Skip to main content

الفصل الثالث: عمل المسيح في اتضاعه

إن التجسد الإلهي هو بداية ومقدمة لعمل المسيح على الأرض. هذا حق ولكنه لا يتضمن كامل معنى هذا العمل، وحري بنا أن نحاول إدراك فهم صحيح لهذا الأمر وتكوين فكرة صائبة عنه، لأن قوماً يعتقدون أن اتخاذ الطبيعة الإنسانية بحد ذاته يكمل إلى التمام المصالحة والاتحاد بين الله والإنسان. فانطلاقاً من الفكرة القائلة بأن الدين هو ذاك النوع من الشركة بين الله والإنسان حيث يحتاج كل منهما إلى الآخر، ويجادلون بأن هذه الشركة التي فصمت الخطية عراها، أو أنها غير المتاحة للإنسان على المستوى الحسي الأدنى، قد تم التعبير عنها وتحققت لأول مرة في التاريخ على يد المسيح. ومن ثم فإن فرادة المسيحية قائمة في حقيقة كون الدين المنغرسة في الطبيعة البشرية، كغريزة ونواة، قد أحرزت تحقيقها في شخص المسيح.

حقاً إنه لشرف عظيم للبشرية أن يكون ابن الله الوحيد، الكائن في صورة الله وفي حضن الآب، قد اتخذ هيئة إنسان. إذ بهذا الأمر أصبح المسيح مرتبطاً بجميع البشر في اللحم والدم، وصارت له مشاركة معهم في النفس والجسد، والعقل والقلب، والذهن والإرادة، والأفكار والمشاعر. والمسيح، بهذا المعنى الطبيعي، هو أخ لنا جميعاً، لحمٌ من لحمنا وعظم من عظامنا. غير أن هذا الشبه الطبيعي والمادي، بالرغم من أهميته، لا ينبغي أن يشابه الشركة الروحية الأدبية ولا أن يتدانى بها. فعلينا أن نذكر أنه بين الناس أيضاً يمكن أن يكون أفراد الأسرة الواحدة، والأقرباء عصباً؛ متباعدين بعضهم عن بعض جداً من الناحية الروحية، بل مناقضين تماماً أحدهما للآخر أيضاً. وقد قال المسيح نفسه أنه جاء إلى الأرض ليُفرق الإنسان عن أبيه. والابنة عن أمها، والكنة عن حماتها، وإن أعداء الإنسان أهل بيته (متى 35:10، 36). فالنسب الطبيعي من سلالة ما لا يفيدنا شيئاً في العلاقة الروحية. وغالباً ما تكون قرابة الدم وشركة الروح على طرفي نقيض.

وعليه، فلو لم يعمل المسيح شيئاً سوى اتخاذ الطبيعة الإنسانية، معبراً بذلك عن اتحاد الله بالإنسان، لكان خارج نطاق إدراكنا تماماً كيف يمكن أن ندخل في شركة معه ونتصالح مع الله. بالأحرى – باتخاذ طبيعة بشرية منـزهة عن الخطية وبعيشه في شركة مع الله غير منفصلة – أحدث بيننا مزيداً من التباعد بجعلنا نتردى في هوّة شعورنا باليأس والعجز، مادمنا نحن الخلائق الضعفاء الخطاة لا نستطيع البتة أن نقتدي بمثاله الرفيع بأيّة حال. وعليه فإن تجسد ابن الله، دون أي شيء آخر بعده، لا يمكن أن يكون هو عمل المصالحة والفداء. ذلك أنه بداءة هذا العمل، والإعداد له، واستهلاله، لكنه ليس هو ذاك العمل بعينه.

فإنه لو كان التجسد بحد ذاته قد أتمَّ المصالحة مع الله واتحاد الله والإنسان، لما كان من داعٍ لأن يعيش الربّ يسوع وعلى الأخص لأن يموت. إذاً لكان يكفي، سواء من طريق الحبل والولادة أو عن أي طريق آخر، أن يتخذ المسيح طبيعة إنسانية، وأن يجول على الأرض زماناً يسير، ثم يعود إلى السماء؛ ولما كانت الحاجة إلى اتضاع المسيح الكامل والعميق.

غير أن الكلمة المقدسة تُعلّمنا شيئاً مختلفاً تماماً. فهي تخبرنا أن ابن الله لم يصر إنساناً فقط فشابهنا في كل شيء ما خلا الخطية، بل أنه أيضاً اتخذ صورة العبد، ووضع نفسه، وأطاع حتى الموت، موت الصليب (فيلبي 7:2، 8). وكان يليق به أن يتمّم كلّ برّ (مت 15:3)، وأن يكمل بالآلام (عب 10:2). ولم يكن ذلك لائقاً ومناسباً فقط، بل كان يجب أن يكون. فمكتوب أنه ينبغي أن يتألم المسيح ويموت وفي اليوم الثلاث يقوم من بين الأموات (لو 46:24 ؛ 1كو 3:15 – 5). وقد أرسله الآب ليتمم عمله على الأرض (يو 34:4)، بل أعطاه وصية بأن يبذل حياته ثم يستعيدها (يو 18:10). ولذلك كان كل ما اختبره المسيح تنفيذاً لكل ما سبقت يد الله ومشورته فعيّنتا أن يكون (أع 23:2 ؛ 28:4). وعلى الصليب استطاع المسيح أن يقول أول مرة إن كل شيء قد أُكمل وإنه أتمّ كل ما أعطاه الآب ليعمله (يو 4:17 ؛ 40:19). ومع أن الأناجيل تصف باختصار نسبي حياة الربّ يسوع، فإنها تروي بالتفصيل خبر آلامه وموته. وهكذا أيضاً قلما تعود الكرازة الرسولية إلى الحبل بيسوع وولادته، فيما تشدد كل التشديد على صلب المسيح وموته ودمه. ونحن مُصالحون مع الله لا بولادة ابنه بل بموته 0رو 10:5).

بفضل نظرة الكلمة المقدسة هذه يضفى على حياة المسيح بكاملها أهمية فريدة وقيمة فائقة بالنسبة إلينا. فالعمل الذي أعطاه الآب ليعمله هو عمل كامل وتام، يمكن النظر إليه من عدة جهات ومقاربته من جوانب شتى؛ وعلى هذا النحو ينبغي لنا أن ننظر إليه ونقاربه إذا شئنا الإطلاع الوافي على مضمونه ومداه. إنما لا ينبغي علينا أن ننسى البتة أنه عمل واحد. فهو يشمل ويشغل حياة المسيح كلها، من الحبل به إلى موته على الصليب. وكما أن شخص المسيح واحد على تباين طبيعتيه، فكذلك عمله أيضاً هو واحد. إنه بالدرجة الأولى عمل الله على الأرض. فبالنظر إلى الماضي، هو عمل مرتبط بمشورة الله وعمله السابق، مع ما تضمنه من إعلان لبني إسرائيل وهداية للشعوب. وبالنظر إلى المستقبل، ما يزال العمل مستمراً على صورة معدلة في ما يقوم به المسيح حتى الآن في ارتفاعه. فهو عمل نقطته المركزية في الزمن على هذه الأرض، لكنه طالع من الأزل حيث جذوره، وممتدة إلى الأبدية.

منذ أقدم الأزمنة كان عمل المسيح هذا الواحد متضمناً في عقيدة الوظائف الثلاث. وبفضل كالفن على الخصوص تيسر هذا الأسلوب في معالجة عمل المسيح أن يشق طريقه إلى عقيدة الخلاص. على أنه قد أُثير عليه اعتراض تلو الآخر، ولاسيما لأن هذا الرأي قد دُفع إلى أقصى حدوده بحيث قيل أن الوظائف الثلاث في حياة المسيح ينبغي ألا تميز إحداها من الأخرى وإن نشاطاتها متداخلة. إلا أن هذه النظرة يمكن أن تُثار ضد إساءة فهم الوظائف الثلاث، وليس ضد هذا التصنيف بالذات.

إذ قيل أن المسيح شغل هذه الوظائف الثلاث، أي النبوة والكهنوت والملك، كما لو كانت الواحدة منها إلى جانب الأخرى على نحو مستقل، أو إنه شغل واحدة بعد الأخرى على التوالي، فتصنيف كهذا يجزئ عمل المسيح إنما هو مغلوط فعلاً. صحيح أن وظيفة من وظائف المسيح هذه تبرز إلى المقدمة حيناً، ثم تبرز الأخرى حيناً آخر، ولكنه كان في كل زمان ومكان منهمكاً في جميع الوظائف الثلاث معاً. ولا عبرة لما يقال مثلاً من أن خدمته العلنية تذكر بوظيفته النبوية، كما تذكر آلامه وموته بوظيفته الكهنوتية، وارتفاعه إلى يمين الآب بوظيفته الملكية. فإنه لما تكلم أعلن كلمة الله بوصفه نبياً، لكنه في الوقت نفسه أظهر رحمته الكهنوتية وقدرته الملكية، لأنه بكلمته شفى المرضى وغفر الخطايا وهدأ العاصفة. وقد كان هو ملك الحق. فكانت عجائبه آيات على إرساليته الإلهية وصدق كلامه، لكنها كانت في الوقت نفسه إعلاناً لعطفه على الذين يقاسون كل أنواع العناء، والسلطان على المرض والموت وقوة الشيطان. وكان موته وضع الختم على حياته، لكنه أيضاً كان قربان طاعة كاملة – وفعل إرادة ذا سلطان – في تقديم الحياة وبعبارة موجزة، فإن لظهور المسيح وكلمته وعمله كلها خصائص نبوية وكهنوتية وملكية في وقت واحد.

أما وقد رأينا هذه الحقيقة في الطليعة ينبغي لنا أن نتقدم للنظر في شخص المسيح وعمله من زاوية كل واحدة من هذه الوظائف الثلاث. فلهذه الطريقة حسنات تفوتنا إذا انتهجنا سواها.

ففي المقام الأول، تُشدد هذه المعالجة على الحقيقة الكامنة في كون مجيء المسيح، بل في الواقع كامل حياته على الأرض، ممارسةً وتنفيذاً لوظيفة عيّنها له الآب. ففي ما يتعلق بالربّ يسوع، لا يمكننا التحدث عن اختياره لنفسه مهنةً أو عملاً أو حتى دعوةً خلقية. إذ أنه بحسب الكلمة المقدسة تعيّن في وظيفة خاصة. وهنا يكمن الفرق بين الوظيفة والمهنة أو العمل: فالمرء لا يستطيع أن يختارها بل يتلقاها فقط بالتكليف من قِبل سلطة أعلى منه.

