Skip to main content

الفصل الثاني: الثالوث الأقدس

يعلن الكائن الأزلي ذاته في كينونته الثالوثية على نحو أكثر غنى وحيوية مما يعلن في صفاته. ففي هذا الثالوث الأقدس تظهر حقيقة كل صفة من صفات الكينونة الإلهية، وتكتسب كل صفة إلهية مضمونها الأكمل ومعناها الأوفى. فعندما نتأمل في هذا الثالوث، نعرف حقاً من وما هو الله بالنسبة إلى البشر الهالكين. فذاك لا نعرفه إلا إذا عرفناه تعالى واعترفنا به بوصفه إله العهد المثلث الأقانيم، الآب والابن والروح القدس.

وفيما ننعم النظر في هذا الجزء من إقرار إيماننا، تدعونا الضرورة على نحو خاص لأن نجعل اقترابنا وموقفنا منه يتميزان بمسحة من الاحترام المقدس والهيبة. فقد كانت ساعة رهيبة لا تنسى في حياة موسى، لما ظهر له الرب في البرية في لهيب نار منبعث من العليقة. وحينما نظر موسى فرأى العليقة تتوقد بالنار لكنها لم تكن تحترق، وقد رآها من بعد، فأراد أن يقترب إلى الموضع على عجل، أوقفه الرب وقال له: لا تقترب إلى ههنا اخلع حذاءك من رجليك، لأن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدسة. وإذ سمع موسى ذلك استولى عليه الخوف الشديد وغطى وجهه لأنه خاف أن ينظر إلى الله (خروج 3: 1_ 6).

مثل هذا التهيب المقدس يليق بنا ونحن نشهد إعلان الله عن ذاته في كلمته المقدسة بوصفه إلهاً مثلث الأقانيم. فعلينا دائماً أن نتذكر، ونحن ندرس هذه الحقيقة، أننا لسنا أمام عقيدة نظرية تتعلق بالله، ولا مفهوم مجرد أو فرضية علمية حول طبيعة اللاهوت. ولسنا أمام استنتاج بشري استخلصناه، أو توصل إليه سوانا، عن طريق الوقائع والمعطيات، ثم نحاول الآن أن نحلله وان نفصله منطقياً. بل إننا، في بحث الثالوث، نتعامل بالأحرى مع الله بذاته، مع الإله الواحد والحقيقي الذي أعلن ذاته هكذا في كلمته. فكما قال لموسى: أنا إله ابراهيم واسحاق ويعقوب (خروج 3: 6)، هكذا يعلن لنا ذاته أيضاً في كلمته مظهراً نفسه لنا باعتباره الآب والابن والروح القدس.

هكذا ما برحت الكنيسة المسيحية تعترف بإعلان الله لذاته إلهاً مثلث الأقانيم، وهكذا قبلت هذه الحقيقة. نجد ذلك في البنود الإثني عشر من قانون الإيمان الرسولي. فالمسيحي لا يعبر في ذلك القانون عمّا يظنه في الله. ولا هو يدلي بعقيدة تختص بالله، قائلاً إن لله كذا وكذا من الصفات وإنه موجود على هذا النحو أو ذاك. إلا أنه بالأحرى يعترف قائلاً: أومن بالله الآب، وبيسوع المسيح ابنه الوحيد، وبالروح القدس، أومن بالإله المثلث الأقانيم. وباعتراف المسيحي بهذا إنما يعبر عن حقيقة كون الله هو الإله الحي والحقيقي، وكونه الله من حيث هو الآب والابن والروح القدس، الله الذي يضع ثقته فيه وقد أخضع له نفسه بجملتها والذي عليه يتكل مستريحاً بكل قلبه. فالله هو إله حياته وإله خلاصه. والله، بوصفه الآب والابن والروح القدس، قد خلقه وافتداه وقدّسه ومجّده. فالمسيحي مدين له تعالى بكل شيء، وفرحه وعزاؤه كامنان في إيمانه بذلك الإله والثقة به وتوقّع كل شيء من لدنه.

وما يمضي المسيح فيعترف به بخصوص هذا الإله ليس خلاصة أجملها ببضعة ألفاظ مجرّدة، بل إن ذلك بالأحرى موصوف كسلسلة من الأفعال فعلها الله في الماضي ويفعلها في الحاضر وسيفعلها في المستقبل. فقوام اعتراف المسيحي هو أعمال الله أو معجزاته. وما يعترف به المسيحي في قانون الإيمان هو تاريخ طويل وعريض ورفيع. إنه تاريخ يشمل العالم كله بطوله وعرضه، ببداءاته واستمراره ونهايته، بمصدره وتناميه ومصيره، من نقطة الخلق حتى تكميل الدهور. فما إقرار الإيمان من قبل الكنيسة إلا إعلان لأعمال الله العظيمة.

