الملائكة كائنات حقيقية
كان موضوع الملائكة منذ أقدم الأزمنة محورا لكثير من التخمينات والخرافات. إلا أن الله, بواسطة الإعلان الإلهي في الكتاب المقدس, أطلعنا على كثير من الحقائق المختصة بهذا الموضوع
. لهذا السبب نجد بين الكثير من اللاهوتيين في كل العصور, اتفاقا شاملا على أهمية الحقائق الواردة في الكتاب المقدس عن الملائكة. فهم يعتبرون أن هذا الموضوع جدير بأن يفرد له مكان خاص للبحث فيه في أي كتاب يتناول اللاهوت النظامي. وكثيرون كتبوا مطوّلا, مميزين بين الملائكة الأبرار والملائكة الأشرار أو الساقطين. لكننا أهملنا في هذه الأيام موضوع الملائكة الأبرار في حين يهتم كثيرون اهتماما كبيرا بالشيطان وأرواحه الشريرة حتى أن بعض المِلل تقدم العبادة لإبليس وأجناده.
الملائكة كائنات مخلوقة مثلنا, لكن لهم بعد مختلف تماماً عن بعدنا, إذ أننا محصورون بالنظام الطبيعي بحيث لا نكاد ندرك ما هو خارج نطاق بعدنا. فالقوانين التي وضعها الله ليحكم بها عالم الملائكة تختلف عن القوانين والمحدوديات التي يحكم بها عالمنا الطبيعي. كذلك أعطى الله الملائكة معرفة أسمى مما أعطانا ومنحهم قوة وقدرة على التحرك أكثر منا. هل رأيت مرة أو التقيت أحد هذه الكائنات الفائقة المدعوة ملائكة؟ إنهم رسل الله الذين عملهم الرئيسي تنفيذ أوامر الله في العالم, وقد عهد إليهم بمهمات ليقوموا بها كما لو كانوا سفراء. فهم مكلفون تنفيذ أوامر بره ومزودون بالقوة والصلاحية بوصفهم وكلاءه المقدسين. بهذا الوجه هم أعوان خالقهم, يستخدمهم إذ يهيمن بسلطانه على الكون كله. ولذا وهبهم القدرة على إتمام أعماله المقدسة إلى النهاية بكل نجاح.
الملائكة كائنات مخلوقة:
لا تصدق كل ما تسمعه (أو تقرأه) عن الملائكة. فمن الناس من يريدنا على الاعتقاد أنّ الملائكة ليسوا سوى ومضات روحية تلمع وتختفي. ومنهم من يعتقد أنهم كائنات سماوية ذوات أجنحة جميلة ورؤوس محنية. وآخرون يصرون على القول بأن الملائكة إلاهات.
يفيدنا الكتاب المقدس أن الملائكة كالبشر مخلوقات خلقها الله. فقد كان وقت في الأزل لم يكن فيه ملائكة, إذ لم يكن منذ الأزل إلّا الله المثلث الأقاليم وحده: الآب والابن والروح القدس. يقول بولس الرسول في كولوسي 16:1، "فإن فيه خلق الكل, ما في السماوات وما على الأرض, ما يرى وما لا يرى." هذا الخالق, ربُّنا يسوع "هو قبل كل شيء وفيه يقوم الكل" (كولوسي 17:1). فحتى الملائكة ينقطع وجودها لو أن الرب يسوع, وهو نفسه الله القدير, لا يدعمها بقوة.
يبدو أن للملائكة قدرة على أن يغيروا شكلهم ويخرجوا من المجد الأسنى في السماء ويجيئوا إلى الأرض ويعودوا إلى السماء. وفيما رأى بعض المفسرين أن التعبير "أبناء الله" الوارد في تكوين 2:6 يشير إلى الملائكة, وأن أولئك تزاوجوا مع البشر, يؤكد الكتاب المقدس في مواضع متعددة أن الملائكة ليست كائنات مادية. فالآية في عبرانيين 14:1 تدعوهم "أرواحا "خادمة. إذا ليس للملائكة جوهريا, أجسام طبيعية, لكنهم يتخذون أجسادا طبيعية عندما يرسلهم الله في مهمة خاصة. ثم إن الله لم يعطي الملائكة القدرة على التناسل, وهم يزوِّجون ولا يتزوَّجون (متى30:22).
