الفصل الثالث: التبرير
الولادة الجديدة، تُظهر ذاتها في ثمار الإيمان والتوبة، بفتح الطريق إلى ملكوت الله. وكلُّ عضوٍ في هذا الملكوت، يتمتع في الحاضر بكلِّ البركات التي ينطوي عليها الملكوت. ويمكن تلخيص هذه البركات في ثلاثٍ: البرّ والقداسة والسعادة. وها نحن ننظر الآن في أولاهُنّ.
يُعرّف البرّ عادةً بأنه تلك الإرادة الثابتة والدائمة لدى الكائن العاقل والتي تُعطي كلَّ حقه. ويتضمن البرّ، أولاً، موقفاً أو ميلاً روحياً من جانب الشخص الذي يُحسب له؛ وثانياً، سياسةً أو تصرفاً تجاه الآخرين يصدر عن الموقف أو الميل الأصلي ويعترف بحقوقهم. فمع أن كلمة الله المقدسة، على حدّ ما سنرى، تُدخل تعديلاً فريداً على هذه الفكرة المعهودة عن البرّ أو العدل، فهي تنطلق مع ذلك من الفكر الأساسي عينه. ذلك أن البرّ هو الإنصاف الذي يمتلكه الشخص نفسه كما أنه العمل العادل الذي يقوم به فيما يتعلَّق بالآخرين.
بهذا المعنى ينسب العهد القديم البرّ أو العدل إلى الله. فهو تعالى الصخر الكامل صنيعُه، إن جميع سبله عدلٌ: إله أمانة لا جور فيه، صدّيقٌ وعادلٌ هو (تث 32: 4). هذا البرّ لا يُستنتج في الكتاب المقدس من التأمل في الكائن الإلهي، لكنه يُعزى إلى الله على أساس إعلانه. فهكذا أعلن نفسه لشعبه من البداية. وهو لم يتكلم في الخفاء، في مكان مظلم من الأرض، ولا قال لنسل يعقوب: باطلاً اطلبوني. إنه الرب المتكلِّم بالصدق، المخبر بالاستقامة. وبينما الوثنيون يعبدون إلهاً لا يقدر أن يخلِّصهم، أعلن الله نفسه لبني إسرائيل بأنه الرب الكائن الذي لا إله آخر غيره، وهو الإله البار المخلِّص (إش 45: 19 - 21). وهو يقيم في وسط شعبه بوصفه الرب العادل، من لا يفعل ظُلماً، وكلَّ صباحٍ يُبرِز حكمه إلى النور (صف 3: 5).
وقد تم التعبير عن ذلك البرّ أولاً في الشرائع التي أعطاها للشعب. فالبرّ بالنسبة إلينا كامن في كياننا وذلك من حيث موقفُنا وسلوكُنا معاً، نستجيب لقانونٍ ما. لكننا لا نستطيع أن نتكلم عن برّ الله بأي معنىً كهذا. إذ لا قانون فوقه تعالى فيستجيب له. فقوام برّه هو حقيقة كونه ينسجم مع نفسه انسجاماً كاملاً. وكلُّ الحقوق والقوانين تجد لها مصدراً فيه تعالى، وجميع هذه الشرائع عادلة لأنها صادرة منه على وفق مع كينونته ومشيئته. فمرةً تساءل موسى: أيُّ شعبٍ له فرائض وأحكام عادلة مثل كل هذه الشريعة التي أنا واضعٌ أمامكم اليوم؟ (تث 4: 8). ويجيب القديسون: وصايا الرب مستقيمة، تُفرح القلب؛ أمر الرب طاهر، يُنير العينين. خوف الرب نقيٌ، ثابت إلى الأبد؛ أحكام الرب حقٌ عادلةٌ كلُّها. هي أشهى من الذهب والإبريز الكثير، وأحلى من العسل وقطر الشهاد (مز 19: 8 – 11؛ 119).
ولكن برّ الله مُعلَنٌ بعد في هذا: أن تظل هذه الشرائع سارية المفعول ويطلب من شعبه أن يحيو بموجبها. وقد سبق أن ألقى على عاتق الإنسان الأول وصيةً واحدة من لدنه (تك 2: 16). وبعد السقوط أيضاً لا يتنازل عن واحد من مطالبه. وفي أحكام دينونته، كالطوفان وبلبلة الألسنة، علامات على ذلك. فهو يعتبر جميع الأمم ملزمين شريعته في ضمائرهم (رو 1: 20، 32؛ 2: 15). على أنه يُلقي مطلبه على شعبه القديم خصيصاً، إذ اتخذه له شعباً خاصاً بمحبته الشاملة، فعليهم بالتالي أن يحفظوا عهده ويطيعوا كلامه ويسلكوا في طرقه (خر 19: 5). وفي هذا لا يطلب الرب من شعبه شيئاً لا مسوّغ له، لأنه من جهته أنجز كل شيء لكرمه، وينتظر أن يصنع عنباً جيداً (إش 5: 4). فقد أخبرهم الرب ما هو صالح، وماذا يطلب منهم الآن غير أن يصنعوا الحق ويحبوا الرحمة ويسلكوا متواضعين مع إلههم؟[55]
وأخيراً، يُعلن الله برّه في كونه يدين جميع الشعوب وسوف يدينهم، بمن فيهم أيضاً شعبه القديم، بحسب عدله المطلق. فإن الرب مشرّع وملك، لكنه أيضاً قاضٍ (إش 33: 22). صحيح أنه أحياناً، في مواجهة المتذمرين الذين يزعمون أن الله لكي يثبت برّه (أي 40: 2)، يشدد على سيادته المطلقة فيما يفعله، وينبّه خصوصاً على أن جميع سكان الأرض يحسبونك لا شيء، وأن الله يفعل كما يشاء في جند السماء وسكان الأرض، وليس من يكفُّ يدَه أو يقول له: ماذا تفعل؟ (دا 4: 35). إنه صانع كل شيء، ولا يستطيع أي مخلوق أن يجادله أو يخاصمه (إش 45: 9). وهو الفخاري الذي يمسك الشعب بيده كالطين (إر 18: 6؛ إش 10: 15). غير أن هذه العبارات لا يُستفاد منها إطلاقاً أنها تمثل الله كطاغية يتصرف كيف ما بدا له. بل إنها بالأحرى تدعو الإنسان إلى التواضع والانحناء أمام جلال أفكار الله وفرادة طرقه (إش 55: 8، 9). فهو عزيز وعظيم القدرة والقوة، لكنه لا يرذل أحداً، بل بالأحرى يهتم بالإنسان ويعامله بحسب الحق (أي 36: 5؛ 37: 23).
ويستطيع الله أن يفعل هذا لأنه كلّي العلم ومطلق العدل. أما بالنسبة لحكام الأرض فغالباً ما تكون الحال على خلاف هذا، لهذا السبب يناشدهم العهد القديم مراراً وتكراراً أن لا يحابوا الوجوه في القضاء،[56] ولا يقبلوا رشوة،[57] ولا يجوروا على المسكين والغريب واليتيم والأرملة،[58] وأن يبرروا البار ويحكموا على المذنب ويقضوا للشعب قضاءً عادلاً.[59] فإن مبرِّئ المذنب ومذنِّب البريء كلاهما مكرهة الرب.[60] غير أن الرب البار العادل يُحب البرّ والعدل، ووجهه نحو الأبرار.[61] يمينُه ملآنةٌ براً، والعدل والحقُ قاعدة كرسيه.[62] إنه غير منحاز ولا يحابي الوجوه ولا يقبل رشوة،[63] والفقير والغني كلاهما صنعة يديه،[64] وليس هو من ينظر فقط إلى المظهر الخارجي، إذ إنه ينظر إلى القلب،[65] بل إنه يفحص القلوب ويختبر الكُلى.[66] وذات يوم سيقضي للمسكونة بالعدل ويدين الشعوب بالاستقامة.[67] ولسوف يتعالى بالعدل ويتقدّس بالبرّ.[68]
على أنه ما دام قوام بر الله هو أنه يتعامل مع جميع الناس على نحو تام بمقتضى عدله ويقضي لجميع البشر بموجب معيار شريعته المقدسة، فكيف يقدر أي واحد من بني آدم على الإطلاق أن يحظى بإعلان التبرئة من الذنب أمام الله وينال من لدنه الحق بالحياة الأبدية؟
من المؤكد أنه لا يمكن أن يوجد أدنى شك في حقيقة كون جميع البشر بلا استثناء مذنبين بتعدّيهم ناموس الله ومستحقين للعقاب الذي عينه تعالى نظير هذا التعدي. فمنذ معصية آدم صار تيار جارف من عدم البر متسلطاً على الجنس البشري بصورة دائمة لا تنقطع. ذلك أن تصورات قلب الإنسان إنما هو شرير كل يوم (تك6: 5؛ 8: 21). فالجميع يولدون غير طاهرين؛ الجميع زاغوا وفسدوا معاً، وليس من يعمل صلاحاً، ليس ولا واحد.[69] فإنه ليس من إنسان لا يخطئ، ولا أحد يستطيع أن يقول: إني قد زكّيت قلبي وتطهّرت من خطيئتي.[70] وإن كان الرب يراقب الآثام، فمن يقف أمامه؟[71] فما دام هذا هو وضع البشر، فكيف يُعقل أن يوجَد للإنسان تبرير أمام الله ومن قبل الله؟
إلا أن العهد القديم نفسه، فيما يعلن بهذه الصراحة مراراً وتكراراً كون الجنس البشري قاطبة خاطئاً وأثيماً، يذكر أيضاً الأبرار والمستقيمي القلوب رغم أنهم يعيشون في عالمٍ مليءٍ بالشرّ. وهكذا يُدعى نوح رجلاً بارّاً وكاملاً في أجياله (تك 6: 9؛ 7: 1)، ويحظى أيوب من الله نفسه بالشهادة بأنه رجلٌ كامل ومستقيم يتقي الله ويحيد عن الشر.[72] وفي المزامير أيضاً يُشار إلى جماعة صغيرة من الأبرار يقفون على طرفي نقيض من الأشرار ويُقاسون كثيراً على أيديهم.[73] كذلك يُعنى سفر الأمثال دائماً بهذه المفارقة عينها بين البشر.[74] وهكذا أيضاً الأنبياء يميزون بين نواة صغيرة من الشعب تظلُّ أمينةً مع الرب وكثرةٍ غالبة يمعنون في الانغماس بالوثنية والإثم.[75] ويفرّق حزقيال بطريقة واضحة بين الأبرار والأشرار، وهو لا يفكر إذ ذاك في جماعات بين الشعب بل في أفراد منه.[76]
ولكن ليس هذا هو الأمر الوحيد الذي يدهشنا في العهد القديم. فأكثر إدهاشاً منه حقيقة كون هؤلاء الأبرار (المستقيمي القلوب، أو أياً كان لقبهم) ليسوا البتة خائفين من عدالة الله أو برّه، ولا يراودهم ولو مرة واحدة الخوف من أن تكتسحهم دينونته. حقاً أن هذه الدينونة ستكون رهيبة على الأشرار.[77] غير أن القديسين يعتبرون برّ الله هذا أساس توسلاتهم ويطالبون به. فهم يسألونه أن يستجيب لهم وينقذهم لأنه إله البرّ (مز 4: 1؛ 143: 1)، ويتوقعون منه - خاصة وأنه الإله البار الفاحص القلوب والكُلى - أن يثّبتهم (مز 7: 9)، وينقذهم (مز 31: 2)، ويفديهم (مز 34: 22)، ويهتم بإنصافهم (مز 35: 23 وما يلي)، ويغفر لهم (مز 51: 1- 6)، ويستجيب لهم ويُحييهم (مز 119: 40؛ 143: 1)، ويُخرج من الضيق نفوسهم (مز 143: 11).
