الكتاب المقدس
الكتاب المقدس كتبه أناس بوحي من الله، وهو سجل إعلان الله عن ذاته للبشر. إنه كنز كامل من التعليم الإلهي، مؤلفه الله، وغايته الخلاص، ومادته الحق لا يشوبه أي أثر للخطأ. يبين الكتاب المبادئ التي بموجبها يديننا الله، ولذلك كان، وسيبقى إلى انقضاء الدهر، هو المركز الحقيقي للاتحاد المسيحي والمقياس الأسمى الذي على أساسه يجب أن يُمتحن كل سلوك بشري، وكل إقرارات الإيمان، والآراء الدينية. أما المقياس الذي بموجبه ينبغي تفسير الكتاب، فهو يسوع المسيح.
خروج 24: 4؛ تثنية 4: 1- 2؛ 17: 19؛ يشوع 8: 34؛ المزمور 19: 7- 10؛ 119: 11، 89، 105، 140؛ أشعياء 34: 16؛ 40: 8؛ إر 15: 16؛ 36؛ متى 5: 17 و18؛ 22: 29؛ لوقا 21: 33؛ 24: 44- 46؛ يوحنا 5: 39؛ 16: 13- 15؛ 17: 17؛ أعمال 2:16 والآيات التالية؛ 17: 11؛ رومية 15: 4؛ 16: 25 و26؛ 2 تيموثاوس 3: 15- 17؛ عبرانيين 1: 1 و2؛ 4: 12؛ 1 بطرس 1: 25؛ 2 بطرس 1: 19- 21.
قيل عن المعمدانيين إنهم "أهل الكتاب"، والكتاب المقصود هنا هو الكتاب المقدس.
يضم الكتاب المقدس ستة وستين سفراً أو كتاباً، تسعة وثلاثون منها تكوّن العهد القديم وسبعة وعشرون العهد الجديد. وقد كُتب العهد القديم كله تقريباً باللغة العبرية، ما عدا أجزاء صغيرة كتبت بالآرامية. أما العهد الجديد فقد كُتب باللغة اليونانية، ولا سيما اليونانية العامة المعروفة "بالكيني" (Koine). هذه اللغة المختلفة عن اليونانية الكلاسيكية باتت تُعرف على مر السنين "بيونانية العهد الجديد"، كما لو كانت لغة أعدّها الله لتدوين العهد الجديد. إلا أن اكتشافات أوراق البردي اليونانية غيّر هذا المفهوم. ويُطلق اسم "البرديّات" على تلك المجموعة الضخمة من المواد المعاصرة تقريباً لزمن تدوين العهد الجديد والتي دُونت فيها وقائع الحياة اليومية، مثلاً كسجلّات الضرائب والإحصاء، ووثائق الزواج والطلاق والولادات والوفيات، والوصولات، ولوائح السمانة، والرسائل الخاصة. هذه البرديّات كُتبت بلغة الشعب العامية، والتي لذلك دُعيت "كيني" أي عامية. وقد اكتشف أدولف دايسمان (Adolph Deissmann) أن لغة العهد الجديد هي نفسا لغة البرديّات. ذلك أن جميع كلمات العهد الجديد، ما عدا خمسين كلمة فقط، وُجدت مستعملة في البرديّات وسواها من الكتابات المعاصرة، مما ألقى أضواء ساطعة على معاني العهد الجديد.
فالعهد الجديد إذاً كُتب بلغة التخاطب العامية المستعملة في الحياة اليومية آنذاك. وهذا الكتاب يخاطب اليوم القلب والعقل عند كل من يقرأه بانتباه وبروح الصلاة. ويمكن أن يقال القول عينه بالنسبة إلى العهد القديم. ذلك أن العهدين القديم والجديد هما معاً كلمة الله. ولذا نستطيع أن نقول عن الكتاب المقدس جُملة أمور نعالجها في ما يلي.
إنه كتابٌ موحىً به
تبدأ خلاصة "عقيدة المعمدانيين ورسالتهم" تصريحها بخصوص الكلمة المقدسة فتقول إن "الكتاب المقدس كتبه أناس بوحي من الله، وهو سجل إعلان الله عن ذاته للبشر". إذاً، يؤمن المعمدانيون بأن الكتاب المقدس هو السجل الموحى به، وهو إعلان الله للبشر.
ولكي نستوعب هذا الحق، يحسن بنا أن ننظر إلى ثلاث كلمات، وهي الإعلان والاستنارة والوحي. أما الإعلان فهو العملية التي بها يكشف الله عن ذاته ومشيئته لأناس يبلّغون البشر رسالته.
