Skip to main content

قصد الله بالنعمة

إن الاختيار الإلهي هو قصد من الله بنعمته، بمقتضاه يجدد الخطاة ويقدّسهم ويمجّدهم. وهو متناغم مع حرية الاختيار لدى الإنسان، كما يشتمل على توظيف جميع الوسائل لبلوغ الغاية. فالاختيار برهان مجيد على صلاح الله المطلق وسيادته الكلية، وليس له من حدود في حكمته وقداسته وعدم تغيره. والاختيار يتنافى مع الافتخار، ويستدعي التواضع وعدم الاستكبار.

وجميع المؤمنين الحقيقيين يثبتون إلى النهاية. فالذين قبِلهم الله في المسيح وقدّسهم بروحه لن يسقطوا البتة من حال النعمة، بل سيظلون ثابتين إلى النهاية. وبينما قد يسقط المؤمنون في الخطية بالإهمال والتجربة، وبذلك يُحزنون الروح القدس ويخالفون مقتضيات النعمة ويُحرّمون التعزيات ويجلبون التعبير على اسم المسيح، ويستنزلون على أنفسهم قصاصاً زمنياً من الله، فإنهم مع ذلك سوف يُحفظون، بقوة الله وبواسطة الإيمان، للخلاص النهائي.

تكوين 12: 1- 3؛ خروج 18: 5-8؛ 1 صموئيل 8: 4- 7، 19- 22؛ أشعياء 5: 1- 7؛ إرميا 31: 31 وما يليها؛ متى 16: 18 و19؛ 21: 28- 45؛ 24: 22، 31؛ 25: 34؛ لوقا 1: 6- 79؛ 2: 29- 32؛ 19: 41- 44؛ 24: 44- 48؛ يوحنا 1: 12- 14؛ 13: 16؛ 5: 24؛ 6: 44 و45، 65؛ 10: 27- 29؛ 15: 16؛ 17: 6، 12، 17 و18؛ أعمال 20: 32؛ رومية 5: 9 و10؛ 8: 28- 39؛ 10: 12- 15؛ 11: 5- 7، 26- 36؛ 1 كورنثوس 1: 1 و2؛ 15: 24- 28؛ أفسس 1: 4- 23؛ 2: 1- 10؛ 3: 1- 11؛ كولوسي 1: 12- 14؛ 2 تسالونيكي 2: 13 و14؛ 2 تيموثاوس 1: 12؛ 2: 10 ، 19؛ عبرانيين 11: 39 إلى 12: 2؛ 1 بطرس 1: 2- 5، 13، 2: 4- 10؛ 1 يوحنا 1: 7- 9؛ 2: 19؛ 3: 2.

إن قصد الله بنعمته يتخلل الكتاب المقدس كله. فبالحقيقة، تعلّم الكلمة المقدسة أن هذا القصد المتعلّق بالفداء الشامل هو منذ الأزل. ذلك أن الله الكلي العلم قد علم قبل الخلق أن الإنسان سيُخطئ وسيحتاج إلى مخلّص. غير أن علم الله السابق بالحادثة ليس هو علة حدوثها. فهي قد حدثت من جرّاء ممارسة الإنسان لعمل إرادته الحرة. ومع ذلك، فإذ علم الله بالحادثة قصد في الأزل أن يفتدي الإنسان. وهكذا يكون المسيح هو الحمل المذبوح منذ تأسيس العالم. إذاً، كان الغفران في قلب الله قبلما كانت الخطية في قلب الإنسان. وعليه، فإن قصد الله بالنعمة يرتبط بقصده في خلاص الإنسان كليّاً- بالتجديد والتقديس والتمجيد. وهذا القصد الإلهي ينطوي على بضعة أمور.

الاختيار

إن الاختيار هو واحد من تعاليم الكتاب المقدس العظيمة. وهو يُذكر في عدة مواضيع من العهد الجديد منها: (رومية 9: 11؛ 11: 5، 7، 28؛ تسالونيكي 1: 4؛ 2 بطرس 1: 10).