وأعمال الله تلك عديدة وتتميز بتنوع كبير. لكنها أيضاً تؤلف وحده متضامة. فأحدها مرتبط بالآخر، وبعضها ممهد لبعض، ويتبنى بعضها البعض الآخر. وفي هذه الأعمال ترتيب ونظام نموذجي وتطور، وهي ذات حركة تصاعدية. والسلسلة تنطلق من الخلق وتمر بالفداء لتصل إلى التقديس والتمجيد. وبينما تعود نهاية السلسلة إلى بدئها، فهذه النهاية في الوقت عينه هي الذروة المرتفعة عالياً فوق نقطة الانطلاق. فأعمال الله تكوّن دائرة تصعد إلى عل بصورة لولبية، وهي تمثل انسجاماً بين الخطوط الأفقية والعمودية، كما أنها تتحرك صعوداً وإلى الأمام في الوقت عينه.

والله هو المهيمن على جميع هذه الأعمال وهو بانيها، كما انه مصدرها وغايتها النهائية. فمنه وبه وله كل الأشياء. إنه صانعها ومستردها ومتممها. ثم إن الوحدة والتنوع في أعمال الله ينطلقان من ويعودان إلى الوحدة والتنوع المتواجدين في الكينونة الإلهية. فالكائن الإلهي كائن واحد وحيد وبسيط. وهذا الكائن، في الوقت عينه، ثلاثي في شخصه، وفي إعلانه، وفي تأثيره. إن عمل الله بكامله كل لا يتجزأ، إلا أنه يشتمل على أغنى تنوع وتغيّر. واعتراف الكنيسة بإيمانها يشمل تاريخ العالم بكامله. ففي إقرار الإيمان هذا تندرج لحظات الخلق والسقوط، والمصالحة والغفران، والتجديد والإصلاح الشامل (الاسترداد). إنه اعتراف ينطلق من الله المثلث الأقانيم ويقتاد كل شيء رجوعاً إليه.

من هنا كان بند الثالوث الأقدس لبَّ اعترافنا وقلب عقيدتنا، وموضوع التسبيح والعزاء عند جميع المؤمنين الحقيقيين بالمسيح.

وقد كان هذا الاعتراف موضع نزاع دائم في الحرب الروحية على مدى العصور. فالاعتراف بالثالوث الأقدس هو اللؤلؤة الثمينة التي استؤمنت الكنيسة المسيحية على الحفاظ عليها والدفاع عنها.

وما دام هذا الاعتراف بالثالوث الإلهي يحتل مركزاً أساسياً كهذا في الإيمان المسيحي، فمن المهم أن نعرف الأساس الذي عليه يقوم والمصدر الذي منه جاء إلى الكنيسة. فغير قليل في أيامنا من يذهبون أن هذا المعتقد هو حصيلة الجدل البشري والتعلم الأكاديمي، وعلى ذلك يعتبرونه غير ذي قيمة نسبة إلى الحياة الدينية. والإنجيل – بحسب قولهم – كما أعلنه المسيح، لا أثر فيه لعقيدة الثالوث الإلهي، إذ ليس فيه ما يشير إلى اللفظة بحد ذاتها ولا إلى الحقيقة التي تستعمل اللفظة للتعبير عنها. ويذهب هؤلاء إلى أنه عندما وصل إنجيل المسيح إلى أيدي هواة الفلسفة اليونانية فحوّروه، عندئذ فقط تشربت الكنيسة المسيحية الفكرة القائلة بأن المسيح ذو طبيعة إلهية ثم أضافت الروح القدس أيضاً إلى ذات الكائن الإلهي. وهكذا كان أن اعتراف الكنيسة بثلاثة أقانيم في الإله الواحد.

غير أن الكنيسة المسيحية بالذات طالما كان لها فكرة مغايرة لهذا تماماً، فهي لم تر في عقيدة الثالوث ابتكاراً ابتدعه علماء اللاهوت الماكرون، ولا حصيلة لدمج الإنجيل بالفلسفة اليونانية، بل بالأحرى إقراراً بحقيقة معبر عنها فعلاً في كلمة الله، وبعبارة موجزة: عقيدة استخلصها الإيمان المسيحي من الإعلان الإلهي. ورداً على السؤال "ما دام الكائن الإلهي واحداً فقط، فلماذا تتكلم عن الآب والابن والروح القدس؟". تقدّم خلاصة العقيدة المعروفة بخلاصة هايدلبرج جواباً موجزاً وحاسماً: لأن الله أعلن نفسه هكذا في كلمته (السؤال 25). ذلك أن إعلان الله هو الأساس الراسخ الذي عليه أيضاً يقوم إقرار الكنيسة بهذه الحقيقة. فالإعلان الإلهي هو المصدر الذي منه استمد وعليه بني هذا المعتقد الذي تعتنقه الكنيسة المسيحية الواحدة المقدسة الجامعة. إذ هكذا أعلن الله ذاته، وهو أعلن ذاته على هذا النحو –أي بوصفه إلهاً مثلث الأقانيم– لأنه تعالى كائن على هذا النحو، وهو كائن على هذا النحو لأنه هكذا أعلن ذاته.