وأما الاستنارة فهي عمل يقوم به الروح القدس إذ يعطي الذهن البشري فهماً روحياً ليتمكن الإنسان من إدراك الحق المُعلن. وأما الوحي فيضير إلى إلهام الله بواسطة الروح القدس لإنسان هو يختاره، كي يمكنه بالإرشاد الإلهي من تبليغ رسالة الله المعلنة، أو تدوينها. وبالتعبير الكتابي الأصلي، يعني الوحي أن ينفخ الله في ذهن الإنسان الذي يرسله بما يُريد تبليغه.
إن الله، يعلن عن ذاته محبة خالصة. وهو يفعل ذلك من خلال الطبيعة (المزمور 19: 1؛ رومية 1: 19 و20)، ومن خلال الضمير الإنساني (رومية 2: 14 و15). إلا أن الإعلان بالمعنى المستخدم هنا يشير إلى ذلك الإعلان الكامل الذي تم في المسيح والذي هو مدوّن في الكتاب المقدس، وهو إعلان كامل وتام لن يعقبه أي إعلان آخر من نوعه.
والذين تلقوا هذا الإعلان لم يفهموه دائماً فهماً تامً، مثلاً على ذلك أن داود في المزمور 22 وأشعياء في الفصل 53 من سفره كتبا عن الجلجثة أكثر مما كانا يستوعبان. فالحقائق العظيمة التي تحدثا عنها تمّت كليّاً في يسوع المسيح. وقد نوّر الروح القدس أذهان كتَبة الإنجيل وبولس وباقي كتبة العهد الجديد بحيث يفهمون ذلك الحدث (أي موت المسيح) ويشرحونه للأجيال الطالعة. والرسل أيضاً لم يستوعبوا استيعاباً كلياً كلام المسيح إليهم، إلا أن الرب يسوع وعدهم بأن الروح القدس سيعينهم على فهم كل ما قاله لهم. وما زال الروح ينوّر عند كل دارس جاد للكتاب المقدس عقله وقلبه كي يكتشف في كلمة الله حقائق لم يكن يعرفها من قبل.
ولكن حتى الفهم غير الكامل عند كتبة العهد القديم هو بينة على أن الكتاب المقدس صادر عن الوحي الإلهي. ذلك أن الله فتح بصيرة هؤلاء الكتبة فرأوا عبر العصور ما لا يستطيع أن يراه أي إنسان طبيعي. وهذا الإيحاء ينطبق على كلا العهدين.
ثمة عدة نظريات تبحث في كيفية إيحاء الله إلى خدّامه الكتبة.
1- نظرية الحدس، وهي تعتبر أن الوحي ليس إلا تطوراً أعلى للبصيرة الطبيعية التي يملكها الإنسان، لفهم الحق فهماً أتعمق.
2- نظرية التنوير، وهي تعتبر أن الوحي هو مجرد تعميق الإدراك الديني عند الإنسان وتنشيطه.
3- نظرية الإملاء، وهي تؤكد أن الكتبة كانوا مُخضعين للروح القدس على نحو جعلهم آلات بيد الله مسلوبة الإرادة.
4- نظرية الوحي الديناميّ (قوي وفعّال)، وهي تعتقد أن الوحي ليس طبيعياً ولا جزئياً ولا آلياً، بل هو فائق للطبيعة وكامل ودينامي.
ترى النظريتان الأوليان أن أجزاءً من الكتاب فقط موحىً بها، وأن الكتاب المقدس بالتالي عرضة للأخطاء البشرية في الأجزاء غير الموحى بها. والمعمدانيون الجنوبيون يُجمعون على رفضهما ما عدا قلة ضئيلة. أما النظريتان الأخريان فيعتنق إحداهما أو الأخرى غالبية المعمدانيين الجنوبيين، فبعضهم يتمسكون بهذه وبعضهم بتلك.
والنظرية التي يدعوها سترونغ (strong) نظرية الإملاء، يدعوها مولنز نظرية الوحي الحرفي. وهي ترى أن الروح القدس اختار حتى كلمات الأسفار المقدسة وأملاها على الكاتب، فيما ترى النظرية الدينامية أن الفكرة هي من إيحاء الروح القدس لا الألفاظ بعينها وأن الكُتّاب تُركت لهم حرية التعبير عن الحق بالصِّيغ والكلمات التي يختارون، غير أن الكتّاب في أثناء ذلك كانوا محروسين من الخطأ، وذلك بفضل الروح القدس. وتجد هذه النظرية دعماً لها في اختيار الكاتب ألفاظاً مختلفة لرواية الحادثة الواحدة، فضلاً عن ظهور شخصية الكاتب في ما كتبه.
