Skip to main content

الملائكة بين الظهور والخفاء

إن عالم الروح والأعمال الجارية فيه تشغل هذه الأيام أفكار متتّبعي الأخبار. وقد باتت فكرة المعجزات والخوارق لا موضوع اهتمام الناس وحسب بل حقيقة مقبولة مسلّماً بها

. صحيح أنّ أكثريّة الكتب التي صدرت حديثاً حول هذا الموضوع تركّز على الغرابة وتتوخّى الإثارة, أو أنّها مجموعة تخميناتٍ, أو أوهام من نسج خيال إنسان حَلّام. إلّا أنّ الكتب التي تحترم الكتاب المقدس وتقدّره حقّه لا ترضى بوضع مسألة الملائكة في قائمة التخمينات أو التخيّلات. ذلك أنّ الكتاب المقدس يذكر وجود الملائكة قرابة ثلاث مئة مرة.

هل رأيت مرّةً ملاكاً؟

سبق أن قلت أن الملائكة أرواح مخلوقة تستطيع الظهور للناس عندما تدعو الضرورة إلى ذلك. وقد تظهر مرة وتعود للظهور مراراً. الملائكة يفكّرون ويشعرون ويريدون ويُبدون عواطفهم. غير أن بعض الناس يُشغِلون أنفسهم دون طائل بقضايا عن الملائكة لا تهمّنا من قريب أو بعيد. فالجدل القديم حول عدد الملائكة الذين يستطيعون أن يرقصوا معاً فوق رأس الإبرة هو جدل أحمق. وأن تسأل: كم من الملائكة يستطيعون الوقوف في كشك الهاتف, أو في سيّارة فولكسفاغن, هو أمر لا يكاد يثير اهتمامنا. ولكن يجدر بنا أن نعرف, من الناحية الأخرى, ماذا يعلّم به الكتاب المقدس عن الملائكة بوصفهم رسل الله الذين يوفدهم لتنفيذ قراراته و إيصال رسالاته إلى البشر. ولتنفيذ هذه المُهمّات فهُم كثيراً ما يظهرون في أجساد بشرية. يقول كاتب الرسالة إلى العبرانيين عن الملائكة: “أليس جميعهم أرواحاً خادمة مرسلة للخدمة...؟ “(14:1). هل شاهدت مرة روحاً طاهرة؟ أنا من جهتي لم أشاهد مثل هذه الروح, ومع ذلك أعرف أن الله كان عبر العصور يُظهر حضوره الروحي بطرق مختلفة. فلّما اعتمد يسوع كان الله الروح القدس حاضراً في هيئة حمامة. وهكذا شاء الله أيضاً أن يعلن حضوره أحياناً بواسطة ملائكته وهم مخلوقون أقل قدراً من خالقهم, وقد أعطاهم القدرة على الظهور في هيئات تمكّن البشر من رؤيتهم بها.

أمن الجائز أن نعبد الملائكة؟

لا يستطيع البشر أن يروا الملائكة. والله بحكمته منع الملائكة من أن تكون لهم مواهب طبيعية أرضية, ومع ذلك يكرمهم بعض الناس إكراماً يشابه العبادة. ولكّن كلمة الله تحذّرنا من أن نعد المخلوق دون الخالق (رومية 24:1و25). كذلك نُعتبر ضالين ومخالفين لأولى الوصايا العشر إذا نحن قدّمنا العبادة لأي مظهر من الحضور الملائكي, سواء أكان ذلك ملاكنا الحارس أم غيره ممّن يمدّوننا بالعون عند الحاجة.

ويفيدنا الرسول بولس بوضوح إن عبادة الملائكة ضلال مهما كانت مكانتهم, وأنّ ربنا يسوع المسيح, لكونه الله المتجسّد, وأحد أقانيم اللاهوت الثلاثة, ذلك الذي فيه “خُلق الكلّ", “والكلّ به وله قد خُلق", يستحق عبادتنا (كولوسي 16:1و 18:2). وينبغي ألّا نصغي إلى الملائكة, فالله المثلث الأقانيم, هو موضوع عبادتنا, وإليه وحده تتوجّه صلواتنا.

ثم علينا أن ننتبه فلا نخلط بين الملائكة -منظورين كانوا أم غير منظورين -والروح القدس, الذي هو أيضاً أحد أقانيم اللاهوت الثلاثة, أي أنه هو الله أيضاً. فالملائكة لا تحلّ في البشر, لكن الروح القدس يختمهم, ويسكن فيهم عندما يقوم بتجديدهم. والروح القدس كلّي العلم, ودائم الحضور, وكلّي القدرة. أما الملائكة فهم أقوى من البشر ولكنهم, مع ذلك, ليسوا آلهة وليست لهم السجايا التي تُعزى إلى اللّاهوت.

