عبور من الموت إلى الحياة
يقول العهد الجيد ان كل ما كُتب في العهد القديم، كتب لاجل تعليمنا (رو 15) وكتب مثالا لنا (1 كو 10) وهو ظل (عبر 7) لامور روحية وسماوية في العهد الجديد... لاينبغي ان نفهم احداث العهد
القديم حرفيا، لان الحرف يقتل (2 كور 3)، لكن يجب فهمها وتطبيقها روحيا، ويجب النظر الى كل ما كتب في العهد القديم من خلال يسوع (لوقا 24)، ويجب رؤية كل الامور متعلقة بيسوع....
والا فلا معنى لها ولا طعم ولا لون ولا رائحة... فقصة تقديم ابراهيم لابنه اسحق مثلا او خروج الشعب من مصر او هدم اسوار اريحا او مواجهة داود لجليات، كل هذه القصص التاريخية وغيرها من احداث العهد القديم لا تعني لنا شيئا ولا قيمة لها، الا اذا فهمناها في ضوء العهد الجديد، وفقط حين ننتبه ان المعنى روحي، وان القصد منها امور هامة جدا في الحياة المسيحية... فقصة ابراهيم وهو يقدّم اسحق ابنه، لها رونق ومعنى عميقان، حين نعلم انها صورة لتقديم الله ليسوع كفارة عن خطايانا، وحادثة داود وجليات لها معنى عظيم حين ندرك انها صورة رائعة ليسوع الذي واجه الشيطان بالضعف، وقصة سقوط اسوار اريحا تتحول الى صورة مجيدة لسقوط الاسوار والمعطلات والتحديات الروحية بالايمان في حياتنا... فالبعض يخطئ حين يحاول فهم قصص العهد القديم حرفيا، والبعض الاخر يخطئ ايضا حين يتجاهل كل احداث العهد القديم مدعيا انها لا تخصنا...
دعنا نتأمل في بعض الصور، وتطبيقها على الحياة المسيحية اليوم:
مصر العبودية: الصورة الاولى هي عندما كان الشعب قديما في ارض مصر لسنين طويلة، مستعبدين من الشعب المصري.. ففرعون ملك مصر اذل الشعب قديما واستعبده واستغله وتحكّم به وتسلّط عليه ونزع منه كل حرية ، كل هذا صورة دقيقة وواضحة صوّرها الروح القدس، ليرينا العبودية التي يقبع فيها كل البشر الذين يستعبدهم الشيطان ويذلّهم. ولا توجد لله اية مشكلة مع مصر كبلد، لان الله احب الجميع، لكن الله اختارها صورة ايضاحية، اولا لانه دولة كبيرة ثم لانها بلاد جافة تخلو من الامطار وكل اعتمادها على نهر النيل فيها، وهي رمز للعالم الذي يستغني عن الله ويعتمد على ذاته، لكنه مكان للعبودية الروحية المذلة .. اراد الله ان يرينا مدى العبودية الروحية التي يقبع بها البشر تحت سلطان الظلمة والخطية والشر...
ارسالية موسى: رأى الله عبودية الشعب، فخطط بمحبته لينقذهم وينجيهم من الاذلال.. فدعا موسى وحضّره وأهّله واعطاه دورة تدريبية (خروج 3)، ثم ارسله ليُخرج الشعب من عبودية قوية وشرسة، وهذا رمز جميل لارسالية الله ليسوع ليخلّص الناس من عبودية الخطية والشيطان. فكما وُلد موسى في صندوق خشبي ووضع على وجه مياه نهر النيل، هكذا اتى يسوع في مذود هذا العالم..
ذبح الفصح: اخرج الله الشعب على يد موسى، وامر الله موسى ان يذبح خروفا ابن سنة بلا عيب (خروج 12) اي سليم ومعافى، وثم ذبحه، وملاك الله حين يرى الدم يعبر عن الشعب.. بذلك اراد الله ان يقول انه يريد ان يخلص الشعب من العبودية، وقد خطط لذلك بيد قوية لكن اساس كل افكاره هو دم الخروف اي ان دم المسيح هو اساس لكل افكار الله ومحبته وتخطيطه لتخليص الشعب من العبودية، وليس اي عمل او صفة جيدة من جهة البشر...فخروج الشعب من تحت نير العبودية وعبوره الى ارض الامان هو فقط عن طريق دم المسيح.. فالفصح كلمة عبرية تعني خطوة عبور من مكان خطر الى ارض امان وسلام، وانتقال من العبودية الى الحرية، من الاذلال الى الكرامة ومن االهلاك الى الحياة الابدية... ففصحنا هو المسيح ذبح لاجلنا (1 كو 5)، اي ان الله رأى الناس جميعهم تحت نير العبودية للخطية ووعبودية الشيطان ونهايتهم الهلاك والعذاب، فارسل ابنه يسوع، الذي كان مستعدا ان يكون الكفارة والذبيحة وبدمه يعبر كل مَن يقبله الى ارض امان وسلام مع الله...