وعند النظر في عقيدة الاختيار، ينبغي التنبه لعدم الوقوع في بضعة أخطاء. فمن الواجب ألا نعظّم بعض النواحي المختصة بطبيعة الله (سيادته المطلقة وإرادته وقوته ومسرته) على حساب إهمال نواحٍ أخرى (قداسته وبره ومحبته).

وعلينا كذلك ألا ننسى إرادة الإنسان الحرة وحرية الاختيار لديه. ومن الواجب أيضاً ألا يُعد الاختيار بمثابة قصد الله لخلاص أقل عدد ممكن من الناس بدل خلاص أكبر عدد ممكن. فالكتاب المقدس يؤكد بوضوح أن الله يحب جميع البشر ويريد أن يخلص أكبر عدد ممكن منهم. وينبغي كذلك ألا يُنظر إلى الاختيار وكأن له علاقة بخلاص أفراد معينين وإهمال الجميع ما عداهم. فمثل هذا الموقف ينفي ما في الكتاب المقدس من تعاليم وفيرة تُفيد العكس. ثم إن هنالك خطأ القول بالحبري، وهو نتيجة حتمية لمثل هذا الموقف. فإذا كان بعض الناس يخلصون وسواهم يهلكون بغض النظر عما يفعلون أو لا يفعلون، فأي داعٍ إذاً لطلب الرب أو للكرازة بالإنجيل؟ غير أن حقائق الكتاب المقدس تؤكد أن الإنسان ليس دمية مشدودة بخيط. فالاختيار لا يظهر البتة في الكتاب المقدس بوصفه اختياراً آلياً أو قدراً أعمى. ذلك أن له علاقة بإله محب وبإنسان مسؤول أدبياً. ولا يظهر الاختيار أبداً كنقضٍ للإرادة الإنسانية (متى 23: 37 و38). فانظر يوحنا 6: 44: "لا يقدر أحد أن يُقبل إلي إن لم يجتذبه الآب". "فالاجتذاب" هو مبادرة من الآب، و"الإقبال" هو استجابة من الإنسان.

إذاً، يجب التنبه إلى حقيقتين تتعلقان بالاختيار، هما سيادة الله المطلقة وإرادة الإنسان الحرة، وبكلتيهما يعلّم الكتاب المقدس في مواضع كثيرة جداً.

تعني سيادة الله المطلقة، بصورة مبدئية مجردة، أنه يستطيع أن يتصرف كما يشاء دون أية مشورة خارجية أو إذن خارجي. أما من الناحية العلمية، وكما يعلّم الكتاب المقدس، فقد وضع الله لنفسه حدوداً معينة. فبهذا المعنى يجب أن يُنظر إلى سيادته المطلقة باعتبارها قدرته على التصرف كما يشاء، مع مراعاة نواميسه الخاصة وبحسب طبيعته المتّسمة بالقداسة والبر والمحبة.

هذا من ناحية؛ ومن الناحية الأخرى يعلّم الكتاب المقدس بأن للإنسان إرادة حرة. والله قد خلقه هكذا، وبينما الإنسان حر في اختياره، فهو مسؤول عن اختياراته (تكوين 3؛ رومية 1- 3). حقيقة يجب إبقاؤها ماثلة في الذهن عند النظر في عقيدة الاختيار. وإلا فلا يكون الإنسان شخصاً حراً قادراً على التمتع بالشركة مع الله، كما يكون الله في آخر الأمر هو المسؤول عن أفعال الإنسان الخاطئة- وحاشا له ذلك!

يظهر الإنسان ذي الفكر المحدود أنه يستحيل التوفيق بين سيادة الله المطلقة وإرادة الإنسان الحرة. ولكن لا تضارب بين الأمرين في حكمة الله اللا محدودة (رومية 11: 33- 36). ولربما ساعدنا على فهم الحقيقة على الصعيد البشري التمثيل الإيضاحي التالي.