الروح القدس يبكّت العالم على خطية وعلى برّ وعلى دينونة (يوحنا 7:16), أما الملائكة فلا يستطيعون ذلك. الروح القدس يعلن يسوع المسيح ويوضح حقيقته للناس, أمّا الملائكة فما هم إلّا رسل الله, وهم عبارة عن أرواح خادمة تأتمر بأمره لخدمة الناس (عبرانيين14:1). وفي ما أعلم, لم يرد في الكتاب المقدس قَطّ أن الروح القدس أظهر نفسه للناس في هيئة بشرية ولو مرّة واحدة. ولكنّ يسوع أظهر نفسه إنساناً عندما تجسّد مولوداّ من العذراء المباركة في هذا العالم. ويستطيع الروح القدس المجيد أن يكون في أي مكان في وقت واحد, أما الملاك فلا يقدر أن يكون في مكانين في آن معاً. وفي حين أن الروح القدس, كما نعلم هو روحٌ لا جسد له, فالملائكة تظهر أحياناً في شكل منظور, فضلاً عن كونها أرواحاً.

يستخدم الله الملائكة ليحقّق مصائر الناس والشعوب. وكثيراً ما يتدخّل في أوضاعنا السياسية والاجتماعية مستخدماً زيارات ملائكية فيغيّر تلك الأوضاع ويوجّه مصائر الناس حسبما يشاء. ويجدر بنا أن ننتبه إلى أن الملائكة يظلّون على صلة جوهرية ووثيقة بكل ما يجري على الأرض. حتّى إنّ معرفتهم بشؤون الأرض تفوق معرفة البشر. فعلينا أن نُقرّ بحضورهم غير المنظور وبعلمهم الدائب. لنتيقّن أنّهم هنا بيننا. ربّما لا يضحكون لضحكنا, ولا يبكون لبكائنا, ولكنّنا نعلم أنهم يفرحون معنا عندما ننتصر في جهودنا لربح الناس واجتذابهم للمسيح. إذ قال يسوع: “يكون فرح قدّام ملائكة الله بخاطئ واحد يتوب" (لوقا10:15).

الملائكة بين الظهور والخفاء

نقرأ في دانيال 22:6, "إلهي أرسل ملاكه وسدّ أفواه الأسود." يبدو أن دانيال عندما كان في الجب حيث كانت الأسود استطاع أن يبصر الحضور الملائكي, حيث وهنت قوة الأسود أمام قوة الملاك. والملائكة, في أكثر الحالات التي يظهرون فيها, يبدون في مجد وجمال فائقَين, حتى إنّ من يشاهدهم تأخذ فيه الدهشة الشديدة.

أتستطيع أن تتصوّر كائناً أبيض لامعاً كالبرق؟ وصف مؤسس جيش الخلاص, الجنرال وليام بوث, رؤيا رأى فيها ملائكة, فقال إن كل ملاك كان محاطاً بهالة من قوس قُزَحٍ منير يصعب على الإنسان احتمال بهائه.

من يقدر أن يقيس ومضة البرق إذ يتوهج في طرفة عين على مدى أميال عديدة؟ وقد جاء في إنجيل متّى أن الملاك الذي دحرج الحجر عن قبر يسوع لم يكن فقط لابساً لباساّ أبيض بل كان منظره كالبرق (متى3:28), حتى ارتعد من منظره حرّاس القبر وصاروا كالأموات. ثمّ إنّ ذلك الحجر كان ثقيلاً بحيث يحتاج إلى عدّة رجال كي يدحرجونه, فدحرجه الملاك وحده بسهولة وأزاحه عن باب القبر.

ولم يكن صعباً على إبراهيم أو لوط أو يعقوب أن يميّزوا الملائكة الذين سمح الله أن يظهروا لهم في شكل طبيعي. لاحظ مثلاً كيف عرف يعقوب الملائكة حالما رآهم كما جاء في تكوين1:32و2 , "و أما يعقوب فمضى في طريقه ولاقاه ملائكة الله. وقال يعقوب إذ رآهم هذا جيش الله. فدعا اسم ذلك المكان محنايم."

ثم نجد دانيال ويوحنا يصفان المجد الذي يظهر الملائكة به وهم ينزلون من السماء بجمال وبهاء فائقَين تحيط بهم أشعة لامعة كالشمس (دانيال6:10 ; رؤيا 1:10). ومن لا يشعر بالروعة وهو يقرأ خبر الفتية الثلاثة: شدرخ وميشخ وعبدنغو؟ لقد أبوْا أن يخرَوا ساجدين لتمثال ملك بابل عند سماعهم صوت الآلات الموسيقية الداعية للخضوع والعبادة. كانوا على علم بأنّ الملائكة يُمكن أن يظهروا للعالَم غير المؤمن. وعندما أبَوا السجود للمخلوق حفظهم الملاك من أن يُحرقوا أحياء في أتون النار الذي كان مُحمى سبعة أضعافٍ أكثر من الحرارة المعتادة, حتى رائحة الدخان لم تعلق بملابسهم بعد إخراجهم من الأَتون. لقد جاء إليهم الملاك وسط اللهب فلم يُصَب هو أو هم بأيِّ أذى. ورأى ملك بابل الملاك مع الفتية الثلاثة وقال: "ها أنا ناظر أربعة رجال... في وسط النار" (دانيال25:3).