صحيح أنه يختلف عن موسى من هذا القبيل في أنه بصفته ابناً على بيته الخاص، لا خادماً، كان أميناً اتجاه الآب في كل شيء (عب 5:3، 6). لكنه كان أميناً أيضاً للذي عينه رسولاً ورئيس كهنة في الإيمان الذي نعترف به (عب 2:3). وهو لم يأخذ بنفسه هذه الوظيفة الشريفة، أي مقام رئيس الكهنة، بل إن الله نفسه مجده هكذا، قائلاً له: "أنت ابني الحبيب؛ أنا اليوم ولدتك" (عب 5:5). ووفقاً لهذا يشدد المسيح كلياً في كل حين على حقيقة كون الآب قد أرسله، وعلى أن طعامه هو أن يفعل مشيئة الآب، وأنه قبل من الآب وصية بشأن ما سوف يفعله ويقوله، وأنه أكمل عمل الآب على الأرض، وما شابه ذلك.

وبديهي أن هذا التعيين للوظيفة قد تم قبل الوقت الذي صار فيه المسيح إنساناً. فالكتاب المقدس لا يُعلّم فقط أن المسيح كان عند الله في البدء وأنه كان هو الله، بل يقول أيضاً صراحةً في عبرانيين 5:10 – 7 إنه عند دخوله للعالم قال: ذبيحةً وقرباناً لم ترد، ولكن هيأت لي جسداً (وذلك لأجل إتمام مشيئة الله بتقديم هذا الجسد للموت)؛ بمحرقات وذبائح للخطية لم تسر. ثم قلت: هأنذا أجيء... لأفعل مشيئتك يا الله. فالدخول إلى العالم، أو التجسد، إنما كان يخص إذاً تنفيذ العمل الذي ألقاه الله على المسيح كي يفعله. ذلك أن التكليف سابق للتجسد، وهو لم يحدث في الزمن بل كان قائماً منذ الأزل.

لذلك يُقال في مواضع أخرى إن المسيح كان معروفاً سابقاً قبل تأسيس العالم (1بط 20:1)، وإن الاختيار قد تم والنعمة قد أُعطيت لنا في المسيح قبل إنشاء العالم (أف 4:2 ؛ 2تي 9:1)، وإن سفر الحياة مفتوح أمام وجه الله من قبل تأسيس العالم هو للخروف المذبوح (رؤ 8:13 ؛ 8:17). والتفكير في عمل المسيح باعتباره ممارسة لوظيفة هو ربط لذلك العمل بالمشورة الأزلية. وقد أُطلق عليه اسم المسيح، أي الممسوح، لأن الآب عينه في الأزل، ثم مسحه في الزمن بالروح القدس.

وفي المقام الثاني، تحتوي الوظائف الثلاث التي أُوكلت إلى المسيح على ما يشير إلى دعوة الإنسان وغايته الأصليتين. فليس أمراً اعتراضياً أو اعتباطياً على الإطلاق أن يُعيّن المسيح في الوظائف الثلاث بالتحديد، نبياً وكاهناً وملكاً، وليس في وظائف أخرى أو إضافية. بل إن ذلك المؤسس بالأحرى على قصد الله للجنس البشري، وعلى الطبيعة البشرية بالتالي. فقد خُلق آدم على صورة الله في المعرفة والبر والقداسة، لكي يعلن كلام الله كنبي، ويملك على المخلوقات كملك، ويكرس ككاهن نفسه وكل ما له لله كتقدمة مرضية. وأُعطي آدم عقلاً كي يعرف، ويداً كي يملك، وقلباً كي يحيط بكل شيء في المحبة. فإن الغاية والقصد من الإنسان يتحققان في كشفه عن صورة الله، وفي تطويره المتناغم لكل مواهبه وقدراته، وفي ممارسته للوظائف الثلاث كنبي وكاهن وملك. ولكن الإنسان انتهك هذه الدعوة العليا. ولهذا السبب جاء المسيح إلى الأرض: ليُظهر من جديد صورة الإنسان ويحقق القصد منه إلى التمام. فعقيدة الوظائف الثلاث تُرسي ارتباطاً راسخاً بين الطبيعة والنعمة، والخلق والفداء، المسيح وآدم. ذلك أن آدم الأول مثال لآدم الأخير وسابق له ومنبئ به، أما الأخير فهو قسيم الأول ومكمله.

وفي المقام الثلاث، ترتبط عقيدة الوظائف الثلاث مباشرةً مع إعلان العهد القديم. فلما صارت البشرية الساقطة في آدم فاسدة أكثر فأكثر، اختار الله شعباً معيناً خاصةً له. وفي ما يتعلق في تلك الدعوة تلقى شعب العهد القديم أيضاً، بوصفه شعباً، مهمة تجمع النبوة والكهنوت والملك. فكان واجباً أن يكون ذلك الشعب مملكة كهنة وأمة مقدسة للرب (خر 6:19). ولكن هذه المهمة عُهد بها، بمعنى خاص، إلى الرجال الذين دعاهم الله من ذلك الشعب ليكونوا أنبياء وكهنة وملوك. ومع أن ذلك الشعب بجملته كان يصحّ أن يُدعى "مسيح الرب"، فإن هذه التسمية كانت موافقة على الخصوص للأنبياء والكهنة والملوك. غير أن جميع هؤلاء الرجال كانوا خطاة، فلم يستطيعوا بالتالي أن يقوموا بوظائفهم حق القيام. شأنهم شأن الشعب ككل أشاروا بعيداً عن أنفسهم إلى شخص آخر سيكون ملكاً وكاهناً ونبياً في الوقت الواحد عينه، وسيدعى "مسيح الرب" بمعنى فريد (إش 1:16). ففي المسيح يتحقق إعلان العهد القديم كله، إذ أنه التقسيم المتمم للشعب كله ولجميع أنبيائه وكهنته وملوكه. وهو بالحقيقة ذاك الذي فيهم وبهم يشهد لنفسه ويمهد لمجيئه (1بط 11:1).

وفي المقام الأخير، لا يفهم عمل المسيح حق الفهم ما لم يتم تناوله بالنظر إلى الوظائف الثلاث. فطالما شهدت الكنيسة المسيحية اتجاهات أحادية رأت فيه النبي فقط، على غرار العقلانيين؛ أو شغلتها آلامه الكهنوتية وحسب على غرار المتصوفة؛ أو لم تجد فيه إلا ملكاً، على غرار الألفيين. ولكننا نحتاج إلى مسيح يجمع في ذاته هذه الثلاث معاً. فنحن في حاجة إلى نبي يعلن لنا الله، وكاهن يصالحنا مع الله، وملك يحكم ويحمينا باسم الله. وينبغي أن تُستعاد صورة الله في الإنسان كاملة، لا المعرفة وحدها، بل القداسة والبر أيضاً. ولا بد من خلاص الإنسان كله، من حيث النفس والجسد، ومن حيث الرأس والقلب واليد. إننا نحتاج إلى مخلص يفتدينا إلى التمام والكمال ويحقق فينا القصد الأصلي من وجودنا أكمل تحقيق. وهذا كله يفعله المسيح. فلأنه هو نفسه نبي وكاهن وملك، فهو يجعلنا بالتالي أنبياء وكهنة وملوكاً لله أبيه (رؤ 6:1).

ومع أن المسيح قد مُسح منذ الأزل، ومع أنه كان ناشطاً على نحو استهلالي في أيام العهد القديم بوصفه وسيط عهد النعمة، فإنه اتخذ لنفسه –كلياً وعملياً أول مرة – وظائف النبي والكاهن والملك لما دخل إلى العالم قائلاً: هأنذا أجيء لأفعل مشيئتك يا الله. فعندئذ اتخذ لأول مرة تلك الطبيعة الإنسانية التي أعدته للقيام بعمل الوسيط. إذ كان ينبغي أن يصير إنساناً ليعلن اسم الله للبشر، وليتمكن من أن يتألم ويموت على الصليب، ويكون شاهداً للحق باعتباره ملك الحق.

لذلك كان الحبل بالمسيح من الروح القدس هو في ذات الوقت إعداداً مبدئياً لطبيعة المسيح الإنسانية لأجل العمل الذي يُدعى إليه في ما بعد. وقد أُثيرت في عصرنا اعتراضات شتى على الاعتراف بأن المسيح حُبل به بالروح القدس وولد من العذراء مريم، كما بُذلت عدة جهود لتعليل ما جاء في إنجيلي متى ولوقا في شأن ذلك باعتباره تحريفاً يهودياً ووثنياً لنص الإنجيل الأصلي. ولكن النتيجة التي آلت إليها حقيقة هذا الأمر التاريخي أنها ثبتت ورسخت أكثر من ذي قبل. فلا يمكن أن يكون ذلك مستمداً من عند اليهود والوثنيين. إذ أنه خبر تاريخي صريح مؤسس على شهادة يوسف ومريم نفسيهما كما هو واضح أيضاً من اللغة التي ورد بها. وبالطبع، انقضت فترة غير قصيرة وخبر هذا الحبل المعجزي معروف فقط لدى يوسف ومريم، وربما أيضاً عند عدد قليل من الأصدقاء الأوفياء. فلم يكن مثل هذا الخبر بطبيعة الحال، أمراً معداً للتداول العلني.

ولكن فيما بعد، عندما اتضح من هو المسيح وما هو، من أفعاله وأقواله، ومن قيامته أيضاً بصورة خاصة، عندئذ فقط خطت مريم خطوة إعلان سر الحبل المعجزي بيسوع لحلقة التلاميذ الصغيرة. غير أن هذا الحبل من الروح القدس لم يبرز – ولو بعد ذلك – إلى مقدمة موضوعات الكرازة الرسولية. ربما كان مفترضاً ضمنياً في مواضع، إلا أنه غير مذكور صراحةً إلا في متى ولوقا. ومع ذلك، فإن هذا الأمر هو عنصر جوهري من مقومات الإنجيل، وهو يتوافق كلياً مع كامل العقيدة المختصة بشخص المسيح كما تعلّم بها كلمة الله المقدسة. فلنذكر أنه هو الابن الوحيد الذي، من حيث هو الكلمة، كان عند الله وكان هو الله من البدء، وهو نفسه كان فعّالاً عند الحبل به، وبعمل الروح القدس هيأ لنفسه طبيعة بشرية في أحشاء مريم (في 6:2، 7). وفيه تحققت نبوءة إشعياء (14:7 ؛ 6:9 ؛ قارن أيضاً متى 25:1) بأن العذراء (امرأة صبية غير متزوجة) سوف تحبل وتلد ابناً وتدعوه عمانوئيل، وأنه سيدعى أيضاً عجيباً، مشيراً، إلهاً قديراً، أباً أبدياً، رئيس السلام.