إن الله، في سيادته المطلقة، قد رتّب نواميس طبيعية معينة. ولكن الإنسان حر في أن يعيش بموجبها أو يخالفها. وهو في كلتا الحالتين مُلزم أن يتحمل العواقب. إلا أنه، مع ذلك، حر في أن يختار. فالأمر عينه ينطبق على نواميس الله الروحية. فللإنسان أن يختار العيش بموجبها فيُبارَك، أو يخالفها فيُلعَن. غير أن الله لا يُكره الإنسان على اختيار هذا أو ذاك.

لقد قصد الله مسبقاً أن يخلّص الإنسان، وهو قد أخذ زمام المبادرة في ذلك. فلا يمكن أن يخلص الإنسان بغير المبادرة الإلهية وقصد الله للخلاص. وأعظم ما في أمر الخلاص ليس أن الإنسان يبحث عن الله بل أن الله يبحث عن الإنسان (لوقا 19: 10).

هذا الحق المزدوج يبرز في أفسس 1: 3- 13، حيث أوفى مقطع يتناول فيه بولس مسألة الاختيار، فلنلاحظ قوله في الآيتين 4 و5 "اختارنا" و"سبق فعيّننا". فالاختيار هو "قبل تأسيس العالم"؛ و"سبق التعيين" ترجمة لفعل يوناني معناه "وضع علامات الحدود مقاماً" (راجع الآية 11 أيضاً). ولكن لنلاحظ أيضاً أن الله اختارنا "فيه". إذاً اختيار الله كان في المسيح، وهو تعالى قد سبق فرسم حدود الخلاص بالمحبة لا باختيار اعتباطي.

في ضوء ذلك يحسن بنا أن نشير إلى أن بولس استعمل العبارة "في المسيح" أو "فيه" عشر مرات في إحدى عشرة آية. وهكذا فإن الله قد أجرى اختياره "في فلك المسيح"، فاختار أن يخلّص جميع الذين هم "في المسيح". فالحدود التي سبق الله فرسمها هي "في المسيح"، وذلك أشبه ببناء سياج حول حقل. وقد قام الله بذلك في سيادته المطلقة. وبعمله هذا لم يستشر ولم يستأذن أحداً قط. فجميع الذين هم داخل السياج ("في المسيح") سوف يخلّصون.

أما الإنسان فهو حر في أن يختار إما الوجود "في المسيح" وإما البقاء خارجاً. ولا يعني هذا أن الإنسان يستطيع أن يفاخر بخلاصه عندما يختار المسيح. فما ذلك إلا نتيجة لمبادرة الله وقصده بالخلاص. وينال الإنسان هذا الميراث لأن الله سبق فرسم حدود الخلاص بحسب رأي مشيئته تعالى (الآية 11). وعليه، فمن الواجب أن يكون "لمدح مجده" أن ينال الناس مسبقاً رجاءً "في المسيح" (الآية 12).

ولكن عند هذه النقطة وجّه بولس عنايته إلى إرادة الإنسان الحرة. ويظهر ذلك في قوله "فيه أيضاً إذ آمنتم" (الآية 13). فقد سمع قُرّاء بولس إنجيل الخلاص القاضي بأن جميع من "في المسيح" يخلصون. كان لهم أن يرفضوا الإنجيل فيبقوا في حال الضلال. غير أنهم آمنوا "في المسيح" فخلصوا بالتالي. أما أن الله قد عرف مقدّماً من سوف يؤمنون فأمرٌ غنيٌّ عن البيان. ولكن سبق المعرفة بالنسبة إلى حادثة ما ليس هو علة حدوثها، الأمر الذي تقدمت الإشارة إليه.