أحياناً ما يتقدم الصدّيقون متوسلين إلى برّ الله فيتّخذون صورة المطالبة بأن ينقذهم الله بحسب برِّهم هم - وإن كان هذا يبدو لنا أمراً لا يُصدق لأول وهلة. فأيوب لم يقبل أن يعترف بأنه مذنب، إدراكاً منه لسلوكه الطاهر والمستقيم (أي 29: 12 وما يلي؛ 31: 1 وما يلي)، وفي النهاية يؤيد الله برّ أيوب في مواجهة أصحابه (أي 42: 7). ونسمع كثيراً في المزامير أصداء هذه الصرخة: اقضِ لي يا ربُ كحقي ومثل كمالي الذي فيّ.[78] وهو ذا إشعياء يردّ صدى شكوى الشعب: قد اختفت طريقي عن الرب، وفات حقي إلهي (إش 40: 27). ولكن النبي قد أُرسل إلى الشعب تحديداً ليُعلن لهم باسم الرب أن الحال هي على خلاف ذلك. فبعد التأديب والعقاب، يأتي الفداء والإنقاذ. إذ إن الجهاد قد كمل والإثم قد عُفي عنه (إش 40: 2)، والرب قد قرّب برّه ولن يؤخر خلاصه (إش 46: 13). وكما أنه في طريق فدائه يتداخل مرة بعد أخرى في حياة قديسيه، ويجعل حُكمهم يخرج من حضرته (مز 17: 2) مجرياً العدل والقضاء للمعوزين والمظلومين،[79] فكذلك أيضاً سيتولى في الأخير إنصاف شعبه بنفسه.[80] فسوف يشمّر عن ذراعه المقدسة أمام أنظار جميع الأمم، ويُخرج من فمه كلمة صدق، وبالبرّ يثبّت شعبه.[81] وهو إلهٌ بارٌ ومخلِّص (إش 45: 21)، وفيه البرّ والقوة، وبرّ شعبه من عنده، وبه يتبرر ويفتخر كل نسل إسرائيل.[82]
إذاً، يتضح جلياً من العهد القديم ليس فقط أنه قد وُجد في بني إسرائيل أشخاصٌ أبرار بل أيضاً أنهم يلجأون إلى برّ الله التماساً لخيرهم وخلاصهم. ويُرجَّح أن هذا الواقع يؤثر فينا بكونه غريباً بعض الشيء، لأننا ميّالون إلى وضع عدل الله في مناقضة رحمته. غير أن قديسي العهد القديم لا يُقيمون مفارقةً كهذه. إنهم يربطون ربطاً وثيقاً عدلَ الله بنعمته ورحمته، وصلاحَه بحقِّه، وإحسانه بأمانته.[83] فيقولون إن الرب رحيم وصدِّيق (مز 112: 4؛ 116: 5) وإن حوادث إنقاذه شهادة على صلاحه وإجادته.[84] ولهذا، فإن برّ الله وعدله، مَثَلُهما مثلُ رحمته على السواء، هما موضوع حمد القديسين وسُبحِهم كل حين.[85]
ولكن كيف يُمكن ذلك؟ كيف يُعقل أن أناساً جميعُهم خطاةٌ يقفون لحظةً في حضرة الله القدوس كأناسٍ مبرَّرين وأبرار؟ من أين لهم أن يتمتعوا بالبرِّ من جانبهم، وكيف لهم أن يُعفى عن خطاياهم وذنوبهم وتكون لهم شركة طيبة مع الله وذلك بحسب عدله وبرِّه؟
أكان هذا ممكناً لأن ذلك الشعب في أيام العهد القديم كان هو شعب الله، والهيكل كان في وسطهم، وكانوا يأتون بقرابينهم من التيوس والعجول بكل حماسة؟ لقد كان في بني إسرائيل كثيرون وضعوا ثقتهم في هذا وحسبوا بالتالي أن الشر لن يدنو منهم لأجل ذلك. غير أن الأنبياء الذين قاموا باسم الرب علَّموا الشعب خلاف هذا تماماً. فبينما كان الشعب يتباهى بامتيازاته الخارجية، أجمع الأنبياء على الإعلان أن هذه هي أشبه بقصبات مرضوضة تدمي يد من يتوكأ عليها. فهو ذا النبي عاموس يقول: ألستم لي كبني الكوشيين يا بني إسرائيل - يقول الرب؟ ألم أُصعد إسرائيل من مصر، والفلسطينيين من كفتور، والآراميين من قير؟ (عا 9: 7). وفي مواجهة الأنبياء الكذَبة الذين اتكلوا على كلام الكذب قائلين: هيكل الرب، هيكل الرب، هيكل الرب هو، أعلن إرميا حكم الدينونة قائلاً: إن الرب سيصنع بذلك البيت الذي دُعي باسمه عليه كما صنع بشيلوه. فيما يتعلق بالتقدمات والذبائح أيضاً، علم قديسو الشعب جيداً أن هذه في حدِّ ذاتها غير مرضية للرب (مز 40: 9؛ 51: 6). وعلى ألسنة الأنبياء أعلن الربُّ نفسُه قائلاً: أتخمت من محرقات الكباش وشحم المسمّنات، ولست أُسرُّ بدم عجولٍ وخرفان وتيوس.[86]
تُرى، هل كان أساس الرجاء في الخلاص بين قديسي العهد القديم هو برَّهم الذاتي؟ ألهذا السبب كان لديهم مثل هذا الرجاء الصالح من جهة المستقبل؟ هل ظنوا أن أعمالهم الصالحة تستطيع الصمود أمام دينونة الله؟ ربما خطر لنا لحظةً فكرٌ كهذا عندما نلاحظ، كما في شخص أيوب مثلاً، إلى أي مدىً كانوا واثقين ببراءتهم كلَّ الثقة (أي 29: 12 وما يلي؛ 31: 1 وما يلي)، وكم مرة يركنون إلى استقامتهم وأمانتهم وبرِّهم،[87] وكيف يتحدثون دائماً عن حقهم أو قضائهم،[88] وكيف أن الرب نفسه يحسبهم أبراراً.[89] ولكن عند إنعام النظر في هذا الفكر بتدقيق يتبين لنا أن هذا الأساس أيضاً يتداعى وينهار.
بعد كلِّ شيء، فإن هذا الاتكال من جانب قديسي العهد القديم إلى برِّهم يصاحبه أو يبادله اعترافٌ بالخطايا بكل تواضع. فأيوب لا يتكلم عن آثام صباه وحسب، بل في النهاية أيضاً يرذل نفسه ويتوب جالساً في التراب والرماد (أي 13: 26؛ 42: 6). وفي (مز 7: 8) يتحدث داود عن كماله، لكنه في مواضع أخرى ينبذ كل برٍّ لديه ويعترف بمعاصيه أمام الرب، ويبتهج فقط بغفران خطاياه (مز 32: 5، 11). ويتوسل دانيال إلى الله لا على أساس برِّه بل على أساس مراحم الرب التي هي عظيمة (دا 9: 18). وفي سفر إشعياء يعترف الشعب التقيُّ بأن كل أعمال برِّهم هي كخرقة نجسة، وأن الجميع ضلوا كغنمٍ لا راعي لها، ومالوا كلُّ واحدٍ إلى طريقه، ولكن الرب وضع على عبده إثم جميعهم. وفي (مزمور 130: 3، 4) يقول المرنِّم إنه إن كان الرب يراقب الآثام، فمن يقوى على الوقوف في حضرته، ولكن عنده المغفرة لكي يُخافَ منه. إن جميع قديسي العهد القديم هؤلاء يُقِرّون دون استثناء بأن الله عادلٌ في معاقبة الشعب، إذ إنهم هم وآباءهم قد أخطأوا وتمرَّدوا عليه.[90]
وحينما يذكر قديسو العهد القديم برَّهم، فصحيح أنهم يقيناً يفكرون أيضاً في سلوكهم المستقيم وكمالهم أمام وجه الرب، بل إنهم أيضاً يُصلّون طالبين إلى الرب فاحص القلوب أن يمتحنهم وينظر هل فيهم طريقٌ باطل.[91] غير أن برَّهم واستقامتهم هذين لا يُقصد بهما الكمال الخُلُقي كالذي تحدّث عنه الفريسيون فيما بعد. بل إنهم بالأحرى يفكرون في كمال خُلُقي أساسه ومصدره كمالٌ ديني - وبكلمة أخرى، ببرٍّ مرتبط بالإيمان. ويتضح هذا من حقيقة كون الأبرار يُمثَّلون أيضاً في الغالب بأنهم المساكين والبؤساء، المظلومون الأمناء، المتواضعون الودعاء، من يتقون الرب ولا رجاء لهم سواه. إنهم الأشخاص أنفسهم الذين أطلق عليهم المسيح فيما بعد المساكين بالروح الحزانى، الجياع والعطاش إلى البرّ، المتعبين والثقيلي الأحمال، والأولاد الصغار (مت 5: 3 وما يلي؛ 11: 25، 28).
والعلامة المميزة لهؤلاء القوم ليست كونهم خِلْواً من الخطية، بل بالأحرى أنهم في وسط الظلم والاضطهاد الذين يتعرضون له من كل ناحية في العالم يضعون ثقتهم في الرب ويلتمسون عند وحده خلاصهم وسعادتهم. فليس لهم من نجاةٍ في أي مكان - لا في أنفسهم ولا في أي مخلوق – بل في الرب إلههم وحده دون غيره. كما أن الله، تبعاً لذلك، هو أيضاً إلههم، شمسُهم ومجنّهم، ملجأهم وحصنهم، ترسهم وصخرتهم وقوتهم، منقذُهم وفاديهم، مجدُهم وخيرُهم وحده ولا شيء غيره (مز 18: 3؛ 73: 25 وما يلي). إنهم شعبه وغنم مرعاه، عبيده وميراثه.[92] يرجون خلاصه، يتعلقون بكلامه، ويبتهجون بناموسه، ويتوقعون كل شيء من يده. فليسوا قوماً على شاكلة الفريسيين من بعدهم، يُصِرُّون على حقوقهم وامتيازاتهم، بل هم بالأحرى قومٌ في جانب الله وبمعونته يقفون ضدّ أعدائه وأعدائهم.
فحينما يلجأ قومٌ في صلواتهم وتوسُّلاتهم إلى برِّهم وبرِّ إلههم، حينئذ يقصدون أو يقولوا إن الرب، بفضل عهده، ملتزمٌ أن يعاملهم بالإنصاف في مواجهة أعدائهم، فهم مدعوون باسمه ويسلكون في خوف اسمه. وهو قد اختار شعبه لا لحجمهم أو عددهم، ولا لبرِّهم أو استقامتهم، بل لأنه، هو الرب، قد أحبهم فضلاً، ولأجل القسم الذي أقسم به لآبائهم (تث 7: 7 وما يلي؛ 9: 5، 6). فالعهد مع هذا الشعب مؤسسٌ فقط على مشيئة الله الصالحة واستحسانه. ولكن بفضل ذلك العهد، لا ننكر أنه - إذا جاز التعبير - ارتبط بهم واتخذ على عاتقه التزام رعايتهم وحفظهم وإعطائهم كامل الخلاص الذي وعد به لمّا قال لإبراهيم: أُقيم عهدي بينك وبين نسلك من بعدك في أجيالهم، عهداً أبدياً، لأكون إلهاً لك ولنسلك من بعدك (تك 17: 7).
وعليه، فإن برَّ الله الذي إليه يُركن أتقياء الشعب في خضمِّ الجور عليهم إنما هو تلك السجيّة التي بموجبها يلتزم الرب، بفضل عهده، أن يُنقذ شعبه من جميع أعدائهم. وليس هو التزاماً موضوعاً على الله بسببٍ من شعبه، بل إنه التزامٌ موضوع عليه بسببٍ من ذاته تعالى. فلا بدَّ أن يفي الله بما التزمه بمحض إرادته تجاه شعبه، فهو قد تعهّد على نفسه، بموجب عهده وقسمه وكلامه ووعده، أن يظلَّ إلهاً لشعبه رغم كلِّ اعوجاجهم. ومن هنا نقرأ مراراً وتكراراً أنه يُعطي شعبه البركات التي قد وعدهم بها، لأجل اسمه وعهده ومجده وكرامته.[93] ولو خان الشعب الأمانة وارتد عن طرق الرب، فإنه يظلُّ ذاكراً لعهده ويُبقيه سارياً على الدوام.[94] فإن بر الله الذي يُركِن إليه أتقياء شعبه ليس طرف نقيض من صلاحه وخلاصه، بل هو مرتبط بهما ومتصلٌ بحقه وأمانته اتصالاً وثيقاً. لكأنه يُقيّد الله بكلمته ووعده، ويُلزمه - بمحض النعمة وحدها - أن يُنقذ شعبه من كل طغيان.
على هذا النحو أيضاً تصرّف الله في الماضي لمّا أنقذ الشعب مرة بعد الأخرى من جميع أعدائهم.[95] لكنه سيفعل في المستقبل أكثر من ذلك بكثير عندما يُقيم ملكوته بين شعبه - وهذه نظرتهم هم أيضاً. فبفضل برِّه الخاص، ولأنه إله برٍّ وأمانة وحقّ، سوف يُبرم معهم عهداً جديداً، ويغفر خطاياهم ويسكب روحه عليهم، ويجعلهم يسيرون في طرقه (إر 31: 31 – 34 ومواضع أخرى). لكنه لا يفعل هذا لأجلهم هم، بل لأجل نفسه ولأجل اسمه العظيم: أنا، أنا الماحي ذنوبك لأجل نفسي، وخطاياك لا أذكر (إش 43: 25). فهو بذاته يقدّم البرّ الذي يحتاج إليه شعب العهد.[96] وهو سوف يخلق سمواتٍ جديدة وأرضاً جديدة، فلا تُذكر الأولى ولا تخطر على بال (إش 65: 17). في تلك الأيام يخلص يهوذا ويسكن إسرائيل آمناً، وهذا هو اسمُه الذي يدعونه به "الربّ برُّنا"![97]
وفكرةُ كون الله نفسه يمنح شعبه البرّ ويبرّرهم بالتالي تبلغ إعلانها الأوفى في العهد الجديد، إذ يظهر المسيح على الأرض وبموته وحياته يتمّم لكنيسته كل برّ.
وقد أتى الرب يسوع نفسه كارزاً بأنه قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله (مر 1: 15). ولم يقصد بهذا فقط أن الملكوت سيأتي قريباً بل أيضاً أنه قد حلّ فعلاً من حيث المبدأ في شخصه وعمله. فإنه هو المسيح الذي به تمّت نبوة العهد القديم المتعلقة بعبد الرب (لو 4: 17 - 21) والذي انطلق آنذاك يبرهن ذلك بأعماله. فإذ يشفي المرضى ويُقيم الموتى، ويُخرج الأرواح الشريرة، ويبشِّر المساكين، ويغفر الخطايا، إذ ذاك يقدّم برهاناً قاطعاً أنه الشخص الذي وعدت به النبوات وأن ملكوت الله قد أقبل إلى الأرض.[98] ذلك أن كنوز ملكوت الله تنكشف في الخيرات التي يهبها المسيح، في الفداء والإصلاح على صعيدي الروح والجسد.