فالثالوث المعلن في كلمة الله يشير إلى الثالوث الكائن في الذات الإلهية.

وهذا الإعلان لم يتم دفعة واحدة. فهو لم يقدّم ولم يكمل في لحظة واحدة من الزمان. بل إن لهذا الإعلان بالأحرى تاريخاً طويلاً على مدى قرون. فقد ابتدأ عند الخلق، واستمر بعد السقوط في المواعيد وأعمال النعمة التي أغدقت على شعب الله وبلغ ذروته في شخص المسيح وعمله، وفي انسكاب الروح القدس وتأسيس الكنيسة. ويبقى هذا الإعلان صامداً على مر العصور في وجه كل معارضة، وذلك في شهادة الكلمة المقدسة التي لا تنقض وفي إقرار الكنيسة بالإيمان، وهو الإقرار الثابت كالصخر. ولأن الإعلان كان له هذا التاريخ الطويل، فقد شهد الاعتراف بكيان الله الثلاثي تدرجاً وتطوراً أيضاً. حاشا لله أن يطرأ عليه أي تغيّر، إذ هو هو دائماً أبداً. إلا أنه، في تدرج الإعلان، يجعل ذاته دائماً أكثر وضوحاً وأكثر مجداً أمام الناس والملائكة. وإذ يستمر إعلانه عن ذاته، تنمو معرفتنا به.

لما بدأ الله يعلن ذاته، في أيام العهد القديم، فإن ما يبرز في الطليعة بكل توكيد هو وحدانية الله ووحدته.

فبسبب خطية الإنسان، ضاعت معرفة الله، أو كما يقول بولس بصورة عميقة جداً، انحجز الحق بالإثم. حتى إن ما يمكن أن يعرف عن الله من خلال ما صنعه صار باطلاً بفعل تصورات البشر وخيّمت عليه الظلمة بفعل غباوة قلوبهم. وإذا البشرية في كل جهة قد تردت في مهاوي الوثنية وعبادة الأصنام (رومية 1: 18 – 23).

لذلك كان من الضروري أن يستهل الإعلان بتأكيد وحدانية الله. وكأنما هي صرخة في آذان البشرية: إن الآلهة التي تسجدون لها ليست هي الله الحقيقي. فلا يوجد إلا إله حقيقي واحد، هو الله الذي في البدء خلق السماوات والأرض (تكوين 1: 1، 2: 1)، الله الذي عرف نفسه لإبراهيم بأنه الله القدير (تكوين 17: 1، خروج 6: 3)، الله الذي ظهر لموسى بوصفه يهوه، متحدثاً عن نفسه بأنه "أهيه الذي أهيه"، أي "أكون الذي أكون" (خر 3: 14)، الله الذي بدافع من إنعامه الكلي اختار شعبه ودعاهم وقبلهم في عهده (خر 19: 4ومايلي). إذاً كان مضمون الإعلان أول كل شيء، أن يهوه وحده هو أيلوهيم، أي الرب وحده هو الله، ولا إله آخر سواه.[20]

وقد كان إعلان وحدانية الله ضرورياً أيضاً لشعبه ضرورة ماسة. فقد كان بنو إسرائيل محاطين من كل جهة بالوثنيين، وقد حاول هؤلاء الوثنيون كل حين إغواء بني إسرائيل للارتداد عن الرب وخيانته. بالإضافة إلى أنه إلى زمن السبي كان شعب إسرائيل يحسون في أنفسهم ميلاً نحو عبادة الأصنام والتماثيل، حتى أنهم كانوا يتردون في مهاوي ممارسة تلك العبادة رغم نهيي الناموس عنها وتحذيرات الأنبياء منها. لذلك نجد أن الله بالذات قد شدد على حقيقة كونه الإله نفسه الذي أعلن ذاته لإبراهيم واسحق ويعقوب بوصفه الله القدير (خروج 3: 6، 15)، وإن كان آنذاك قد ظهر لموسى بوصفه الرب المزمع أن يعتق شعبه على يد موسى. ولما أعطى تعالى ناموسه لإسرائيل، كتب في أعلاه كفاتحة له أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر. وفي الوصية الأولى، والثانية، نهى نهياً باتاً عن عبادة الأصنام والتماثيل (خروج 20: 2- 5 ). ولأن الرب إلهنا إله واحد، ينبغي لإسرائيل أن يحبه بكل قلبه وكل نفسه وكل قدرته (تثنية 6: 4، 5). فالرب وحده هو إله إسرائيل ولذلك يجب أن يتعبدوا له وحده.