إن الله لا ينتهك البتة حرمة الشخصية الإنسانية. فهو لن يخلّص إنساناً رغم إرادته. إنه يقرع باب القلب، لكنه لن يفتحه عنوةً. على أنه يتجاوب، مع كل من يفتحون له باختيارهم الحر، بأن يدخل ويخلّص في النعمة بمعزل عن مجهودات الإنسان الذاتية أو استحقاقاته.

وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن الله، وقد اختار خطة للخلاص، اختار أناساً بواسطتهم يتم توفير تلك الخطة ونشرها. هذا الأمر يظهر في اختيار إبراهيم ونسله، وفي العهد الذي قطعه الله مع إسرائيل. ومع أن إسرائيل أخفق في حفظ ذلك العهد، فمن إسرائيل طلع المسيح ليُنفِّذ في التاريخ قصد الله الأزلي المختصَ بالفداء. والذين يتبعون المسيح يُقال لهم: "جِنْسٌ مُخْتَارٌ، وَكَهَنُوتٌ مُلُوكِيٌّ، أُمَّةٌ مُقَدَّسَةٌ، شَعْبُ اقْتِنَاءٍ، لِكَيْ تُخْبِرُوا بِفَضَائِلِ الَّذِي دَعَاكُمْ مِنَ الظُّلْمَةِ إِلَى نُورِهِ الْعَجِيبِ. الَّذِينَ قَبْلاً لَمْ تَكُونُوا شَعْباً، وَأَمَّا الآنَ فَأَنْتُمْ شَعْبُ اللهِ" (1 بطرس 2: 9 و10).

يلخّص مولنز هذا كله في تعريف الاختيار، إذ يقول: "من الواجب ألا نفكر في الاختيار كأنه مجرد اختيار لمقدار من الوحدات البشرية هذا عددها من قبل الله بعمل مستقل عن اختيار الإنسان الحر وعن استخدام أية وسائل بشرية. فالله يختار أناساً يتجاوبون معه بملء اختيارهم. إنه يختار أن يصل إلى الناس من خلال قدراتهم الأصلية وبواسطة الكنيسة ومن طريق التبشير والتعليم والعمل الإرسالي. فعلينا أن نضمن الاختيار هذه العناصر كلها. وإلا، فإننا نمزِّق مرسوم الله قطعتين نرمي منهما قطعة أساسية مهمة".

ويكمل استاغ (Stagg) الصورة فيقول: "يكون المرء غير حساس للحق النابض ف جميع أجزاء العهد الجديد إن هو ظن أن مصير كل إنسان قد حُتم له سابقاً. فكلمات الحق الكتابية ليست بعرض تلفزيوني للتسلية، لأنه حاشا لله أن يكون كمن يلعب بلُعب أو يحتكر بضائع. إنه يطلب أناساً يقفون بحرية مهيبة حيث يقبلون أو يرفضون الخلاص الذي لا يقدّمه إليهم إلا الله وحده".

الثبات

يعتقد المعمدانيون أن "جميع المؤمنين الحقيقيين يثبتون إلى النهاية". ولنلاحظ الصفة المنسوبة إلى المؤمنين، أعني "الحقيقيين"، بخلاف السطحيين. فكثيرون يؤمنون بالأمور المختصة بالمسيح، لكنهم لا يؤمنون به هو غير أن "الذين قبلهم الله في المسيح وقدّسهم بروحه لن يسقطوا البتة من حال النعمة، بل سيظلّون ثابتين إلى النهاية".

أما القائلون بغير هذا الاعتقاد فإنما يتمسكون بنصوص كتابية يعزلونها من سياقها أو بآيات يرون أنها تعلّم العكس. ولكن لا يجوز تأويل أي نص من الكتاب المقدس بمعزل عن قرائن العهد الجديد كله، حيث يفيد التعليم الإجمالي على نحوٍ كليّ الوضوح حقيقة ثبات القديسين إلى النهاية. ويشار أحياناً على يهوذا الاسخريوطي باعتباره مثلاً على الذين يرتدون. ولكن النظر في سيرته عن كثب يُثبت أنه ما آمن قط بالمسيح مخلّصاً له (يوحنا 6: 70). فيهوذا لم يدعُ المسيح مرة باللقب "رب" بل كان يدعوه فقط "يا سيّد" أو يا معلّم (وفي الأصل "رابي").

