صراخ نصف الليل
شبّه يسوع ملكوت الله بأمور مختلفة في سبعة امثال في انجيل متى 13، اما في متى 25، فيقول ان ملكوت السماء سوف يشبه، اذ قال "حينئذ"، ويقصد ما ستكون عليه المسيحية في آخر الايام..
ويؤكد يسوع بشكل نبوي على ما ستكون عليه المسيحية في الختام، ويشبهها بعشرة عذارى تنتظر العريس الذي سيعود ويأخذ الذين ينتظرونه... والفكرة السريعة الاولى باستخدام كلمة "عذارى ينتظرن العريس"، هي ان العلاقة بين الرب يسوع والمؤمنين به، هي علاقة عريس بخطيبته العذراء، اي انهاعلاقة محبة، وليست علاقة خارجية شكلية دينية. وهم عذارى، اي ان اهم ما يميزهن هو الامانة والولاء والاخلاص للعريس زمان غيابه... واللقاء بين كليهما هو لقاء فرح واحتفال وبهجة ابدية... لكن العريس عندما وصل، لم يأخذ جميع العذارى، بل ادخل الى العرس فقط خمسة منهن.. وعودة العريس المفاجئة وغير المتوقعة تؤكد على ولاء العذراء الدائم والمستمر، مع انها لا تعلم متى يعود عريسها..
ومع ان جميعهن عذارى وكن في انتظار العريس، لكن نصفهن لم يدخلن مع العريس، فليس جميع الذين ادّعين انهن ينتظرنه، قبلهنّ العريس، بل رفض بعضهن بشكل قاطع ونهائي... والكتاب يؤكّد ان جميعهن نعسن ونمنن اي ان جميع المسيحيين ضعفن وابتعدن عن الانجيل بسبب الليل الحالك .. ففترة غياب المسيح هي ليل، والليل كل مرة يزداد سوادا وظلاما من الناحية الادبية.. واليوم نحن نعاصر الليل في اشد لحظات ظلامه من الناحية الاخلاقية، فالمسيحية نامت وابتعدت عن المسيح، مع ان الجميع ما زال يتبعه بشكل خارجي .... وفي نصف الليل، اي في هذه الايام، حدث صراخ شديد " العريس مقبل! هلم اخرجن للقائه".... وهكذا نهض الجميع، واليوم نشهد انتفاضة روحية في كل ارجاء العالم المسيحي، الانجيلي والتقليدي، لكن بقي ويبقى الحد الفاصل بين مجموعتين متميزتين، قبِلَ يسوع احداها، ورفض الاخرى، رغم التشابه الكبير بينهن...
والان دعنا ننبّر عن اوجه الشبه واوجه الخلاف بين المجموعتين، ولماذا رفض يسوع قسماً، وقبِلَ الآخر؟!!.... تتشابه المجموعتان، في ان كلتيهما تتبعان المسيح، واسم المسيح كان على جميعهن.. فمن الناحية الشكلية الخارجية، لا يوجد اي فرق بين المجموعتين، فكلتاهما نامتا، وكلتاهما نهضتا عند الصراخ، وكلتاهما حملتا المصابيح، اي الشهادة الخارجية انهما من اتباع المسيح... فكلتا المجموعتين تحملان الشهادة المسيحية، وجميعهن ينادين بالمسيح، ويتكلّمن عن المسيح، ويستخدمن الانجيل، ويواظبن على الكنائس وينادين بالامانة للمسيح!!...
لكن الفرق هو داخلي فقط، وقرار المسيح برفض احدى المجموعتين، يعني ان المسيح هو الذي سيقرر، وهو لا يهمه كثيرا المنظر والمظهر والشكل والتدين التقليدي، وممارسة المسيحيين من الناحية الخارجية، والمعرفة الكتابية لا تكفي، ولا يهمه الانتماء الديني والتسمية الاجتماعية.. بل قرار يسوع الجدي والحاسم، مرة والى الابد، لخطير جدا، وقد قال يسوع هذا المثل كتحذير وتنبيه، لئلا يعتمد اتباعه على الشكل الخارجي ويكتفون بالمظهر الديني... والفرق بين المجموعتين كان فقط في الزيت في داخل المصباح، فاحدى المجموعتين، اكتفت بالمظهر بحمل االمصباح واقنعت ذاتها ومَن حولها ان ذلك كان كافيا للقبول الالهي... لكن قول يسوع يدعو الجميع ان الى الفحص الجدي لحقيقة اتّباعهم للمسيح، فأول علامة للذين سوف يرفضهم، هي انهم لا يفحصون ذواتهم في ضوء كلمة الله، بل هم مطمئنون من خلاصهم، مع ان المسيح دعانا الى تفتيش الكتاب المقدس لئلا نظن اننا نملك الحياة الابدية بشكل تلقائي وعفوي (يو 5). والمؤسف ان كل جماعة او كنيسة اليوم تبدي اليقين والتأكيد على حصولها على الحياة الابدية، وهي غير مستعدة لاعادة فحص ذاتها وافكارها وتعليمها في ضوء كلمة الله.... وانا ارى خطورة بالغة في ذلك، واني لعلى يقين ان كل جماعة لا تدعو اتباعها الى اعادة الفحص بكل جدية، لا بد ان تكون من االمخادعين الذين يخدعون الناس ويطمئنون الناس طمأنينة كاذبة...