ولكن على الرغم من حقيقة التشديد بهذه الصورة القوية على وحدانية الله بحيث يمكن اعتبارها– إذا جاز القول– البند الأول من شريعة إسرائيل الأساسية، نجد أن التمايزات، ضمن تلك الوحدة المتعلقة باللاهوت تلوح للعيان أيضاً إذ يتدرج الإعلان نحو كمال الكشف عن الكينونة الإلهية. حتى أن الاسم الذي يستخدم للدلالة على الله في الأصل العبري له، في حد ذاته، معنى ومغزى في هذا المجال. ذلك أن هذا الاسم، أي أيلوهيم، يذكر بصيغة الجمع، وبالتالي فهو يشير فعلاً، بكونه جمعاً توكيداً، إلى ملئ الحياة والقدرة الكائنين في الله، وإن كان لا يشير إلى وجود الأقانيم الثلاثة في كينونة الله على حد ما كان يعتقد على العموم في ما مضى. ومما يتعلق بهذه الحقيقة، ولا شك، أن الله يتكلم عن نفسه أحياناً بصيغة الجمع، وبهذا يشير إلى وجود تمايزات داخل ذاته تحمل طابعاً شخصياً (تكوين 1: 26، 27، 3: 22، إشعياء 6: 8).

ثم إن ما يعلم به العهد القديم من أن الله يخلق كل شيء إلى الوجود- سواء في الخلق أو في العناية- بكلمته وبروحه، لهو وتعليم ذو دلالة أهم. فحاشا له أن يكون أشبه بالكائن البشري حتى يصنع شيئاً ما من مواد في متناول يده، باذلاً جهداً كثيراً وملاقياً عناءً كبيراً. بل إنه بالأحرى يدعو كل شيء من العدم إلى الوجود بمجرد فعل الكلام.

هذه الحقيقة نتعلمها بأرفع طريقة ممكنة من أول إصحاح في سفر التكوين، كما أنها معبر عنها في مواضع أخرى على نحو ولا أمجد نثراً وشعراً: لأنه قال فكان، هو أمر فصار (مزمور 33: 9). وهو يرسل كلمته فيذيب الجمد والبر (مز 147: 18). صوت الرب على المياه، يزلزل البرية، ويجعل الجبال تمرح مثل عجل، ويكشف الوعور (مز 29: 3 – 10).

ففي هذا الاستعراض الرفيع لأعمال الله حقيقتان: أولاهما هي أن الله هو القدير الذي ما إن ينطق بكلمة حتى تبرز كل الأشياء إلى الوجود، والذي كلمته هي القانون وصوته هو القوة (مز 33: 9، 29: 4)، والثانية هي أنه يعمل أعماله عن قصد، وليس بلا روية ولا تدبير، وينفذ أعماله كلها بأسمى حكمة. والكلمة التي ينطق بها الله هي قوة، إلا أنها أيضاً وسيلة التعبير عن الفكر. فهو صانع الأرض بقوته، مؤسس المسكونة بحكمته، وباسط السماوات بفهمه (إرميا 10: 12، 51: 15). وهو قد صنع أعماله كلها بحكمة، والأرض ملآنة من غناه (مزمور 104: 24). وحكمة الله لم تأته من خارج ذاته، بل كانت لديه منذ البدء. إذ كانت لديه باعتبارها أول طريقة، قبل أعماله منذ القدم. فعندما ثبت السماوات، ورسم دائرة على وجه الغمر، وأثبت السحب من فوق، وشدد ينابيع الغمر، عندئذ كانت الحكمة حاضرة لديه من قبل، كائنة عنده، لذته كل يوم، فرحة دائماً قدامه (أمثال 8: 22 – 31). فقد ابتهج الله بالحكمة التي بها خلق العالم.

وإلى جانب كلمة الله وحكمته هذه، يظهر روح الله باعتباره وسيط الخلق. فكما أن الله هو الحكمة ويمتلك الحكمة في آن معاً، بحيث يستطيع أن يشارك فيها ويعرضها في أعماله، فكذلك تماماً هو روح في كينونته (تثنية 4: 12، 15). ويمتلك روحاً هو ذلك الروح الذي به يستطيع أن يحل في العالم ويكون حاضراً فيه كل حين وفي كل مكان (مزمور 139: 7). والرب، دون أن يكون أحد له مشيراً، أوجد بروحه كل شيء (إشعياء 40: 13وما يلي). في البدء كان ذلك الروح يرف على وجه المياه (تكوين 1: 2)، وهو يظل فعالاً في كل ما خلق. وبذلك الروح يجعل الله السماوات مسفرة (أيوب 26: 13)، ويجدد وجه الأرض (مزمور 104: 3)، ويحيي الإنسان (أيوب 33: 4)، ويبقي نسمة الحياة في أنفه (أيوب 27: 3)، ويعطيه عقلاً وحكمة (أيوب 32: 8)، وكذلك أيضاً يجعل الزهر يذبل والعشب ييبس (إشعياء 40: 7). وبعبارة وجيزة: بكلمة الرب صنعت السماوات، وبنسمة فمه كل جنودها (مزمور 33: 6).