ومن بين نِعَم ذلك الملكوت، يخصُّ المسيح البرَّ بالذِّكر. ففي (مت 6: 33) يرتبط هذا البر ارتباطاً وثيقاً بملكوت الله وبره. أو كما جاء في قراءة أخرى: اطلبوا أولاً ملكوته وبرّه، على أن يعود الضمير إلى الآب السماوي المذكور في الآية (32). فكما الملكوت، كذلك البر أيضاً في ذلك الملكوت، هو خاصةُ الله وعطيته التي يمنحها في المسيح. وكلُّ من يطلب ملكوت الله ويظفر به ينال في الوقت نفسه البرَّ المطلوب لمواطنية ذلك الملكوت.
لذلك السبب قال المسيح في موضع آخر إن امتلاك ذلك البرّ هو شرط لدخول ملكوت الله. ففيما نقرأ: إن لم يزد برُّكم على الكتبة والفريسيين لن تدخلوا ملكوت السماوات.[99] وهذا البرّ الذي يطلبه المسيح في تلاميذه هو برٌّ مختلفٌ جداً وأعمق كثيراً وأوثق من التتميم الخارجي للناموس والذي قنع به اليهود - إنه برٌّ روحيٌّ وكامل على صورة برّ الآب (مت 5: 20، 48). ولكن حين يَعدُّ المسيح مثل هذا البرّ ضرورياً لدخول ملكوت الله، لا يعني أنه على الإنسان أن يُحرزه بقوته الخاصة. فلو كان هذا المطلوب، فما كان هنالك مسيحٌ ولا كان إنجيلُه خبراً طيباً. إذاً كان قصد المسيح بالأحرى أن يُلقي ضوءاً على طبيعة ملكوت الله وجوهره الروحي وكماله: فلا أحد يقدر أن يدخله ما لم يكن على انسجامٍ كاملٍ مع ناموس الله وله نصيبٌ في البرّ الكامل.
إلا أن هذا البرّ الذي هو، من جهة، الشرط المطلوب لدخول الملكوت، هو من الجهة الأخرى عطيّة ذلك الملكوت. فالمسيح نفسُه هو من يمنح جميع خيرات الملكوت، بما فيها برّه. فالملكوت مملكة الله، وبرُّه هو برُّ الله (مت 6: 33)، ولكن كما جعل الآب الملكوت للمسيح هكذا يجعله المسيح لتلاميذه (لو 22: 29؛ 12: 32). لأن الآب يحب الابن وقد دفع كل شيءٍ إلى يديه.[100] وإنما قد أعطاه الآب كل هذا لأنه ابن الإنسان (يو 5: 27)، أي في سبيل أن يحوزه لنفسه أساساً عن طريق الطاعة حتى الموت. فهو لم يأت ليُخدم، بل ليَخدم، وليبذل نفسه فديةً عن كثيرين (مت 20: 28). وبموته على الصليب سمح أن يُبذل جسده ويُسفك دمه لكي يؤسَّس العهد الجديد وتُغفر جميع خطايا شعبه (مت 26: 26 - 28).
فعلى أساس تعيين الآب له وذبيحة نفسه، يمنح تلاميذه - قبل موته وبعده - جميع خيرات الملكوت. وهو لم يشف المرضى فقط، بل غفر الخطايا أيضاً ووهب الحياة الأبدية. هذه الخيرات لم يَهبْها للفريسيين الأبرار في نظر أنفسهم، بل للعشارين والخطاة، للمتعبين والثقيلي الأحمال، للمساكين بالروح، للجياع والعطاش إلى البرّ. فهو لم يأتِ ليدعو أبراراً بل خطاة إلى التوبة (مت 9: 13) ولكي يطلب ويخلِّص ما قد هلك (لو 19: 10). ذلك أن سبيل الدخول إلى الملكوت والتمتع بخيراته كلِّها ليس البرّ الذاتي بل هو الولادة الجديدة مع التوبة والإيمان. وهذه الولادة الجديدة، أو التجديد، هي في حدِّ ذاتها عطيّةٌ وعملٌ من الروح القدس (يو 3: 5).
ما إن انسكب الروح القدس يوم الخمسين، حتى بدأ الرسل في الحال، وتبعاً لذلك، يكرزون بالمسيح المصلوب رئيساً ومخلصاً رفعه الله لكي يُعطي الشعب التوبة ومغفرة الخطايا (أع 2: 36، 38؛ 5: 30، 31). فبعد حدوث الفداء بموت المسيح، صار ممكناً للرسل أن يكشفوا مغزاه الهام ويشرحوه في ضوء القيامة وبإرشاد الروح القدس. ولم يَقُم بذلك واحد من الرسل على نحوٍ أغنى وأوضح مما قام به بولس، وهو الذي خُتن في اليوم الثامن، وكان من جنس إسرائيل وسبط بنيامين، وعبرانياً من العبرانيين، وفريسياً من جهة الناموس، ومضطهداً للكنيسة من جهة الغيرة، وبلا لومٍ من جهة البرّ الذي في الناموس، ولكنه حسب هذه الأشياء، التي كانت ربحاً له، خسارةً من أجل المسيح (في 3: 5 - 7).
كان بولس، بحسب شهادته الخاصة، قد جاهد عدة سنين وبحماسةٍ عظيمة لأجل البرّ الذي من الناموس. وقد بلغ في ذلك شأواً بعيداً. فمن جهة البرّ الذي في الناموس (في 3: 6) والحاصل بالناموس (في 3: 9؛ رو 10: 5؛ 9: 32)، كان بلا لومٍ حسب تقدير البشر. ما من أحدٍ كان يستطيع أن يقول شيئاً عليه. بل على العكس، امتدحه الجميع. فقد أصاب من ذلك تقديراً واعتباراً، ولو واصل السير في هذا السبيل لوجد لنفسه مكانةً مرموقة بين شعبه. والواقع أنه ربح من ذلك ربحاً جزيلاً (ع 7). ولكن لمّا سرّ الله أن يُعلن ابنه فيه، فعندئذٍ من أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربِّه حسب كل هذا البرّ القديم خسارةً ونبذه كأنه نفاية وأمر عديم النفع، لكي يربح المسيح ويوجد فيه، وليس له البرّ الذي من الناموس، بل بالأحرى البرّ بالإيمان في المسيح، البرّ الذي من الله بالإيمان (ع 8: 9).
ولماذا لا يفي البرّ هو من أعمال الناموس بالغرض؟ ذلك ما يشرحه الرسول أكثر من مرة في مواضع أخرى. حقاً إن الناموس مقدس وعادل وروحيٌّ وصالح، ولكن الإنسان - لكونه جسدياً - مبيع تحت الخطية (رو 7: 12، 14). فالناموس ليس قادراًً أن يُحيي، ولا قادراً على إبطال الخطية بحكمه، لأنه ضعيف بالجسد (رو 8: 3؛ غل 3: 21). صحيحٌ أنه يقدّم مطالب، غير أنه لا يمنح شيئاً ولا يهب أية خيرات. بل إنه يقول فقط إن الإنسان الذي يفعل هذه يحيا بها (رو 10: 5؛ غل 3: 10، 12). ولكنه لا يقدر أن يمنح هذه الحياة من تلقاء نفسه، لأن الجسد ليس خاضعاً لناموس الله، ولا يستطيع أن يخضع له (رو 8: 7) فبدلاً من أن يُبرر الناموس الإنسان ويُعطيه حياة، إذا به الآن هو "قوة الخطية" بالتحديد (1كو 15: 56). ولولا الناموس لما كانت خطيةٌ ولا كان هناك تعدٍّ (رو 4: 15؛ 7: 8). إنما في الوضع الأثيم الذي يجد الإنسان نفسه فيه، يُثير الناموس الخطية ويوقظ الشهوة ويجعل الإنسان يرغب في المنهي عنه، أو بالأحرى تتخذ الخطية الساكنة في الإنسان فرصةً بالوصية فتثير كل شهوة في القلب، فتكثر الخطية بالتالي.[101] وعليه، فإن ما يفعله الناموس إنما هو أن يُعطي معرفة الخطية (رو 3: 20؛ 7: 7) ويُنشئ الغضب (رو 4: 15) ويجعل الناس تحت اللعنة (غل 3: 10)، ولكن بأعمال الناموس لا يُمكن أن يتبرر أحدٌ البتة.[102] وإذ يدين الناموس العالم كلُّه يصير الجميع تحت قِصاص من الله وعِرضةً لعقابه (رو 3: 19). لأن غضب الله معلنٌ من السماء على جميع فجور الناس وإثمهم.[103]
ولكن ما دامت هذه هي دينونة الله العادلة التي ينطلق بها ناموسه على البشر فمن يستطيع أن يخلص إذاً؟ وكما قال الرب يسوع في (مت 19: 26)، فذلك هو أيضاً جواب بولس: هذا عند الناس غير مستطاع، ولكن عند الله كلُّ شيء مستطاع. فعنده يُستطاع أيضاً هذا الأمر غير المستطاع: أن يبرر الشرير ويبقى مع ذلك هو نفسُه باراً إلى التمام (رو 3: 26؛ 4: 5). ذلك أن ما يشجبه الله بشدة قصوى في ناموسه المقدس، أعني تبرير المذنب،[104] وهو ما يقول عن نفسه إنه لا يفعله (خر 23: 7)، فذاك بعينه هو ما يفعله، إلا أنه يفعله دون أن يعرّض برَّه للخطر. وفي هذا روعةُ الإنجيل.
فإن الله أعلن برّه لا في الناموس فقط بل في الإنجيل أيضاً وبرُّ الله في الإنجيل معلنٌ بمعزلٍ عن الناموس الذي لا دور له فيه، بالاستقلال الكلي عنه، وعلى تعارضٍ معه بحسب الظاهر (رو 1: 17؛ 3: 20). فهذا الإنجيل موجود قبل الناموس بزمنٍ بعيد، إذ كانت بداءاته في الفردوس. وبرُّ الله الذي أُعلن في الإنجيل يتمتع بشهادة الناموس والأنبياء وكتب العهد القديم كلِّها (رو 3: 21). فبه تبرّر إبراهيم وهو بعدُ في العزلة (رو 4: 1 وما يلي). وداود يطوّب الإنسان الذي يحسب له الله براً بغير الأعمال (رو 4: 6)؛ وحبقوق يصرّح تصريحاً عاماً إذ يقول إن البار بالإيمان يحيا (رو 1: 7؛ غل 3: 11). ولكن الآن، في الزمان الحاضر (رو 3: 21، 26) صار برُّ الله معلناً بوضوحٍ أكثر جداً، لأن المسيح قد ظهر وصار براً لنا (1كو 1: 30).
ثم إن الناموس الذي أُعطي لبني إسرائيل كان بذاته في خدمة الإعلان الكامل لبرّ الله في الإنجيل. إذ إن الناموس، بإثارة الخطية والتعرض لها، وبإنشاء الغضب ووضع الناس تحت اللعنة، كان معلماً ومؤدباً يقودنا إلى المسيح، حتى يتمكن أولئك الذين كانوا تحت تأديب الناموس أن يتخرجوا في ملء الزمان إلى المسيح ويبرَّروا بالإيمان (غل 3: 22 - 25). وهكذا أعدّ تأديب الناموس الشعب لظهور الإنجيل. ولكن من جانب الله، عمل الناموس أيضاً على إتمام الموعد. فإن الله، في الأزمنة السابقة للمسيح، ترك الأمم - بإمهاله تعالى - يسلكون في سبُلهم، وتغاضى عن أزمنة الجهل إذ لم يعاقبهم وفقاً لاستحقاقهم (رو 3: 25). لهذا السبب بات ضرورياً بالنسبة إليه أن يُعلن برّه عن طريق الإنجيل، بالاستقلال كلياً عن الناموس (رو 3: 25، 26). فبالناموس أغلق الله على الكل تحت الخطية، لكي يُعطي الوعد بالميراث للذين يؤمنون، لا على أساس أعمال الناموس، بل بالإيمان بيسوع المسيح.[105]
وتبعاً لذلك، فإن البرّ الذي يعلنه الله في الإنجيل له طبيعته الخاصة به. إنه يتم بمعزلٍ عن الناموس، لكنه لابدَّ أن يتوافق معه (رو 3: 21). وينبغي أن يدين، وفي الوقت نفسه يخلِّص. وهو إعلان لعدل الله، لكنْ لنعمته أيضاً (رو 3: 23، 24). ولابد أن يكون على نحوٍ يستطيع الله فيه أن يبرّر به المذنب، ومع ذلك يبقى باراً كلياً إذ يفعل ذلك (رو 3: 26؛ 4: 7). ويتم ذلك موضوعياً بتقديم المسيح ليكون دمه كفارة، وذاتياً بحسبان الإيمان في المسيح براً (رو 4: 4، 5؛ غل 3: 6). وبإيجاز، إن البرّ الذي يُعلنه الله في الإنجيل قوامه مَنحُ برٍّ بالإيمان مناقضٍ كلياً للبرِّ الآتي من أعمال الناموس، أي لبرّ الإنسان الذاتي.[106] إنه برٌّ من الله بالإيمان بالمسيح (في 3: 9).