ان الفرق هو فقط في امتلاك الزيت، لان المصباح او القنديل لا يمكن ان ينير في الظلمة الحالكة الا بوجود الزيت واشتعاله، والزيت هو ليس جزءا من الانسان، بل على الانسان امتلاكه وشراؤه، وهو ليس ذاتي، فالذي لا يفحص ذاته في نور كلمة الله، لا بد مخدوع، والذي يظن ان له حياة ابدية معتمدا على اعماله وطيب قلبه ونقاوة داخله، لا بد ان يكون مرفوضا من الله، بل علينا الذهاب الى الكتاب المقدس كلمة الله الحية، وامتلاك الزيت، والا فلن يفيد شيئا من الممارسات الدينية، حتى ولو كان الشخص واعظا رنّانا... ومن اسوأ الافكار الشائعة، ما قاله وكتبه احدهم ان الكتاب المقدس ليس المعتمد الوحيد للمسيحية، وهو ليس المرجع الكافي والوافي للمسيحيين. لا بد ان هذه الفكرة شيطانية ومضلة....
والزيت هو المحك الوحيد والفاصل الاكيد والبرهان الوطيد للقبول الالهي للانسان، اما باقي الامور لا شك انها ثانوية وغير اساسية.. والزيت بحسب الفكر الالهي هو الروح القدس في قلب الانسان، الذي يسكن في اعماق الانسان التائب والذي يطلب المسيح بكل قلبه وبكامل وعيه وبقرار شخصي حقيقي... والزيت هو طلب الانسان للامر الالهي اي ان الانسان الذي جُلّ غايته ايّ امر عالمي وجسدي، وليس الالهي، لا بد انه مرفوض في المحكمة الالهية... والزيت هو نتاج عصر الزيتون، ان اننا نحصل على الروح القدس، فقط من معصرة الزيت وليس من ذواتنا... وكلمة جتسيماني اي بستان الصليب تعني في اللغة العبرية معصرة الزيت وهي بلا شك الصليب... اي ان الانسان بكل بساطة وصدق، يشعر ويقتنع بحاجته المسيح، اي الى الزيت لينير في الظلمة، فيلجأ الى الصليب، ويتأمل في عصر المسيح المصلوب بالالام، بديلا عنه.. وعند اكتشافه مدى الام المسيح لاجله لان يسوع قدوس وكامل ولم يخطئ بل مات بديلا عنا لكي يفدينا ويخلصنا، هذا اللقاء الحي بين الشخص وبين المصلوب، ان كان حقيقيا، لا بد ان يسيل زيت الروح القدس الى قلبه ويملأ حياته وقلبه وعقله ومشاعره بالانارة الروحية والحب للمسيح والامانة لمَن مات لاجله وقام...واختار يسوع الرقم خمسة لانه رقم النعمة ورقم المسئولية... فالخلاص والحياة الابدية يتمّان باجتماع النعمة الالهية ومسؤولية الانسان لطلب تلك النعمة، وموقف الانسان يحدّد دخوله الى فرح سيده، ام اغلاق الباب في وجهه الى الابد... فمَن يكتفي بحمل المصباح في منتصف الليل من دون زيت الروح القدس المنسال من حول معصرة الصليب، لا بد انه قد حدّد مصيره الابدي، ولكن سيصاب بالصدمة الابدية..
لا بد ان المسيح نطق بهذا المثل ليوقظنا وليجنّبنا الصدمة، وليدعونا الى الفحص الصادق الذاتي، واعطاء المجال لكلمة الله، كنور كاشف لنسلطه على قلوبنا وحياتنا.. لا بد ان العريس يريد العشرة العذارى معه في الفرح الابدي، لكنه سيضطر الى رفض البعض، لانهم اكتفوا بأفكارهم، ولم يكونوا مستعدين بتواضع ووداعة الى اعادة فحص ذواتهم وتغيير مسار حياتهم...
الله, المسيح, السماء, آخر الأيام
- عدد الزيارات: 6301