النمو والنضوج والبلوغ
لا يولد أحد رجلا بالغا، بل جميعنا نولد اطفالا، ثم أولادا ثم أحداثا ثم شبابا ثم كهولا ثم رجالا وأخيرا شيوخا مسنين.... فالحياة نمو متواصل ومستمر إلى أن نبلغ مرحلة النضوج...
كما النباتات أيضا بذار ثم نبتة ثم أشجار شاهقة.... والنمو والنضوح هو جسماني وعاطفي وعقلاني إدراكي وأيضا نضوج روحي ونضوج إجتماعي...
كلنا نحب الاطفال والاولاد، لكن لا احد يقبل ان يبقى الاولاد صغارا غير ناضجين كل الوقت، بل نريدهم ان ينموا إلى يصلوا مرحلة البلوغ، فنفتخر بهم كثمار زواجنا.... والحياة بصعوباتها وتحدياتها وازماتها تعمل لدفع البشر من مرحلة إلى اخرى اكثر نضوجا وبلوغا... لا شك ان التوقف عن النمو وعدم الوصول إلى مرحلة النضوج كلاهما يشكّلان ازمة جدية للانسان، فليس من الطبيعي ان يبقى الانسان طفلا وطفيليا، معتمدا على غيره في كل احتياجاته... فالانسان الذي بعد اربعين عاما، ما زالا طفلا في التفكير والتصرف، لا بد ان يكون معاقا وغير طبيعي، ويدعو إلى القلق والتفكير والمعالجة....
ويمكننا ان نصنّف النضوج الروحي كالاهم في حياة البشر، ويمكن وضعه في اعلى سلم الاولويات... فالجانب الروحي للانسان هو الاسمى والاكثر اهمية، فليس العلم واللباس كل شيء.. ويأتي بعد النضوج الروحي، النضوع العقلي والادراكي والفهمي، وبعده يأتي النضوج العاطفي والشعوري، واخيرا النضوج الجسدي والجسماني في اسفل سلم الاولويات، وكل هذا يقود إلى النضوج الاجتماعي، اي المقدرة على التعايش مع الاخرين وامكانية التعامل والتكيف في حياة المجموعة، سواء كانت المجتمع او الكنيسة او اية جماعة يعيش فيها الفرد...
والنمو الجسماني لاجسادنا ينتقل من مرحلة الطفولة، التي فيها يحتاج الطفل إلى الاخرين خاصة امه واخواته، في تتميم كل مهام حياته وتسديد حاجاته اليومية، إلى ان يعبر إلى مرحلة الشباب، التي تبدأ في جيل المراهقة، التي فيها يشعر الانسان بتغييرات في جسمه.. وبعد ذلك يصل إلى مرحلة الرجولة اي النضوج المتكامل للجسم، ليتمكن من الاعتماد على نفسه والاتكال على ذاته.....وفي مرحلة المراهقة التي هي مرحلة تتوسط بين الطفولة والرجولة، يتخبط الانسان ليكوّن هويته الخاصة به، إلى ان يكوّن شخصيته التي يؤثر عليها التغييرات الجسمانية سواء كان شابا او فتاة... وفي هذه المرحلة يتكامل الجسم جنسيا، مما يؤهله للزواج وبناء عائلة مستقلة به...والنمو العقلاني او الادراكي يبنيه على اساس المعرفة المتزايدة من خلال الكتب وارشاد الاهل والمدرسة والكنيسة، مما يطوّر امكانياته وقدراته العقلية، لادراك اكثر واستيعاب اوسع.. اما النضوج العاطفي فينتقل الانسان من التعلق العاطفي باهله خاصة بامه واخوته واصدقائه إلى الاستقلال العاطفي الكامل والانفصال عاطفيا عن الاخرين، فيتمكن من الاستقرار العاطفي والهدوء النفسي، فتقل وتضعف الحاجة العاطفية القوية للاخرين...
واخيرا النضوج الروحي اي البلوغ إلى مرحلة من الفهم الروحي للعالم غير المنظور والاستقرار الروحي، وتكوين شخصية روحية قادرة، ليس فقط على الاخذ بل على العطاء والتضحية ومساعدة الاخرين وخاصة انجاز مشروع الهي وخطة سماوية في هذا العالم.... وكما نولد اطفالا في هذا العالم، هكذا من الناحية الروحية، نولد اطفالا. في البداية نحتاج إلى اللبن العقلي اي إلى كلمة الله التي تبنينا روحيا. وكما نجتاز مرحلة الطفولة ونصل إلى جيل المراهقة، هكذا نصل روحيا من مرحلة الطفولة الروحية المعتمدة على الاخرين إلى مرحلة المراهقة التي فيها نتخبط روحيا ونواجه صراعات عنيفة وشرسة بين الاهواء العالمية والميول الدنيوية من جهة، وبين الطموحات الروحية والحياة المرضية لله من جهة اخرى.. وعندما نخرج من مرحلة المراهقة، نكون قد كوّنّا شخصية روحية مستقلة تتسم بالهدوء الداخلي والاستقرار الروحي والنضوج الروحي التي فيها نكون قد تبنينا الرزانة والوقار والاكتمال الروحي.. لا نعني اننا صرنا كاملين بل مكتملي النضوج.... وعندما نكون ناضجين جسمانيا وعاطفيا وادراكيا وروحيا، نكون مؤهّلين واكفاء للتعايش مع الاخرين، ونكون اعضاء مساهمين لبنيان المجتمع وبنيان الكنيسة...... وكم تحتاج الكنائس خاصة، والمجتمعات عامة إلى اناس ناضجين وبالغين ومستقلّين عاطفيا وعقليا وروحيا....