وبهذا الحبل من الروح القدس، كانت طبيعة المسيح هذه الإنسانية – من أول أمرها – خالصة من كل خطية بشرية. فلما كان ابن الله موجوداً قبل ذلك بصفته شخصاً، ولأن هذا الشخص لم يتّحد بكائن بشري موجود، بل هيأ لنفسه طبيعة بشرية في أحشاء مريم بعمل الروح القدس، فإن عهد الأعمال لم يكن ليشمله، ولم يكن يحمل أي إثم أصلي، ولا كان ممكناً أن يدنّسه أي تلوث بالخطية. أما التعليم القائل بأن مريم أيضاً حُبل بها بلا دنس، وبأنها عاشت في القداسة الكلية، فلا داعي له ولا مسوغ ولا أساس، بل إنه مناقض لما يقوله الكتاب المقدس عن مريم. لقد حظيت مريم بشرف رفيع، أسمى مما ناله الأنبياء والرسل. فهي المطوبة، المنعم عليها، المباركة في النساء، أم الرب (لو 42:1، 43). غير أنها هي نفسها كانت ككل ذي جسد، كالبشر جميعاً. والقدوس المولود منها (لو 35:1) لم يكن كذلك بفضل طهارة طبيعتها، بل بفضل عمل الروح القدس الخلاّق والمقدس في أحشائها.

ومع أن الطبيعة الإنسانية التي اتخذها المسيح من مريم كانت كلية القداسة، فقد كانت مع ذلك ذات طبيعة محاطة بالضعف البشري. وذلك مُعبر عنه في الكلمة المقدسة حيث تقول إن المسيح صار جسداً لا إنساناً فقط (يو 4:1)، وإنه أُرسل في شبه جسد الخطية (رو 3:8)، واتخذ صورة عبد (في 7:2)، وصار مثلنا في كل شيء ما خلا الخطية (عب 17:2 ؛ 15:4). وقد كان واجباً أن يتخذ المسيح مثل هذه الطبيعة البشرية الضعيفة لكي يُجرب، وكي يتعلم الطاعة مما تألم به، وليتمكن من أن يجاهد ويقدس ذاته بالجهاد، وليتعاطف معنا في ضعفنا ويكون رئيس كهنة رحيم وأمين – وبكلمة: كي يقدر أن يتألم ويموت. ورغم أنه كان كآدم قبل السقوط، من حيث كونه بلا خطيئة، فقد كان مختلفاً جداً عن آدم من عدة نواحٍ. فإن آدم خُلق راشداً في الحال، ولكن المسيح حُبل به في أحشاء مريم وولد طفلاً قاصراً. ولما جاء آدم كان كل شيء قد أُعد له، ولكن لما جاء المسيح إلى الأرض لم يعتد أحد به ولا كان له حتى مكان في المنـزل. وقد جاء آدم ليملك ويخضع الأرض كلها لسيطرته. أما المسيح فلم يأتي ليُخدم، بل ليَخدم ويبذل نفسه فدية عن كثيرين.

فلم يكن تجسد ابن الله إذاً مجرد تنازل بالنعمة، كما يحصل وهو في حال الارتفاع، بل كان في الوقت نفسه أيضاً عمل اتضاع عميق. وقد بدأ الاتضاع بالحبل ذاته، واستمر طوال حياة المسيح حتى موته ودفنه. فلم يكن المسيح بطلاً بشرياً، شعاره التفوق، يُذلل كل عقبة ثم يبلغ أخيراً ذروة شهرته. بل إنه – على نقيض ذلك – أمعن في الاتضاع أكثر فأكثر، مشتركاً معنا في المعاناة على نحو يتزايد أُلفة ومشاركة. والطريق النازل إلى هذه الأعماق تميزه درجات أو خطوات: الحبل، الولادة، العيشة الوضيعة في الناصرة، المعمودية والتجربة، المعارضة، الذم والاضطهاد، المعانات في جثسيماني، الحكم عليه أمام قيافا وبيلاطس، الصلب، الموت، الدفن. إنه طريق يتباعد دائماً عن بيته عند الآب، ويتقارب دائماً إلينا في مشاركتنا بالمعاناة والموت، إلى أن يطلق أخيراً – في أعمق أعماق آلامه – تلك الصرخة الملهوفة تعبيراً عن الشكوى من هجران الله له. وعندئذ يستطيع أيضاً أن يُطلق هتاف النصر: قد أُكمل!

تنتمي إلى هذا الاتضاع الظروف البسيطة وفضلاً عن الحبل والولادة، بولادة يسوع عند عنبر ببيت لحم، الاضطهاد الذي عاناه من قِبل هيرودس، والفرار إلى مصر قسراً مع وأبويه: وأيضاً الحياة الهادئة وغير العلنية التي قضاها في الناصرة أثناء سني حداثته. ولا تخبرنا الأناجيل بالكثير عن هذه، لأن الأناجيل لم يقصد بها قط أن تروي لنا "سيرة حياة يسوع" بالمعنى العصري، بل بالأحرى أن تعرّفنا بالمسيح من حيث كونه ابن الله ومخلص العالم والابن الوحيد عند الآب. وفي ضوء هذا القصد يكفينا القليل الذي يُقال لنا عن طفولة يسوع وصباه.

يفيدنا متّى أن يسوع، بعد عودته من مصر، مضى ليقيم في كنف أبويه في ناصرة الجليل (مت 23:2). هناك سبق أن سكنت أمه (لو 26:1)، وهناك أمضى هو سني حياته السابقة لخدمته العلنية بين بني إسرائيل (لو 39:2، 51 ؛ مر 9:1). ولم يتجه إلى كفرناحوم ويقيم فيها إلا بعد وقوفه في مجمع الناصرة ورفض مواطنيه له (لو 28:4 وما يليها؛ مت 13:4)، لكن اسم الناصري أُطلق عليه دائماً. وقد رأى متّى في ذلك إتماماً لنبوة العهد القديم (مت 23:2)، لا لعبارة معينة منها، بل للنبوة إجمالاً كما هي موجودة عند جميع الأنبياء، حيث يُشار بالتحديد إلى أن المسيح سيطلع من أصلٍ وديع ووضيع (إش 1:11) وأن النور سيشرق على الظلام الذي يعم جليل الأمم (إش 22:8، 1:9، 2).

نحن نعلم أن يسوع، في حياة الاعتزال التي عاشها في الناصرة عدة سنين، كان ولداً مطيعاً لأبويه (لو 51:2). كان الصبي يسوع ينمو جسمياً ويتقوى بالروح ويتقدم في النعمة عند الله والناس (لو 40:2، 52). ولما كان ابن اثني عشر سنة، صعد مع أبويه إلى أورشليم في عيد الفصح، ولسنا ندري هل كانت تلك أول مرة أو سبقتها أخرى (لو 41:2 وما يليها)، حيث أظهر – بأسئلته وأجوبته – حكمته في وسط المعلمين. وليس هذا فقط، بل إنه أظهر أيضاً لأبويه وعيه لدعوته، إذ أشار إلى أنه، بوصفه الابن، ينبغي أن يكون في ما لأبيه، أو يهتم ببيت أبيه (لو 49:2). وكان يوم السبت، حسب عادته، يذهب إلى المجمع (لو 16:4)، وخلال أيام الأسبوع يساعد أباه في مهنته كما يفترض. وعلى الأقل، دُعي هو نفسه بالنجار في ما بعد (مر 3:6). وفي الجزء الأخير من حياته ما يلقي على سني حداثته ضوءاً هذا مقدراه: فنحن نعلم أنه كان يجيد القراءة والكتابة، ويعرف العهد القديم معرفة كليّة، ويدرك حقيقة الفريسيّين والصدوقييّن، ويعي حاجة الشعب الأدبية، وقد واكب الحياة المدنية والسياسية في عصره جيداً، وأحب الطبيعة، وكثيراً ما انسحب معتزلاً الناس للشركة مع الله. وعلى ضآلة هذه المعلومات، فهي كلها تشير إلى حقيقة مؤداها أن المسيح كان، في أثناء سني العزلة دون الثلاثين، يُعدّ نفسه للمهمة التي كان منتظراً أن يقوم بها في حياته العلنية لاحقاً. فقد اتضح له أكثر فأكثر، بصفته إنساناً، من هو وماذا عليه أن يفعل. وكان ماثلاً في ذهنه، دائماً وبوضوح، أمر كونه يسوع المسيح ببنوّته ومسيّويّته، بكل ما يرتبط بهما وينتج منهما. حتى إذا بلغ الثلاثين أخيراً، حان وقت ظهوره لإسرائيل (يو 31:1).

وقد كانت مناسبة هذا الظهور العلنيّ هي الكرازة التي بدأها يوحنا المعمدان في بريّة اليهودية جنوباً. فإن هذا الرجل المرسل من الله قد مهد السبيل لقدوم المسيح، وذلك بسبب الحركة الكبيرة التي أحدثها بين اليهود بدعوته لهم إلى التوبة. وقد أرسل الله يوحنا ليُعلم بني إسرائيل بأنهم مذنبون ومدنسون، ومحتاجون بالأحرى إلى معمودية التوبة لأجل مغفرة الخطايا، رغم تحدّرهم من إبراهيم وختانهم وبرّهم الذاتي. وخرج إلى يوحنا كثيرون من أورشليم واليهودية وجميع المنطقة المحيطة بالأردن، وتعمّدوا على يده، معترفين بخطاياهم. ومع أنه مانع أن يعمّد يسوع، لأنه أدرك أنه المسيح الذي وحده يستطيع أن يعمّد بالروح القدس وبالنار، وهو شخصياً لا يحتاج لأن يتعمد، فمع ذلك أصر المسيح على الأمر وقال إنه ينبغي أن يقبل المعمودية لأنه يليق به أن يكملّ كلّ برّ (مت 15:3 وما يليها).

وختاماً، فإن الرب يسوع لا يقول إنه ينبغي له أن يُعمّد لأنه يحتاج إلى التوبة والغفران. فهو، على خلاف جميع المتعمدين في الأردن، لم يعترف بأيّة خطية. لكنه رأى أن يوحنا كان نبياً. بل أكثر من نبيّ، لكونه سابقه وممهد سبيله (مت 7:11 – 14)، كما رأى – له المجد – أن معمودية يوحنا لم تكن ممارسة طقسيّة وليدة فكرة يوحنا نفسه بل هي مسؤولية ومهمة قبلها من السماء (مر 30:11). وهكذا تأسست معمودية يوحنا على مشيئة الله وكانت جزءاً من البرّ الذي كان للمسيح أن يكمله. فإذ مارس المسيح تلك المعمودية، أخضع نفسه – من جهة لمشيئة – الآب، ومن الجهة الأخرى أدخل نفسَه في أوثق علاقة ممكنة بالناس الذين قبلوا التوبة ومغفرة الخطايا معبرين عن ذلك بقبول المعمودية. فإن معمودية يوحنا هي بالنسبة للمسيح علامة خضوعه التام لكامل مشيئة الله، والدخول العلني إلى لبّ الشركة مع جميع شعبه، والخطوة الملكية الأولى إلى الميدان المسياويّ.