إذاً، في تعليم الكتاب المقدس عن تبرير الخطاة يقع التشديد كلُّه على حقيقة كون هذا التبرير هو عطية الله، وعلى أساس ذلك التبرير نُعفى من الذنب والعقاب. فلو كنّا نتبرّر بأعمال الناموس، أي بحفظ وصايا الشريعة، لكان في وسعنا أن نمثل أمام قضاء الله ببرّنا الخاص والمُحرَز ذاتياً، ولكان لنا - بمعنىً من المعاني - ما يدعو إلى الافتخار بأنفسنا (رو 4: 2). غير أن ما يعلِّم به الكتاب المقدس هو أمرٌ مختلفٌ تماماً. فلم يكن لدى إبراهيم ما يفتخر به أمام الله، لأنه لم يُبَرّر بالأعمال، بل بالإيمان الذي حُسب له برّاً، وقد أُعطي المكافأة لا على سبيل دَين بل على سبيل النعمة (رو 4: 4، 5).
وعلى ذلك، فالبرّ الذي يعطينا الله إياه في المسيح، والذي به وحده نستطيع الوقوف في حضرته، ليس هو بأية حال ثمرة اجتهادنا، بل هو - بمعنىً مطلق - عطية من الله، عطيةٌ من عطايا نعمته. فنحن متبرّرون مجاناً، بالفداء الذي بيسوع المسيح (رو 3: 24). ونعمة الله هي الأساس الأعمق والسبب النهائي لتبريرنا. ولكن ينبغي ألا نعتبر هذه النعمة نقيضاً لبرّ الله بل أمراً مرتبطاً به بعلاقة متبادلة. ومهما يكن، فإن بولس يقول غيرَ مرة إن برّ الله مُعلن في الإنجيل،[107] وكذلك أيضاً يكتب يوحنا في رسالته الأولى أن الله أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويطهِّرنا من كل إثم - إن نحن اعترفنا بخطايانا أمامه (1يو 1: 9). وبطرس أيضاً يقول في رسالته الثانية (1: 1) إننا قد حصلنا على الإيمان ببرّ الله ومخلِّصنا يسوع المسيح.
وهذا يتضمن فكرة كون الله، وهو إله العدل والبرّ، قد أوجد في الإنجيل نظام عدالةٍ مغايراً لذلك الحاصل تحت الناموس. ومع أن النظام القديم أيضاً يُعلن برّ الله، فهو يفعل ذلك بطريقةٍ فيها يُعطي البشر ناموسه، ويُلزمهم إطاعته، وفي الأخير يعاقبهم أو يكافئهم بموجب حكمه على تصرفهم. ولكن بما أن ذلك الناموس صار عديم الفاعلية بسبب الخطيّة، أقام الله في ألإنجيل نظام عدالةٍ جديداً. ولهذا البرّ أيضاً ينبغي أن يخضع الناس (رو 10: 3)، إلا أن هذا النظام في حدّ ذاته، وعن طريق الإيمان، يمنح الناس البرّ الذي يحتاجون إليه للمثول أمام عرش الله. وتبعاً لذلك، فالإنجيل هو، في الوقت الواحد عينه، تدبير عدالة وتدبير نعمة. أما النعمة، ففي أن الله، وهو الذي من حقّه أن يطبّق منطوق الناموس علينا ويديننا بموجبه، قد فتح لنا طريقاً جديداً إلى البرّ والحياة في المسيح. وأما العدالة ففي أنّ الله لا يُدخلنا ملكوته دون تبريرٍ وتقديس، ولكن لديه، بدلاً من ذلك، برّاً كاملاً مُنجَزاً في ذبيحة المسيح، وهو بالنعمة يعطينا إياه ويحسبه لنا بالذات. فالمسيح هو عطية محبة الله (يو 3: 16؛ رو 5: 8). وهو في الوقت عينه إظهارٌ لبرِّ الله (رو 3: 25). ففي صليب الجلجثة تناغم البرّ والنعمة. والتبرير هو عملٌ إلهيٌّ يوفّق بين عدالة الله ونعمته.
وينبغي لنا أن نشكر المسيح ونِعمه على هذا التوافق بين العدل والنعمة. وله أيضاً نحن مدينون بفضل البرّ الذي نحتاج إليه للوقوف في حضرة الله. إنما هذا البرّ الممنوح لنا بالإيمان ينبغي تمييزه بدقة عن البرّ الذي هو سجيّةٌ من سجايا كينونة الله، وعن ذلك الذي في طبيعتي المسيح الإلهية والإنسانية. فإنه لو كان البرّ الذي هو من سجايا كينونة الله أو المسيح هو أساس تبريرنا، لما اقتصر الأمر على فقدان آلام المسيح كلها وموته وإهدار قيمتها بما لها من قيمة بل لتعدّى ذلك إلى محو الخطّ الفاصل بين الخالق والمخلوق وإلى اتحاد طبيعتيهما إحداهما بالأخرى على النحو الذي يقول به أتباع مذهب وحدة الوجود. غير أن البرّ الذي يصير لنا بالإيمان والذي يبرِّرنا أمام الله قد أنجزه المسيح بآلامه وموته. فإن الله قدّم المسيح ليكون كفّارة، بالإيمان بدمه، أي وسيط مصالحة محققاً غفران الخطايا بقوة دمه المسفوك لمن يقبل ذلك الإيمان (رو 3: 25). ذلك أنه جُعل خطية لأجلنا لنصير نحن برّ الله فيه (2كو 5: 3؛ غل 3: 13). وهكذا جرت مبادلة بين المسيح وخاصَّته: فهو يأخذ على نفسه خطاياهم ولعنتهم، ويُعطيهم برَّه بالمقابل. وهو قد صار لهم من الله حكمة وبرّاً وقداسة وفداءً (1كو 1: 30).
إن برّ المسيح الذي بررنا أمام الله كاملٌ وكافٍ ووافٍ بحيث لا يحتاج إلى تكميل أو تعزيز من جانبنا. وبالحقيقة، لا يمكننا بأية طريقة أن نـزيد عليه شيئاً أو نُحسِّنه قيد أنملة، لأنه كامل ومتكامل. فكما أن الناموس هو وحدةٌ كاملة بحيث إن من يحفظه كلَّه ويعثر في وصية واحدة يصير مجرماً في الكل (يع 2: 10)، كذلك أيضاً البرّ الذي يفي بمطالب الناموس هو كلٌّ كاملٌ ذو وحدة عضوية كقميص المسيح الذي كان بغير خياطة منسوجاً كلُّه من فوق (يو 19: 23). هذا البرّ لم يؤلّف من قطعٍ أو أجزاء مجمعه. فإما تمتلكه كله، وإما لا تمتلك منه شيئاً. ولا يمكن أن تأخذ منه جزءاً وتُكمّل أنت الباقي. وعلى أية حال، فأيُّ شيءٍ عندنا حتى نقدّمه لإكمال برٍّ كهذا؟ بالتأكيد، ليست الأعمال الصالحة التي عملناها قبل الإيمان. فإن الكتاب المقدس يقول، بمنتهى الصراحة والوضوح، إنّ تصوّر قلب الإنسان شريرٌ منذ حداثته، وإن المولود من الجسد ما هو إلا جسد، وإن فكر الجسد عداوةٌ لله ولا يستطيع الخضوع لناموسه، وإن كل أعمال برِّ الإنسان هي كخرقة نجسة.
وإذا كان للأعمال الصالحة أن تُعزِّز وتتمِّم البرّ الذي أنجزه المسيح، فالأعمال الوحيدة التي يُمكن اعتبارها أهلاً لذلك هي قطعاً الأعمال التي يقوم بها الإنسان المولود ثانيةً بدافع الإيمان. فإنه لأمرٌ صحيحٌ تماماً أن المؤمنين يستطيعون القيام بأعمال صالحة. فمثلما تثمر الشجرة الجيدة ثمراً جيداً، كذلك الإنسان الصالح من الكنـز الصالح في القلب يُخرج الصالحات (مت 12: 35). وإذ يتجدد المؤمن بروح الله، يُسَرّ بناموس الله حسب الإنسان الباطن (رو 7: 22). غير أن جميع هذه الأعمال التي تنتج من الإيمان تبقى مع ذلك ناقصة وموصومة بالخطية: فعندما يريد المؤمن أن يفعل الحُسنى يجد أن الشر حاضرٌ عنده (رو 7: 21). أضف أن هذه الأعمال الصالحة جميعاً قد سبقها حتماً الحصول على البر الذي يمنحه المسيح ويقبله الإنسان بالإيمان. والمؤمن إنما يسلك في الأعمال الصالحة التي قد سبق الله فأعدها له، والتي لأجلها قد جعله الله في المسيح يسوع خليقةً جديدة له (أف 2: 10).
إذاً، عزاؤنا في مسألة التبرير هذه هو أن كامل البرّ الذي يعوزنا يأتينا من خارج أنفسنا في المسيح يسوع. ولسنا نحن الذين نحدثه. ولكن الله في هذا يُعلن برّه في الإنجيل، في أنه نفسه يُعِدّ برّاً بذبيحة المسيح. فالبرّ الذي يبرِّرنا إنما هو بر الله بالإيمان بالمسيح. وليس هو، لا كلياً ولا جزئياً، متعلقاً بأعمالنا، بل إنه بجملته كاملٌ وكافٍ ووافٍ، لكونه عطية من الله، بل عطية الله المجانية بالنعمة.[108] وما دام بالنعمة، فليس بعد بالأعمال، وإلا فالنعمة لا تكون بعدُ نعمة (رو 11: 6). وبكلمة، فالمسيح نفسه هو البرّ الذي به وحده نستطيع الوقوف أمام وجه الله (1كو 1: 30). فبآلامه موته اكتسب لخاصته حقّ الدخول إلى الحياة الأبدية وهم أبرياء من كل ذنب ومُعفَون من أي قصاص، وحقّ الجلوس فيه عن يمين الله.
إذاً، البرّ الذي يبررنا لا يمكن فصله عن شخص المسيح. فهو ليس عطية مادية أو روحية يُمكن أن يمنحنا المسيح إياها بمعزلٍ عن نفسه، أن يمكن أن نقبلها وننالها نحن بمعزلٍ عن شخص المسيح. وغير ممكن أن نشترك في بركات المسيح دون أن نكون في شركة مع شخصه الذي يجلب لنا معه البركات على نحوٍ ثابت. ولكي نستطيع الوقوف أمام عدل الله، ونُبرَّأ من كل ذنب وقصاص، ونتمتع بمجد الله والحياة الأبدية، ينبغي أن يكون لنا المسيح - لا شيءٌ منه، بل هو نفسه بجملته. ينبغي أن نمتلكه بملء نعمته وحقه، بحسب طبيعتيه الإلهية والإنسانية، في اتضاعه وارتفاعه. فالمسيح، مصلوباً ومُقاماً، هو البرّ الذي يمنحنا إياه الله بالنعمة في التبرير. وعندما يمنحنا الله المسيح بجملته، بكل خيراته وبركاته، وبدافع النعمة المجانية، دون أي استحقاق من جانبنا، بالإيمان، عندئذٍ يبرّرنا الله في الوقت نفسه. إنه يُعلن براءتنا من كل ذنب وإعفاءنا من أي قصاص، ويهبنا الحقّ في الحياة الأبدية والمجد السماوي، حق الوجود معه في شركةٍ سعيدةٍ ومباركة ولا نهاية لها. إذ ذاك يمكننا الوقوف في حضرته وكأننا بلا خطية، بل بالحقيقة كأننا قد أحرزنا بأنفسنا الطاعة التي أحرزها لنا المسيح.
على أن هنالك طريقتين بها نُعطى أمراً أو آخر. فيمكننا أن نمتلكه بقرارٍ قضائي، ولنا أيضاً أن نمتلكه بالفعل عاجلاً أو آجلاً، وذلك على أساس مثل هذا الحُكم الصادر عن القضاء. فكلُّ من يُعيَّن وارثاً بموجب عهدٍ شرعي أو وصية قانونية، يكون له في المستقبل حق امتلاك المقتنيات الموصى بها، ولكن يُمكن أن تمر عدة سنين قبل أن يصير مالكاً بالفعل لتلك المقتنيات. حتى وإن تزامن الحق الشرعي والامتلاك الفعلي، يبقى الفرق مع ذلك شاسعاً بين الأمرين. فالملكية هي حيازة الشيء شرعياً، والامتلاك هو حيازته فعلياً. وهذا التمييز غير حاصل في عالم الحيوان، بهذا الشكل على الأقل. فالحيوان يأخذ ما يُمكنه الحصول عليه. غير أن حال الإنسان تختلف. فلأنه مخلوقٌ على صورة الله، ينبغي أن يكون له الحقّ في الشيء لكي يمتلكه ويستعمله. ومن امتيازه وشرفه أنه لا يتصرف بموجب فعل الافتراس والاستئثار. فبعمل يديه، يأكل خبزه.