على أن النظريتين الحرفية والدينامية تختلفان فقط في النظرة إلى أسلوب الوحي، لكنهما تتفقان بالنسبة إلى النتيجة. أما إذا تبنى المرء واحدة من هاتين النظريتين دون الأخرى فلا جدال حول سلامة عقيدته بين المعمدانيين الجنوبيين، إذ يعتبرون أن العقيدتين سليمتان، لا سيما وأن الكتاب المقدس بالنسبة إلى أتباع كلتا النظريتين هو كتاب موحى به من الله.
وأياً كانت الطريقة التي بها أعلن الله ذاته وأوحى إلى أناس بأن يُدوّنوا ذلك الإعلان، فالنتيجة على أية حال هي السجل الموحى به من الله عن إعلانه ذاته للبشر. ويجدر بنا أن نذكر أن إعلان الله تدريجي. ولا يعني هذا ضمناً أنه غير قادر على الإعلان عند نقطة معينة من الزمن، بل إنما يعود إلى قدرة الإنسان على تلقي الإعلان. فلو أراد أينشتاين (Einstein) مثلاً أن يشرح نظريته النسبية إلى ولد، فمن الطبيعي أن يبدأ بالأمور السهلة ومن ثم ينتقل إلى المعرفة الأكثر تعقيداً كلما صار الولد أقدر على الفهم. هكذا بدأ الله من حيث كان الإنسان وأخذ يتدرج به في الإعلان بازدياد قدرته على الاستيعاب. ولذا نجده في بعض أقسام الكتاب المقدس إعلاناً عن الله أعظم مما نجده في أقسام أخرى. ولكن الكتاب كله هو إعلان الله، وكلمة الله الموحى بها.
إن الكتاب المقدس نفسه يشهد عن نفسه أنه كتاب موحى به من الله. فقد تكلم الله مثلاً إلى موسى ويشوع وداود والأنبياء. والعبارة "هكذا يقول الرب" تتردد أصداؤها في أسفار الأنبياء. ويبدأ أشعياء نبوءته بالكلمات: "اِسْمَعِي أَيَّتُهَا السَّمَاوَاتُ وَأَصْغِي أَيَّتُهَا الأَرْضُ" (أشعياء 1: 2). كذلك يقول إرميا: "فَكَانَتْ كَلِمَةُ الرَّبِّ إِلَيَّ..." (إرميا 1: 4). وأيضاً: "هَكَذَا تَكَلَّمَ الرَّبُّ إِلَهُ إِسْرَائِيلَ: اكْتُبْ كُلَّ الْكَلاَمِ الَّذِي تَكَلَّمْتُ بِهِ إِلَيْكَ فِي سِفْرٍ" (إرميا 30: 2). ولقد تكلم الرب يسوع أيضاً بسلطان إلهي.
وفي 1 كورنثوس 2: 10- 13 يفيدنا بولس أن رسالته جاءته من طريق وحي الروح القدس. (راجع أيضاً غلاطية 1: 12). وهو يصرّح في 2 تيموثاوس 3: 16 أن "كل الكتاب هو موحى به من الله"، وحرفياً "تنفّس به الله". ويعلّق هستر (Hester) قائلاً: "إن أناساً قديسين، نفخ فيهم الله أو أوحى إليهم، كتبوا الأسفار التي يتكون منها الكتاب المقدس. ولذلك فإن لها سلطاناً ليس لسواها من الكتابات أياً كانت".
ويقول بطرس في رسالته الثانية (1: 20 و21): "أَنَّ كُلَّ نُبُوَّةِ الْكِتَابِ لَيْسَتْ مِنْ تَفْسِيرٍ خَاصٍّ، لأَنَّهُ لَمْ تَأْتِ نُبُوَّةٌ قَطُّ بِمَشِيئَةِ إِنْسَانٍ، بَلْ تَكَلَّمَ أُنَاسُ اللَّهِ الْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ".