ومن هنا كان للمعمودية بالنسبة المسيح معنى يختلف عن معناه بالنسبة إلى الآخرين. فهو شخصياً لم يعطي علامة التوبة وختم المغفرة، بل عُمد بالروح القدس باعتباره وحده من يستطيع أن يعمد الناس بهذه المعمودية، وبالنار أيضاً. وفي وقت متأخر ذهبت بعض الطوائف إلا أنه في لحظة اعتماد المسيح اتحدت طبيعته أو قدرته الإلهية، أول مرة، بيسوع الإنسان. غير أن هذه الفكرة هرطقة واضحة، لأنها تسيء إلى تجسد الكلمة بالحبل. ولكن من المؤكد أن معمودية يسوع كانت هي إعداده التام لمهمته. لأنه لما صعد من الماء انفتحت السماوات، ونـزل عليه روح الله، وسمع من السماوات صوتاً يقول: هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت (كل السرور)(مت 16:3، 17). ومع أن هذا الأمر لم يدركه إلا قليلون، فقد كان يوم اعتماد المسيح هو يوم ظهوره لإسرائيل وبداءة خدمته العلنية باعتباره المسيّا.

ولكنه قَبْلَ مُباشرَةِ تلك الخدمة، اختلى أياماً في عزلة البرية. وهناك لم يلتقِ كائناً بشرياً واحداً، بل أحاطت به الطبيعة الصامتة والوحوش، أما طبيعة تأمله فتتضح لنا نوعاً ما من سياق خبر التجربة. فإن تجربة الشيطان له، وقد حدثت في نهاية الأربعين يوماً، يورد متّى بياناً تفصيلياً عن وقائعها، شكلّت ذروة للجهاد الذي خاضه، إلا أنها لم تكن هي التجربة الوحيدة بأية حال. ذلك أن لوقا يفيدنا بالحرف الواحد أنه كان "أربعين يوماً يُجرب من إبليس" (2:4) وأن إبليس لما أكمل كل تجربة فارقه إلى حين (13:4). ثم أن المسيح تجرب في كل شيء مثلنا، إنما بلا خطية (عب 15:4).

على أن التجربة في البرية كانت ذات علاقة بخطة خدمة المسيح العلنية. فبعد المعمودية، كان المسيح ممتلئاً من الروح القدس (لو 1:4)، والروح هو من اقتاده إلى البرية ليجربه إبليس (مت 1:4). فقد كان يسوع آنئذ عالماً – إلى التمام وبمنتهى الوضوح – بحقيقة كونه المسيح ابن الله وبامتلاكه قدرات إلهية. ولكن أي استخدام سيستخدم هذه القدرات؟ أيوظفها علة نحو أناني في سبيل تلبية حاجاته الشخصية، أو يحني ركبته لسلطة أرضية فينال ملكاً أرضياً، أم يكسب تأييد الشعب له من طريق الآيات والعجائب الدرامية؟ في هذه النقط الثلاث جميعها جربه المجرب. إلا أنه – له المجد – ظل على ثباته في كل حال. فهو قد تشبث بكلمة الله، وبتلك الكلمة رد كل تجربة. وقد خضع لمشيئة الآب وطريقه، وأقام على طاعته، وقدّس ذاته كذبيحة لله. وهكذا فهو يعرف، من اختباره الخاص، لا تعنيه التجربة فقط، ولا كيف يرثي لنا في ضعفنا وحسب، بل أنه قادر أيضاً أن يعين المجربين، وذلك لأنه لم يستسلم للتجربة على غرار آدم (عب 18:2 ؛ 15:4).

بهذه الطريقة أًعد يسوع لخدمته الجهارية وممارسة وظائفه. والوظيفة النبوية، بين وظائفه الثلاث، هي التي نالها التركيز الأكثر خلال تلك الفترة الأولى. في الحقيقة أنه بعد أن مارس المسيح خدمته العلنية قابله الشعب لا باعتباره معلماً (رابياً أو سيداً) وحسب، بل رحبوا به أيضاً بوصفه نبياً. وفي أعقاب إقامته ابن أرملة نايين، هتف الجمع قائلاً: قد قام فينا نبي عظيم، وافتقد الله شعبه (لو 16:7). وهكذا ظلت الحال على هذه الصورة إلى آخر حياته. اعتبره كثيرون نبياً، بسبب أقواله وأعماله مع أنهم لم تكن لديهم أدنى فكرة على الإطلاق عن وظيفتيه الأُخريين، الكهنوتية والملكية، أو حتى لو كانوا على النقيض منكرين لهما. وبالحقيقة أن المسيح من حيث كونه نبياً، أي شخصاً قادراً على تعليمنا ما يتعلق بالله وبالأمور الإلهية هو أفضل مما يستطيعه سواه، ما زال حتى يومنا هذا يحظى بالإكرام لدى الذين يعلقون على الدين أيّة أهمية مهما كانت. غير أن هؤلاء الأشخاص هم أنفسهم يناهضون فكرة كون المسيح كاهناً وملكاً باعتباره مفهوماً يهودياً بالياً. حتى أن القرآن يعزو إليه هذا المقام الشريف.

على أن المسيح نفسه أراد أن يكون نبياً بمعنىً آخر يختلف عن ذاك الذي اعتبره به اليهود نبياً. فلما عاد إلى الجليل، بعد أن تعمّد على يد يوحنا وجُرب في البرية، أظهر نفسه علناً بعد ذلك في المجمع بالناصرة، حيث طبق على نفسه النبوة الواردة في إشعياء 1:11. فقد كان روح الرب عليه ليبشر المساكين ويشفي منكسري القلوب (لو 16:4 وما يليها). وهو لم يقدم نفسه نبياً مساوياً الآخرين، بل بالأحرى أسمى منهم كثيراً. فقد كان الأنبياء الأقدمون عبيداً للرب، أما هو فإنه الابن (مت 37:21). وهو السيد الوحيد (مت 8:23، 10 ؛ يو 13:13، 14). صحيح أنه يشترك مع سائر الأنبياء في مواهب الدعوة والمسحة، وإعلان كلمة الله والكرازة بها، والتنبؤ والقدرة المعجزية. ولكنه مع ذلك يسمو عليهم جميعاً، وهو متقدم عليهم. فإن دعوته ومسحته ترجع إلى الأزل، كما أن تخصيصه وإعداده بدأا باكراً عن الحبل به من الروح القدس. وعند معموديته نال الروح القدس بغير حد، وحياه صوت من السماء بوصفه الابن الحبيب الذي سرّ به الآب. وبالحقيقة أنه لم يتلق إعلانات موسمية بين الفينة والفينة، بل بالأحرى هو نفسه الإعلان الكامل لله، والكلمة الذي كان عند الله وكان هو صار الله وصار جسداً، وقد كان في حضن الآب وهو دائماً فيه. وفي حياته كلها لم يقل أو يفعل شيئاً غير ما أخذ وصية بشأنه. وبالتالي، فإن ما قدمه لم يكن جزءاً من الإعلان ينبغي أن يوضحه سواه في ما بعد، بل إنه هو دفعة واحدة الإعلان الكامل لله، والشخص الذي يتم ويختم كل نبوة سابقة. وعليه، فإن الله – بعدما كلم الآباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرق كثيرة – تكلم في هذه الأيام الأخيرة في ابنه (عب 1:1). وفي الواقع أن النبوة التي حصلت من الآباء في التدبير القديم تدين له بالفضل؛ ذلك أن روح المسيح هو الذي شهد في الأنبياء (1بطرس 11:1)، كما أن المسيح كان هو مضمون تلك الشهادة (رؤ 10:19).

إذاً، كانت كرازة المسيح بمفهوم أعمق إعلاناً ذاتياً – فقد كانت إعلاناً لذاته وعمله بمفهوم أعمق. ولما أظهر ذاته علناً، جعل يوحنا المعمدان وأنبياء العهد القديم نقطة انطلاقه: قد اقترب ملكوت الله، فتوبوا وآمنوا بالإنجيل (مت 2:3 ؛ 17:4). ولكن الأنبياء الأقدمين ويوحنا المعمدان إنما كانوا معلني قدومه، وقد رأوا ملكوت الله العتيد (مت 10:11، 11). على أن الزمان قد كمل، وفي شخص المسيح نـزل ملكوت الله على الأرض. حقاً أن الله هو الملك والآب في هذا الملكوت (مت 16:5، 35، 45). ولكن الآب دفعه إلى المسيح كي يعطيه، بحسب مسرة الآب، لتلاميذه.

وقد كشف المسيح في كرازته، مصدر ذلك الملكوت وطبيعته، والطريق المؤدي إليه، والخيرات التي يشتمل عليها، وتطوره التدريجي، واكتماله النهائي. وهو لم يفعل ذلك عن طريق الجدل الفلسفي أو الخطابات اللاهوتية، بل بالأمثال الرمزية. وقد استعار صوره البيانية من الظواهر الطبيعية، أو عن وقائع الحياة اليومية العملية، وكلم الجموع دائماً بطريقة نابضة بالحياة والحركة وتتيح لهم أن يسمعوا ويفهموا (مر 33:4). على أنه لما لم يفهم كثيرون كلامه رغم ذلك، أو استثنوا أنفسهم منه، كان ذلك دليلاً على قساوة قلوبهم، وعلى مسرّة الآب الذي أخفى هذه الأمور المختصة بالملكوت عن الحكماء والفهماء وأعلنها للأطفال (مت 25:11 ؛ 13:13 – 15). غير أن كلماته بحد ذاتها كانت بسيطة وسهلة الفهم دائماً، مع أنها تناولت أعمق أسرار ملكوت الله. ذلك لأن المسيح، من حيث كونه في شخصه الابن والوارث، هو نفسه مالكاً هذه الأسرار ومعلنها ومفسرها أيضاً. فهو، في ظهوره، وفي أقواله وأعماله، أعلن لنا الآب (يو 18:1). ومن رآه فقد رأى الآب (يو 9:14).