هذا له تطبيقه في الدائرة الروحية. فإن لنا بالله علاقةً من أنواعٍ شتى. إنه خالقنا، ونحن خلائقه. هو الخزّاف، ونحن الطين في يده. هو المهندس والباني، ونحن هيكله. هو الكرّام، ونحن أغصان كرمته. هو أبونا، ونحن أولاده. وكلُّ العلائق القائمة في العالم بين العروس وعروسه، والرجل وزوجته، والآباء وأولادهم، والحكام ورعاياهم، وما شابه ذلك، يستحضرها الله في الكلمة المقدسة ليعلّمنا أية علاقة غنية ومتعددة الوجوه يجب أن تقوم بين الناس عموماً، والمؤمنين خصوصاً، وبينه تعالى. ما من علاقة من هذه العلاقات نهملها بغير أن نسيء بطريقة ما إلى حميم العلاقة. على هذا النحو مثلاً لنا أيضاً بالله علاقة الولد بأبيه. فالابن الضال، حتى وهو بعيد عن بيه الأب، ما زال يُدعى ابناً، غير أنه ابنٌ ضال وابن ميت، وهو قد وُجِد وعاش عندما رجع إلى الأب معترفاً بذنبه.
ولكن لنا بالله، في الوقت عينه، علاقة أخرى هي علاقةٌ شرعية. فهو خالقنا، وبالتالي هو لنا المشترع والملك والقاضي. ذلك فقط ما تقوله لنا الكلمة المقدسة مراراً وتكراراً.[109] وقلوبنا أيضاً تحدثنا بهذا. فالإحساس بالشريعة متأصلٌ في قرارة نفوسنا. وفي الواقع أن هذا الإحساس هو هو في كل مكان وزمان. ربما يحدث خلاف في المحتوى، من حيث القوانين والقواعد الخاصة، ولكن مفهوم القانون عامة، أو الإحساس بالشريعة، ليس له تاريخٌ خاص - شأنه شأن مفاهيم الزمان والمكان والحركة والحياة والخير والشر ما إليها. فإن الإحساس بالشريعة هو فكرٌ من الأفكار المغروسة في طبيعة الإنسان، فكرٌ يصير بالتدريج واضحاً بكل معالمه على نحوٍ يُدركه الوعي. فما من شعب، مهما كان بربرياً أو غير متحضِّر، إلا ويشعر في بعض الأحوال أنه مُساءٌ إليه، فيلجأ إلى السلاح ويدافع عن حقوقه. والعلاقة بالله أيضاً يشتمل عليها هذا الإحساس بالشريعة بالمعنى الأوسع. فكلّ إنسان إنما يشعر في قرارة نفسه بأن ضميره يوجب عليه أن يعبد الله ويحيا بمقتضى شرائعه. وكل إنسان لديه أيضاً الوعي بأنه إذا لم يفعل ذلك يكون مذنباً ومستحقاً للعقاب. فما زال القانون الداخلي الذي يُشعر الإنسان بنقضه لعهد الأعمال فعالاً في قلب كلِّ إنسان. والناموس الأدبي الذي أعلنه الله في سيناء إنما بَلْوَرَ مضمون ما يُمليه ذلك القانون في وصايا واضحة وأكّد واجب التزامها.
ولم يُلغ الإنجيل علاقة الإنسان بهذه الشريعة، كما يميل كثيرون إلى القول، بل إنه بالأحرى أصلحها وأكملها. فليس الفرق بين الناموس والإنجيل كامناً في أن الله يُعلن ذاته في الناموس باعتباره قاضياً فقط وفي الإنجيل باعتباره أباً فقط. وأقل احتمالاً من هذا أيضاً أن يُساوى الفرق بين الناموس والإنجيل بالفرق بين العهد القديم والعهد الجديد. فإنه في العهد القديم أيضاً أعلن الله بشارة نعمته ورحمته لبني إسرائيل؛ إذ أن الناموس كان في خدمة عهد النعمة، فقد جاء في أعقاب الوعد وكان تابعاً له، حتى إنه كان في هذا النطاق أيضاً عطية صادرة عن إحسان الله الأبوي وحكمته المهذبة. ومع أن أعناق مراحم الله قد أُظهرت حقاً في شخص المسيح على نحو أوضح كثيراً جداً مما كان ممكناً أن يحصل في العهد القديم، فمع ذلك لم تكن بشارة النعمة - من جهة واحدة - مجهولة عند الشعب القديم، كما أن الإنجيل الذي أُظهر في المسيح - من الجهة الثانية - لم يكن إبطالاً للناموس والأنبياء بل إكمالاً لهما (مت 5: 17؛ رو 3: 31).
من هنا أيضاً يصرِّح بولس، على النحو الأقوى، أن برّ الله مُعلَن في الإنجيل (رو 1: 17؛ 3: 21 - 26). فالوحدة والتبادل القائمان بين الناموس والإنجيل يبرزان للعيان في حقيقة كون برّ الله مُعلَناً في كليهما. أما الفرق فيتجلى في حقيقة كون البرّ معلناً في الناموس بموجب القاعدة القائلة إن من يعمل بهذه الوصايا يحيا، في حين أن ذلك البرّ مُعلن في الإنجيل بمعزل عن الناموس وبموجب القاعدة القائلة إن الذي لا يعمل ولكن يؤمن بالذي يبرِّر الفاجر فإيمانه يُحسب له برّاً (رو 4: 5). وفي الناموس يُطلب برُّ المرء كاملاً وكافياً ووافياً؛ أما في الإنجيل فإن الله يمنح الإنسان في المسيح وبالنعمة البرّ الكامل الكافي والوافي. ونظراً لأن الإنسان لم يقدر ولم يُرد أن يعمل بمقتضى عدل الله المعبَّر عنه في ناموسه، فإن الله نفسه، بعطيّة البر في المسيح، ردّ اعتبار عدله وأكّده. فهو يضع محبته ورحمته في خدمة برّه. وبإعطائه ذاته يتمّم ناموسه الخاص. وبنعمته يحسب برّ المسيح براً لنا، حتى يتمّ فينا بهذا عدل ناموسه الكامل، وننال الغفران الكامل لجميع خطايانا، ونوهب الدخول الواثق إلى ملكوته السماوي.
وإذاً، فالتبرير يقيناً عمل نعمة من لدن الله، لكنه أيضاً عمل قضاءٍ من لدنه، إذ إنه تصريح به يعلن الله، بوصفه قاضياً، تبرئتنا من الذنب وإعفاءنا من العقاب ويعطينا الحق في الحياة الأبدية. ومن جانب الكاثوليك وجميع الذين يلتمسون أساس تبرير الإنسان - إما جزئياً وإما كلياً - في الإنسان نفسه (في إيمانه، أو أعماله الصالحة، أو المسيح فينا، أو مبدأ الحياة الجديد، أو أي شيء من هذا القبيل)، فإن إعلان البرّ على هذا النحو القضائي طالما لقي اعتراضاً بحجة أنه غير واقعي وغير لائق بالله. ويجادلون بأنه لو كان أساس تبريرنا يكمن كلياً في المسيح وخارج ذواتنا، ولو كان الإيمان أو الأعمال الصالحة أو أي شيء آخر من هذا القبيل لا تُحسب عند الله جزءاً من برِّنا نحن، لكان الشخص المبرَّر عندئذ غير بارٍّ فعلاً، يكون الله قد أصدر عليه حكماً غير واقعي وغير صحيح، إذ إن الإنسان والحالة هذه لا يكون قد صار على الحال التي أُعلن الله أنه فيها.
فردّاً على هذا الاعتراض ينبغي أن تكفينا الملاحظة أن الكتاب المقدس يقصد بالتبرير، دائماً، عملاً قضائياً. فهو يتكلم مرةً بعد مرة عن تبرير الخاطئ أمام الله، مستعملاً في ذلك كلمة مستعارة من قاعة المحكمة ولها دائماً معنىً قضائي. وقد أوصى الله قضاة شعبه قديماً بأن "يبرروا البارّ ويحكموا على المذنب".[110] وهو تعالى يُظهر برَّه في هذا: أنه لا يبرِّر الأثيم ولا يقتل البريء والبارّ.[111] فإذا طُبِّقت كلمة الله هذه في المجال الروحي، تظل محتفظة بمدلولها القضائي. فالمسيح مثلاً يقول إن الحكمة التي ظهرت فيه قد تبرّرت، أي تم الاعتراف بها أنها حكمة، من قِبَل بنيها (مت 11: 19). وفي (لو 7: 29) يقول المسيح إن الذين سمعوا يوحنا، والعشارين الذين تعمّدوا بمعموديته، قد برّروا الله، أي أقروا بأنه بارّ. في هاتين الآيتين ينحصر المعنى في المدلول الأدبي للتبرير.
ويصحّ الأمر عينه عند استعمال الكلمة في مجال خلاص الخطاة. فإن بولس لا يقول فقط إن برّ الله مُعلَن في الإنجيل (رو 1: 19؛ 3: 20 وما يلي)، بل يُعلن أيضاً أن الله يبرر من هم من الإيمان بيسوع، وأنه في عمله ذلك يظلُّ باراً (رو 3: 26)، وأن الذي لا يعمل ولكن يؤمن بالذي يبرر الفاجر يحسب إيمانه له براً (رو 4: 5). فهو يضع البار مقابل المذنب والمحكوم عليه ثم يهتف قائلاً: من سيشتكي على مختاري الله؟ الله هو الذي يبرر: من هو الذي يدين؟ (رو 8: 33، 34). ثم إن بولس يستخدم أيضاً التعبيرين "تبرير" و"حسبان البرّ" بالتبادل (رو 4: 3، 6، 11) وكذلك التعبير "يُجعَل بارّاً" (رو 5: 19). وفي (رو 5: 18) يقول: كما بخطية واحد صار الحكم إلى جميع الناس للدينونة، هكذا ببرٍّ واحد صارت الهبة إلى جميع الناس لتبرير الحياة. ففي جميع هذه الآيات إذاً، يُعتبر التبرير عملاً قضائياً أو شرعياً، إذ هو حكم براءة يصدره القاضي السماوي على الخاطئ الذي هو بحسب معيار الشريعة مذنب لكنه بالإيمان قَبِل البرّ الذي يقدمه الله نفسه في المسيح. وإذ يُحاكم بمقتضى ذلك يكون بارّاً.
وفضلاً عن حقيقة كون الكلمة المقدسة تتكلم بكل وضوح عن التبرير باعتباره عملاً شرعياً أو فعلاً قضائياً، هذه الحقيقة المُشار إليها ينبغي أن توضح لدى معارضي عقيدة التبرير أن لديهم مفهوم للتبرير غير صحيح. فهم يقولون إن تبرئة الإنسان على أساس برٍّ خارجٍ عن ذاته هو أمر غير جدير بالإنسان، وإن ذلك يبقيه على حاله دون أدنى تغيير. غير أن هذه الحجة ترتدّ على رؤوس أصحابها، لأنهم إذا برروا الإنسان على أساس برٍّ موجود فيه فعليهم شخصياً أن يعترفوا حتماً بأن هذا البرّ في الإنسان هنا على الأرض واهٍ جداً وغير كامل، وعليهم بالتالي أن يقرّوا بأن الله يبرر المرء على أساس برٍّ غير وافٍ البتة وبذلك يعوِّج تعالى قضاءه. وفي المقابل، فإن التبرئة على أساس البرّ الذي في المسيح هي تبرئة عادلة تماماً لأنها قُدِّمت بتمامها من قِبَل الله نفسه في ابن محبته. أضف أن تبرير الخاطئ هذا أو إعفاءه، وإن كان مؤسَّساً فقط على البرّ الذي في المسيح، يصير في حينه فعالاً بالحقيقة في وعي الإنسان ويُحدِث هنالك تغييراً هاماً. حتى إن هذه ليس حال الإنسان الذي يُتَّهم بجريمةٍ خطيرة ويُبرّئه قاضٍ بشري، وإن كان موقفه من القانون قد يتغير كلياً. فإن تبرير الله يعمل عمله في وعي الإنسان ويحرره من كلِّ شعور بالذنب.
وبمعنىً ما، فإن تبرير الخاطئ قد سبق أن جرى في مشورة الاختيار. وقد أُعلِن على نحوٍ موضوعي في قيامة المسيح الذي أُسلِم من أجل خطايانا وأُقيم لأجل تبريرنا (رو 4: 25)، وفي الإنجيل الذي يذيع البشارة بأن الله في صليب المسيح يقف موقف المصالحة والمسالمة تجاه العالم (2كو 5: 19). ويأتي هذا التبرير إلى الإنسان على نحوٍ موضوعي في الدعوة الداخلية كما يتمّ قبوله بالإيمان من جانب الإنسان. وما التبرير إلا حلقة من سلسلة الخلاص. إذ إنه مرتبط من جهة بسبق المعرفة والدعوة، ومن جهة أخرى بالتقديس والتمجيد (رو 8: 30). وعليه، فالتبرير في قضاء الله يُعبَّر عنه في الزمان من طريق الإيمان في وعي الإنسان. ثم إن البرّ الذي أحرزه المسيح ليس قدراً كبيراً من رأس المال الموضوع خارج المسيح، بل هو بالأحرى متضمن في شخصه. وقد جاء المسيح بالتحديد لأجل هذه الغاية: حتى في حينه يُمَتِّع خاصّته بجميع بركاته بالروح القدس. وما إن تنفتح عين الإيمان في الإنسان على هذه الحقيقة حتى تتغير في الحال علاقته بالناموس كلياً. فالذي كان من قبل فقيراً يصير في الحال غنياً بالغنى الكلي الذي في المسيح يسوع؛ والذي كان مذنباً بتعدّي جميع وصايا الله يجد نفسه مرة واحدة بريئاً من كل ذنب ومعفىً من أي قصاص؛ والذي كان يستحق العقاب الأبدي يجد أن الحق في الحياة الأبدية صار في حسابه! ومثل هذا الشخص يهتف مع بولس مفتخراً: من سيشتكي على مختاري الله؟ الله هو الذي يبرّر؛ من هو الذي يدين؟ المسيح هو الذي مات، بل بالحري قام أيضاً، الذي هو أيضاً عن يمين الله، الذي أيضاً يشفع فينا!