عبور البحر الاحمر: عبر الشعب قديما البحر الاحمر بشكل معجزي، وغرق شعب فرعون ومركباته.. وذلك صورة جميلة لعبورنا مع يسوع بالصليب الى الحياة الابدية، وهلاك كل جنود الشيطان وانقطاع اية صلة بيننا وبين ارض العبودية. والبحر الاحمر في العبرية "يم سوف" اي بحر النهاية، ففي المسيح انت تحصل على حياة جديدة وترى نهاية العبودية وآخرة المستعبِد الى الابد... "ان كان احد في المسيح فهو خليقة جديدة، الاشياء العتيقة قد مضت" (2 كو 5)....
الدوران في سيناء: لكن الشعب عندما خرج من العبودية بيد الهية قوية، لم يصل الى الحرية، بل تاه في برية سيناء اربعين عاما، وذلك رمز الى تيهان الانسان حتى بعد حصوله على الخلاص، لانه لا يزال مشغولا بنفسه ويدور حول ذاته، ظانّا انه هو الذي خرج من مصر وكأنه بقوته وحكمته استطاع ان يأتي الى الايمان، وان يتخلّص من العبودية، وينسب العمل الالهي العظيم الى نفسه، بسبب خداع القلب.. وعادة الانسان ان يبحث عن اي شيء يفتخر به ليتكبر ويتجبر... فيدعه الله يتيه سنين طويلة، حتى يقتنع انه لا شيء، والفضل كله هو لله، والخلاص هو لله والقوة والحكمة هما لله ، والانسان هو تحت النعمة، ولا يستحق الا الهلاك والضياع...
عبور نهر الاردن: يصل الشعب اخيرا الى نهر الاردن ويعبره وذلك بعد ان يتعب من نفسه وييأس من ذاته وينكسر ويدرك ان عمل الخلاص هو الهي محض ولا دخل للبشر فيه ولا حاجة الى تدخل الانسان فيه بل الكل من الله ولمجد الله.. يجتاز نهر الاردن اي يعهبر من الانشغال بنفسه والتركيز على ما هو وما يعمله هو الى الانشغال الكامل بالمسيح لان الاردن كلمة عبرية تعني نزول واتضاع وانكسار وخضوع... يختبر المؤمن الان صلب الجسد مع الشهوات فيهدأ بين يدي القدير ويسلم كل امور حياته الى الله ويفتح ذراعيه ليقوده الروح القدس بشكل كامل يقود زمام افكاره ومشاعره
دخول ارض كنعان: ارض كنعان رمز لحياة الايمان مع المسيح، حياة النصرة ، وحياة البركات الروحية، حيث نتمتع بالامتيازات التي يمنحها الرب للذي عبر من الموت الى الحياة ومن العبودية الى الحرية. لكن كنعان هي ليست السماء بعد، لان فيها المدن الحصينة والاعداء المقاومون لنا، والرب وضعهم امامنا في حياة الايمان، ليس لكي نهزَم ونيأس، بل لكي ننتصر ونغلب ونمارس ايماننا، وولكي يجعل الرب منا جنودا اقوياء روحيا، ويعلّمنا القتال والجهاد الروحيين.. فحياة الايمان هي ليست جلوس واستجمام، بل محاربة روحية للنمو والنضوج في الايمان، هي دورة ليجعلنا الله ابطالا في الايمان فنحقق انتصارات يومية... وفي كنعان كانت سبعة شعوب مقاومة لشعب الله.. ففي حياة الايمان نواجه الاغراء المادي وحب جمع الثروة والاغراء الجنسي واغراء البحث عن المجد العالمي واغراء الكبرياء والاغراء العلمي والاغراء التقليدي للاكتفاء بالتدين. فالفلسطينيون مثلا دخلوا ارض كنعان من البحر، وليس من نهر الاردن، فامامنا تحديات الذين يدعون انهم مسيحيين، ولكنهم لا يعرفون الرب عمليا واختباريا، فلم يكتشفوا طبيعتهم الفاسدة ولم يقبلوا صلب ذواتهم مع المسيح، فهم يتمسكون بالمسيحية شكليا وظاهريا، ويتحدون دائما المؤمنين الحقيقيين..
ان الذين يعيّدون الفصح، يحتاجون ان يختبروا ايضا الفصح بمعناه الحقيقي، اي العبور الحقيقي والعملي من حياة عبودية الخطية وسلطان الشيطان الى حرية ملكوت محبة يسوع. من دون الانتقال من اذلال الخطية، لا يجدي الاحتفال بالفصح، الا اذا اختبرنا العبور الى حياة الانتصار والغلبة مع يسوع، وذلك من خلال الشعور العميق بالحاجة الى الرب يسوع المخلّص، والاقتناع بالتنازل عن كل ما يتعلق بالذات، والاتجاه الى الله المخلّص الوحيد في المسيح...
- عدد الزيارات: 6801