فالكلمة التي كرز بها المسيح إذاً لم تكن في مضمونها سوى ما أُعلن في أيام العهد القديم. وقد اشتملت على الشريعة والبشارة معاً، لكن المسيح لم يكن مشترعاً جديداً وسّع وحسّن ناموس الله المعطى في العهد القديم. ثم إن البشارة التي كرز بها المسيح ما كانت غير تلك التي أعلنها الله منذ جنة عدن. فالمسيح لم يأتِ إلى الأرض لينقض الناموس أو الأنبياء بل ليكمل (مت 17:5). وهو قد أكمل بتطهير الناموس والأنبياء من التفسيرات الخاطئة والإضافات البشرية، وبالإتيان بمضمون الناموس والأنبياء إلى تحقيقه الأوفى في شخصه وعمله. من هنا وقفة المسيح في علاقة بالناموس تختلف عن وقفة موسى، وفي علاقة بالبشارة، فالنعمة والحق بيسوع المسيح صارا (يو 17:1) وقد حمل موسى الناموس بين يديه على لوحي حجر، وفي ذلك كان الأنبياء بالحقيقة كارزين بالبشارة، غير أنهم لم يكونوا هم أنفسهم موضوع البشارة. غير أن المسيح حمل الناموس داخل أحشائه، وتمم مشيئة الآب على النحو الأكمل دون أي نقص على الإطلاق؛ وهو لم يكن فقط معلناً للبشارة بل كان أيضاً مضمونها، لكونه العطيّة العظمى التي أعطاها الله للعالم. فالنعمة والحق صارا بيسوع المسيح، وهما لا يمكن أن يُفصلا عن شخصه.

هذا، وأعمال المسيح تصحب أقواله وتؤيدها. ولهذه الأعمال أيضاً علاقة بأعمال المسيح وإتمام لمشيئة الآب (يو 34:4). فهو لم يقم بها من تلقاء ذاته، بل إن الآب دفع كل شيء إلى يده (مت 27:11 ؛ يو 35:3)، والابن لم يفعل شيئاً غير ما رأى الآب أن يفعله (يو 19:5). فالآب الحال في الابن، هو نفسه، عمل هذه الأعمال (يو 10:14). وكما كانت الأعمال الإلهية المصدر، فكذلك كانت ذات صفة إلهية، ليس فقط لأنها معجزات تخالف مجرى الطبيعة العادي، بل أيضاً لأنها غير مألوفة ولم يكن الآخرون ليقومون بها. فبينما تصرف الآخرون دائماً بموجب إرادتهم الخاصة، لم يسع المسيح قط إلى مصلحته الشخصية، ولا رضاه الذاتي (رو 3:15). ولكنه بدلاً من ذلك تمم مشيئة الآب منكراً نفسه. ورغم كل شيء، تحتل المعجزات مكانة هامة بين سائر تلك الأعمال. فهي – من جهة – علامات وبيّنات على إرسال الله له وتأييده إياه بقوته، وهي – من جهة أخرى – أعمال قُصد بها سد حاجات الإنسان الجسدية والروحية. ذلك أن معجزات المسيح كلها هي معجزات فداء وشفاء، ولذلك فهي تتعلق بممارسته لوظيفته الكهنوتية.

وهذا واضح بجلاء من الحدود التي فرضها المسيح نفسه على قيامه بالمعجزات. ففي البرية قاوم تجربة الشيطان له بأن يستخدم قدرته الإلهية لأجل مصلحته الخاصة. وكذلك ضد هذه التجربة طوال حياته، مع أنه ينطبق على خدمته العلنية كلها ما قاله في بستان جثسيماني من أنه يستطيع أن يطلب إلى أبيه فيقدم له أكثر من اثني عشر جيشاً من الملائكة (مت 53:26). وقد رفض مرة بعد الأخرى، أيجري المعجزات لإشباع فضول الناس، من النادر أن يرى حداً للإعلان في ما يلاقيه من عدم إيمان (مت 58:13). وكم مرة أيضاً أصدر إلى الذين شفاهم بمعجزة أمراً بألا يقولوا شيئاً عن ذلك (مر 34:1، 44 ؛ 12:3). فهو لم يشأ أن يغذي الأفكار المغلوطة حول المسيّا والتي كان ممكناً أن تعززها أعماله.

ثم إن الأعمال التي عملها المسيح كانت بالفعل ذات وظيفة كهنوتية لهذا السبب أيضاً: أنها عبرت بصورة ظاهرة عن حنانه ورحمته فعن هذا الأمر نقرأ مراراً وتكراراً، ويرى البشير متّى في حوادث الشفاء هذه إتماماً لنبوءة إشعياء حيث قال إنه هو أخذ أسقامنا وحمل أمراضنا (مت 17:8). وفي موضع آخر تُقتبس هذه النبوة بالإشارة إلى موت المسيح الذي به كفّر عن خطايانا (يو 29:1 ؛ 1بط 24:2). على أن الخطية والمرض يترافقان. فالمسيح، بوصفه رئيس الكهنة الرحيم، لم ينـزع عنا خطايانا فقط بل أزال بذلك أيضاً عِلّة كلّ شقائنا. وهو يقدم الدليل الحاسم على حقيقة كونه قادراً على افتدائنا من كل شقائنا، في جميع المعجزات التي أجراها من طرد للأرواح الشريرة، وشفاء للعمي والصم، والمفلوجين والعرج، وإقامة للأموات، وإخضاع لقوى الطبيعة. فليس من ذنب هائل، ولا خطية مهما كانت، ولا شقاء أيّاً كان عمقه، إلا وهو قادر على نـزعه برحمته الكهنوتية وقدرته الملوكية.

إن عمله الكهنوتي معبر عنه طبعاً، على نحوٍ أخص، في آلامه الأخيرة وموته، ولكونه بذل نفسه فديةً عن كثيرين هو إتمام للخدمة التي جاء إلى الأرض من أجلها والتي أنجزها طوال حياته (مت 28:20) فباعتباره حمل الله كان رافعاً لخطية العالم كل حين. وقد ابتدأ اتضاعه عند تجسده، وكان في حياة طاعة دائمة مقرونة بالآلام، واكتمل بموته على الصليب (في 8:2 ؛ عب 8:5). فمن قِبَلِ الآب تعيّن المسيح كاهناً، ونبياً أيضاً. وكما قام بوظيفته النبوية، فكذلك أيضاً بالتمام أكمل وظيفته الكهنوتية طوال حياته.

ومع ذلك يلاحظ أن المسيح لا يسمى كاهناً إلا في الرسالة إلى العبرانيين بين أسفار العهد الجديد كله. صحيح أن حياته وموته يعرضان مراراً وتكراراً كذبيحة محرقة لله، غير أن الاسم بعينه لا يستعمل إلا في العبرانيين. ولهذا الأمر سبب وجيه. يقيناً أن المسيح هو كاهن، ولكنه كاهن بمعنى مختلف كلياً عن كهنة العهد القديم تحت شريعة موسى. فإن أولئك جاءوا من نسل هارون وسبط لاوي. وقد كانوا كهنة فقط، لا أنبياء وملوكاً في الوقت نفسه. وعاشوا وخدموا فترة قصيرة كان واجبهم بعدها أن يخلفهم آخرون. وكانوا يقدمون ذبائح من الكباش والتيوس التي لا تقدر البتة أن تزيل الخطية. إلا أن حال المسيح ليست هكذا. فهو طلع من سبط يهوذا، ولم يكن له أن يطالب بالكهنوت حسب نظام العهد القديم.

وعليه، فبحسب الرسالة إلى العبرانيين لم يكن المسيح كاهناً على رتبة هارون، بل على رتبة ملكي صادق، الأمر الذي سبق أن أًنبئ به في المزمور 110: أن المسيح سيكون كاهناً يجمع في نفسه مقام الملك الرفيع ووظيفة الكهنوت ويظل كاهناً إلى الأبد. هذه الفكرة تتوسع فيها الرسالة إلى العبرانيين وتورد الحجج القاطعة على أن المسيح كاهن على رتبة ملك صادق، لا على رتبة هارون. وذلك لأنه ملك في الوقت عينه؛ ولأنه كلي البر وعديم الخطية – لكونه ملك البر؛ ولأنه يظل كاهناً على الدوام ولا يخلفه آخر؛ ولأنه قدم ذبيحةً في جسده الخاص ودمه، لا دم تيوس وعجول؛ ولأنه بهذه الذبيحة حقق لشعبه خلاصاً كاملاً؛ وأخيراً لأنه بذلك أوجد سلاماً أبدياً، وهو ملك السلام (عب 11:7 إلخ...). والتحريض العملي المبني على هذا كله، والموجه إلى المسيحيين الذين كانوا يهوداً في الأصل، وقد كانوا عرضة لخطر الارتداد، هو أنه ليس من سبب واحد يسوّغ لهم الرجوع، بل هم بالأحرى مدعون إلى التقدم (1:6). فقد تم في المسيح، كلياً وإلى الأبد، كل ما كان مرموزاً إليه بكهنة العهد القديم، وذبائحهم وصلواتهم التشفيعية، في سبيل إعطاء الشعب حق التقدم إلى حضرة الله. إذ كرس المسيح طريقاًَ حديثاً حياً إلى الحياة الأبدية، يستطيع المسيحيون أن يتقدموا بواسطته إلى عرش النعمة بكل ثقة وبيقين الإيمان (16:4 ؛ 19:10 وما يليها).

وكما أن وظيفة المسيح الكهنوتية مرتبطة بوظيفته النبوية، فكذلك تماماً هي مرتبطة بوظيفته الملكية أوثق ارتباط. فمن الخصائص المميزة لوظيفة المسيح الكهنوتية ارتباطها بملكوته (مز 4:110 ؛ عب 17:7). وعلى كل حال، كانت دعوة شعب العهد القديم أن يكونوا مملكة كهنة (خر 6:19). ومع أن هذه الوظائف في إسرائيل كانت متمايزة، فقد سبقت النبوة فأشارت إلى أن المسيح، الغصن الذي من مكانه ينبت ويبني هيكل الرب، سوف يحمل الجلال (الملكي) ويجلس ويتسلط على عرشه. فالمسيّا، الجامع في شخصه وظيفتي الملكوت والكهنوت، سيحقق بهذا الجمع السلام الكامل الذي يحتاج إليه شعبه (زك 13:12:6).

وتكتسب وظيفة المسيح الملكية من ارتباطها بكهنوته صفةً خاصةً مميزة. نعم، كان لابد أن يأتي من بيت داود (2صم 16:7)، ولكن في زمن فيه يكون بيت داود قد تردّى في هوة الانحطاط (مي 1:5) ولسوف يكون ملكاً عادلاً مزوداً بخلاص الله، لكنه أيضاً سيكون وديعاً، وعلامةً على اتضاعه سيأتي راكباً على حمار – على جحش ابن أتان (زك 9:9). وكما أن المسيّا عند ظهوره لن يستعرض مجداً أرضياً وقوة دنيوية، فكذلك تماماً لن يؤسس ملكوته أيضاً بالعنف والسلاح. بل إنه في الحقيقة في ذاك اليوم يقطع المركبة من أفرايم، والفرس من أورشليم، وتقطع قوس الحرب، ويتكلم بالسلام إلى الأمم، وسلطانه من البحر إلى البحر ومن النهر إلى أقاسي الأرض (زك 10:9 ؛ قارن مز 72).