وهذا التنوع في ذات الله يبرز بأكثر جلاء في أعمال التجديد، حيث ليس أيلوهيم بل يهوه، أي الرب إله العهد، هو من يعلن نفسه ويظهر ذاته في عجائب الفداء والخلاص. بهذه الصفة يفتدي شعبه ويقودهم، ليس فقط بكلمته التي يتكلم بها أو يبلغها إليهم، بل أيضاً بواسطة ملاك العهد (ملاك الرب)، وقد سبق أن ظهر هذا الملاك في تاريخ الآباء: لهاجر (تكوين 16: 6 وما يلي)، ولإبراهيم (تكوين 18 ومايلي). وليعقوب (تكوين 28: 13 وما يلي). هذا الملاك أظهر نعمته وقدرته خصوصاً في إعتاق بني اسرائيل من العبودية.2 وملاك الرب هذا ليس شأنه شأن الملائكة المخلوقين من حيث الأهمية بل إنه بالأحرى ظهور علني خاص يتجلى فيه الله ذاته. فهو– من ناحية– متميز بوضوح عن الله الذي يتكلم عنه باعتباره ملاكه، لكنه مع ذلك– من الناحية الأخرى– واحد مع الله نفسه من حيث الاسم والقدرة، وفي الفداء والبركة، ومن جهة قبول العبادة والإكرام. وهو يدعى الله في (تكوين 16: 13)، وإله بيت إيل في (تكوين 31: 13)، ويتبادل الأدوار مع الله أو الرب (تكوين 28: 30، 32؛ خروج 3: 4)؛ وله اسم الله في (خروج 23: 21). وهو يخلص من كل شر (تكوين 48: 16)، وينقذ بني اسرائيل من أيدي أعدائهم (خروج 3: 8)، ويشق المياه ويجعل البحر يابسة (خروج 14: 21)، ويحفظ شعب الله في الطريق ويأتي بهم إلى كنعان سالمين وينصرهم على أعدائهم (خروج 3: 8؛ 23: 30)، ومن الواجب أن يطاع طاعة مطلقة كما لو كان هو الله بذاته (خروج 23: 21)، وهو حالٌّ دائماً حول خائفي الربّ (مزمور 34: 7؛ 35: 5).

وكما أن يهوه، في عمله التجديدي، يجري أفعاله الفدائية، بواسطة ملاك العهد، فكذلك تماماً يستخدم روحه ليعطي شعبه جميع أنواع الطاقات والمواهب. ونجد في العهد القديم أن روح الرب هو مصدر كل حياة وكل خير وكل مقدرة. فهو يمنح القضاة شجاعة وقوة – من عثنيئيل (قضاة 3: 10)، إلى جدعون (قض 6: 34)، إلى يفتاح (قض 11: 29)، إلى شمشون (قض 14: 6، 15: 14). وهو يهب بصيرة فنية لصناع حلل الكهنة والخيمة والهيكل،3ويعطي الحكمة والفهم للقضاة الذين شاركوا موسى في الإطلاع بتحمل مسؤولية الشعب (عدد 11: 17، 25). والروح أيضاً يعطي الأنبياء روح النبوة، وجميع أولاد الله التجديد والتقديس والإرشاد (مزمور 51: 12، 13؛ 143: 10).

وبالاختصار، فإن الكلمة (الموعد أو العهد) التي أعطاها الرب لإسرائيل عند الخروج من مصر قد تواجدت على مر العصور، ولم تزل ثابتة بعد السبي في أيام زربّابل، بحيث لم يكن ما يدعو الشعب إلى الخوف (حجَّي 2: 4، 5). ولما اقتاد الرب اسرائيل خارج مصر صار هو مخلص اسرائيل. وقد تم التعبير عن هذا الترتيب من الله نحو شعبه في حقيقة كونه قد تضايق في كل ضيقهم (اعتبر معاناة شعبه معاناة له خاصة به) ولذلك أرسل ملاكه لينجيهم. بمحبته ورأفته هو فكهم ورفعهم وحملهم خاصة له طوال تلك الأيام القديمة. وقد أرسل إليهم روحه القدوس لكي يهديهم في سُبُل الرب (إشعياء 63: 9– 12). وفي أيام عهد الله القديم، وضع الرب على شعب اسرائيل، بوساطة رئيس الكهنة، بركته المثلثة: بركة الحراسة، وبركة الرحمة، وبركة السلام (عدد 6: 24– 26).

إذاً على هذا النحو التدريجي الواضح، يتم التعبير عن التمايز الثلاثي في الذات الإلهية كما سبق أن ظهر في تاريخ اقتياد الله لنبي إسرائيل. على أن العهد القديم يتضمن أيضاً وعوداً بأن المستقبل سيشهد إعلاناً أسمى وأغنى. لكن بني إسرائيل، رغم كل شيء رفضوا كلمة الرب وأحزنوا روحه القدوس (إشعياء 63: 10، مزمور 106). وهكذا تبيّن أن إعلان الله نفسه في ملاك العهد وفي روح الرب، كان غير واف: فإذا كان الله يريد أن يؤيد عهده ويتم وعده، فإن إعلاناً آخر وأسمى لا بد أن يعطي.