ويُرى وحي الكتاب المقدس أيضا ًفي إتمام النبوات. فمن العبارات التي تتكرر كثيراً في الأناجيل: "لكي يتم ما قيل بالأنبياء". فقبل حصول بعض الحوادث بمئات السنين، كان أنبياء قد تنبأوا بحصولها. نشير مثلاً إلى كيفية ولادة المسيح (أشعياء 7: 14، ميخا 5: 2؛ متى 1: 22 و23؛ 2: 5 و6). وفي الناصرة، قرأ الرب يسوع أشعياء 61: 1 و2 ثم قال عن نفسه: "اليوم تم هذا المكتوب في مسامعكم" (لوقا 4: 21). وفي الحوادث المتعلقة بمحاكمة المسيح وموته وقيامته، أتمّ ما جاء عنه في أسفار العهد القديم (لوقا 24: 44- 46).
فههنا رجال عاشوا قبل المسيح بقرون يكتبون بمنتهى الدقّة عن أمور متعلقة بحياته وعمله الكفّاري. فلا يمكن لأي بصيرة بشرية أو عقل بشري مهما ارتقيا أن يفسرا هذه الحقيقة، إذ إن متا يفسّرها هو وحي الله بروحه القدوس، وليس غير.
ثم إن وحدة الكتاب المقدس تؤيد كونه موحى به. فللكتاب المقدس موضوع أساسي واحد، هو قصد الله الفدائي. وفيه شخص أساسي واحد، هو المسيح. وله هدف أساسي واحد، هو الله مهيمناً على كون مفدي.
وإن كُتب الكتاب المقدس على مدى فترة طولها تقريباً ألف وخمس مئة سنة، وفي أماكن شتى على طول الطريق من بابل إلى فلسطين إلى روما. وكان في عداد الكتبة مجموعة من الرجال متعددة المهن والصفات، بين ملوك وفلاحين، وشعراء ورعاة، وصيادين وعلماء، وزارعين وكهنة، وشيوخ وصانعي خيام وحكّام. وضمن موضوعات الكتاب مواد تراوح بين الفلسفة والشعر والنبوءة واللاهوت والتاريخ والعلم وعلم الاجتماع. وليس أحد من كتبة الوحي علم أنه كان يقوم بكتابة جزء من الكتاب المقدس. ويُحتمل أن كثيرين من هؤلاء لم يكونوا على علم بما كتبه الآخرون.
ومع ذلك، فعندما تم جمع الأسفار معاً بإرشاد من الروح القدس روت جميعها قصة واحدة كاملة. ولا يكتمل أي واحد من العهدين بغير الآخر.
مثل هذه الظاهرة لا يمكن تفسيرها على أسس المنطق البشري والمقاصد البشرية. وهي ظاهرة تبقى عديمة المعنى إلا إذا نظرنا إلى الكتاب المقدس بوصفه الإعلان الإلهي المكتوب وحصيلة الوحي الإلهي، وقد تم تأليفه واختياره وحفظه جميعاً بيد الروح القدس المرشدة.
وليس من دليل على وحي الكتاب المقدس أعظم من الرسالة التي يحتوي عليها. ورسالة الكتاب ليست كرسالة أي كتاب آخر.
فالكتاب المقدس أعظم من أن يقارن بأي أثر أدبي من آثار البشر. ومحتويات الأبوكريفا كالرمل بالنسبة إلى جواهر الكتاب المقدس ولآلئه. ولدى مقارنة الأناجيل المزيفة (وهي كتابات غير مقبولة بين الأسفار القانوينة)، وقد نُسب بعضها إلى القرنين الأولين بعد المسيح، يتبين أن الأناجيل الأربعة القانونية تسمو عليها كسمو السماء على الأرض.
ويتضمن الكتاب المقدس الحق الذي لا يوجد سواه. فقد يكتشف العقل البشري بعض الحقائق المختصة بالله. ولكن الحق المعلن في الكتاب المقدس يفوق تلك على نحو لا يُبقي مجالاً للمقارنة. قد يتمكن المرء من استيعاب المعاني المتضمنة في سائر الكتب، ولكنه لن يستطيع البتة استيعاب معاني الكتاب المقدس كلها.
كان العهد القديم هو الكتاب المقدس الذي استخدمه المسيح. وبما أنه كلمة الله الموحى بها، فقد اقتبس منه باعتباره مرجعاً إلهياً ذا سلطان. وفيما قد يطعن الشكّاكون في وحي العهد القديم، فإن المسيح لم يشك قط في وحيه. وفي كتاب "هذه عقائدنا" يشير تيرنر (J. Clyde Turner) إلى أن يسوع اتخذ حادثتين مذكورتين في العهد القديم واستخدمهما كإيضاح للحق الإلهي، وهما: الطوفان (متى 24: 38 و39) ويونان والحوت (متى 12: 40). وما يقوله المسيح هو القول الفصل، لأنه هو سلطاننا النهائي.