إن دائرة عمل الملائكة متسعة اتساع خليقة الله. فإذا كنت تصدق الكتاب المقدس فلا بد أن تؤمن بالخدمة التي يقوم بها الملائكة. فقد ورد ذكرهم في مواضع شتى من العهد القديم والعهد الجديد, مباشرة أو مداورة, ما يقارب الثلاث مئة مرة. وذكر داود أن عشرات الألوف من الملائكة تذهب وتجيء في كبد السماء. وهو يقول أن "مركبات الله رِبْوات, ألوف مكررة". (مزمور17:68). ويقول متى هنري في تفسيره لهذه الآية: "الملائكة هم مركبات الله. مركباته التي يستخدمها في محاربة أعدائه. ومركباته التي يرسلها وسائل نقل لأصدقائه, كما فعل بإيليا. ومركبات جلاله التي بها يُظفر مجده وقوته. ومركبات الله عديدة, فهي ربْوات, أي عشرات الألوف, بل ألوف مكررة." ويرى بعض العلماء في الكتاب المقدس أن الملائكة يجاوزون الملايين عددا, إذ تقول الآية في عبرانيين22:12 "ربوات هم محفل الملائكة", والكلمة "محفل" تتضمن أصلا معنى "جماهير لا تكاد تحصى".
نزلت ربوات من الملائكة على جبل سيناء لتؤكد حضور الله المقدس عندما أعطى الشريعة لموسى (تثنية2:33). وقد حدث زلزلة, فصار الجبل يرتجف. وعقدت الدهشة لسان موسى وهو يبصر تلك الظاهرة العظيمة وقد تخللها حضور ألوف من الكائنات السماوية. وفي العهد الجديد يقول يوحنا أنه رأى ربواتِ ربوات وألوف ألوفٍ من الملائكة يسجدون للخروف, ابن الله الممجد, في قاعة عرش الكون (رؤيا11:5). ويقول سفر الرؤيا أيضا أن جيوشا من الملائكة ستظهر مع يسوع في معركة هرمجدون, عندما يجتمع أعداء الله للحرب, فتتم هزيمتهم النهائية. كذلك يذكر بولس في رسالته الثانية إلى تسالونيكي "استعلان الرب يسوع من السماء مع ملائكة قوته" (2 تسالونيكي 7:1).
يا له من أمر لا يكاد يحده عقل: جماهير من الملائكة المقتدرين قدرة لا توصف منصرفون إلى تنفيذ أوامر السماء. ومما يبعث على الدهشة أن كل ملاك بمفرده قوي بما يفوق الوصف, كما لو أنه امتداد لزراع الله. فالملائكة حقيقة لا ريب فيها, أفرادا وجماعات, وهم أحسن تنظيما مما كانت عليه جيوش الاسكندر الكبير أو نابليون أو أيْزنهاور. وأقدم ذكر للملائكة يعود إلى اليوم الذي وضع الله فيه جماعة منهم على طريق الجنة فأقفلوها بعد طرد آدم وحواء منها. أقام الله حرسا يسمون "الكروبيم" شقي جنة عدن, وكانت مهمتهم ليٍس فقط أن يمنعوا عودة الإنسان غلى عدن بل أيضا, مع "لهيب سيف متقلب لحراسة طريق الجنة" (تكوين24:3), يحولون دون أن يأكل آدم من تلك الشجرة فيحيا إلى الأبد. لأنه لو ظل آدم حيا إلى الأبد وهو في خطيئته, لكانت أرضنا منذ عهد بعيد تحولت إلى جحيم. ولذلك كان في الموت , من هذه الناحية, بركة وخير للجنس البشري.
الملائكة يخدمون الله والمؤمنين:
تصور ذلك المشهد الرهيب الذي عاينه بنو إسرائيل جاريا على جبل سيناء, وقد كان حادثة فريدة ليس مثلُها قبلَها ولا بعدها, فإذا توجه الله نحو الإنسان حدث عرضٌ مهيب اشتركت فيه جيوش ملائكية: من وسط السحب التي كانت تغطي الجبل بَوَّق ملاك بالبوق معلنا حضور الله. وظهر الجبل كله نابضا بالحياة, فيما استولى الرعب على الناس الناظرين من السهل عند أسفل الجبل. كانت الأرض كلها رهينة خوف يصعب وصفه, وقد حل الله على رأس الجبل وكان في رفقته ألوف الملائكة. كان موسى وحده هناك, وشهد كل ذلك في صمت, وأدهشه ما رأى من ملائكة الله مع أن رؤيته كانت محدودة. ماذا كانت صحفنا اليومية تنشر عن ذلك الحدث الجليل لو أنه جرى في أيامنا, مع أن معلوماتها لا بدّ أن تنحصر في نطاق استيعاب الإنسان لما جرى. لقد "كان المنظر هكذا مخيفا حتى قال موسى أنا مرتعب ومرتعد" (عبرانيين21:12).