واضح أن المجال لا يتسع هنا للنظر في جميع المقاطع الواردة في العهد الجديد والتي تعلّم بثبات القديسين. ولكن لابد سمن الإشارة إلى بعضها على نحو يفي بالغرض.

إليك ما قاله الرب يسوع بالذات في يوحنا 10: 28 و29: "وَأَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً وَلَنْ [نفي مطلق] تَهْلِكَ إِلَى الأَبَدِ، وَلاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ [أصلاً: أي شيء، إنساناً كان أو شيطاناًً أو أي أمر آخر] مِنْ يَدِي. أَبِي الَّذِي أَعْطَانِي [صيغة الفعل في الأصل كاملة تشير إلى عمل تام لا يُنقض] إِيَّاهَا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الْكُلِّ وَلاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ [شيءٌ] أَنْ يَخْطَفَ مِنْ يَدِ أَبِي". فليس المؤمنون هم الذين يمسكون بالله، بل إن الله هو الذي يمسك بهم في المسيح.

وفي كولولسي 3: 3 يعبّر بولس عن الفكرة عينها بالصورة مختلفة: "لأنكم قد متّم [بالنسبة إلى الخطية]وحياتكم [الروحية] مستترة [صيغة الكمال، أي مستترة كلياً] مع المسيح في الله". ومدار فكرة "الاستتار" في الأصل صورة القفل. فحياة المؤمن مختوم عليها بقفل مزدوج: الأول هو "مع المسيح"؛ والثاني هو "في الله". ولكي يخطف أحد المؤمن، ينبغي له أن يفتح هذا القفل المزدوج. وواضح أنه لا يقوى على ذلك إنسان ولا شيطان ولا أي أمرٍ آخر.

ونجد في 2 تيموثاوس 1: 12 صورة مماثلة، حيث استخدم بولس صورة إبداع في مصرف: "لأَنَّنِي عَالِمٌ بِمَنْ آمَنْتُ، وَمُوقِنٌ أَنَّهُ قَادِرٌ أَنْ يَحْفَظَ وَدِيعَتِي إِلَى ذلِكَ الْيَوْمِ".

وطبيعة الخلاص في ذاته تؤكد حقيقة الثبات. وذلك واضح في أفسس 2: 8- 10، وإليك النص بترجمة قريبة جداً إلى الأصل اليوناني: "لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، من طريق الإِيمَانِ؛ وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ أنفسكم. إنه عَطِيَّةُ اللهِ. لَيْسَ مِنْ جرّاء الأَعْمَال، لئلا يَفْتَخِرَ أَحَدٌ. لأَنَّكم تحفة الله، إذ قد خُلقتم في دائرة الْمَسِيح لأجل أَعْمَالٍ صَالِحَةٍ قَدْ سَبَقَ فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نظل سالكين في نطاقها".

إن الخلاص هو عمل تتعهده نعمة الله ويقبله المسيحي المؤمن من طريق الإيمان. فمصدره ليس الإنسان ولا أعماله. وقوله "مخلصون" يعني أن الخلاص عمل كامل يُجريه الله في المؤمن. فالمسيحي المؤمن إذاً هو خليقة من خلائق الله. أما الأعمال الصالحة فليست أصل الخلاص بل ثمره. ولما كان الخلاص بمجمله من عند الله في أوله، فإن دوامه أيضاً هو من عند الله كليّاً. وعليه، فإن حصول المرء على الخلاص وثباته فيه متعلّقان على السواء بالله وليس بالإنسان.

