الغني والمسكين ما وراء القبر
إن قصة لعازر والغني (انجيل لوقا 16)، هي ليست مجرد مثَل، بل هي حادثة من واقع الحياة، أي مما يحدث كل يوم من حولنا. فالموت حقيقة وواقع، ولا أحد يعرف ما يحدث ما بعد المنية وما وراء
القبر. فيموت الاحياء ويدفنون، ويبدو انه قد انتهى امرهم، ولن نراهم فيما بعد.. لكن الذي حكى هذه الحادثة، هو اهم شخص في التاريخ، اي الرب يسوع المسيح، ولا يختلف اثنان ان يسوع هو شخصية فريدة جدا... ولأن يسوع هو الله ذاته، ظاهراً في الجسد وصائرا بشرا مثلنا، لكي يتمكن من تخليصنا من الهلاك الابدي.. فبما ان المتكلم هو الله، فهو يعرف ما يحدث تماما بعد الوفاة، وهو يرى ما بعد القبر. لذلك فكلامه هام جدا للجميع، ولا يقدر احد ان يتجاهل اقواله، لانه هو ايضا الديّان للجميع، وهو يعرف سرائر البشر، ومكنونات الانسان ومصير المخلوقات..
في هذه الحادثة اراد يسوع ان يُظهر لنا الفرق الشاسع بين ما يراه البشر وبين ما يراه الله، بين ما هو ظاهر لنا وبين ما هو مجهول لنا. وتحدث يسوع عن مقارنة ومباينة شاسعة بين نوعين من الناس، ويقصد المسيح الديان هنا ان الناس اجمعين تنقسم فقط الى مجموعتين وفرقتين، ولهما فقط مصيران لا اكثر.. وقال يسوع في هذه الحادثة ان رجلين، الواحد غني يتنعم لا ينقصه شيء من الترف والبذخ والموارد المادية، فهو لا يحتاج الى شيء بل لديه الاساسيات والضروريات والكماليات التي يمكن ان تتكون لانسان.. والرجل الآخر كان فقيرا ومسكينا، لا يملك شيئا، فهو معدم تماما تنقصه الضروريات والكماليات.... الاول يثير التعجب والتباهي والحسد والغيرة، اما الثاني فيثير الشفقة والرحمة والأشمئزاز والرفض... الاول يفتخر مَن يصاحبه ومَن يشاركه، والآخر يخجل مَن يراه ويمتعض من مشاهدته.... ويسوع بحكمته، ذكر ان الاثنين كانا قريبين احدها من الآخر، فلا يسكن كل واحد، في بلد بعيد عن الآخر، بل يمكن ان تراهما في نفس المكان، وفي نفس اللحظة. ويختلط شعور الناظر بين التعجب والحزن والغيرة والشفقة. وبما انهما كانا في نفس الوقت وذات المكان، مع ان الفرق كان شاسعا جدا بين كل واحد منهما، لذلك فالامر يثير الكثير من الاسئلة والتساؤلات عن الحياة وعن العدالة وعن الله وعن الحكمة السماوية من وراء ذلك، واحيانا يتحوّل الامر الى الاشتكاء والاتهام والتذمر...
ما دمنا ننظر ونفكر جيدا في حالة كل منهما في هذه الحياة، لن نتمكن من فهم لغز المباينة بينهما، وسنشكك في عدل الحياة.. لكن المسيح هنا يكشف اللغز، ويبيّن الحقيقة، ويجيب على كل التساؤلات، ويثبت ان الله عادل. وقد اظهر الراوي ان الحياة ليست مجرد السبعين سنة في هذا العالم، بل العمر في هذه الدنيا هو الجزء الضئيل جدا من الابدية التي لا يراها ولا يصدقّها بشر....لنعطي مثالا يوضح ذلك، لنفرض انك رأيت قضيبا من الحديد طوله 10 سم، يبرز من حائط البناية، ورأيت قضيبا آخر طوله 200 سم.. فأي هو الاطول؟؟. ربما تجيب سريعا من دون تفكير، وتقول طبعا قضيب الحديد الذي طوله 200 سم... لكن هذا غير صحيح... لو ذهبنا الى الجانب الآخر من الحائط، ووجدنا ان القضيب القصير طوله 50 مترا ، والطويل طوله 3 امتار، فأي هو الاطول؟؟؟... هكذا ايضا نحن لا نرى الا جانبا واحدا من الحقيقة، اي نرى فقط ما يحدث في هذا العالم، ولا نقدر ان نرى جانب الابدية الذي اذا قارناه بالسبعين سنة في هذا العالم،، سنكتشف ان الجانب الاعظم والاهم لا نراه ابدا....
ويسوع هنا يكشف الحقيقة الكاملة من الجانبين، اي ما نراه وما لا نراه، اي الانسان في هذه الدنيا وما سيكون في الابدية التي لا نهاية لها.. ومن غباء البشر ان يعتبروا ان الجانب الدنيوي في هذا العالم هو كل شيء، ويظنون ان عند القبر ينتهي كل شيء، لكن هذا ليس الحقيقة.. فمثلا اذا لم نعرف احيانا ماذا يوجد وراء جبل شاهق، هذا لا يعني انه لا يوجد شيء!...
وقال الرب يسوع ان الغني المتنعم والمترفه الذي لم ينقصه شيء، مات ودُفن... ولم يُذكَر اسمه، محاولا ان يقنعنا ان الانسان من دون الله، مهما كان غنيا وممجدا من الناس، فهو بلا اسم، اي لا قيمة له في عيني الله، ولا معنى له في قاموس الابدية. وهذا المصير كان قد اختاره الغني بنفسه، اذ تجاهل الجانب الالهي واحتقر الجانب الابدي.. و"دُفن" اي ان كل مجده وثراءه وترفه العالميين، انتهوا ولم يعد يملك شيئا... ودُفن رغم كل ما له في هذه الدنيا، فواروا التراب على جسمه، وعلى كل ما به، رمز للهوان المطلق... اما المسكين والمحتاج في عيني البشر، مات ايضا، اي غادر هذه الدنيا. لكن الكتاب المقدس لا يقول انه دُفن، بل مات وحملته الملائكه!... يا له من فرق صارخ بين الرجلين، وايضا بين حالهما بعد الوفاة... والكتاب المقدس ذكر اسم المسكين، وتجاهل اسم الغني، مع ان البشر معتادة على ان تذكر اسم الغني في كل مكان، وتتجاهل اسم المسكين في اي مكان، ربما لم يعرف احد اسمه البتة.. لكن الامر في عيني الله مختلف تماماً، فمَن يرفعه ويمجّده البشر، هو دائما محتقر في عيني الرب وتافه في نظر الابدية، ومَن يحتقره ويزدريه البشر، يكون دائما ممجدا ومرفوعا في الابدية ومقبولا لدي خالق البشر..
الله, المسيح, الموت, الانسان , الفقر
- عدد الزيارات: 7200