كان ظهور الله مجيداً, إذ تألق كالشمس في رائعة النهار. ويقول متى هنري في شرحه لحادثة حلول الله على جبل سيناء:
حتى سعير وفاران, الجبلان الواقعان على مسافة من سيناء, تألقا هما أيضا من المجد الإلهي الذي ظهر على جبل سيناء, وعكسا بعض أشعته لإظهار عجائب العزة الإلهية (حبقوق 3:3و4 ومزمور7:18-9). وقد ورد في حاشية "ترجوم أورشليم" (وهو ترجمة قديمة لبعض أسفار العهد القديم إلى الآرامية تتضمن شروحا وتعليقات)؛ حول حادثة جبل سيناء, أنه عندما نزل الله ليعطي الناموس بدأ عرضه على الأدوميين في جبل سعير, فرفضوه لأنهم وجدوا فيه الوصية "لا تقتل". ثم عرضه على الإسماعيليين في جبل فاران, فرفضوه هم أيضا لأنهم وجدوا فيه الوصية "لا تسرق". ثم جاء الله بالناموس إلى جبل سيناء وعرضه على بني إسرائيل, فقالوا: "كل ما تكلم به الرب نفعل". لا شك أن هذا الذي ورد في ترجوم أورشليم ليس إلا وليد الخيال, لكنه يلقي ضوءا على هالة التعظيم التي أضفاها اليهود المتأخرون على حادث حلول الله على جبل سيناء.
اعتقاد وجود الملائكة: ظاهرة عامة
إن تاريخ جميع الشعوب والحضارات تقريبا يكشف عن اعتقاد وجود الكائنات الملائكية بصورة أو بأخرى ولو جزئيا. فقد بنى المصريون القدماء قبور موتاهم بشكل أفخم وأضخم من بيوتهم لأنهم اعتقدوا أن الملائكة ستدخل تلك القبور وتزور الموتى في المستقبل. وقال علماء المسلمين بأن لكل إنسان ملاكين على الأقل يدون الواحد حسناته والآخر سيئاته. وفي الواقع أن بعض الديانات التي سبقت الإسلام بزمن طويل, ولم تكن ذات صلة بالكتاب المقدس, كانت تعلم بوجود الملائكة. ولكن مهما كان قول التقاليد والعقائد المختلفة, يظل الكتاب المقدس هو المصدر الأسمى والفريد في هذا الموضوع.
صار بعض متصلّبي العلماء اليوم يقبلون القول بإمكان وجود الملائكة علميّاً ما داموا يعترفون بإمكان وجود كائنات عاقلة خفيّة غير منظورة. و قد أصبح عالمنا يشعر على نحو متزايد بوجود الشيطان و مملكة الأرواح الشريرة, وبات الناس مولعين أكثر من ذي قبل بالكتب والأفلام ذات العناوين المثيرة التي تختصُّ بعالم الأرواح, وقد خلبت الألباب تلك الروايات التي تتحدّث عن أحداث غريبة في غير مكانٍ من العالم. أفلا يجدر بالمؤمنين من المسيحيين, وهم يدركون البعد الأبدي للحياة, أن يعوا حقيقة وجود القوى الملائكية الطاهرة, الملائكة المقدّسين الماثلين في حضرة الله دائماً لتنفيذ أعماله التي يعملها من أجلنا؟ على كل حال, إن الإشارات في الكتاب المقدس إلى الملائكة الأطهار تفوق في عددها كثيراً الإشارات إلى الشيطان وأعوانه من الملائكة الأشرار.
القوى الكونيةّ:
ما دامت أعمال الشيطان وأرواحه تنشط كثيراً كما يبدو هذه الأيام, وهذا هو ما اعتقده, أفلا يجب أن تمتلئ أفكار أهل الإيمان بحقيقة وجود ملائكة الله المقدّسين بقواهم الفائقة للطبيعة وهي اقوي و أعظم من قوة الشيطان وأرواحه؟ فمن المؤكد أن عيد الإيمان تشاهد دلائل كثيرة على أنّ اللّه يظهر في هذه الأيام قوّته ومجده اللّذين يفوقان الطبيعة. فهو تعالى ما انفكّ يعمل أيضاً.