ومن أعظم النصوص الكتابية المتعلقة بأمان المؤمن الأبدي ذاك النص الموجود في أفسس 1: 13 و14. فعندما يؤمن المرء بالمسيح، يختمه الروح القدس باعتباره مِلكاً لله، إذ يصير من خاصة الله؛ الأمر الذي تشير إليه الكلمة "المقتنى". والروح الساكن في المؤمن هو "عُرْبُونُ مِيرَاثِنَا، لِفِدَاءِ الْمُقْتَنَى [فداءً كاملاً]".

والكلمة اليونانية المترجمة عربوناً تمكن ترجمتها بتعابير متنوعة، منها "دفعة على الحساب"، "أول قسط"، "ضمانة"، "علامة العهد" الخ...

وفي لغة المعاملات التجارية باليونانية القديمة تُستعمل هذه الكلمة غالباً للإشارة إلى الدفعة الأولى التي تُعطى ضماناً لدفع الثمن الكامل لأي شيء يُشترى.

وهكذا يشتمل الفداء الكامل على التجديد والتقديس والتمجيد. أما "المُقتنى" فهو نفس الإنسان وحياته المسيحية، وقد تم شراء هذا المقتنى لقاء ثمن غال هو عمل المسيح الكفّاري (1 كورنثوس 6: 20). ومعلوم أن تجديد المؤمن وتقديسه يتمّان بعمل الروح القدس. وما ختم الروح القدس للمؤمن وسكناه فيه إلا العربون والضمان الذي يؤكد أن الله سيحفظ نفس المؤمن وحياته حتى بلوغ كمال الفداء أو التمجيد.

إذاً قد دفع الله عربونه، أي الروح القدس، ضمانة منه أنه سيحفظ ما اقتناه سالماً وسيفديه فداءً كاملاً. وغنيٌّ عن البيان أنه عندما يعقد أحد صفقة ما، فإن العربون الذي يدفعه يُعتبر جزءاً من ثمن الشراء. وإن أخفق الشاري في دفع الثمن كاملاً، يخسر العربون الذي دفعه. ففي الصورة التي يقدمها بولس، يُعتبر الروح القدس هو العربون؛ وما الروح القدس إلا الله. إذاً قد قدّم الله كينونة بالذات ضمانة منه للحفاظ على خلاص النفس التي تتّكل على المسيح آمنة مضمونة. وهل بعد ضمانة أفضل من هذه وأقوى؟

هذا، وللكلمة علاقة برباط المحبة الزوجية، فضلاً عن استعمالها في المعاملات التجارية. فهي تُستعمل للإشارة إلى "خاتم الخِطبة" الذي يلبسه كل من الخطيبين علامة على الوفاء بالعهد والمُضيّ قدماً حتى الاتحاد بالزواج. فهكذا يكون الروح القدس السكان في المسيحيين الحقيقيين بمثابة خاتم الخطبة الذي يضعه المسيح في بنصر عروسه ضمانة للوصول بها إلى "عشاء عرس الخروف" (رؤيا 21: 2).

المؤمن والخطية

حالما يصير المرء مسيحياً حقيقياً، يتخلّص من عقوبة الخطية القاضية بالموت الأبدي، لكنه لا يتحرر من سلطة الخطية دفعة واحدة. فما دام المؤمن في الجسد، تشب حرب أهلية في داخله بين طبيعته الجسدية والروحية. ويصف بولس في غلاطية 5 هذا الصراع. ثم يشير في موضع آخر إلى أن أمانه وضمانه إنما هما "بالرب يسوع المسيح". والخلاصة عنده: " إِذاً لاَ شَيْءَ مِنَ الدَّيْنُونَةِ الآنَ عَلَى الَّذِينَ هُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ السَّالِكِينَ لَيْسَ حَسَبَ الْجَسَدِ بَلْ حَسَبَ الرُّوحِ" (رومية 8: 1).