ومثل هذا الإعلان نادى الأنبياء بمقدمه،وعرفوا وقالوا. إن الرب سيقيم من وسط إسرائيل نبياً مثل موسى ويضع كلامه في فم ذلك النبي (تثنية 18: 18). هذا الشخص سيكون كاهناً إلى الأبد على رتبة ملكي صادق (مزمور 110: 4)، وملكاً من بيت داود (2 صموئيل 7: 12– 16)، وقضيباً من جذع يسَّى (إشعياء 11: 1)، وملكاً يقضي طالباً الحق ومبادراً بالعدل (إش 16: 5). ولسوف يأتي كائناً بشرياً، فيكون إنساناً ابن امرأة (إش 7: 14)، كما سيكون بلا صورة ولا جمال (إش 53: 2 وما يلي)، إلا أنه في الوقت عينه سيكون هو عمانوئيل (إش 7: 14) والرب برّنا (إرميا 23: 6)، وملاك العهد (ملاخي 3: 1)، والرب نفسه ظاهراً لشعبه (هوشع 1: 7، ملاخي 3: 1). ولسوف يدعي اسمه عجيباً مشيراً، الله القدير، الآب الأبدي، رئيس السلام (إش 9: 6).

وقال الأنبياء إنه سيكون في أعقاب ظهور عبد الرب هذا حضور أغنى للروح القدس. فهذا الروح سيحل على المسيا، بوصفه روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة، روح المعرفة ومخافة الرب (إش 11: 2، 42: 1، 61: 1). وكذلك سيسكب الروح على كل بشر، على البنين والبنات، والشيوخ والشباب، والعبيد والإماء.5 كما أنه يعطي قلباً جديداً وروحاً جديداً حتى يسلك شعب الرب في فرائضه ويحفظوا أحكامه ويعملوا بها.6

وهكذا يشير العهد القديم بالذات إلى أن الإعلان الكامل لله سيكون قوامه ثالوثية الكينونة الإلهية.

هذا الوعد أو هذه النبوة يفي بها تماماً تحقيق العهد الجديد. وفي هذا المجال أيضاً نجد أن وحدانية الله أو وحدته هي نقطة الانطلاق في كل إعلان إلهي.[21] ولكن الآن في العهد الجديد ينبعث من هذه الوحدانية نور عارم يوضح بجلاء التنوع في كينونة الله. ويحدث هذا: أولاً في وقائع الفداء العظيمة المتمثلة في التجسد والكفارة وحلول الروح القدس، ومن ثم في تعليم المسيح ورسله. فإن عمل الخلاص كل متكامل، وهو عمل إلهي من أوله إلى آخره. ولكن في هذا العمل ثلاث محطات سامية، هي الاختيار والغفران والتجديد، وهذه الثلاثة تشير إلى مصدر ثلاثي في كينونة الله، أي إلى الآب والابن والروح القدس.

حتى الحبل بالمسيح يرينا فعالية الله المثلثة. فبينما الآب أعطي الابن العالم (يوحنا 3: 16)، والابن نفسه نزل من السماء (يوحنا 6: 38)، حبل بذلك الابن في مريم بالروح القدس (متى 1: 20، لوقا 1: 35). وعند معمودية يسوع المسيح مسح بالروح القدس وأُعلن جهراً أنه ابن الآب الحبيب، الابن الذي به سر الآب كل سرور (متى 13: 16، 17). والأعمال التي عملها المسيح سبق أن رآه الآب إياها (يوحنا 5: 19، 8: 38)، وقد تمت على يده بقوة الروح القدس (متى 12: 28). وفي موته قدّم نفسه لله بالروح الأزلي (عبرانيين 9: 14). والقيامة هي إقامة من قبل الآب (أعمال 2: 24)، كما أنها في الوقت نفسه عمل يسوع الخاص الذي به تبرهن بقوة أنه ابن الآب بحسب روح القداسة (رومية 1: 3). وبعد قيامته، وفي يوم الأربعين، صعد في الروح الذي أحياه إلى أعلى السماء، وهناك أخضع لنفسه الملائكة والسلاطين والقوّات.

هذا، ويتفق تعليم المسيح والرسل كلياً مع الدرس الذي يستفاد من هذه الأحداث بذاتها.

