أزمة ثقة!
"وقالوا (أي إخوة يوسف)، ألعل يوسف يضطهدنا، ويرد علينا جميع الشر الذي صنعنا به!" (تك 50: 15) كان موقف اخوة يوسف محشواً بالضغينة والعداء والتشكيك، اما موقف يوسف فكان مشحوناً بالمحبة الالهية والعطف والرقة...
ومع ان اخوة يوسف خططوا شرا، ونجحوا بالتخلّص من يوسف، وظنوا ان حياتهم ستكون افضل واروع من دون يوسف صاحب الاحلام، وظنوا ايضا انهم تمكّنوا من ابعاد يوسف من حياتهم الى الابد.. لكنهم اخطأوا مرتين، اخطأوا لانهم من دون يوسف الذي كان الرب معه، لا قيمة لهم.. واخطأوا ايضا، لانه لم يكن ممكناً التخلّص من رجل اقامه الله لخلاص شعبه...
وما زال التاريخ يعيد نفسه، لان الانسان لا يتعلّم من اخطائه، ولا من اخطاء الاخرين.... ورغم غدر اخوة يوسف بيوسف، ورغم محاولتهم للقضاء عليه، والتخطيط ضده، لكنه كان راضيا بارادة الرب لحياته، وكان واثقا من قصد الله الطيّب والصالح له... لم يسمح للظروف الصعبة والاحداث المؤلمة ان تغيّر محبته لاخوته مهما فعلوا..
اما هم فكان دائما موقفهم موقف التشكيك والشبهات والظنون والتحاليل الرديئة تجاه يوسف... فقد فسّروا كل ما فعله وقاله يوسف تفسيرا خاطئا ممزوجا بالنوايا الرديئة... ومع انهم تخلّصوا من يوسف، اذ باعوه الى ابعد مكان، لكن هاجسه لم يزل يراودهم في كل مكان وزمان.... وبعد سنين طويلة، وبعد ان تأكدوا ان الزمن غطى كل ذكريات ليوسف المظلوم، اذا بهم يتفاجئون من مشهد غريب، يجدون انفسهم واقفين امام يوسف اخيهم، وهو حاكم مصر، اعظم دولة في ذلك العصر... يا له من موقف محرج جدا... بحيث لا مهرب لهم منه... كان على يوسف ان يأمر بسجنهم واعدامهم على ما فعلوه به... لكن يوسف كان رجلا خائف الله، تغمر قلبه محبه الهية رائعة.... اكرم اخوته، وأمرهم ان يأتوا بأبيهم، ويعيشون معه في مصر بكرامة وعز، بحيث لا ينقصهم شيء..
كان عليهم ان يكتشفوا مدى شر افكارهم ومدى رداءة قلوبهم، وفي نفس الوقت، مدى شهامة يوسف، لكنهم بقوا متشككين من موقف يوسف، حتى انهم تهامسوا قائلين برعب شديد " أ لعل يوسف سيهجم علينا ويمزقنا بسبب ما فعلناه به"... ظنّوا ان يوسف مثلهم، يدفعه الحقد والانانية، ولم يقدروا ان يكتشفوا ان يوسف كان مختلفا عنهم تماما... ورغم صفحه عن شرّهم، وعفوه عن تعدّيهم، ومغفرته واحتضانه لهم، الا انهم لم يصدّقوا انه يحبهم... بل غمرهم الشك والريب، وتناقشوا بما يمكنهم ان يفعلوا، لو ان يوسف انقضّ عليهم، وقضى على حياتهم...وازداد رعبهم وتشكيكهم، عندما مات ابوهم يعقوب، وكأن يعقوب هو الحامي لهم.. والسبب الدفين انهم ظنوا ان يوسف يكمن الشر لهم، لكنه خوفا من يعقوب، لم يقدر ان يفعل شيئا!.. لكنه سيفعل الكل بعد رحيل ابيهم... هكذا ظنوا..
يبدو لاول وهلة ان اخوة يوسف على حق، وانهم اذكياء، ومن الطبيعي توخّي الحذر... لكن الحقيقة ان موقفهم مؤسف جدا .... رغم محبة يوسف القوية لهم، ما زالوا متشككين... رغم صفحه العظيم عن شرهم الفظيع، ما زالوا مترايبين... رغم موقفه السامي امام ما فعلوه به، ما زالوا يسبحون في الشبهات...
لا شك ان هذه الحادثة التي سجلها الله في كتابه، لها درس الهي عظيم لكل البشر... لا يمكن ان تكون قصة اجتماعية او اخلاقية فقط، بل هي درس روحي لكل انسان في كل مكان وزمان... والله يتكلم مع قلوبنا من خلال هذه الحادثة التي ضمّها الى الوحي المقدس.... والكتاب المقدس ليس كتابا علميا او طبيا او اجتماعيا او فلسفيا في الدرجة الاولى... بل هو صوت الله للبشر ونداء الخالق للانسان وكلام القدير مع مخلوقاته...