إلا أن بعضهم يقتبسون آيات معينة من رسالة يوحنا الأولى ليُثبتوا أن المؤمن لا يخطئ البتة، وأن الخطية في حياة الإنسان تبرهن أنه غير مسحي حقيقي. ولكن قراءة واعية للآيات موضوع الكلام، في ضوء صِيَغ الأفعال في اللغة الأصلية، من شأنها أن توقفنا على المعنى الصحيح.

مثلاً، تقول الآية في 1 يوحنا 3: 8: "من يفعل الخطية فهو من إبليس". فالفعل هنا وارد بصيغة المضارع الدال على الاستمرار في العمل ومزاولته كعادة يدرج المرء عليها. وبالتالي، تكون القراءة الحرفية هكذا: "من يتعود فعل الخطية يكون من إبليس". وهذا يعني شخصاً يعيش لأجل الخطية عمداً وكأنها غاية حياته كلها. وبديهي أن شخصاً كهذا لا يكون مسيحياً حقيقياً.

ونقرأ في الآية التاسعة: "كُلُّ مَنْ هُوَ مَوْلُودٌ مِنَ اللهِ لاَ يَفْعَلُ خَطِيَّةً، لأَنَّ زَرْعَهُ يَثْبُتُ فِيهِ، وَلاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُخْطِئَ لأَنَّهُ مَوْلُودٌ مِنَ اللهِ". وهنا أيضاً ترد الأفعال بصيغة المضارع المستمر. فالمعنى الحرفي هو "كل من هو مولود من الله لا تكون لديه عادة فعل الخطية، لأن زرع الله يظل ثابتاً فيه، وليس له القدرة على الاستمرار في فعل الخطية كعادة يمارسها".

إن غير المؤمن يعيش لأجل الخطية. إنه يسعى إليها ويترقب الفُرَص لممارستها. أما المولود من الله فله طبيعة جديدة. وهو لا يجعل ارتكاب الخطية عادة حياته. قد تقوى عليه التجربة أحياناً فيُذعن لطبيعته الجسدية، غير أنه لا يُريد ذلك في صميم ذاته المفدية. وإذا سقط يتوب ويطلب الغفران، وبقوة الله يجتهد ألا يخطئ. فإن الزرع الإلهي الراسخ فيه يحفظه من اكتساب عادة الإخطاء.

لننظر الآن في آيات أُخَر من رسالة يوحنا الأولى. ففي 1: 10 نقرأ: "إِنْ قُلْنَا إِنَّنَا لَمْ نُخْطِئْ نَجْعَلْهُ [أي الله] كَاذِباً، وَكَلِمَتُهُ لَيْسَتْ فِينَا". يرد الفعل هنا بصيغة الكمال. فهو يعبّر عن عمل تام يشمل الماضي والحاضر والمستقبل. إذاً الإشارة هنا هي إلى شخص يزعم أنه لم يخطئ قط في الماضي، ولا يخطئ الآن، ولن يُخطئ في ما بعد. وبديهي أن شخصاً كهذا سيجعل الله كاذباً حين يقول تعالى إن الجميع قد أخطأوا (رومية 3: 23). شخص كهذا ليس لديه تبكت على الخطية، ولم يكن قط مسيحياً حقيقياً. فمن المستحيل أن تكون كلمة الله فيه إطلاقاً.

ولكن لنلاحظ الآيتين 7 و8: "... دَمُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِهِ يُطَهِّرُنَا مِنْ كُلِّ خَطِيَّةٍ. إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ لَيْسَ لَنَا خَطِيَّةٌ نُضِلُّ أَنْفُسَنَا وَلَيْسَ الْحَقُّ فِينَا". وهنا أيضاً صيغتا فعل حاضرتان مستمرتان- "إن قلنا إننا نستمر دائماً دون ن تكون لنا خطية، نظل نخدع أنفسنا ولا يكون الحق فينا". هذا الكلام يخص المسيحي المؤمن، فمع أن دم يسوع المسيح يظلُّ يطهِّرنا دائماً من الخطية، فإن المؤمن، في بعض الأحيان وفي حال ضعف، قد يرتكب خطية، والتفكير خلاف هذا إنما هو تضليل للذات.