كلمة أخيرة يجب أن تقال عن الكتاب المقدس باعتباره كتاباً موحى به- كلمة تتعلق بالوحي والبحث: هل ينفي أحدهما الآخر؟ لا، البتة. فأكيد أن لوقا مثلاً كتب إنجيله بوحي من الروح القدس. ومع ذلك ففي لوقا 1: 1- 4، يخبرنا كيف برز إنجيله إلى الوجود. فبالنظر إلى الأخبار السابقة المتناقلة عن أحداث حياة المسيح- المكتوب منها والمنقول شفاهاً- يقول بمنتهى الوضوح: "رَأَيْتُ أَنَا أَيْضاً إِذْ قَدْ تَتَبَّعْتُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الأَوَّلِ بِتَدْقِيقٍ أَنْ أَكْتُبَ عَلَى التَّوَالِي إِلَيْكَ". وتُبين صِيَغ الأفعال في المقطع المشار إليه (لوقا 1: 1- 4) أن هذا الكلام قد كُتب بعد انتهاء لوقا من تدوين كامل إنجيله. إذاً، لا يتحدث لوقا عما كان ينوي فعله، بل بالأحرى عما كان قد أنجزه فعلاً.
ينبغي أن تُسكِّن هذه الآيات أية خشية من أن تكون الإشارة إلى استقاء المواد من مصادرها من قِبل أي كاتب من كتبة الأسفار المقدسة إنكاراً للوحي الإلهي. ذلك أن ما كتبه لوقا (إنجيل لوقا وأعمال الرسل) قد أثبتت، في وجه أقسى أنواع التحليل النقدي الشوكي، أنه يتصف بالدقة التاريخية المتناهية على نحو ينفي أي ظل للشك بصورة جدية. فقد ثبتت هذه الكتابات كالحصن المنيع، مُضفية المصداقية والموثوقية على الكتاب المقدس كله.
فهل الكتاب المقدس كتاب إلهي؟ نعم. وهل هو كتاب بشري؟ نعم. إنه بالحقيقة كتاب إلهي وبشري معاً. فهو إلهي لأنه كلمة الله الموحى بها. وهو بشري لأن الله اختار أن يدوِّن إعلانه بواسطة أناس يوحي إليهم ويرشدهم في عملهم ويعصمهم من الخطأ فيه.
وهو كتاب ديني
الكتاب المقدس "كنز نفيس من التعليم الإلهي: الله مؤلفه، والخلاص غايته، والحق مادته".
لا يدّعي الكتاب المقدس أنه كتاب تاريخ أو أدب أو فلسفة أو علم نفس أو علوم، ومع ذلك يحتوي عناصر أصيلة من هذه كلها، وأزيد منها. وليس مقصوداً به أن يكون دائرة معارف تحوي أجوبة عن أسئلة الإنسان كلها، إلا أنه يجيب عن تساؤلات القلب والعقل والروح، تلك التساؤلات الحيوية والشاملة والمهمة. وربما لا يقول الكتاب للإنسان كل ما ينبغي معرفته، غير أنه يقول له بالفعل ما يحتاج لأن يعرفه في ما يتعلق بواجبه ومصيره الروحيين والأدبيين.
والكتاب المقدس في جوهره كتاب ديني. إذ يقول الرسول بولس: "كُلُّ الْكِتَابِ هُوَ مُوحىً بِهِ مِنَ اللهِ، وَنَافِعٌ لِلتَّعْلِيمِ وَالتَّوْبِيخِ، لِلتَّقْوِيمِ وَالتَّأْدِيبِ الَّذِي فِي الْبِرِّ، لِكَيْ يَكُونَ إِنْسَانُ اللهِ كَامِلاً، مُتَأَهِّباً لِكُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ" (2 تيموثاوس 3: 16 و 17).
وإذ يتكلم الكتاب المقدس عن قصد الله للفداء، فهو يُعلن كيف ينوي الله أن يستعيد الإنسان الخاطي إلى الشركة معه وأن يستخدمه في خدمته تعالى. هذه الرسالة تتخلّل الكتاب كله من التكوين إلى الرؤيا كخيط قرمزي. وتبدأ خطة الله المعلنة في الكتاب المقدس منذ الأزل حيث يُرى حمل الله المذبوح قبل تأسيس العالم، كما تنتهي في الأبد حيث يُرى حمل الله الظافر على عرشه سائداً على الكون المفدي. فالكتاب المقدس يشير إلى المسيح من قَبلُ ومن بَعد، كما يشير إلى رجوعه المجيد وملكه السعيد في المستقبل أيضاً. ويُعلن الكتاب الله في شخص الروح القدس وهو يقوّي شعب المسيح ويُرشدهم للقيام بمأمورية الله القاضية بالتبشير والخدمة الإرسالية.
