Skip to main content

قُم انزل إلى بيت الفخاري

قُم انزل الى بيت الفخاري

وأمر الرب ارميا النبي، بالنزول الى بيت الفخاري، لكي  يعلّمه درسا هاما لن ينساه... وارميا اسم عبري يعني الرب يرفع.. والرب ارادنا ان نعلم هذه الحقيقة، "لكي يرفعك الرب، عليك ان تنزل اولا،

ولكي تنزل، عليك ان تقوم اولا، ثم تنزل، فتتعلم، فيرفعك الرب، لكي تتمشى على المرتفعات الروحية، وتشهد عن حكمة ونعمة وامانة الرب....

في البداية، يدعونا الرب ان نقوم من سباتنا ومن حالة التواتر والروتين، لان حياة الايمان هي حياة تجديد، وتجد في كل يوم درساً، وهي ليست حياة خمول وكسل وتصلب وتحجر.. وطلب الرب من ارميا النبي ان ينزل ويتضع وينكسر ويذل ويخضع ارادته لارادة الرب على اساس الثقة بمحبة الرب وحكمته، لان كل افكاره هي لخير المؤمن.... فقام النبي ونزل الى بيت الفخاري..

من اهم واعظم دروس الايمان، هو التجانس مع الرب، فالرب يريد ان نشاركه مشاعره وافكاره، وننسجم مع ما يجول في خلجه، وما يدور في اعماق قلبه... والرب اراد من ارميا ان يصوّر تنازل الرب الخالق القدير، وهو في السماء اذ قام ونزل واتى الى عالمنا، اي الى ارضنا، كما قام يسوع وانحنى ليغسل ارجل التلاميذ، بعد ان خلع ثوب المجد، ولبس ثوب بشر حقير، ليتجانس الخالق مع مخلوقاته، اذ قال لموسى "ننزل ونرى معاناة الشعب في مصر"... وهكذا تنازل الرب من خالق قدير وعليّ عظيم، وتحول الى فخاري يتعامل مع التراب القذر ليصنع منه وعاءا لمجده واستخدامه.. اناء يخدمه ويتمم مقاصده .. وقد قصد الرب القدير ان يصنع من تراب لا قيمة له ومن غبار يداس من الجميع، ليحوّله الى اناء جميل، يكون في قصر الملوك، بل يدخل سماء الاله العجيب ليلمع في المجد الى ابد الابدين....

اراد الله العلي ان يدعو النبي عبده ليراقب عمل الرب مع البشر التراب، ويبصر قدرته على صنع، من تراب مجهول لا ينفع لشيء، خزف مجيد لاستخدام رب السماء... في هذا العمل نرى اولا حكمة العلي ونعمته، ونبصر محبته لاختيار وعاء فاسد حقير لمجده، ونرى ايضا تنازله اذ قبِل ان يتعامل مع مادة قذرة وملوثة وتلوِّث، لتظهر ايضا طول اناة القدير وقوة احتماله لإناء حقير الى هذا الحد... من الواضح ان المخلوق الذي ينكر قيمته وحجمه الحقيقيين، لا ينفع لعمل القدير، فالرب مستعد  لتطبيق كل مقاصده العجيبة، ما زلنا نعترف ونقتنع بماهيتنا الحقيقية، نحن لسنا اكثر من غبار وتراب، ونسير الى رماد لا ينفع لشيء الا للدوس!...

وشعر الرب الاله بنشوة، عندما وقف مقابله النبي ارميا، مراقبا مشهدا مشابها لما فعله الرب مع البشر.. اراد الله ان يجد بشرا يهمه مراقبة عمل الخالق، وما زال الرب يبحث، ليس عن معلمين ووعاظ منشغلين بانفسهم، بل الذين يهمهم اتمام مشيئة الرب، بصنع مجسم يجسد افكار الخالق نحو البشر عمل يديه.... من اعظم اهداف الرب القدير هو ايجاد بشر، يشاركونه افكاره ومشاعره ومقاصده، اي ايجاد بشر حقير، يفهم خالقه ويتفهمه.. وضع هذه السليقة في اعماق البشر، فمن ابلغ ما يصل اليه الانسان، هو مشاركة خالقه اعمق افكاره .. وليس غيظ اعظم من اكتشاف ان مَن حولك، لا يفهمونك ابدا، حتى ولو اعز واقرب الناس اليك... 

لكن الوعاء فسد، فالانسان الذي صنعه الخالق باتقان، فسد، وهذا ليس لخطأ في الفخاري الماهر، بل هذه طبيعة التراب الذي يميل الى الفساد، وليس مستغربا ان يفسد.. لكن الفخاري بحلمه ونعمته لم ينفذ صبره، بل عاد فعمله من جديد، لم يغضب او قذفه بعيدا وداسه بغضبه، بل بطول اناة، امسكه وجمعه وعاد وعمله من جديد.. والرب اراد ان يعبّر للنبي عبده عن مشاعره اولا عندما اختار مادة التراب الحقيرة وشعوره القاسي عندما فسد الوعاء، ومدى قوة احتماله عندما لم يرمه، بل تمسك به وعاد فعمله بشكل افضل واجمل... مع ان الرب لكي يخلق الانسان، احتاج الى التنازل العجيب، فالفخاري، لكي يصنع الوعاء الخزفي، عليه ان ينخني الى ادنى نقطة، وجمع التراب، مما يلوّث يديه، ثم بكل دقة وتأنّي، يعمل على صقله، وبصبر شديد، يصنعه كما يحلو له.. والرب في هذه القصة لا يقصد فقط ارميا النبي، بل اراد جميعنا ان نفهم مشاعر الخالق وندخل الى اعماق قلبه، لكي نختلس ولو نظرة، لما خطط له القدير، نحونا المخلوقات العاجزة والحقيرة... كما قال الرسول بولس "لنا هذا الكنز في اواني خزفية، لكي يكون فضل القوة لله لا منا"(2 كو 4)...