يجب ألا يُخفق المسيحيون المؤمنين في ملاحظة عمل الملائكة المجيد. إن قوة اللّه التي يستخدم ملائكته تهيمن على عالم القوى الشيطانية كما تهيمن الشمس لدى إشراقها على نور الشمعة الضئيل.
إذا كنت مؤمناً, توقّع أن ترافقك ملائكة الله القوية في اختبارات حياتك, ملاحظاُ في تلك الأحداث ما يُثبت الرّفقة الرفيقة للملائكة أو "القدوسين" كما يسميهم دانيال.
الملائكة يتكلمون, ويظهرون للناس مرة ويعودون للظهور مراراً. ويشعر الملائكة بشعور عاطفي قويّ. وبينما هم قادرون على الظهور للناس, لا نقدر نحن أن نراهم كلّما شئنا ذلك. فإن عيوننا, بسبب تركيبها الطبيعي, تُعوِزها القدرة على رؤية الملائكة بطريقة عادية, تماماٌ كما تعوزها القدرة على رؤية أبعاد حقل ذرّي, أو تركيب الذرات, أو الكهرباء التي تجري في أسلاك النحاس. وقدرتنا على إدراك أية حقيقة هي قدرة محدودة. فالغزلان في الأحراج تتمتع بقدرة على الشم تفوق كثيراً قدرة البشر. والخفافيش (أي الوطاوط) تملك في أجسامها أجهزة رادار فائقة الحس والدقة. وبعض الحيوانات تستطيع أن نراها. ولطيور السنونو والوزّ أجهزة طبيعية ترشدها في حياتها وتوجهها بشكل يكاد أن يكون فائقاً للطبيعة. لماذا إذاً نستغرب كوننا لا نلاحظ حضور الملائكة؟ ألم يمنح الله بلعام وأتانه قدرة جديدة على الإبصار فرأيا الملاك الذي اعترض طريقهما؟ (31,23:22). ولولا تلك الحاسة الخاصة كيف كان لبلعام أن يعلّل ما حدث له مع الأتان؟ أما كان يمكن أن يحسب الأمر وليد الوهم والخيال؟
تستلفتني باستمرار أخبارٌ من أماكن عديدة حول العالم تتحدث عن ملائكة تظهر وتخدم وتتكلّم وتختفي. وهُم أحياناً ينذرون بقرب حلول دينونة اللّه, أو يُظهرون لطف محبته, أو يُنجدون شخصاً وسط شدة حاجته, ثم يختفون. ومهما يكن فثمّة أمر مؤكّد, وهو أن الملائكة لا يجتذبون الأنظار لأنفسهم بل يوجهون التمجيد إلى اللّه فيما يبلّغون الرسالة التي انتدبوا لتبليغها ويعظمونها لدى سامعيها على أنها كلمة اللّه التي فيها النجاة والحياة.
كذلك تتزايد اليوم أعمال الأرواح الشريرة وعبادة الشيطان في كل أنحاء العالم. الشيطان حقيقة, ويعمل الآن أكثر كثيراً مما كان يعمل من قبل. وكما يقول عنه الكتاب المقدس, فلِكَونه "عالماً أنّ له زماناً قليلاً" يعمل بنشاط متزايد. وهو يصيب نجاحاً بتأثيراته الشريرة فيبعد كثيرين من الناس عن الإيمان الحق ولكننا نستطيع في الوقت ذاته أن نقول أن ملائكة الله, التي هي أرواح خادمة, تناهض أعمال الشيطان مدافعة عن شعب الله. وهؤلاء الملائكة المقدسون ينشطون باستمرار لإنقاذ وارثي الخلاص من مكايد الأشرار. وفي هذا ينجحون لا محالة ولا يخيبون.
فيا أيُّها المؤمنون, انظروا إلى فوق. ارفعوا رؤوسكم وتشجّعوا. ملائكة الله أقرب إليكم مما تظنون. "يوصي ملائكته بك لكي يحفظوك في كل طرقك, على الأيدي يحملونك لئلّا تصدم بحجر رجلك" (مزمور 11:91 و12).
- عدد الزيارات: 7160