لا شك اننا نتفق ان في هذه الايام المجتمعات تتخبط وتهتز وتسير بين الامواج والعواصف من كل جانب، ولا يمكن ان نخفي أيضا ان الكنائس أيضا تعاني من الاهتزاز والتخبط والتشويش والصراعات... نظرة فاحصة سريعة تثبت بشكل دامغ انه لو كان البشر افرادا ناضجين بكل معنى الكلمة، لما تخبطت المجموعات...والمجتمع سواء كان الكنيسة او المجتمع العام مكوّن من اناس من مختلف مراحل النضوج، ففيها الرجال الناضجون والشباب في مرحلة النمو وأيضا الاطفال غير الناضجين. لكن تصوّروا معي، لو كانت الكنيسة مكوّنة فقط من اطفال غير ناضجين روحيا ولا ناضجين عاطفيا ولا فكريا ... ماذا يحدث لمجتمع كله اطفال؟؟... تخيل لو انك ترى فقط اطفالا غير ناضجين في المدارس والبيوت والمصانع والكنائس وفي كل مكان!.... ماذا يحدث لمجتمع كل افراده من الاطفال الحلوين، لكن غير الناضجين؟.. رغم الجانب الايجابي، لكنهم حتما سيقودون المجتمع إلى الدمار والضياع او على الاقل إلى التيهان وعدم انتاج اي شيء حتى ولو سادت النوايا الجيدة.... لو كان الجميع اطفالا، لاختلفوا على كل شيء وتخاصموا على كل امر، وتنازعوا بخصوص كل فكرة، وتصادموا لاتفه الاسباب وتشاجروا لاسخف الامور، ولامتلأت المستشفيات بالمصابين ولما انجزوا اي انجاز ولما حققوا اي مشروع.....رغم الدوافع النقية والنوايا الصالحة، لكن لنعترف ان المجتمعات عامة بما فيها الكنائس تعيش التخبط اليومي، مما يدل على ان معظم اعضاءها وقسم لا بأس به من القادة، هم من الاطفال غير الناضجين، فلا يعلمون كيف يتصرفون في مختلف المواقف، فهذا يقترح شيئا وذلك يقترح امرا اخرا، ويبدو ان كثيرين ما زالوا في مرحلة المراهقة، فمعظمهم غير ناضجين روحيا فليس لهم التمييز الروحي للحكم الصحيح والتشخيص السليم للامور، وليسوا ناضجين عاطفيا، فهم ما زالوا متعلّقين عاطفيا بالماضي وبالاخرين، فالرعب يسيطر على قلوبهم والخوف يعتريهم خاصة عند اتخاذ القرارات المتنوعة. وكثيرون ليسوا ناضجين ادراكيا، فمعرفتهم محدودة، رغم انهم ربما يكونون ناضجين جسمانيا..... ففي الظاهر ترى رجالا ونساءا، وليس اولادا واطفالا، ولكن عند الكلام والتحليل والتفكير والتصرف والمواقف وردود الفعل، لا تجد امامك الا اطفالا في التفكير، واولادا في المسؤولية واولادا في القيادة، فالوعظ بدائي والصلوات لا تتغير والتفاهم والتعايش مع الاخرين شبه معدوم، فأقل الامور تسبب الخصومات، ومعظم الناس يركضون كالاطفال باحثين عن منبر للظهور والتباهي، فهدف الكلام اناني وهدف الخدمة والوعظ ذاتيان وهدف كل التحركات تافه لا معنى له.... فكثيرون يركضون ويعملون، والنشاطات في اوجها والتحركات في غايتها، لكن الانجاز معدوم، فلا نصل الي شيء... بل نبقى قعودا في نفس المكان، وفي احس الاحوال نستمر في الدوران حول نفس الموضوع سنوات طويلة...
من اهم سمات النضوج الروحي، الاستعداد لمواجه الواقع والمقدرة على تحمّل مسؤولية ما يحدث، والجرأة على اكتشاف ذواتنا، والشجاعة على الاعتراف اننا اطفال، نحتاج إلى رحمة الهية لكي لا نبقى بعد اطفالا، بل ننضج عاطفيا وروحيا... واليوم نواجه تحديات تاريخية ومصيرية اساسية وهامة، ولا يقدر الاطفال على مواجهتها، وربما يدّعي الطفل الكثير، وانه قادر على كل شيء، لكن عند بزوغ اول ازمة، تراه يقبع في زاوية الغرفة، ويلجأ إلى العويل والنحيب والبكاء، ويهرب صارخا طالبا النجدة. اما الناضجون فيواجهون كل الازمات برباطة جأش وهدوء ورزانة واتّزان، ويكونون كالاسود لا يخشون شيئا، واثقين ان القدير إلى يمينهم والعلي معهم... العالم اليوم يتخبط اكثر من اي وقت مضى، ولا يحتاج إلى كنيسة مكوّنة من اطفال غير ناضجين، بل يحتاج إلى رجال في الايمان، مستعدين ان يواجهوا التحديات بحكمة وهدوء، ويعرفون كيف يتصرفون في كل ظرف، ويحققون المأمورية الروحية العظمى للتأثير على المجتمع من حولهم.... الرب قادر على شيء وهو قادر ان يحوّل الاطفال إلى رجال بالغين وناضجين، لا يخشون جيل المراهقة، بل يجتازونها بنجاح، واثقين بالرب الههم، ثقة الاولاد بآبائهم وامهاتهم...
- عدد الزيارات: 14260