هذه النبوة عن المسيّا الآتي تمت بكاملها في المسيح. فالعهد الجديد يفيد، دائماً وبتشديد، أنه من بيت داود، وأنه بفضل شريعة الملك في إسرائيل يحق له أن يعتلي عرشه. فسلسلتا النسب كلتاهما (مت 1 ولو 3) تسميانه "ابن داود". وقد أعلن الملك لمريم أن الله سيعطي ابنها، الذي يدعى ابن العلىّ، عرش داود أبيه، ويجعله ملكاً على بيت داود إلى الأبد (لو 32:1، 33). ومعترفاً به عموماً أنه ابن داود. وبتحدره هذا من نسل داود ترتبط فكرة كونه ملكاً وصاحب ملك وصاحب حق في الملك (لو 42:23).

على أنه ملك بمعنىً يختلف عما توقعه يهود ذلك الزمان من مخلصهم. فهو لم يبشر قط بحقوقه الشرعية في عرش داود أبيه، لا أمام رؤساء الشعب اليهودي ولا أمام الملك هيرودس ولا أمام قيصر روما. وقد قاوم تجربة إحراز السيطرة على العالم بواسطة القوى العالمية (مت 8:4 – 10). ولما حاول الجمهور، بعد معجزة إشباع الآلاف، أن يجعلوه ملكاً، مضى من بينهم واعتزل في الجبل للصلاة (يو 15:6 ؛ مت 23:14). حقاً أنه أظهر سلطانه الملوكي دائماً، ولكنه لم يفعل ذلك في استعراض السلطة كما يفعل رؤساء الأمم، بل في الخدمة وفي بذل نفسه فديةً عن كثيرين (مت 25:20 – 28). وقد تم التعبير في كونه ملكاً بالسلطة التي بها تكلم، وأعلن قوانينه المختصة بملكوت السماوات، وأخضع لنفسه قوى الطبيعة، وأمر المرض والموت بالكف عن العمل، وبذل حياته على الصليب لكي يعود ويستردها، وسوف يدين الأحياء والأموات فعلاً بوصفه الملك والقاضي.

ولكن هذه الأهمية الروحية التي يضفيها المسيح على ملكوته، وفقاً لنبوة العهد القديم، ينبغي ألا تغرينا بأن نظن أنه ليس ملكاً بالفعل وأنه يجب أن يعطى هذا اللقب بمعنىً مجازيّ فقط. فكما أنه كاهن أفضل من كهنة العهد القديم لكونه كاهناً على رتبة ملكيصادق، لا على رتبة هارون، فهكذا أيضاً هو ملك أفضل، بكل معنى الكلمة، لأنه ملك يختلف عن رؤساء الأمم. إنه الملك الحقيقي فعلاً، وليس ملوك الأرض ملوكاً إلا بالصورة والشبه. فهو ملك الملوك، ورئيس ملوك الأرض، والملك الذي يملك، داخلياً وخارجياً، روحياً ومادياً، في السماء وعلى الأرض، إلى جميع أقاصي الأرض وعلى مدى الدهور.

فالمسيح لا يتنازل البتة، لا من أجل إله ولا إنسان، عن أي جزء من أي حق من حقوقه الشرعية في هذا الملكوت الكامل والأبدي. وفي أيام تجسده على الأرض لم يتخلَّ قط أيضاً عن أي حق من حقوقه الإلهية أو الإنسانية. لم يحاول الحصول على حقوقه بالقوة والعنف، بل أراد بلوغها فقط عن طريق الطاعة الكاملة لله. لكنه بعمله هذا عزَّزَ مطالبه. فقد برهن اتضاعُه أنه ابن الله ولذا يجب أن يكون أيضاً هو الوارث لكل شيء.

ولكي يبين أنه الملك حقاً، جعل دخوله الظافر إلى أورشليم في يوم الأحد الذي يتصدر أسبوع الآلام. فلم يعد الآن من خطر أن يُساء فهم ملكوته. ذلك أن خلفه الآن حياة خدمة وطاعة صدّ بها كل قوة أو سلطة أرضية بعيدة عن ذاته. وقد بلغت الآن عداوة الشعب ذروتها له، وفي أواخر ذلك الأسبوع سيلقون عليه أيادي أثيمة ويقدمونه فريسة للموت. ومع أنه كان قد رفض في السابق محاولة جعله ملكاً، قام الآن بمبادرة دخوله الملكي إلى أورشليم (مت 1:22). فقد كان ينبغي أن يعلن مرة أخرى، قبل موته وأمام جميع الناس جهاراً، أنه هو المسيّا المرسل من الله والمولود من نسل داود. وقد قام بهذا الإعلان وفقاً للنبوءة المتحدثة عن ملك آتٍ يكون وديعاً وراكباً على حمار، على جحش ابن أتان. وبسبب كونه المسيّا، فحقاً إنه كان ملكاً (مت 11:27). وقد شهد أيضاً هذه الحقيقة مرةً أخرى العنوانُ الذي كُتب فوق الصليب، وإن كان مخالفاً لرغبات اليهود بالإجماع (يو 19:19 – 22).

مجمل حياة المسيح، بسائر نشاطاتها النبوية والملكية والكهنوتية قد بلغت ذروتها بموته. فالموت هنا إتمام للحياة. إذ أن المسيح جاء ليموت. وقد كان هو نفسه مدركاً لهذا تمام الإدراك. ففي ظهوره العلني الأول في مجمع الناصرة سبق فطبق على نفسه النبوة المختصة بعبد الرب المتألم (لو 16:4 وما يليها)، ولذلك كان على علم تام بحقيقة كونه سيُساق كنعجة إلى الذبح. فهو الحمل الذي يرفع خطية العالم (يو 29:1). وكان لا بد أن ينقض هيكل جسده ولكن بعد ثلاثة أيام يُقام (يو 19:2). وكما رفع موسى الحية في البرية، فكذلك – بحسب مشورة الله – ينبغي أن يُعلق ابن الإنسان على الصليب (يو 14:3 ؛ قارن 32:12، 33). وهو حبة الحنطة التي كان ينبغي أن تقع في الأرض وتموت لكي تأتي بثمر (يو 24:12).

وهكذا أشار المسيح منذ بدء خدمته الجهارية، بالتشبيه والأمثال، إلى أن الموت سيكون خاتمة حياته. وكلما دنا موعد تلك النهاية، عبر عن هذه الحقيقة على نحوٍ أوضح وأصرح. وخصوصاً بعدما اعترف بطرس، ممثلاً جميع الرسل، في تلك اللحظة الحاسمة في قيصرية فيلبس، بيسوع أنه ابن الله الحي، بدأ المسيح يبين لهم أنه ينبغي أن يصعد إلى أورشليم، ويتألم كثيراً على أيدي الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة، ويُقتل، وفي اليوم الثالث يقوم (مت 21:16). ولم يفهم التلاميذ ذلك، ولم يريدوا مواجهته. حتى إن بطرس انتحى به جانباً، وبكل ثقة شرع ينهره، قائلاً: حاشاك يا رب، لا يكون لك هذا ! غير أن الربّ يسوع رأى في هذا الكلام تجربة له فردّ بقسوة: اذهب عني يا شيطان. أنت معثرة لي، لأنك لا تهتم بما لله بل بما للناس (مت 22:16، 23). وقد حظي هذا الثبات من جانب المسيح في تسليم نفسه للموت بالرضا الإلهي، بعد ذلك بأيام قليلة على جبل التجلي. فكان صعوده إلى أورشليم موافقاً لمعنى الناموس والأنبياء (موسى وإيليا) ولمشيئة الآب. وما برح هو الابن الحبيب الذي سرّ به الآب جداً. وما كان بالتلاميذ أن ينهروه كما فعل بطرس بل أن يخضعوا له وأن يسمعوا (مت 1:17 – 8).

ومع ذلك لم يكن هذا الموت شيئاً سعى إليه المسيح عنوةً. فهو لم يدعُ الفريسيين والكتبة تحدياً كي يلقوا أياديهم عليه. وعلى رغم علمه أن ساعته قد جاءت (يو 23:12، 1:17)، فقد كان يهوذا هو من باعه وخانه عن عمد، وخدّام رؤساء الكهنة والفريسيين من ألقوا القبض عليه، وأعضاء السنهدريم والوالي بيلاطس البنطي من حكموا عليه ونفذوا فيه حكم الموت. فإن مشورة الله لا تستثني الظروف التاريخية ولا تلغي جريمة الإنسان. بل إن المسيح، على نقيض ذلك، قد سلّم بمشورة الله المحتومة وعلمه السابق، ولكن ذلك تم بحيث أخذه اليهود، وبأيدي أثمة سمروه بالصليب وقتلوه (أعمال 23:2، 28:4).

وموت المسيح هو النقطة الوسطى في كرازة الرسل، منذ البداية، وليس منذ شهادة بولس بل في شهادة جميع الرسل. إنه بعد قيامة المسيح فقط، وبإرشاد الروح القدس، فهمت ضرورة وأهمية تألم المسيح وموته عندئذ تم الإقرار بأن تألم المسيح وموته كانا أيضاً لعمله النبوي وبرهاناً على صدق تعليمه وختماً لحياته كلها. ونقرأ عنه أنه شهد لدى بلاطس البنطي بالاعتراف الحسن (1تي 13:6)، وفي آلامه بغير ذنب وبكل صبر ترك لنا مثالاً لكي نتبع خطواته (1بط 21:2). وهو الشاهد الأمين (رؤ 5:1، 14:3)، وبوصفه رئيس الإيمان ومكمله (عب 2:12).

وهكذا كان موت المسيح إعلاناً لسلطانه الملكي، لأن موته لم يكن مصيراً محتوماً عليه أن يخضع له مكروهاً، بل هو عمل أتمه بملء إرادته واختياره (يو 17:10، 18). وقد كان موته على الصليب ارتفاعاً طوعياً عن الأرض وانتصاراً على الأعداء، لأنه به أكمل طاعة لوصية الآب (يو 31:14).

على أنه ينبغي لنا، بمقتضى الكرازة الرسولية، ألا نتوقف عند هذا الحد بالنسبة إلى موت المسيح. ذلك أن يسوع لم يكن في موته شاهداً وقائداً فقط، ولا شهيداً لا بطلاً، ولا نبياً وملكاً وحسب. بل كان قبل كل شيء عاملاً فيه ككاهن. فعمله باعتباره رئيس الكهنة هو الذي يبرز إلى المقدمة في موته أكثر الكل. إذ إن موته، بحسب تعليم الكتاب المقدس ككل، كان ذبيحة مجانية قدمها الآب به.