وأخيراً، لابد من التنبيه على أن التبرير والتقديس ليسا شيئاً واحداً، ومن الواجب تمييز أحدهما عن الآخر بدقة. إذ إن من يهمل أو يزيل هذا الفارق يعود فيقيم في الإنسان برّاً ذاتياً، وينتقص من الكمال والوفاء اللذين يتصف بهما برّ الله المُعلَن في المسيح، ويحول الإنجيل إلى ناموس جديد، ويحرم نفس الإنسان عزاءها الوحيد، ويجعل الخلاص متعلقاً بالاستحقاق البشري. ففي التبرير، للإيمان فقط دور عامل القبول، كدور اليد إذ تمتدّ لتتناول شيئاً، وبه تضع النفس ثقتها فقط في المسيح وبرّه. صحيح أن كلمة الله تستخدم غير مرة التعبير أن الإيمان يُحسب أو يُعدّ للمرء برّاً،[112] والأرجح أن معنى هذا التعبير هو أن الإيمان يحلُّ محل البرّ الذي يطلبه الناموس ولكن الخاطئ لا يملكه، ولكن في هذا المجال يُثار، رغم ذلك، السؤال: لماذا يحلُّ الإيمان محلَّ البرّ المطلوب في الناموس، ولماذا يمكن ذلك؟ أيُعزى هذا إلى كون الإيمان ذا قيمة أدبية استثنائية، وأمراً صالحاً وفضيلاً يفي بالغرض؟
كثيرون يرون هذا الرأي ويذهبون إلى أن الإيمان في حدِّ ذاته، بصرف النظر على الإطلاق عن مضمونه وموضوعه، يبرر وحده فقط بفضل طبيعته الفعالة. غير أن هذا، بكل تأكيد، ليس هو ما يعلِّم به الكتاب المقدس. فإنه لو كان الإيمان يبرر بفضل قيمته الأدبية لاحتلّ مكانه إلى جانب الأعمال والاستحقاقات، بدل أن يظل بالحري في موقف معارض لها. ونحن نعلم أن بولس يقول بمنتهى الصراحة والوضوح إن التبرير الذي يحصل الآن في الإنجيل عن طريق الإيمان هو على النقيض لكل تبرير بأعمال الناموس.[113] أضف أن هذا الوجه من المسألة يُبادل أحياناً بوجهها الآخر الذي بحسبه يعتبر التبرير بالإيمان تبريراً بالنعمة، وبالتالي يكون أمراً يستبعد كل افتخار أو استحقاق (رو 3: 24؛ 4: 4 وما يلي؛ تيطس 3: 5). وفي (رو 4: 16) يفيدنا الرسول، بجلاء، أن الميراث هو من الإيمان تحديداً لكي يكون على سبيل النعمة. وما كان هذا ممكناً أن يُقال على هذا النحو لو أن الإيمان يبرر الإنسان بفضل ما له من قيمة وقوة فعالتين. وفي النهاية، لو كان الإيمان - حسب هذا التأويل - قادراً على تأدية هذه الخدمة إذاً، لفقد المسيح كامل قيمته من حيث عمل التبرير. ولكان الأمر الوحيد المهم عندئذٍ هو أن إنساناً آمن؛ أما بماذا آمن فهذا أمر لا يقدم ولا يؤخر، ما دام الإيمان إذ ذاك يُنجز عمل التبرير بغضّ النظر عن كونه إيماناً بصنم أو بقوة شيطانية أو بنبيً كذاب. وطالما كان هذا هو الاعتقاد المعمول به مثلاً عندما ينصح أطباء غير مؤمنين مرضاهم بأن يقوموا بزيارة إلى أي مزار ديني، لأن "للإيمان قوة شافية".
ولكن شهادة الكتاب المقدس على النقيض تماماً لمثل هذا الرأي. فما يهم بحسب الكتاب هو محتوى الإيمان باعث الإيمان. ذلك أن الإيمان يمكن أن يحلَّ محل البرّ المطلوب في الناموس ويُحسب براً، لأن إيمان في المسيح يسوع الذي قدّمه الله كفارة بفضل قوة دمه (رو 3: 25) والذي حمل اللعنة عنّا (غل 3: 13)، وجُعل خطية لأجلنا (2كو 5: 21)، والذي مات وقام وجلس عن يمين الآب شفيعاً وحيداً لنا (رو 8: 34)، وصار لنا برّاً (1كو 1: 30)، وفيه صرنا برّ الله (2كو 5: 21). وباختصار، فالإيمان يبرِّر لأنه في المسيح يصير شريك برٍّ كاملٍ ووافٍ كذاك المطلوب في الناموس، برٍّ يهبه الله الآن في المسيح بالنعمة وعن طريق الإنجيل (في 3: 9). فهو يبرِّر لا بفضل قيمته المعنوية الفعالة، بل بمضمونه، أعني برَّ المسيح.
فمع أنه من الأهمية القصوى بمكان أن ندرك بوضوح الفرق بين التبرير والتقديس، وأن نُبقي عليه جلياً، فإن هاتين البركتين لا تنفصلان البتة بالطبع بعضهما عن بعض ولا لحظة واحدة. إنهما غير منفصلتين في مشورة الله، لأن التبرير هو مجرد حلقة في سلسلة الخلاص. فإن الذين سبق الله فعرفهم، سبق فعيّنهم ليكونوا مشابهين صورة ابنه؛ والذي سبق فعيّنهم، فهؤلاء دعاهم أيضاً؛ والذي دعاهم، فهؤلاء برَّرهم أيضاً؛ والذين بررهم، فهؤلاء مجدهم أيضاً (رو 8: 29، 30). وهاتان البركتان غير منفصلتين أيضاً في شخص المسيح وعمله، لأن البرّ ليس شيئاً كامناً خارج المسيح ممكناً قبوله بمعزل عن شخصه. فالمسيح نفسه هو برُّنا، وهو في الوقت عينه حكمتنا وقداستنا وفداؤنا (1كو 1: 30). فليس في وسع المرء أن يقبل بركة من بركات المسيح دون الأخرى، لأنها جميعاً متضمنة في شخصه. وكل من يقبل المسيح برّاً له بالإيمان، يقبله في الوقت عينه قداسة له. إذ إن المسيح لا يمكن أن يُقبَل أجزاءً. فكل من له المسيح يكون له بكامله، ومن يفتقر إلى بركاته يفتقر إلى شخصه أيضاً. وأخيراً، فإن بركتي التبرير والتقديس غير منفصلتين أيضاً في الإيمان الذي يربطهما إحداهما بالأخرى دائماً. صحيح أن هذا الإيمان، فيما يتعلق بالتبرير، يحرز اعتباره فقط وحصراً في صفته الدينية بوصفه ثقةً في نعمة الله وبوصفه قبولاً للمسيح وللبرّ الذي يمنحنا إياه الله فيه. ولكن ما دام الإيمان هو هكذا ويفعل هذا، فهو إذ ذاك إيمانٌ حيٌّ وخلاصي، إيمان من عمل الله أساساً (يو 6: 29)، إيمانٌ يُظهر حقيقته وقوته في الأعمال الصالحة (غل 5: 6؛ يع 2: 20 وما يلي). ليس التبرير والإحياء شيئاً واحداً، فكما أن الخطية والموت مترابطان ترابطاً وثيقاً، فكذلك حال البرّ والحياة. فالبار بالإيمان يحيا (رو 1: 17). وكما بخطية إنسان واحد صار الحكم إلى جميع الناس للدينونة، هكذا ببرِّ الواحد صارت الهبة إلى جميع الناس لتبرير الحياة (رو 5: 18).
ومن هنا نجد أن التبرير ينطوي على بركتين: غفران الخطايا والحق في الحياة الأبدية. وهذان الأمران يرتبط أحدهما بالآخر، ولهما بعضهما ببعض مثل العلاقة القائمة بين الطاعة المذعنة والطاعة العاملة فيما يتعلق بعمل المسيح. فإن المسيح لم يصلح فقط ما قد أفسده آدم بتعدّيه، بل حقّق أيضاً ما كان واجباً أن يحققه آدم بحفظه للوصية، أعني الحياة الأبدية. حتى أن كل من يؤمن بالمسيح ينال بفضل ذلك الإيمان غفران الخطايا،[114] وفي تلك اللحظة عينها ينال الحياة الأبدية أيضاً (يو 3: 16، 36).
يبدو لنا أن معظم الناس يقلِّلون من قيمة غفران الخطايا. إذ إنه في نظرهم أمر طبيعي كلياً أن يغفر الله الخطايا ويتغاضى عن القصور البشري. وهم يعرضون القضية بجملتها وكأن الله ينبغي أن يغفر الخطايا وإلا برهن أنه ليس إله محبة. ولكن اختبارات الحياة كان يجب أن تعلِّم هؤلاء القوم شيئاً آخر. فالمغفرة الحقيقية، المغفرة بإخلاص، أي أن نغفر بحيث لا يبقى شيء من آثار الإساءة الحاصلة، هي أمر يتطلب عملاً مضنياً من جانبنا ويتضمن انتصاراً على الذات يصعب إحرازه. حقاً إن الشعور بالإساءة غالباً ما يكون غير مسوَّغ فينا، إذ تؤثر فينا أشياء ينبغي ألا تؤثر ونُجيز أشياء أخرى كان يجب أن تحزننا في العمق. وحقاً أن إحساسنا بالحق والكرامة لم يُبطَل ولكنه فسد ومال في اتجاه خاطئ. ورغم ذلك قد يحدث أن نستاء في الصميم من أمر أو آخر، ونشعر بامتهان كرامتنا وإهانة شخصنا واسمنا. فعندئذٍ يقتضي الأمر كثيراً من الجهاد لكي نـزيل من قلوبنا كلَّ أثرٍ للغضب ونسامح بإخلاص المسيء إلينا، نسامحه كلياً بحيث ننسى الإساءة ولا نعود نتذكرها البتة. فالغفران دائماً يفترض حصول انتهاك لحقٍ ما ويصحبه رفع العقوبة المستحقة أو الإعفاء منها.
هذا كله صحيح بالنسبة للبشر. غير أن الخطية والغفران كليهما يكتسبان مضموناً أثقل حينما تُقترف الخطية ضد الله ويتم الحصول على الغفران من لدنه. فإن لله أيضاً حقاً على البشر، حقاً في كل زمان ومكان وكل شيء، وذلك هو الحق بأن يعترف به البشر أنه الله ويخدموه ويكرموه كما يليق به. هذا الحق هو المبدأ والأساس لكل حق وكل قانون أو شريعة؛ فمن يمسّ هذا الحق يمسّ نظام الشريعة بكامله، أي كامل بنية العالم الأدبية من حيث أن أساسها وثباتها هما في الله. فأي من تتأتى له معرفة الخطية على هذا النحو، من ينظر إليها في ضوء كلمة الله المقدسة، من يعتبرها كما يعتبرها الله إلى حدٍّ ما، لابد أن ينحو مفهومُه لأهمية غفران الخطايا منح التغيير. إنسان كهذا لا يكاد يصدِّق مغفرة الخطايا، لأنها مضادة لطبيعة الأشياء على خطٍّ مستقيم. فهنالك، أولاً، قلبه الخاص الذي يدينه ويعلن مذنوبيته أمام وجه الله. وهنالك، ثانياً، الناموس الذي ينطق عليه باللعنة ويعتبره مستحقاً الموت. وهنالك أيضاً الشيطان الذي يشتكي عليه، وإذ يفعل ذلك يتذرع باستحقاق الإنسان للدينونة بحسب الشريعة. ثم إن هنالك الناس الذين يجعلونه يقف وحيداً في ضيقه ويتلون عليه خطاياه بإسهاب. وأخيراً، بين هذه كلها ووراءها، يدوّي في مسمعيه صوت برّ الله، مفتشاً عنه ومُطارداً له وقابضاً عليه وآتياً به إلى كرسيّ القضاء. فمن ذا يمكن أن يؤمن بالمغفرة الكاملة لجميع خطاياه، إذ يتأمل هذه الأمور ويختبرها؟
على أن كنيسة المسيح تجرؤ أن تؤمن بالغفران الكامل، إذ يمكنها ذلك ومن حقها أن تؤمن به. فهي باتضاعٍ وابتهاجٍ قلبيّ تعترف قائلة: أومن بمغفرة الخطايا. أومن بها، ولو كنت لا أستوعبها. أومن بها، ولو كان ضميري يتهمني بأني قد أخطأت خطايا فادحة ضد وصايا الله كلِّها، ولم أحفظ أياً منها، وبأني مُعرَّض بعد لكلِّ شرّ. وللكنيسة أساس راسخ حين تعترف بإيمانها هذا. فكلُّ من يلتمس غفران الخطايا خارج المسيح، يمكنه أن يتمناه ويرجوه، ولكن لا يقدر أن يؤمن به بإخلاص واقتناع. إنه يساويها بنوعٍ من التغاضي عن الخطية، وبذلك يسيئون تقدير خطورة الخطية وفداحتها. ولكن الإنجيل يفيدنا أن الله يغفر الخطايا، أنه يقدر أن يغفرها وهو يغفرها فعلاً، لأن حقوقه قد أدّاها المسيح كاملةً. ذلك أن واجب تقديس قداسة الله لا يجعل الغفران مستحيلاً، بل يُمهد له السبيل ويضمنه ويجعلنا نؤمن به إيماناً وطيداً مقروناً بثقة لا تتزعزع. وعليه، فإن غفران خطايانا كلِّها كاملٌ تماماً بحيث إن الكلمة المقدسة تتحدث عنه باعتباره نسياناً وطرحاً للخطايا وراء الظهر.[115] فالرب لا يُبصر إثماً في يعقوب، ولا يرى تعباً في إسرائيل (عد 23: 21).