يربط الكتاب المقدس قصد الله للفداء بالتاريخ البشري. فالكتاب يبين كيف يستخدم الله البشر والأمم في إتمامه لهذا القصد الفدائي. ويوجه الكتاب الأنظار إلى الزمن الذي فيه في آخرة الدهر( رؤيا 19: 16)، حيث يكون الله- الآب والابن والروح القدس- هو الكل في الكل (1 كورنثوس 15: 24- 28).
ويتحدث الكتاب المقدس عن دينونة الله للخطية. فإنه يُعلن المبادئ التي بموجبها سوف يحاكمنا الله، ولذلك فهو الآن- وسيبقى إلى نهاية الدهر- المقياس الأسمى الذي في ضوئه ينبغي أن يُمتحن كل سلوك بشري وأحكام وآراء دينية.
إن مبدأ الدينونة هذا يتخلل الكتاب المقدس كله. فهو يصف دينونة الله للإنسان الساقط (تكوين 3: 16- 19؛ 4: 10- 12) ولجنس شرير (تكوين 6)، وأمم (خروج 7- 12؛ عاموس)، وأفراد (عدد 20: 11 و12؛ 2 صموئيل 12: 10- 12)، وللشعب الذي اختاره (أشعياء 5؛ متى 21: 33- 45).
ويروي الكتاب المقدس قصة امتزاج محبة الله بغضبه (رومية 1: 16- 18). فالله يكره الخطية، لكنه يحب الخطاة. ويبين الكتاب ما فعله الله لينقذ الإنسان من الدينونة (يوحنا 3: 16- 18). إلا أنه يشير إلى دينونة الله النهائية للخطاة غير التائبين (رؤيا 20: 11- 15). ويتحدث الكتاب أيضاً عن محاكمة جميع البشر (رومية 14: 10)- المخلصين لإظهار مقدار مكافأتهم في السماء، والهالكين لإظهار مقدار معاقبتهم في الجحيم (لوقا 12: 47 و 48؛ رؤيا 20: 12- 15).
والكتاب المقدس هو المقياس الذي به ينظم الله سلوك البشر (2 تيموثاوس 3: 16 و17). حتى إن المرء قد يكتشف هذا الحق في كل صفحة من صفحات الكتاب تقريباً، وإن كان يظهر واضحاً في الوصايا العشر (خروج 20- 1- 17). ولا يخف أن الموعظة على الجبل هي دستور ملكوت الله، ولم يُقصد بها أن تبين للهالكين طريق الخلاص، بل أن تعلّم المسيحيين المؤمنين كيف يحيَون حياة الفداء المُصلحة كلياً (يوحنا 15؛ رومية 6؛ 12؛ 1 كورنثوس 12- 14).
هذا، والكتاب المقدس هو القطب الحقيقي للاتحاد المسيحي. فهو يبين الشركة التي للمؤمنين في المسيح. وإذا تم اتباع الكتاب كلياً، بمعزل عن الأحكام والممارسات التي من صنع البشر، فهو يؤمِّن نقطة التجمع الوحيدة التي فيها يستطيع جميع شعب الله أن يجدوا وحدة الإيمان التي لأجلها صلى المسيح (يوحنا 17: 22).
وهو كتاب ذو سلطان
إن مبدأ الدينونة والإرشاد لهو دليل على سلطان كلمة الله المكتوبة . ويشير جان نيوبورت (John P. Newport) إلى كون هذا السلطان متجرداً وشخصياً في آن. فهو متجرد لكونه "وثيقة تاريخية إلهية وتفسيراً لإعلان الله في التاريخ صادراً عن وحي الله ومتمتعاً بسلطانه". وهو شخصي "لكون سلطانه غير جامد ولا آلياً. فهو كتاب حي ونابض بالحيوية يستخدمه الروح القدس للتوجيه والإرشاد دون إرغام. إنه كتاب يعمل الروح القدس من خلاله ليقود الناس إلى المسيح الحي ويرشدهم في سبيل المسيحية الصحيحة".
والكتاب كله هو كلمة الله. إلا أن العهد القديم يتكمل في العهد الجديد. لهذا السبب يرى المعمدانيون في العهد الجديد لُغة الحسم النهائية.