وعندما يقدم العهد الجديد موت المسيح على أنه قربان، أنه يقترن مباشرةً بالعهد القديم. فقد وُجِدت القرابين منذ أقدم الأزمنة. إذ نقرأ عنه في ما يتعلق بقايين وهابيل، ونوح والآباء، ونجدها لدى جميع الأمم وفي سائر الأديان. ويمكننا القول عموماً إن غرضهم هو ضمان رضى الإله والتمتع بالشركة معه، أو اكتسابه مجدداً، وذلك بإجلال بتقديم عطية مادية قوامها ممتلكات حية أو جامدة تتلف بمقتضى طقس احتفالي معين. وقد ضمن الرب أيضاً مثل هذه القرابين في شريعته المعطاة لشعب العهد القديم. ولكن القرابين عند ذلك الشعب جُعِل لها دور مختلف وأُضفي عليه معنى مغاير.

في المقام الأول، اقتصرت القرابين عند بني إسرائيل على تقديم الحيوانات (من بقر وغنم وحملان ومعزى وثيران وحمام أو يمام) وثمار الأرض (من دقيق وزيت وخمر ولُبان)، ولم تكن تُقدم إلا للرب الإله. فقد كان محرماً تقديم البشر، وشرب الدم، وتشويه الجسد. علاوة على أن جميع القرابين المقدمة للأصنام، وللأموات، وللحيوانات "الطاهرة"، كانت انتهاكاً لمشيئة الله. وفي المقام الثاني، كانت القرابين عند إسرائيل أقل أهمية من الشرائع الأدبية. فالاستماع أفضل من الذبيحة، والإصغاء أفضل من شحم الكباش. والرب يريد رحمةً لا ذبيحة، ومعرفة الله أكثر من المحرقات. وفي المقام الثالث، كانت القرابين في إسرائيل مثل الكهنوت والهيكل والمذبح وكامل التدبير الطقسي وفقاً لخدمة الوعد. فالقرابين لم تُنتج عهد النعمة، لأن ذلك العهد مؤسس فقط على اختيار الله المقرون بالنعمة؛ بل إنها عملت فقط على إبقاء ذلك العهد نافذاً في إسرائيل، وعلى توطيده أيضاً.

وكما أن شعب العهد القديم كله كان مملكة كهنة بفضل دعوة الله واختياره (خر 6:19)، الكهنوت كان مجرد وضع ثانوي عارض، فكذلك تماماً كانت القرابين (ولاسيما ذبائح المحرقة والخطية والإثم) مجرد رموز طقسية إلى الطريقة التي بها يمكن الصفح عن الخطايا التي ارتكبها بنو إسرائيل ضمن نطاق العهد (والتي ارتكبوها لا عمداً دون حياء بل سهواً دون قصد) فإن الخطايا العمدية الفادحة، تلك التي نقضت العهد وأثارت غضب الله، وإن كانت غالباً ما نالت عقابها مدنياً، لم يكن لها إلا اللجوء إلى رحمة الله الذي جاد بالصفح عنها، ولو كان أحياناً بعد تدخل أشخاص كإبراهيم (تك 23:8 – 33) أو موسى أو فينحاس (عد 4:7 – 6 ؛ قارن إر 1:15).

فبهذه الخدمة الطقسية الشاملة، أرشد الله شعبه إلى المقام الأول بالإحساس أن عهد النعمة، بكل بركاته وخيراته، إنما هو بفضل الرحمة وحدها. فأصله وأساسه في الرأفة غير المبنية على الاستحقاق: أتراءف على من أتراءف، وأرحم من أرحم (خر 19:33). ثم إن الرب، بهذه الفرائض الطقسية، جعل بني إسرائيل يفهمون أنه يمنح نعمة غفران الخطايا فقط عن طريق الكفارة. بعبارة أخرى، إن الخطية دائماً شيء يثير غضب الله ويجعل الإنسان مذنباً ودنساً. فالقربان إذاً أمرٌ لا بد منه عموماً لتسكين غضب الله، وتحرير الإنسان من ذنبه ودنسه، وجعله يتمتع من جديد برضوان الله والشركة معه. طبعاً، كانت هنالك خطايا لم تحدد الشريعة بخصوص أي قربان معين كوسيلة تفكير. فقد كانت الكفارة متروكة لله نفسه، إن صح التعبير. إذ أنه هو بالذات من يكفر في تلك الحالات عن الخطايا ويصفح عنها بالتالي. والغفران يأخذ على عاتقه الكفارة ويشمل عليها. وفي ما يتعلق بالخطايا المرتكبة سهواً، والتي حددت لها الشريعة قرباناً معيناً، كان الله بالحقيقة هو من يستر الخطايا ويرفعها، بواسطة التقدمة والكاهن والمذبح (لا 11:17 ؛ عد 19:8). فخدمة التفكير بكاملها صادرة عن الله ومرتبة من لدنه.

أما الوسيلة الحقيقية للتفكير والمصالحة، فقد كانت دم الحيوان المقرّب ذبيحة. فإن حياة الجسد هي في الدم، أي مقر مبدأ الحياة في الحيوان، ولذلك أعطاها الرب على المذبح بوصفه العنصر الذي يكفر عن النفس (لا 11:17). ولكن لكي يؤدي الدم دوره بوصفه عامل تفكير، كان ينبغي أن يُذبح الحيوان ويسفك دمه بالموت ثم يرش على المذبح بيد الكاهن، وذلك بعد أن يأتي الشخص الذي أخطأ بذلك الحيوان إلى المذبح، حيث يضع على رأس الحيوان يده (على سبيل الإنابة) (خر 15:19 وما يليها). وفي وضع اليد والذبح ورش الدم على المذبح ما يشير إلى الطريقة التي صار بها الدم – هو عنصر الكفارة. حتى إذا كفر الدم على هذا النحو عن الخطايا، وسترها وأزالها، فعندئذ كان الذنب يغفر، والدنس يطهر، وشركة العهد مع الله تعود. ثم إن الكهنة والشعب، والهيكل والمذبح، وجميع أواني الخدمة، هذه كلها كانت تتطهر بالدم وتُقدس جميعاً لكي يسكن الرب في وسط بني إسرائيل ويكون لهم إلهاً (خر 43:29 – 46).

على إن خدمة القرابين هذه بكاملها لم تكن إلا ظل الخيرات العتيدة ولا تدل إلا على ذلك الظل فقط (عب 1:10). ولم تكن الخيمة في البرية إلا رمزاً للمقدس الحقيقي (عب 5:8). وقد كان الكهنة أنفسهم خطاة وكان يلزم أن يكفروا عن أنفسهم أيضاً، لا عن الشعب وحسب (عب 27:7 ؛ 7:9)، ثم إن الموت أيضاً منعهم من الاستمرار كل حين (عب 23:7). وما كان في وسع دم الثيران والتيوس أن يزيل الخطايا، ولا أن يطهر الضمير (عب 9:9، 13 ؛ 4:10). من هنا كان ينبغي أن يؤتى بتلك الذبائح مراراً وتكراراً (عب 1:10). وبالاختصار، كان كل ذلك خارجياً وضعيفاً وغير نافع وليس بلا عيب (عب 18:7 ؛ 7:8)، وقد أشار إلى مستقبل أفضل. وعلى مر القرون تعلم أتقياء الشعب هذه الحقيقة بصورة فضلى، وتاقوا إلى الأيام التي يقيم فيها الرب عهداً جديداً، حين يأتي الرب نفسه بالكفارة الحقيقية ويجعل شعبه يشتركون في بركات الغفران وخيرات التجديد. ويصيب هذا الرجاء أجمل تعبير عنه في إشعياء على الأخص. فكتاب العزاء في أشعياء يستهل بإعلام أورشليم أن جهادها قد كمل، وأن إثمها قد أعفي عنه، وأنها قبلت من يد الرب ضعفين عن كل خطاياها (إش 2:40). ومن ثم يميط إشعياء اللثام عن النبوة المختصة بعبد الرب الذي يحمل بنفسه أسقامنا وأحزاننا ومعاصينا وآثامنا، متحملاً القصاص، وهكذا يؤتينا الشفاء والسلام (إش 2:53 وما يليها).

ثم إن العهد الجديد، على وفاق تام مع العهد القديم، يرى في موت المسيح قرباناً عن خطايانا. فالمسيح لم يقل فقط أنه جاء ليكمل الناموس والأنبياء وكل برّ (مت 15:3، 17:5)، بل طبق على نفسه أيضاً نبوءة إشعياء حيث تصفه بأنه عبد الرب الممسوح بروح الرب والمرسل ليبشر المساكين (لو 17:4 وما يليها). فقد جاء، وفقاً لوصية الآب، كي يضع حياته ثم يأخذها، باذلاً حياته عوضاً عن خرافه، وبموته صار جسده مأكلاً حق ودمه مشرباً حق يفيضان إلى الحياة الأبدية. فإن موته هو القربان الحقيقي والإتمام الكامل للقرابين التي قُدمت كلها في أيام العهد القديم بمقتضى المرسوم والشريعة.

فيما بعد، فإن موت المسيح هو عمل الخضوع الأكمل لمشيئة الآب، وهو بيّنة على أنه جاء لا ليُخدم بل ليخدم. وهو بذلك فدية دُفعت في سبيل تحرير كثيرين من سلطة الخطية التي كانوا رازحين تحتها (مت 28:20). كما أن موت المسيح هو الإتمام لذبيحة العهد التي قُربت توطئة للعهد القديم (خر 7:24)، وهو الأساس للعهد الجديد (مت 28:26 عب 15:9 – 22). ويدعى موت المسيح قرباناً وذبيحة (أف 2:5 ؛ عب 14:9، 26). وهو يحقق مغزى ذبيحة الفصح، وذبيحتي الخطية والإثم، والذبيحة المقرّبة في يوم الكفارة العظيم.

ولم تتم في المسيح قرابين العهد القديم فقط، بل أيضاً جميع المطاليب التي كان ينبغي أن تفي بها تلك القرابين وجميع الأفعال المصاحبة لها. فقد كان واجباً على الكاهن الذي يقدم القربان أن يكون رجلاً لا عيب فيه (لا 17:21 وما يليها). والمسيح هو رئيس كهنة من هذا الصنف – قدّوس، بلا شر ولا دنس، منفصل عن الخطاة (عب 26:7). وكان واجباً أيضاً أن يكون الحيوان المقرب صحيحاً وخالياً من أي عيب (لا 20:22 وما يليها)، وهكذا المسيح: فهو بلا عيب ولا دنس (1بط 19:1). وكما كان واجباً أن يذبح الحيوان المقرّب بيد الكاهن (خر 11:29)، فهكذا تماماً ذبح المسيح كخروف واشترانا لله بدمه (رؤ 6:5 – 9). ولم يكن يجوز أن يُكسر عظم واحد من خروف الفصح (خر 46:12)، وهكذا أيضاً مات المسيح بغير أن يكسر أي عظم منه (يو 36:19) وكان الكاهن بعد الذبح يأخذ دم الحيوان ويرشه في القدس – إذا كان القربان ذبيحة خطية (لا 15:16 ؛ عد 4:19)، أو على الشعب – إذا كان ذبيحة سلامه (خر 8:24). هكذا أيضاً المسيح دخل بدم نفسه مرة واحدة إلى القدس السماوي (عب 12:9)، ورش ذلك الدم على شعبه (1بط 2:1 ؛ عب 24:12). وعندما كانت ذبيحة الخطية تُقرّب كان يؤتى بدم الحيوان إلى القدس، ولكن جسمه كان يحرق بالنار خارج المحلّة (لا 27:16) فبالطريقة نفسها تألم المسيح خارج الباب، لكي يقدس الشعب بدم نفسه (عب 12:13). وكما أنه بموجب شريعة العهد القديم، صار الدم – باعتباره مقر النفس وبكونه يسفك بالموت ويُرش على المذبح – هو العنصر المناسب للتكفير، فكذلك أيضاً في العهد الجديد دم المسيح هو العامل الفعّال في التكفير عن خطايانا وغفرانها وتطهيرنا منها.