هذا الغفران كان مشمولاً في مشورة الله وقد أُذيع علانية على الكنيسة كلِّها في قيامة المسيح (رو 4: 25). وهو مُعلَن عموماً في بشارة الإنجيل (أع 5: 31)، ويُعطى لكلِّ واحدٍ بمفرده، أي لكلِّ مؤمن. ولكن مع أن المؤمن حاصل على مغفرة جميع خطاياه، عليه دائماً، من يوم إلى يوم، أن يخصصها لنفسه بالإيمان لكي يتمتع بيقينيتها وعزائها. وكم يكون سهلاً علينا، لو استطعنا، أن نمضي في سبل الحياة بحسب ميول قلوبنا وموقفنا مبنيٌ على أساس الشعار "من تجدّد مرةً، تجدّد أبداً". وصحيح أن كثيرين يظلُّون يعيشون على ذكرى اختبارٍ مضى وهم قانعون بذلك. غير أن الحياة المسيحية ليست هكذا. فلا التبرير الذي في المسيح يسوع، ولا الإيمان الذي يغرسه فينا الروح القدس، هو مبلغ من رأس المال الجامد. إذ إننا، في نهاية المطاف، لا نصبح مشاركين في مغفرة الخطايا، مع ما يصحبها من يقين أكيد، إلا بأن نمارس الشركة مع المسيح نفسه ممارسة الإيمان الآيل إلى الخلاص. ومن هنا وضع المسيح الصلاة لأجل مغفرة الخطايا في أفواه تلاميذه (متى 6: 12). والاعتراف المتواضع بخطايانا هو الطريقة التي بواسطتها يُثبت الله أمانته وعدله، إذ يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم (1يو 1: 9). ولكي يجعلنا المسيح نشعر في قرارة نفوسنا، دائماً وباستمرار، بعِظم البركة الممنوحة لنا في غفران الخطايا، يضيف إلى طلب مغفرة الخطايا هذه الكلمات: "كما نغفر نحن أيضاً للمذنبين إلينا". هذه العبارة الإضافية لا تشكّل الأساس الذي عليه نتجاسر أن نطلب إلى الله أو يحق لنا أن نطلب إليه، إعفاءنا من عقوبة خطايانا. وليست هذه العبارة هي المقياس الذي بموجبه نطلب إلى الله أن يقيس، بل إنها بالأحرى تصف الموقف الذي ينبغي أن يكون عليه المصلّي كي يتمتع ببركة الغفران ويقدِّرها حقها. عندئذٍ فقط ندرك إلى حدٍّ ما، بمنطقنا البشري، ماذا كلَّف الله منحُنا غفران الخطايا في المسيح. فعندما نستأصل من قلوبنا كلَّ عداءٍ ونغفر لجميع المسيئين إلينا جميع إساءاتهم، عندئذ فقط نقدّر قيمة ما فعله الله لنا. ومن هنا نستطيع أن نصلي لأجل هذه البركة العظيمة والفائقة الثمن، بحرارة ورغبة قلبية صادقة، فقط عندما نكون ميّالين من صميم القلب إلى مسامحة القريب. حقاً أن غفران الخطايا قد تمّ عند الله مرةً واحدة وعلى نحوٍ كامل، إلا أنه يعطي لنا، ونخصصه لأنفسنا طيلة حياتنا، بالإيمان والتوبة. وإن في العشاء الربّاني أيضاً بيّنة على ذلك، إذ إننا فيه نُذَكَّر مرة بعد مرة أن المسيح قد بذل جسده وسفك دمه لأجل مغفرة الخطايا (مت 26: 28).
أما الوجه الآخر من بركة مغفرة الخطايا هذه فهو الحقُّ بالحياة الأبدية. وإذ يتكلم يوحنا عن هذه الحياة يقصد على الخصوص الحياة الجديدة المولودة من الله والمغروسة فينا بالروح القدس (يو 1: 13؛ 3: 5). فالصيرورة أولاداً لله، هذه التي يتكلم عنها تنتج من الولادة الجديدة، وقوامها أساساً تحويل الإنسان ليصير أهلاً للشركة مع الله (يو 1: 13؛ 1يو 1: 1 - 3). ولكن بولس، يتكلم عادةً، عن كوننا أولاد الله بمعنىً آخر. فهو يعني بذلك أن الله، على أساس برِّ المسيح، يقبلنا أولاداً له وورثة.
كانت الأسر الرومانية تتميز إحداها عن الأخرى تميّزاً واضحاً. فقد كان لكلِّ عائلةٍ امتيازاتُها الخاصة وحقوقها، وممارساتها الدينية أيضاً على الخصوص. ومن هنا إن الولد لم يكن يقدر على الانتقال من أسرة إلى أخرى إلا عن طريق معاملة قضائية شرعية بموجبها يعمد الوالد الفعلي، إن جاز التعبير، إلى بيع ابنه للوالد الآخر الراغب في قبوله ابناً له. وفي حال وفاة الوالد الفعلي قبل إجراء ذلك، لا يمكن إتمام الانتقال إلا بإعلانٍ رسمي في جلسة عامة يحضرها المعنيون. بهذه الطريقة وحدها كان يمكن إعفاء الولد من واجباته في الأسرة الواحدة وإخضاعه لواجباته في الأسرة الأخرى.
فالمرجح أن الرسول بولس يستعير مفهومه لتبنّي الأولاد من هذه الممارسة، وبذلك يوضّح العلاقة الجديدة التي فيها يقوم المؤمن تجاه الله. وقد كان مثل هذا التبنّي، في العهد القديم، من نصيب بني إسرائيل (رو 9: 4)، ولذلك دُعي هذا الشعب غير مرة ابناً لله.[116] غير أن هذا التبنّي، بمعناه الأوفى هو من بركات العهد الجديد، لأن المؤمنين في العهد القديم كانوا قصراً تحت وصاية الناموس (غل 3: 23؛ 4: 1 - 3). أما الآن، فقد جاء المسيح في ملء الزمان، ووضع نفسه تحت الناموس حاملاً لعنته، لكي يتمَّ الفداء للذين هم تحت الناموس ولكي ننال التبنّي (غل 4: 4، 5). فالمسيح اشترى لنا بموته الحرية من العبودية للناموس والخطية، بحيث أننا الآن ننتمي إلى آخر، وتحديداً إلى الذي أُقيم من بين الأموات (رو 7: 1 - 4)، وقد قبلنا الله أبناءً له وورثة (غل 4: 7). وبما أننا هكذا، فقد نلنا أيضاً روح ابن الله، روح التبنّي، الروح الخاص بهذا الميراث. وبواسطة هذا الروح صرنا مدركين بنويتنا، ولنا جرأة لمخاطبة الله بوصفه أبانا، ونحصل دائماً على القيادة والإرشاد (رو 8: 14 – 16؛ غل 4: 6). وبالحقيقة، فكما أن هذا التبنّي بصفة الأولاد متأصلٌ في خطة الله الأزلية (أف 1: 5) هكذا أيضاً هو ممتدّ بعيداً جداً نحو المستقبل المجيد. فمع أن المؤمنين هم الآن أولادٌ لله ولهم امتيازات الورثة كلُّها (رو 8: 17؛ غل 4: 7)، فإنهم رغم ذلك يشتركون مع الخليقة كلِّها في انتظار إعلان كونهم أبناء الله، أي فداء أجسادهم (رو 8: 18 - 23). فلا يبلغ التبنّي غايته إلا عند القيامة من بين الأموات، إذ يتمّ فداء الجسد أيضاً على نحوٍ كامل.
نجد في بركة التبرير بالإيمان وحده عزاءً كثيراً للمسيحي. فإن غفران خطاياه والرجاء بالمستقبل السعيد، ويقينية الخلاص الأبدي، لا تتعلق بدرجة القداسة التي أحرزها في الحياة، بل هي جميعاً متأصلة في نعمة الله وفي الفداء الذي بالمسيح يسوع. ولو كان لهذه البركات أن تستمدّ يقينيتها من أعمال المسيحي الصالحة، لكانت تظلُّ - حتى ساعة الموت – غير مؤكَّدة، لأنه حتى أقدس البشر لا تكون لديه إلا بداءة يسيرة من الطاعة الكاملة. ولكان المؤمنون، تبعاً لذلك، فريسةً للخوف والقلق دائماً، ولا يستطيعون أن يثبتوا في الحرية التي حررنا بها المسيح، وإذ لا يقوون مع ذلك على العيش بلا يقين يُضطرون لأن يلجأوا إلى التماس العون لدى الكنيسة والكاهن، وفي المذبح والقربان، والشعائر والممارسات الدينية. وهذه في الواقع حالُ آلاف المسيحيين داخل الكنيسة الكاثوليكية وخارجها. فهم لا يُدركون ما في التبرير المجاني بالنعمة من بهاءٍ وعزاء.
ولكن المؤمن الذي انفتحت عيناه على غنى هذه البركة، يرى الأمر على نحوٍ مختلف. فهو قد وصل إلى الإقرار متواضعاً بأن الأعمال الصالحة لا يمكن أن تكون أساساً للإيمان بل هي فقط ثمرٌ له، سواء كانت تلك أعمالاً فعلية خارجية أو تأثرات وجدانية مما تختبره النفس. وخلاصه ثابت خارج ذاته، في المسيح يسوع وبرِّه، ولذلك لا يمكن أن يتزعزع البتة. إن بيته مبنيّ على الصخر، ولذا يقوى على الصمود في وجه عنف الأمطار والسيول والرياح. وبطبيعة الحال، يمكن إساءة استخدام هذا الاعتراف، شأنه شأن سائر مواد الإيمان. فإذا ما اعتُبر الإيمان الذي يقبل المسيح وبرِّه أنه امتثالٌ عقلانيٌ لحقيقة تاريخية، فعندئذٍ يمكن أن يظلّ الكائن البشري واقفاً إزاءه في جمود وعدم مبالاة وموت. وإذ ذاك لا يُثمر أية أعمال صالحة من ذلك الإيمان، بل إنه في الحقيقة لا يقبل شخص المسيح معه. غير أن الإيمان الحقيقي الذي يجعل الكائن البشري يُحسّ هولَ الذنوب وطغيان الشعور بالذنب عليه إنما يقتاده إلى المسيح بالذات، وهذا الإيمان لا يتعلق إلا بنعمة الله وحدها، كما أنه يفتخر بغفران الخطايا المجاني، ومنذ تلك اللحظة يبدأ بإعطاء ثمر الأعمال الصالحة.
وبالحقيقة أن هذا الإيمان الذي يعتمد فقط على نعمة الله في المسيح، والمدرك بالتالي لغفران الخطايا، هو وحده الإيمان المساوي حقاً للعمل الصالح. فما دمنا نجعل غفران الخطايا مؤسَّسا بالكامل على التأثرات الوجدانية التي نختبرها وعلى الأعمال الصالحة التي نقوم بها، فلابد أن نظلَّ نعيش في خضمّ الخوف والهلع. عندئذٍ لا نكون قد صرنا أبناءً يقومون بأعمالهم بدافع من المحبة، بل نبقى عبيداً وأُجراء يقومون بها طمعاً بالأجر. وعندئذٍ أيضاً لا نعمل الأعمال الصالحة فقط لأنها صالحة، أي إكراماً لله، بل ما نـزال نعملها لأجل الربح الشخصي تقريباً، لكي نحرز بواسطتها الرِّضى والقبول لدى الله. غير أن الصورة كلَّها تتغير عندما ندرك بالإيمان أن خلاصنا يستقر بالذات في نعمة الله وبرِّ المسيح. عندئذ نُقلع عن التركيز على البرِّ الذاتي ولا نعود نُكلّف أنفسنا عناء العمل لإحراز خلاصنا الخاص، لأن ذلك كلَّه مضمون لنا في المسيح يسوع. وإذ نتيقن من هذا الخلاص في المسيح، نستطيع أن نعكف على القيام بالأعمال الصالحة لنمجد بها الله أبانا. إذ ذاك لا ننجزها لأجل أنفسنا، بل لأجل الرب. فنحن نخصّ مسيحاً أُقيم من بين الأموات لكي نثمر لله (رو 7: 4). وبالناموس قد مُتنا للناموس حتى نحيا لله (غل 2: 19). ومثل هذه الأعمال تكون لأول مرة أعمالاً صالحة حقاً ناتجة عن الإيمان وتتم بحسب مشيئة الله، وغايتُها تمجيدُه تعالى.