من العجيب ان الفخاري الاعظم، لم ييأس او يحبط من فساد الوعاء الذي صنعه ولم يرمه، مما يؤكد ان لله تصميم على التعايش مع البشر.. ليس لدى الرب اية مشكلة من اننا تراب وغبار لا قيمة له، بل هو مستعد ان يحتملنا بفرح. المشكلة الوحيدة امام الرب هي ان البشر ينسوا انهم تراب، ويتعاملون وكأنهم ذهب او ماس، مع الرب اراد وعاءا من خزف، وليس من ذهب لكي يكون فضل القوة لله وليس للبشر... فالذهب والماس والاحجار الكريمة لن تتمم مقاصده، بل التراب، لصنع انية لمجده..من هذه نستخلص اعظم الدروس، ان الله القدير قصد ان يختارنا ونحن تراب، ولن يتنازل عنا مهما خيبنا امله، ومهما اتعبناه. اما اذا نسينا حجمنا وحقيقتنا وبدأنا نتعامل مفتخرين بانفسنا وبما لنا، عندها نثبت اننا لا ننفع لمقاصده ونكون غير ملائمين كمادة خام لاتمام خطته العجيبة الابدية....

ويستمر الفخاري في صقل الوعاء على الدولاب المعد لهذه العمل، حتى يظهر الوعاء لامعا، يعكس وجه الفخاري.. وهكذا الرب القدير بطول اناة منقطعة النظير، مستعد ان يمسك البشر واحدا فواحدا، دون كلل او ملل، ويضع واحدا فواحدا على دولاب الايام ودولاب الزمن ودولاب الاحداث ويتابع في تدوير الدولاب، والوعاء يتخبط، ويمسح الفخاري يديه على كل اطراف الوعاء، ليتحسسه ويعرف متى يصير الوعاء مالسا وناعما ورقيقا ووديعا وملآنا نعمة بما فيه الكفاية.. والحد الفاصل هو عندما يتمكن الفخاري من رؤية وجهه بشكل واضح على سطح الوعاء...

هل نثق ان الفخاري الاعظم هو ممسك بزمام امور حياتنا؟.. فليست هنالك صدفة او مصادفة او قضاء وقدر، بل الاله الحكيم يتنازل ويجلس بنعمته مخصصا كل وقته، لكي يصقل ويشكّل الوعاء الخزفي كما يحسن في عيني الفخاري... هل نشعر بمحبة القدير؟ وعندما نجتاز تخبطات وتقلبات الحياة، نحتاج ان نثق ان الفخاري، متحكم بكل الامور، فلا يحدث الا ما يسمح به الفخاري الحكيم، ولا يسمح، الا بما يخدم مقاصده، وكل مقاصده ليست النجاح العالمي والتقدم الاجتماعي وحتى ليست الخدمة المسيحية او المعرفة الكتابية، بل هدفه الاعظم صقلنا ليصوغنا على شبه ابنه يسوع، لكي نكون مشابهين على صورة ابنه (رومية 8).. كثيرا ما نصدم، عندما يحدث امرا في حياتنا لا نتوقعه ونحبط، ونظن ان الامور ليست كما يجب، ولا نصدق ان لله قصدا من كل ما يحدث في حياتنا. يضع الرب البعض على الدولاب اليوم، والبعض الاخر غدا... ودائما يسمح الفخاري بامور لا نتوقعها بل نحسبها قسوة.... فعندما يضعنا الرب على الدولاب من اعلى، نفرح ونفتخر على الاخرين ونتحكم بالاخرين ونحكم عليهم، وبعد ايام نكون في اسفل الدولاب اي من تحت الدولاب، فنبدأ نصرخ طالبين النجدة، ظانين ان الامور انفلتت واننا هلكنا وانتهينا ولم يعد رجاء او امل في الحياة...

ان اهم درس من حادثة الفخاري هو وجوب الثقة في الخالق.. ان الذي خلقنا، لم يخلقنا لكي يعذّبنا او ليؤلمنا، بل لان له قصدا هاما ابديا... ولكي نعبر المادة بنجاح، نحتاج الى الثقة بالرب الذي مات على الصليب لاجلنا.. فكما الفخاري يمتلئ بالغبار والوحل، اذ يعمل طول النهار من وعاء الى وعاء، هكذا الخالق كان مستعدا ان يصير كمخلوقاته جسدا لحما ودما وعظما... ويتساءل الخالق، الا يستحق الخالق العظيم والفادي العجيب ان يثق به خلائقه؟؟ أ ليس من البديهي بعد معرفة مقاصد الله نحونا، ان نرمي انفسا على دولاب الخالق، صارخين "اعمل بي ما تشاء، فانا اثق بك يا خالقي ويا جابلي ويا فادي العظيم.. اصنع بي ما تشاء ولا اريد ان اقارن نفسي بالاخرين"، فلا يمكن مقارنة التراب الذي بيد الفخاري لصنع الوعاء، بالتراب الذي لا يريده الفخاري. وايضا لا يمكن مقارنة الوعاء الذي في اعلى الدولاب، مع الوعاء في اسفل الدولاب او على جنبه، فكل وله اختباره مع الرب.....

الله, السماء, الفخاري

  • عدد الزيارات: 6944