فقد جاء المسيح إلى الأرض لكي يعلن الآب ويظهر اسمه بين الناس (يوحنا 1: 18، 17: 6). واسم الآب استعمله الوثنيون أيضاً بالإشارة إلى الله الخالق لكل شيء. ويؤيد الكتاب المقدس معنى اللفظة هذا في مواضع شتى.8 كما أن العهد القديم يستعمل تسمية الآب عدة مرات للدلالة على علاقة الله الثيوقراطية (نسبة إلى ملك الله بمقتضى الشريعة الإلهية على نحو يجمع الدين والدولة) بإسرائيل، لأنه بقدرته المذهلة أوجد هذه العلاقة وحافظ عليها (تثنية 32: 6، إشعياء 63: 16). غير أن العهد الجديد يلقي ضوءاً جديداً بصورة مجيدة على اسم الآب هذا في دلالته على الله. وطالما بيّن المسيح فروقاً جوهرية بين العلاقة التي له هو مع الآب وتلك التي للآخرين، كاليهود والتلاميذ مثلاً. فعندما يعلّم تلاميذه مثلاً "الصلاة الربانية" تلبية لطلبهم، يقول: "متى صليتم (أنتم) فقولوا.." وهو يقصد هذا التعبير بعينه. وحين يعلن لمريم المجدلية، بعد قيامته، صعوده الوشيك، يقول: "أصعد إلى أبي وأبيكم، وإلهي وإلهكم، (يوحنا 20، 17). وبعبارة أخرى، فإن الله هو أبوه على نحو خاص (يوحنا 5: 18). فالآب يعرف الابن ويحبه بطريقة خاصة وإلى أقصى حد بحيث إن الابن وحده، في المقابل، يستطيع أن يعرف الآب ويحبه هكذا.9 وعليه، يدعى الله بين الرسل دائماً بوصفه أباً ربّنا يسوع المسيح (أف 1: 3). هذه العلاقة بين الآب والابن لم تستحدث عبر الزمن بل هي كائنة منذ الأزل (يوحنا 1: 1، 14، 17: 24). إذاً الله هو الآب في المقام الأول لأنه أبو الابن بطريقة فريدة للغاية.

وبمعنى اكتسابي يدعى الله أيضاً أبا الخلائق كلها لأنه خالقها ومدبرها (1 كورنثوس 8: 6 ومواضع أخرى). وهو يدعى أبا اسرائيل لأن اسرائيل صنيعة يده بفضل الاختيار والدعوة (تثنية 32: 6، إشعياء 64: 8)، كما أنه أبو الكنيسة وجميع المؤمنين لأن محبة الآب للابن تنسحب عليهم شرعاً (يوحنا 16: 27، 17: 24) إذ قبلوا كأولاد عنده بعدما ولدوا منه بالروح القدس (يوحنا 1: 12، رو 8: 15).

ولذلك فالآب هو دائماً الآب، الأقنوم الأول في اللاهوت الذي منه. في مشورة الله وفي جميع أعمال الخلق والعناية والفداء التقديس، تصدر المبادرة. فهو أعطى الابن أن تكون له حياة في ذاته (يوحنا 5: 26)، وهو مرسل الروح القدس (يوحنا 15: 29). هو صاحب الاختيار والمسرة (متى 11: 26، أف 1: 4، 9ن 11). هو مصدر الخلق والعناية والفداء والتجديد (مزمور 33: 6، يوحنا 3: 16). وإليه يعزي– بمعنى خاص– الملك والقوة والمجد (متى 6: 13). وهو يحمل اسم الله بصورة خاصة تمييزاً له عن الرب يسوع المسيح والروح القدس. وبالحقيقة إن المسيح نفسه، باعتباره الوسيط، لا يدعو الله أباه وحسب بل إلهه أيضاً (متى 27: 46، يوحنا 20: 17)، والمسيح نفسه يدعى مسيح الله.[22]

ومن حيث إن الله هو الآب، يستدل على أن هناك أيضاً الابن الذي قبل الحياة منه والذي يشاركه في محبته. ونجد في العهد القديم الاسم "ابن الله" مستعملاً للإشارة إلى الملائكة،[23] وإلى شعب إسرائيل،[24] وأيضاً بصورة خاصة إلى الملك الثيوقراطي على ذلك الشعب.[25] إلا أن هذا الاسم يضفي عليه في العهد الجديد معنى أكثر عمقاً. فإن المسيح هو ابن الله بمعنى خاص وفريد جداً: فهو أرفع كثيراً جداً من الملائكة والأنبياء (متى 13: 32، 21: 27، 22: 2)، وهو نفسه يقول إنه لا أحد يستطيع أن يعرف الابن إلا الآب، ولا أحد يستطيع أن يعرف الآب إلا الابن (متى 11: 27). وتمييزاً له عن الملائكة والبشر، هو ابن الآب الوحيد (رو 8: 32)، الابن الحبيب الذي به سر الآب كل سرور (مت 3: 17)، ابن الله الوحيد (يوحنا 1: 18) الذي أعطاه الآب أن تكون له حياة في ذاته (يوحنا 5: 26).

هذه العلاقة الخاصة جداً والفريدة بين الآب والابن لم تنشأ عن طريق الحمل المعجزي بواسطة الروح القدس، ولا نجمت عن المسح عند المعمودية أو عن القيامة والصعود– وإن كان كثيرون قد رأوا ذلك– بل هي علاقة كائنة منذ الأزل. فالابن الذي اتخذ في المسيح طبيعة بشرية كان في البدء مع الله، بوصفه الكلمة (يوحنا 1: 1)، وعندئذ كانت له صورة الله (فيلبي 2: 6)، وكان غنياً يجلله المجد (يوحنا 17: 5، 24)، وكما كان شعاع مجد الله ورسم جوهره (عبرانيين 1: 3)، ولذلك كان ممكناً بالتحديد في ملء الزمان أن يرسل ويبذل ويدخل إلى العالم.[26] ومن هنا أيضاً يعزى إليه الخلق (يوحنا 1: 3، كولوسي 1: 16) والعناية (عبرانيين 1: 3) وإنجاز الخلاص بالكامل (1 كورنثوس 1: 30).