وتبعاً ذلك، فإن الحرية التي تصبح من نصيب المسيحي في التبرير تقوم في أنه قد تحرر من مطالب الناموس ولعنته. وليس المؤمن محرَّراً من الناموس بمعنى أنه يستطيع أن يعيش وفقاً لرغبات قلبه، وأنه - بلغة اليوم - يستطيع أن يعيش حياته مستجيباً لميول طبيعته الشريرة ونـزعاتها. ولكن للمؤمن، على نقيض ذلك، علاقته بالناموس تُعتبر أوثق جداً من ذي قبل، لأن الإيمان لا يُبطل الناموس بل يثبّته (رو 3: 31). فإن مطلب الناموس يتمُّ في الذين يسلكون ليس بحسب الجسد بل حسب الروح (رو 8: 4). وكيف يُعقل أن الذين ماتوا عن الخطية يعيشون بعدُ فيها؟ ولكن العلاقة التي تصير للمؤمن تجاه الناموس تختلف تماماً عن تلك التي كانت قائمةً من قبل. فهو يتمم وصايا الناموس بفضل قانون العرفان بالجميل؛ غير أنه مُعفى من حكم الناموس ولعنته.
وفي هذا المقام، يتمتع مؤمنو العهد الجديد في الواقع بامتياز مهم لم يكن لمؤمني العهد القديم مثله. ففي العهد القديم كانت غالباً ما تُوصف الديانة بـ"مخافة الله" وكان المؤمنون كثيراً ما يُلقبون بـ"عبيد الرب". صحيح أنهم أولاداً، لكنهم كانوا قاصرين، وبالتالي مثل العبيد الموضوعين تحت أوصياء ووكلاء إلى الوقت المحدَّد لدى الآب (غل 4: 1، 2؛ 3: 23، 24). ولكن لمّا جاء ملء الزمان، أرسل الله ابنه، مولوداً من امرأة، مولوداً تحت الناموس (غل 4: 4). وإذ أكمل المسيح بنفسه كل برٍّ نيابة عنا (مت 4: 15)، وبصيرورته لعنةً من أجلنا (غل 3: 13)، وقبوله أن يكون خطيةً لأجلنا (2كو 5: 21)، حررنا من لعنة الناموس ومطالبه، وقد أُدّي ذلك على الوجه الأكمل. وهكذا لم نَعُد عبيداً للناموس، بل بالناموس متنا للناموس، ونحن الآن عبيدٌ للمسيح، نحيا لله (رو 7: 1- 4؛ غل 2: 19). لسنا بعدُ تحت الناموس، بل تحت النعمة، ونحن ثابتون في الحرية التي حررنا بها المسيح (رو 6: 15؛ غل 5: 1). لم تعد بعد القاعدة لنا: "اعمل هذه فتحيا". بل انعكس الترتيب بالتمام: فإننا نحيا بالإيمان، ونحن نتصرف بما يوافق الناموس، لأننا نُسرّ به حسب الإنسان الباطن. وهكذا صار الناموس بلا تأثير عكسي بالنسبة إلى المؤمنين. لم يعد للناموس أن يضعهم في موضع، لأن المسيح قد حمل لعنته وتولى بنفسه تنفيذ حُكم الناموس فيه. ولم يعد بعد للناموس أن يدينهم لأن المسيح قد أخذ على نفسه لعنة الناموس وتحمَّل كلَّ قصاصها. حتى الشيطان لم يعد يستطيع أن يركن إلى الناموس ليشتكي على الإخوة، فمن ذا يشتكي على مختاري الله ما دام الله نفسه هو الذي يبررهم، والمسيح الذي مات، وهو الآن ممجَّد، يشفع فيهم في السماء؟
في الوقت نفسه عندما يحدث التغيير الذي أدخله التبرير على العلاقة بين المؤمنين والناموس، من حيث مطالبه ولعنته، يحدث أيضاً في الوقت عينه تغييرٌ في علاقتهم بكل شيء وبالعالم ككل. فعندما نتصالح مع الله، نتصالح أيضاً مع كلِّ شيء. وعندما تكون علاقتنا بالله صحيحة وسليمة، تصير علاقتنا بالعالم صحيحة وسليمة أيضاً. ذلك أن الفداء الذي في المسيح هو فداءٌ من مذنوبية الخطية وقصاصها، ولكنه أيضاً افتداءٌ لنا من العالم الذي يحاصرنا ويضايقنا. نحن نعلم أن الله أحب العالم، وأن المسيح قد غلب العالم. يستطيع العالم أن يُضايقنا بعد، ولكنَّه لا يقدر أن يسلبنا ثقتنا الوطيدة (يو 16: 33). والمؤمنون كأولاد للآب السماوي، لا يقلقون من جهة ما يأكلون وما يشربون وما يلبسون، لأنه يعلم أنهم يحتاجون إلى هذه كلِّها (مت 6: 25 وما يلي). وهم لا يكنـزون كنوزاً على الأرض، بل إن لهم كنـزهم في السماء حيث لا يُفِسد سوسٌ ولا صدأ، وحيث لا ينقب سارقون ولا يسرقون (مت 6: 19، 20). يظهرون كمجهولين لكنهم معروفون، كمائتين لكنهم أحياء، كمؤدبين لكنهم غير مقتولين، كحزانى لكنهم دائماً فَرِحون، كأن لا شيء لهم لكنهم يملكون كل شيء (2كو 6: 9، 10). وهم لا يعذبون أنفسهم بالنواهي "لا تَذُقْ، لا تمس"، بل يعتبرون خليقة الله كلَّها صالحة ويقبلونها بالشكر (كو 2: 20؛ 1تي 4: 4). وهم يبقون ويعملون في الدعوة التي دُعوا فيها، وليسوا عبيداً للناس بل للمسيح وحده (1كو 7: 20 - 24). ويَرَون في التجارب التي تُلِمُّ بهم تأديباً لا عقاباً من الله وعلامة على محبته (عب 12: 5 - 8). وهم أحرارٌ تجاه جميع الخلائق لأن لا شيء يمكن أن يفصلهم عن محبة الله التي هي في المسيح يسوع ربهم (رو 8: 35، 39). وبالحقيقة، كلُّ شيء لهم لأنهم هم للمسيح (1كو 3: 21 - 23)، إن كل الأشياء تعمل معاً للذين يُحبون الله والذي هم مدعوون حسب قصده (رو 8: 28).
إن المؤمن الذي برَّره المسيح هو المخلوق الأكثر حريةً في العالم - وعلى الأقل، هكذا ينبغي أن تكون الحال.
[55]- مي 6: 8؛ عا 5: 14، 15؛ إش 1: 16، 17.
[56]- تث 1: 17؛ لا 19: 15؛ أم 24: 23.
[57]- تث 16: 19؛ خر 23: 8؛ إش 5: 23.
[58]- خر 23: 6، 9؛ مز 82: 2 – 4؛ إش 1: 12.
[59]- تث 16: 19؛ 25: 1.
[60]- أم 17: 15، 26؛ 18: 5؛ 24: 24.
[61]- مز 11: 7؛ 33: 5؛ 99: 4؛ إر 9: 23.
[62]- مز 48: 11؛ 89: 14؛ 97: 2.
[63]- تث 10: 17؛ 2أخ 19: 7.
[64]- أي 34: 19.
[65]- 1صم 16: 6؛ 1أخ 28: 8.
[66]- مز 7: 10؛ إر 11: 20؛ 20: 12.
[67]- مز 9: 8؛ 96: 13؛ 98: 9.
[68]- إش 5: 16.
[69]- أي14: 4 ؛25: 4 – 6؛ مز51: 7؛ مز14: 3.
[70]- 1مل 8: 46؛ أم 20: 9؛ جا 7: 20.
[71]- مز 130: 3؛ 143: 2.
[72]- أي 1: 1، 7؛ 2: 3.
[73]- مز 1: 5؛ 14: 5؛ 32: 11؛ 33: 1؛ 34: 16؛ ومواضع أخرى.
[74]- أم 2: 20 – 22؛ 3: 33؛ 4: 18؛ 10: 3؛ ومواضع غيرها.
[75]- 1مل 19: 18؛ إش 1: 8، 9؛ 4: 3؛ 6: 5.
[76]- حز 3: 18 وما يلي؛ 18: 5 وما يلي؛ 33: 8 وما يلي.
[77]- إش 59: 16 – 18؛ إر 11: 20؛ 20: 12؛ مز 7: 12؛ 9: 5، 6؛ 28: 4؛ 129: 4.
[78]- مز 7: 9؛ 17: 1؛ 18: 20 – 25؛ 24: 4 – 6؛ 26: 1؛ 37: 18 آيات أخر.
[79]- مز 103: 6؛ 140: 13؛ 146: 7.
[80]- إش 49: 25؛ 51: 22؛ إر 50: 34؛ 51: 36؛ مي 7: 9.
[81]- إش 45: 23؛ 51: 5؛ 52: 10؛ 45: 14.
[82]- إش 45: 24، 25؛ 54: 17.
[83]- مز 33: 5؛ 40: 11؛ 51: 16؛ 89: 15؛ 103: 17؛ 143: 11؛ إر 9: 24؛ هو 2: 18.
[84]- قض 5: 11؛ 1صم 12: 7؛ مي 6: 5.
[85]- مز 7: 17؛ 22: 31؛ 35: 28؛ 40: 10؛ 51: 16؛ 71: 15 ومواضع أخرى.
[86]- إش 1: 11؛ 66: 2، 3؛ إر 6: 20؛ هو 6: 6؛ عا 5: 21؛ مي 6: 6 – 8؛ أم 15: 8؛ 21: 27؛ ومواضع أخرى.
[87]- مز 7: 9؛ 18: 21؛ 26: 1؛ 102: 2 وآيات أخر.
[88]- أي 27: 2؛ مز 17: 2؛ 26: 1؛ 35: 24؛ 43: 1؛ إش 40: 27؛ وغيرهن.
[89]- إش 53: 4 – 6؛ 59: 12؛ 64: 6.
[90]- عا 3: 2؛ مرا 1: 18؛ عز: 9: 6؛ نح 9: 33؛ دا 9: 14 ومواضع أخرى.
[91]- مز 7: 9، 10؛ 17: 3؛ 18: 21 – 25.
[92]- مز 33: 12؛ 95: 7؛ 100: 3.
[93]- مز 25: 11؛ 31: 3؛ 79: 9؛ 106: 8؛ 109: 21؛ 143: 11؛ إش 49: 9، 11؛ إر 14: 7، 21؛ حز 20: 9، 14، 22، 44؛ دا 9: 19 وشواهد أخرى.
[94]- مز 105: 8؛ 111: 5؛ إش 54: 10.
[95]- خر 2: 24؛ قض 2: 1؛ إش 37: 20.
[96]- إش 45: 24، 25؛ 46: 13؛ 54: 17.
[97]- إش 62: 2؛ إر 23: 6؛ 33: 16.
[98]- مت 9: 2؛ 10: 7، 8؛ 11: 5؛ 12: 28.
[99]- مت 5: 20. قارن مت 7: 21؛ 1كو 6: 10؛ غل 3: 18، 21؛ أف 5: 5؛ رؤ 22: 14.
[100]- مت 11: 27؛ يو 3: 35؛ 13: 3؛ 16: 15.
[101]- رو 5: 20؛ 7: 8؛ غل 3: 19.
[102]- أع 13: 39؛ رو 3: 20، 28؛ 8: 3، 8؛ غل 2: 16؛ 3: 11.
[103]- رو 1: 18؛ أف 5: 6؛ كو 3: 6.
[104]- تث 25: 1؛ مز 82: 2؛ أم 17: 15؛ إش 5: 23.
[105]- غل 3: 22؛ رو 3: 9؛ 11: 32.
[106]- رو 3: 21؛ 4: 2 – 6؛ 9: 32؛ 10: 3؛ في 3: 9.
[107]- رو 1: 17؛ 3: 5، 21 و 22، 25 و 6؛ 10: 3.
[108]- في 3: 9؛ 2تي 1: 9؛ تي 3: 5.
[109]- تك 18: 25؛ مز 47: 3، 8؛ إش 33: 22؛ عب 4: 12؛ يع 4: 12.
[110]- تث 25: 1؛ مز 82: 2، 3؛ أم 17: 15؛ 24: 24؛ إش 5: 23.
[111]- تك 18: 25؛ خر 23: 6؛ 2أخ 6: 23.
[112]- تك 15: 6؛ رو 4: 3، 5، 9، 22؛ غل 3: 6.
[113]- رو 3: 20 – 28؛ 4: 4 وما يلي؛ غل 2: 16؛ 3: 11.
[114]- مت 9: 2؛ رو 4: 7، أف 4: 32.
[115]- إش 38: 17؛ 43: 25؛ عب 8: 12
[116]- خر 4: 22، 23؛ تث 8: 5؛ هو 11: 1؛ ومواضع أخرى.
- عدد الزيارات: 7947