والقول إن الكتاب المقدس هو كتاب ذو سلطان لا يعني أنه مرجع في كل ميدان من ميادين الفكر البشري. فهو ليس مرجعاً علمياً، ولا هو يدَّعي أنه كذلك. ومع ذلك، فإذا أبقينا في الذهن أن الكتاب المقدس كُتب بلغة الناس العامية، نجد أن مراحل الخلق الموصوفة في الفصل الأول من سفر التكوين تنسجم مع ما توصل إليه العلم في جميع ميادينه التي تمت بصلة إلى أصل الموجودات، ومنها مثلاً على طبقات الأرض وعلم الأحياء وعلم النبات.
وعندما يمسك المرء الكتاب المقدس بيده، يستطيع أن يتيقن أنه يمسك كتاباً اجتاز وسط النيران الملتهبة التي أشعلها الانتقاد العنيف المُعادي لكنه خرج منها بسلام وهو أزهى لوناً. وإذ نقرأ الكتاب المقدس، لا نُضطر إلى استرضاء عقولنا كي نصدقه.
وقد جاء في "عقيد المعمدانيين ورسالتهم" أن مادة الكتاب المقدس خالية من الزغل. والمقصود بهذا طبعاً المخطوطات الأصلية لجميع الأجزاء المكوِّنة له. فدارسو الكتاب المطَّلعون يعرفون أن النُسَّاخ اقترفوا بعض الأخطاء على مر السنين. ومعلوم أن الروح القدس لا يعصم النُسّاخ من الوقوع في مثل هذه الأخطاء، كما أنه لا يعصم الطبّاعين منها. ولكن ينبغي أن نتنبّه إلى أن أياً من هذه الأخطاء لا يؤثر تأثيراً مُهماً في محتويات الكتاب الروحية.
إنما بفضل اكتشاف آلاف المخطوطات العائدة للعهد الجديد تيسّر ردّ القسم الأكبر من هذه الأخطاء إلى مصدره وتم إصلاحه. ويُعتبر طلّاب الآداب الكلاسيكية محظوظين إذ توفّر لديهم ما بين عشر مخطوطات وخمس عشرة مخطوطة لأي أثر من الآثار الفكرية. فما أسعد الذين يقومون بدراسة نقدية للكتاب المقدس. ومن بديهيات النقد الأدبي أن المخطوطة الأقدم هي أصح من المخطوطة الأحدث. فبعض مخطوطات العهد الجديد يرجع تاريخها إلى القرن الرابع الميلادي. ويمكننا القول بشكل قاطع إن العلماء استطاعوا أن يحددوا النصوص الصحيحة والدقيقة في المخطوطات الأصلية.
وقد تم العثور في الكهوف القريبة من البحر الميت على أقد النُسخ العائدة للعهد القديم فوُضعت في متناول الإنسان الحديث. وقبل هذا الاكتشاف كانت أقدم النُسخ العبرية وأكملها من مخطوطات العهد القديم تعود إلى القرن التاسع الميلادي. ولكن في المتناول الآن أجزاء من النص العبري يعود تاريخها إلى القرنين الأول والثاني ق.م. وقد تم عام 1956 تصنيف تسعين مخطوطة تقريباً لأسفار العهد القديم. وكان ضمن هذه المخطوطات ثلاث عشرة نسخة من سفر التثنية، واثنتا عشرة من أشعياء، وعشر من المزامير وسبع لأسفار الأنبياء الاثني عشرة كلها أو بعضها، وخمس لأسفار من أسفار موسى الخمسة. وهنا تظهر آثار لأسفار العهد القديم باللغة العبرية، كلها ما عدا أستير. وهذه النصوص العبرية مشابهة للترجمة السبعينية إلى أبعد حد (والسبعينية هي الترجمة اليونانية للعهد القديم).
وقد أدى ذلك الأمر بحد ذاته إلى إثبات دقة الترجمة السبعينية، وهي الترجمة التي استعملها معظم كتبة العهد الجديد، كما أنه عمل أيضاً على حل مشكلة متعلقة بالتوافق الكائن بين الأسفار الإلهية. مثلاً، يذكر استفانوس مقتبساً من العهد القديم أن خمساً وسبعين نفساً ذهبوا مع يعقوب إلى مصر( أعمال 7: 14). أما النص العبري الذي اعتمده معظم المترجمين فيذكر أن سبعين نفساً رافقوا يعقوب (خروج 1: 5). ولكن المخطوطة العبرية التي اكتُشفت في خرائب قُمران، وهي ترجع إلى القرنين السابقين للميلاد، تذكر خمساً وسبعين نفساً، مثلها مثل السبعينية التي استخدمها استفانوس. وهكذا يتبين أن استفانوس كان على حق (وكذلك لوقا في سفر الأعمال).