صحيح أن العهد الجديد، عندما يتحدث بهذا المعنى عن آلام المسيح وموته كذبيحة، يستخدم لذلك تصويراً بيانياً، ويستعير الألفاظ المألوفة في سياق نظام القرابين والذبائح في العهد القديم. ولكن لا ينبغي أن نستنتج من هذا الواقع أن مثل هذا التمثيل هو عرضي ومجازي، بحيث يمكننا أن نصرف النظر عنه بغير حرج. بل على نقيض ذلك، تنطلق الكلمة المقدسة بالتحديد من فكرة كون القرابين في العهد القديم رمزاً وظلالاً لذبيحة المسيح التي جاءت إتماماً لها. فكما أن المسيح كان بالفعل نبياً وكاهناً وملكاً، ولم يكن كذلك من قبيل المقارنة أو المجاز وحسب، فكذلك أيضاً بالتمام لو يكن تسليم نفسه للموت ذبيحة بالمعنى المجازي بل كان كذلك بكل ما للكلمة من معنى جوهري دقيق. إذاً، لا يمكننا أن نستغني عن اعتبار موت المسيح ذبيحة حقيقية. فالاستغناء عن هذه الكلمة (ذبيحة) يعني في الحال تضييعاً للحقيقة أيضاً. وتلك الحقيقة هي أهم جميع الحقائق بالنسبة إلينا، لكونها مصدر الخلاص.

ثمّ إنّ اعتبار موت المسيح قرباناً أو ذبيحة، يعد ضمناً أنّه أسلم نفسه للّه ذبيحةً وقرباناً رائحةً طيبة (أف 5 :2) حيث أنّ المسيح كان عطيّةً من الله وبرهاناً على محبّته (يو 3:16). والله بيّن محبته لنا، لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا (رو 5:8). وهو لم يشفق على ابنه بل بذله لأجلنا أجمعين (رو 8:32). كما أن في ولادة المسيح وحياته، وآلامه وموته أيضاً، ما يبين محبة الله ويؤكدها لنا. غير أن محبة الله هذه لا تطرح عدله جانباُ، بل إنها بالأحرى – إذا نظرنا إليها كما ينبغي – تتضمن بحد ذاتها على هذا العدل، ذلك أنها محبة لا تجرد الخطية من طبيعتها باعتبارها خطية، ولكن تدبر لها وسيلة للغفران عن طريق الكفارة. فكان ينبغي أن يموت المسيح طبقاً لوصية الآب، وأنه بموته استوفى عدل الله وحقه. ففي موت المسيح، حافظ الله بالتمام على عدله في صفحه عن الخطايا التي سبق أن ارتُكبت، إذ كانت أناة الله تنتظر، وفي الوقت عينه فتح بنفسه الطريق التي بها يبرر جميع الذين ينتمون إلى المسيح بالأيمان.

ومن ناحية أخرى، نجد في ذبيحة المسيح برهاناً على طاعته بصورتيها "المذعنة" و"الفاعلة". وقد حظيت الطاعة المذعنة، في أزمنة سالفة، بتصدر الواجهة، بحيث أن الطاعة الفاعلة اختفت وراءها فعلاً. ولكن الطاعة الفاعلة لقيت منذ عهد قريب تشديداً بالغاً، إن الطاعة المذعنة لم تنل قسطها الواجب. على أن الطاعة بوجهيها بمقتضى الكلمة المقدسة، يسيران جنباً إلى جنب، وينبغي أن يُنظر إليهما باعتبارهما وجهين لعملة واحدة. كان المسيح كل حين، منذ الحبل به وولادته فما بعد، مطيعاً للآب. وعلينا أن ننظر إلى حياته كلها كتحقيق لعدل الله وشريعته ووصيته. فعند دخوله للعالم، قال: هأنذا أجيء لأفعل مشيئتك يا الله (عب 5:10 – 9). ولكن تلك الطاعة أظهرت ذاتها على نحوٍ كامل أولاً في موته، بل على نحو أخص في موت الصليب (في 8:2). والعهد الجديد مليء بهذه الحقيقة: أنه بتألم المسيح وموته كُفرّ ولأول مرة عن الخطية وغُفرت ورُفعت. بل عمل مشيئة الآب التي كان على المسيح أن يفعلها وفي هذا ليس فقط إكمال الناموس بل حمل الذنوب أيضاً.

ومن ثم وفي المقام الثالث هنا أيضاً ارتباط ذبيحة المسيح بخطايانا. وقد سبق لنا أن قرأنا في العهد القديم أن إبراهيم قدم محرقةً عوضاً عن ابنه (تك 13:22)، وأن العبراني بوضع يده على رأس الحيوان المقرّب كان يقدمه بديلاً منه (مثلاً لا 29:4)، وأن عبد الرب قد جُرح لأجل معاصينا وسُحق لأجل آثامنا (إش 5:53). فعلى المنوال نفسه يقيم العهد الجديد علاقة وثيقة جداً بين المسيح وخطايانا. فابن الإنسان قد جاء إلى العالم ليبذل نفسه فديةً عن كثيرين (مت 27:20 ؛ 1تي 6:2). وهو قد أُسلم من أجل خطايانا (رو 25:4)، ومات بالنظر إلى خطايانا، أو بالأحرى بسبب خطايانا ولأجلها.

إن الشركة التي ارتضى المسيح أن تكون لنا معه، بحسب الكتاب المقدس، فهي بالغة العمق والخصوصية بحيث يصعب تكوين صورة لها أو فكرة عنها. وما العبارة "الآلام النيابية" إلا محاولة للتعبير عن معنى المشاركة، ولو على نحو هزيل وناقص. إذ أن الحقيقة الكاملة تسمو فوق خيالنا وأفكارنا. صحيح أن في وسعنا أن نرسم بعض التشبيهات التي يمكن أن تقنعنا بإمكانية هذه المشاركة. فنحن نعرف عن آباء يتألمون مع أولادهم ويعانون معاناتهم؛ وعن أبطال يبذلون أرواحهم في سبيل أوطانهم؛ وعن أناس شرفاء، من رجال ونساء، يزرعون ما يمكن لسواهم أن يحصدوا، وفي كل مرة نرى سريان القاعدة بأن نفراً قليلاً يعملون ويجاهدون ويحاربون لكي يجني الآخرون ثمر جهادهم ويتمتعون بخيراته. وربما كان موت امرئٍ حياة لآخر. ولا بد أن تموت حبة الحنطة في سبيل أن تأتي بثمر. والأم تلد طفلها بالآلام. إلا أن هذه كلها لا تعدو كونها تشبيهات تقريبية، ولا سبيل إلى مساواتها بالمشاركة التي ارتضى المسيح أن تكون له معنا. فحقاً أنه بالجهد يموت أحد لأجل بار، بل ربما تجاسر أحد أن يموت لأجل إنسانٍ صالح. ولكن الله بيّن محبته لنا لأنه، ونحن بعد خُطاة، مات المسيح لأجلنا (رو 7:5، 8).

في الواقع لم تكن بيننا وبين المسيح أيّة شركة، بل كان بيننا وبينه مجرد انفصال ومناقضة. فإنه كان هو الابن الوحيد والحبيب عند الآب، ونحن كنا جميعاً كالابن الضال. هو بار وقدّوس وبلا خطية، ونحن خطاة ومذنبون أمام الله ونجسون من هامة الرأس إلى أخمص القدمين. ورغم ذلك كله، ارتضى المسيح أن يكون شريكاً لنا، لا بمعنى طبيعي (مادي) وحسب، أي باتخاذه طبيعتنا، لحمنا ودمنا، بل أيضاً معنى قضائي (شرعي) ومعنى خُلقي (أدبي)، وذلك بالاشتراك معنا في تحمّل خطيتنا وموتنا. فهو يقوم مقامنا، ويجعل نفسه مكاننا من جهة علاقتنا بشريعة الله، ويحمل بنفسه ذنوبنا وأمراضنا وأحزاننا وقصاصنا. فالذي لم يعرف الخطية، جُعل خطية لأجلنا، لنصير نحن بر الله فيه (2كو 21:5). ونقرأ عنه أنه صار لعنةً لأجلنا ليفتدينا من لعنة الناموس (غل 13:3). وهو قد مات لأجل الجميع، كي يعيش الأحياء في ما بعد لا لأنفسهم، بل للذي مات من أجلهم وقام (2كو 15:5).

ذلك هو سر الخلاص، سر المحبة الإلهية، ولا قدرة لنا بأن نفهم آلام المسيح النيابية، لأننا – ونحن مبغضون لله ولبعضنا البعض – لا نستطيع الاقتراب أبداً من أن نجري حساباً لما يمكن أن تُقدر المحبة المرء على فعله، وما يمكن أن تنجزه المحبة الإلهية الأزلية غير المحدودة. ولكن لا يُطلب منا أن نسبر أغوار هذا السر أيضاً. إنما نحتاج فقط لأن نؤمن به شاكرين ونستريح في رحابه ونفتخر فيه ونبتهج. فالمسيح قد جُرح لأجل معاصينا، وسُحق لأجل آثامنا وكان تأديب سلامنا عليه، وبحبره شُفينا. كلنا كغنم ضللنا، مِلنا كل واحد على طريقه؛ والرب وضع عليه إثم جميعنا (إش 5:53، 6).

فماذا نقول لهذا؟ إن كان الله معنا، فمن علينا؟ الذي يشفق على ابنه، بل بذله لأجلنا أجمعين، كيف لا يهبنا أيضاً معه كل شيء؟ من سيشتكي على مختاري الله؟ الله؟ هو الذي يبرز‍‍‍‍‍‌‍‍‍، من هو الذي يدين؟ المسيح؟ هو الذي مات، بل بالأحرى قام أيضاً، الذي هو أيضاً عن يمين الله، الذي أيضاً يشفع فينا (رو 31:8 – 34).

  • عدد الزيارات: 3107