على أنّ الكتاب المقدس, من ناحية أخرى, يبيّن أنّ الملائكة أحياناً يظلّون أخفياء لا يُظهرون أنفسهم للبشر. ومهما يكن من أمر, فإنّ الله يُرسل ملائكته فيسرون معنا, أمامنا وخلفنا, ولا يهمّ إن كنا نراهم أو لا نراهم. إن المؤمنين وحدهم يدركون هذا ويعرفون أن الحضور الملائكي يهيمن على ساحة المعركة حولنا حتى نستطيع أن نثبت وسط الصراع بثقة تامة (أشعياء3:26). "إن كان الله معنا فمن علينا؟" (رومية 31:8).

ماذا ترى عندما ترى ملاكاً؟

عندما يصنع الله شيئاً, فهو يبدعه أحسن إبداع خيالاً وألواناً وبهاءً, وهذا ما فعله لمّا خلق الملائكة, بما في ذلك لوسيفر الذي جاء وصفه في حزقيال28 ] والكلمة "لوسيفر" تعني"حامل النّور" وهو لقبُ يُطلق على الشيطان قبل سقوطه, يوازيه "زُهَرة" أو نجمة بنت الصبح- أشعياء12:14[, ما يدلّ على أن للملائكة شكلاّ غريباً لعين الإنسان وفكره. فيظهر أن للملائكة جمالاً ذا تنوّع يفوق كل ما يعرفه الإنسان. ولكن الكتاب المقدس لا يخبرنا عن العناصر التي يتركّب منها الملائكة. ولا يقدر العلم الحديث, وقد بدأ مؤخراً باستكشاف العالم غير المنظور, أن يفيدنا شيئاً عما تتألف منه الملائكة, أو على الأقل عمّا هو عملهم.

غير أن الكتاب المقدس, كما يبدو, يُفهِمنا ضِمناً أنّ الملائكة لا يشيخون, ولم يرد فيه قط أنّ ملاكاً ما أُصيب بمرض, وما عدا ما حلّ بأولئك الذين سقطوا مع “لوسيفر" عند سقوطه, فالخطية التي أصابت أرضنا بالدمار والخراب والأمراض لم تؤثر في الملائكة, فالملائكة الأطهار لن يموتوا أبداً.

يعلّم الكتاب المقدس أيضاً أن ليس للملائكة جنس أو قدرة على التناسل. فقد قال يسوع إن الناس في السماء بعد القيامة "لا يزوّجون ولا يتزوّجون بل يكونون كملائكة الله في السماء" (متى 30:22). وهذا يجعلنا نستنتج أن الملائكة يتمتعون بعلاقات أعظم وأروع. حتّى إن بهجة العلاقة الزوجية في هذه الحياة ليست شيئاً إزاء ما سوف يتمتع به المؤمنون في الشركة مع الله في السماء, وهي الشركة الروحية التي تفوق بما لا يقاس كل ما يمكن أن يختبره الإنسان في حياته على الأرض.

كيف نفسّر ونفهم الظهورات الإلهية في العهد القديم؟ نقصد تلك الطهورات المنظورة التي بها رأى الناس المسيح في مناسبات معيّنة قبل تجسّده, إذ نجد في بعض المواقع في العهد القديم أنّ أنقوم الابن كان يظهر, وكان يُدعى أحياناً "الرب" و أحياناً أخرى "ملاك الرب". إن أوضح هذه الطهورات هو ذلك المدوَّن في تكوين18, حيث جاء ثلاثة رجال إلى إبراهيم. ورد في "موسوعة زوندوفان (zondervan)المصوّرة للكتاب المقدس", تعليقاً على هذا الحادث, ما يلي: "بدا بوضوح أن الرئيس بين الرجال الثلاثة هو الرب, فيما كان الاثنان الباقيان ملاكَيْن وليس أكثر. ومما لا شكّ فيه أن المسيحيين منذ أقدم عصور المسيحية اعتقدوا أنّ حوادث كهذه هي ظهورات سابقة للتجسّد حيث يُعلن الأقنوم الثاني من الثالوث نفسه, ولا فرق بين أن يُدعى الرب أو ملاك الرب."

علينا إذاً أن نتذكّر أنّ الله كان في بعض الحالات في العهد القديم يُظهر نفسه كملاك في هيئة بشرية. وهذا يؤيّد فكرة العلاقة القائمة بين الله وملائكته. ولكنْ في أغلب الأحيان التي ذُكر فيها ظهور ملائكة كان أولئك كائناتٍ ملائكية مخلوقة وليس الله ذاته.

حقّاً إنّ الملائكة كائنات حقيقية وليسوا من نسج الخيال. فالله نفسه خلقهم. تأمّل معي في هذا: خلق الله جيوشاً عديدة من الملائكة ليعملوا على إنجاز عمله في هذا العالم - ولا فرق بين أن نراهم وألّا نراهم. وعندما نتعرّف بالله تعرّفاً شخصيّاً من طريق الإيمان بابنه يسوع المسيح, فلنا أن نثق بأنّ ملائكة الله يُعنَون بأمرنا فيحرسوننا ويساعدوننا لأنّنا صرنا من خاصّته تعالى. فيا له من تدبيرٍ بديع و امتيازٍ رفيع.

  • عدد الزيارات: 7528