعبر نهر الموت بأمان إلى الوطن الموعود في السماء. من أجل هذا لا يحزن المسيحي المؤمن كما يحزن "الذين لا رجاء لهم" (1 تسالونيكي4: 13). بل عندما تكلم الرسول بولس عن دنوّه من الموت قال: "فنثق ونسر بالأولى أن نتغرّب عن الجسد ونستوطن عند الرب" (2 كورنثوس5: 8). فعندما يحدث لنا انفصال الروح عن الجسد – وهو بالطبع اختبار انعتاق مجيد – يكون الملائكة متأهبين لمرافقتنا إلى حضور مخلصنا بفرح عظيم، وتلك هي الحياة إلى الأبد.

الترحيب الرائع الذي سنلقاه:

   أعتقد أن الموت قد يكون جميلاً. لقد بدأت أتطلع إليه وأتوقعه بفرح وشوق. لقد رأيت أناساً كثيرين يموتون وعلى وجوههم سمات الظفر. فلا عجب إذا قال الكتاب المقدس: "عزيز في عينيّ الرب موت أتقيائه" (مزمور116: 15). ولا عجب إذا قال أيضاً بفم داود: "أيضاً إذا سرت في وادي ظل الموت لا أخاف شراً" (مزمور23: 4).

   قد تشعر برعب كلما فكرت بالموت، لكن تذكر أنك لا تكاد عند ذاك تشعر بالألم لحيظة، إذ تنقل في الحال إلى فردوس السماء ... عند ذاك يصير لك جمال السماء ومجدها وعظمتها. سيحيط بك مبعوثو السماء مرسلين من الله ليأخذوك إلى حيث تستريح من أعمالك (رؤيا14: 13).

   فلا عجب إذا قال الرسول بولس: "إذاً يا إخوتي الأحباء كونوا راسخين غير متزعزعين مكثرين في عمل الرب كل حين عالمين أن تعبكم ليس باطلاً في الرب" (1 كورنثوس15: 58).

          هل أنت على أتم استعداد لمواجهة الحياة؟ هل أنت مستعد لمواجهة الموت؟ لا يكون المرء مستعداً حقاً للموت إلا إذا تعلّم أولاً كيف يعيش لمجد الله. لكنك بكل تأكيد تستطيع إلقاء حملك على الرب يسوع لأنه مات من أجلك، حتى إذا جاءت تلك الساعة – الأزمة الكرى، أي الموت – يأتي الملائكة فيحملونك على الأذرع ويدخلون بك بمجد وجلال إلى السماء.

  • عدد الزيارات: 7302