ويبدو أن القصة لا تكاد تنتهي. فمن أكثر القصص تشويقاً في دراسة الكتاب المقدس الحديثة تتبّع تأثيرات علم الآثار القديمة في توكيد صحة الأسفار المقدسة. صحيح أن بعض المشكلات ما تزال في حاجة إلى حل، ولكن حيث توجد تناقضات ظاهرية يستطيع المرء أن يعتقد راسخاً أنها ترجع إلى نقص المعرفة البشرية وليس إلى أخطاء في مخطوطات الكتاب المقدس الأصلية.
فمع أنه لا أثر للكلمة "عصمة Infallibility". في خلاصة العقيدة المعمدانية، فإن المعمدانيين كثيراً ما يستخدمونها. لذا، حري بنا أن نتوقف عندها ولو قليلاً.
ماذا يقصد المعمدانيون بقولهم إن الكتاب المقدس معصوم من الخطأ؟ المقصود هو أن الكتاب المقدس معصوم بوصفه كتاب دين. إذاً، المعمدانيون الجنوبيون يتمسكون بعقيدة عصمة الكلمة المقدسة، ويرونَ أن هذه العصمة تقوم على كون جميع التعاليم الروحية في الكتاب المقدس هي صحيحة وحق، وتؤدي ما هو مقصود لها أن تؤديه. يقول مولنز: "يُعلن الكتاب المقدس حضور الله في وسط شعبه مستخدماً أُناساً متنوعي القدرات أرشدهم في اختيار مجموعة كبيرة ومتنوعة من الوسائل لتبليغ الحق. وقد راعى هؤلاء الوسائل لكي يصلوا إلى الغاية المنشودة، فاستخدموا دائماً لغة الحياة العامة، مستعملين في بعض الأحيان أشكالاً من التمثيل التصويري تناسب الأمم في طفولتها، ومُرتقين في أحيان أخرى إلى ذُرى الفصاحة التي نراها عند أشعياء، وإلى المفاهيم الرفيعة عن الله اللا محدود في الجلال والقدرة والنعمة والحق. وقد بلغ ذلك كله أوجَهْ بإعلان الله نفسه في المسيح على نحو لا مثيل له.
فهدف الكتاب المقدس هو هدف روحي محض؛ وبما أنه هكذا فقد أثبت حتى الآن- ويُثبت حالياً وسوف يُثبت أيضاً مستقبلاً- أنه الدليل الكافي والوافي وذو السلطان لكل إنسان.
"ويبقى الكتاب المقدس في مكانته ذات سلطان عند المسيحيين. فهو مرجع ذو سلطان، أساسي وحيوي، وليس مرجعاً آلياً وكنسياً. إنه المصدر ذو السلطان في ما يتعلق بمعلوماتنا حول الإعلان التاريخي لله في المسيح. وهو الضابط للاختبار المسيحي والعقيدة المسيحية. وهو أداة الروح القدس في الولادة الجديدة وفي التقديس... إنه يُنيطنا بأعمال الله الخلاصية العظيمة المعلَنة في يسوع المسيح، الفادي والرب. وكلمة الكتاب هي عندنا القول الفصل في جميع المسائل المتعلقة بعقيدتنا وممارستنا المسيحيتين".
معيار التفسير:
"إن المعيار الذي ينبغي تفسير الكتاب المقدس بواسطته هو الرب يسوع المسيح". فالكتاب المقدس هو الكلمة المكتوبة عن الكلمة الحي. وعليه، فأي تفسير لنص ما من نصوص الكتاب يجب أن يتم في ضوء إعلان الله في يسوع المسيح وفي ضوء تعاليم المسيح وعمله الفدائي. وبالحقيقة أن الكتاب المقدس هو خير مفسر للكتاب المقدس، إذ يكتشف المرء معنى جزء في الكتاب في ضوء مضمون الكتاب كله.
للمراجعة والبحث
1- ما معنى "الوحي"؟ وما هي بعض البيّنات التي تُثبت أن الكتاب المقدس هو كلمة الله الموحى بها؟
2- هل يؤدي البحث إلى مناقضة الوحي، أم أنه يشهد لصحة كلمة الله ودقتها؟
3- هل يُكلّم الكتاب المقدس قلبكَ؟ تذكّر حالات تبرهن فيها أنه كلمة الله الموجهة إليك.
- عدد الزيارات: 9034