غير أن الأمر المجيد بالنسبة إلى المسيحي المؤمن هو أننا "إِنِ اعْتَرَفْنَا [باستمرار] بِخَطَايَانَا فَهُوَ أَمِينٌ وَعَادِلٌ، حَتَّى يَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَيُطَهِّرَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ" (الآية 9). في هذه الآية أيضاً يرد الاعتراف بصيغة المضارع المستمر، بحيث يمكن ترجمة العبارة على هذا النحو "اعترفنا بين الحين والحين" أي عندما يُخطئ المؤمن. وحينما يعترف المسيحي المؤمن بخطية بين الحين والحين، يغفر له المسيح يقيناً ويطهّره من تلك الخطية، وهو يقوم بذلك على أساس دمه المسفوك لأجل خطايا البشر (الآية 7).

ولكن هذه الحقيقة بالذات ينبغي أن تُفضي بالمسيحي المؤمن لأن يجتهد كي يتجنب الإخطاء، لأنه حين يُخطئ يُحزن الروح القدس (أفسس 4: 25- 32). إنه يجلب التعبير على اسم المسيح، ويُعطّل صلاحيته كمسيحي حقيقي، ويعكّر صفو فرحه في المسيح، ويُقاسي عواقب خطيته الزمنية.

وينبغي للمسيحي أن يحذر من خطايا الإهمال كما يحذر من خطايا الأعمال. فلأن حياته مؤسسة على المسيح، فمن واجبه ألا يبني بناءً. من الأعمال العديمة النفع من الخشب والعشب والقش، بل عليه بالأحرى أن يبني بناء من الذهب والفضة والحجارة الكريمة (1 كورنثوس 3: 11 و12). وذلك لأن "عَمَلُ كُلِّ وَاحِدٍ سَيَصِيرُ ظَاهِراً لأَنَّ الْيَوْمَ [يوم المحاسبة] سَيُبَيِّنُهُ. لأَنَّهُ بِنَارٍ يُسْتَعْلَنُ وَسَتَمْتَحِنُ النَّارُ عَمَلَ كُلِّ وَاحِدٍ مَا هُوَ. إِنْ بَقِيَ عَمَلُ أَحَدٍ قَدْ بَنَاهُ عَلَيْهِ فَسَيَأْخُذُ أُجْرَةً. إِنِ احْتَرَقَ عَمَلُ أَحَدٍ فَسَيَخْسَرُ [المكافأة] وَأَمَّا هُوَ فَسَيَخْلُصُ وَلَكِنْ كَمَا بِنَارٍ" (1 كورنثوس 3: 13- 15). ذلك أن نفسه "سوف تُحفظ، بقوة الله وبواسطة الإيمان، للخلاص النهائي".

للمراجعة والبحث

1- هل خلاص الله مقدم لقلة مختارة أم لجميع البشر؟ هل "الاختبار" اعتباطي من جانب الله أم أنه يشتمل أيضاً على إرادة الإنسان الحرة؟ أمن الممكن التوفيق بين سيادة الله المطلقة وإرادة الإنسان الحرة؟ ما هو المقصود باختبار الله خطة وشعباً؟

2- ما معنى "ثبات القديسين"؟ أيعني هذا أن جميع أعضاء الكنائس سوف يُخلّصون، أو جميع المعمدانيين؟ من يتولى أمر خلاص القديسين أو المؤمنين وحفظهم؟

3- ما علاقة الخطية بحياة المسيحي المؤمن؟ هل ضمانة المؤمن التي تؤكّدها كلمة الله تبرر وجود خطية في حياته؟ ماذا يخسر المؤمن عندما يخطئ؟

  • عدد الزيارات: 4290