ومن خلال قصة يوسف واخوته، يكشف القدير عن قلبه المفعم بالمحبة الدائمة والغفران الشامل والعطف واللطف والرحمة والنعمة التي تغمر قلب الخالق... وفي نفس الوقت تكشف عن قلب الانسان المشحون اثما وشرا وحقدا وشكوكا ... وكلما فاض الله بالحب، كلما حلل "حكماء" هذا الدهر سلبا.. يجد الانسان صعوبة في الثقة بالهه الذي خلقه، وبعد سقوطه، لم يقذف الله به، ورغم فساده، خطط الله لفدائه وخلاصه.. ورغم عمل الله الفدائي على الصليب وتضحية المسيح التاريخية، ما زال الانسان يبحر في التشكيك، ودائما يتوقع ان الله يصب غضبه وسخطه عليه بسبب اثامه وتعدياته.... وهكذا يعجز الانسان عن فهم قلب الله الذي كيوسف في الفصل 45، لم يقدر ان يضبط نفسه، بل انفجر بالبكاء والعويل بسبب عواطفه الجياشة نحو اخوته العصاة... هذه صورة رائعة لقلب القدير، الذي مع اننا لا نراه، لكنه يعلن لنا عن قلبه المحب لنا، رغم شرنا اذ ونحن بعد خطاة، مات المسيح لاجلنا (رو 5)....
وقد احتاج يوسف الى معاملة اخوته بجفاء، والى ان يتكلم معهم بجفاء ايضا.. ليس لانه لا يحبهم، بل بالعكس لانه يحبهم... كانوا اخوة يوسف يعتقدون انهم ابرار، وبما انه لا احد يعلم بما فعلوه مع يوسف، وهم لا يعلمون ان يوسف هو بذاته الماثل امامهم، لذلك تظاهروا بالكمال والصلاح والبر.. مما احتاج يوسف الى اثبات لهم شرهم وتعديهم، لكي يقدّروا على الاقل المحبة والصفح والخير الذي تميز به يوسف.. لكنهم لم يقدروا ان يثقوا ان مقاصد يوسف كانت خيرة وصالحة، بل رافقتهم الشكوك طيلة حياتهم، ولما عاملهم بجفاء، استخدموا ذلك الى اقناع انفسهم انهم كانوا على حق حين ظنوا ان يوسف سيعاقبهم على كل ما فعلوه..
أ ليس هذا موقف البشر من الله المحب؟؟ أ ليس هذا موقفنا نحن من المسيح الذي ضحّى بحياته لاجلنا؟؟؟.. ماذا بعد على الله ان يفعل، لكي يبرهن لنا محبته الخالصة لنا؟؟؟ ماذا بعد على يسوع ان يفعل لكي يثبت لنا حبه الكامل؟؟؟.. سنبقى نعيش في رعب وريب وتشكيك ظانين ان يوما ما سينقض القدير علينا ويقطّعنا اربا اربا، ويقضي علينا وعلى كل آمالنا.. وكلما فكرنا في شرورنا وآثامنا، كلما زاد اقتناعنا ان الله لا يمكن ان يقبلنا، ولا يمكن ان يغفر لنا وينسى ما فعلنا.... وكثيرا ما اجتهدنا في محاولة يائسة لنثبت لمَن حولنا اننا ابرار واننا صالحون واننا لم نظلم احدا..... ويحاول الرب جاهدا بالمعاملة الجافة ان يقنعنا بأخطائنا، لكي نرى مدى قساوة قلوبنا، الامر الذي يقودنا الى اكتشاف مدى عمق وعلو وطول وسمو محبة الله الكاملة لنا.....
يقصد الرب شيء، ونحن نفهم شيئا آخر....والرب اقام في وسطنا رجال معلمين ومبشرين ورعاة الذين يسهرون لاجل خلاصنا وخلاص اهل بيتنا، ونحن بدورنا نشكّ في نيّاتهم، ونطعن في تضحياتهم، ولا نثق يوما انهم يحبوننا.. وعندما يحاولون توبيخنا او تقويمنا او لفت انظارنا لكي نفهم مقاصد الله لحياتنا، يزداد اقتناعنا ان حتى رجال الله هم ضدنا ولا يحتملوننا ويوما ما سينقضّون علينا ويحطّموننا.....
ان اهم درس يريد الله ان نتعلمه الذي من دونه الكل هراء وهباء.. درس الثقة بالقدير وبكلامه وبرجاله... الثقة الكاملة ان الذي مات على الصليب لاجلنا ونحن بعد خطاة، لا يمكن ان يعمل ضدنا، ولا يمكن ان يسمح بالقضاء علينا بل هو اهل للثقة الكاملة.. عندها تسود الثقة في الكنائس والبيوت والمجتمع... اما اليوم فيطغو جو من التشكيك والريب والشبهات في كل مجالات الحياة.. والمؤسف ان مَن يزرع الشكوك، يظن انه يقدّم خدمة لله....حتى ان جزءاً من خدمة البعض هو نشر بذور التشكيك في كل مكان... ليتنا نرجع الى البساطة التي في المسيح، والى جو من الثقة الكاملة في ربنا ومخلّصنا يسوع المسيح الذي نحبه، لانه هو احبنا اولا....
- عدد الزيارات: 5579