وهو ليس كالخلائق مصنوعاً أو مخلوقاً، بل إنه بالأحرى بكر كل خليقة، أي أنه الابن الذي له رتبة البكر وحقوقه على جميع الخلائق (كولوسي 1: 15). وهكذا هو أيضاً بكر القائمين من بين الأموات، والبكر بين إخوة كثيرين، وبالتالي فهو المتقدم بين الجميع وفي كل شيء (رومية 8: 29، كولوسي 1: 18). ومع أنه في ملء الزمان، اتخذ صورة عبد، فقد كان رغم ذلك في صورة الله. لقد كان في كل شيء مثل الآب تماماً (فيلبي 2: 6)، وفي الحياة (يوحنا 5: 26)، والمعرفة (متى 11: 27)، والقوة (يوحنا 1: 3، 5: 21، 26) والإكرام (يو 5: 23). وهو نفسه الله الذي ينبغي له الحمد إلى الأبد دون سواه.[27] وكما أن كل شيء هو من الآب، فكذلك أيضاً كل شيء هو بالابن (1 كورنثوس 8: 6).

ثم إن الآب والابن متحدان ومندمجان في الروح القدس، وبواسطة الروح يحلان في جميع الخلائق. صحيح أن الله بحسب طبيعته هو روح (يوحنا 4: 24) وهو أيضاً قدوس (إشعياء 6: 3)، غير أن الروح القدس متميز تماماً عن الله الآب بوصفه روحاً. فعلى سبيل المقارنة، كما أن الإنسان روح في طبيعته غير المنظورة وهو أيضاً فيه روح بها يعي ذاته ويدرك نفسه، فكذلك الله هو روح في طبيعته وله أيضاً روح، روح يفحص أعماق كيانه (1 كورنثوس 2: 11). لذا يدعى هذا الروح روح الله أو الروح القدس (مزمور 51: 12، إشعياء 63: 10– 11). وهذا يتم بالمباينة مع روح أي ملاك أو مخلوق بشري أو أي مخلوق آخر. ولكن مع أن الروح متميز عن الآب والابن، فهو متحد بهما كليهما في أوثق العلاقات. من هنا يدعى نسمة القدير (أيوب 33: 4)، ونسمة فمه (مزمور 33: 6)، ويرسل من عند الآب والابن (يوحنا 14: 26، 15: 26) منطلقاً من عندهما، لا من عند الآب وحده (يوحنا 15ك 26) بل من عند الابن أيضاً، لأنه يُدعى أيضاً روح المسيح كما يدعى روح الآب (رومية 8: 9).

ومع أن الروح القدس على هذا النحو يعطي، أو يرسل أو يسكب، من قبل الآب والابن، فهو غالباً ما يظهر في صورة قوة خاصة، أو موهبة تؤهل الناس لدعوتهم أو وظيفتهم. ولذا يتكلم سفر الأعمال مثلاً في مواضع شتى منه عن الروح القدس كأنه قوة، وذلك في ما يتعلق بموهبة النبوة خصوصاً (8: 15، 10: 44، 11: 15، 15: 8، 19: 2). ولكن لا مسوغ لأن نستدل من هذا الواقع، مثلما يفعل كثيرون، أن الروح القدس لا يعدو كونه سوى موهبة من الله أو قوة إلهية وحسب. ففي مواضع أخرى يظهر على وجه التحديد بوصفه شخصاً (أقنوماً) له أسماء شخصية وخصائص شخصية ويقوم بأعمال شخصية. وهكذا ففي (يوحنا 15: 26؛ 16: 13، 14) يستعمل المسيح ضمير الغائب العاقل (في الأصل اليوناني) حيث يقول: ذاك يشهد لي ويمجدني. وفي الموضع نفسه يسميه المسيح المعزي، وهذا الاسم هو في الأصل الاسم نفسه الذي يطلق على المسيح في (1 يوحنا 2: 1) (شفيع).

وفضلاً عن هذه الأسماء الشخصية، تنسب إلى الروح القدس خصائص شخصية من كل نوع، منها مثلاً: الشخصية المتفردة (أعمال 13: 2)، ووعي الذات (أع 15: 28)، وحرية الإرادة (1 كورنثوس 12: 11). ثم إنه يسند إليه أكثر من نوع من النشاطات الشخصية، كالفحص (1 كورنثوس 2: 11)، والاستماع (يوحنا 16: 13)، والكلام (رؤيا 2: 17)، والتعليم (يوحنا 14: 26)، والصلاة (رومية 8: 27)، وما شابه ذلك. وهذا كله يبرز للعيان، على أسمى وأوضح ما يكون، في حقيقة كون الروح يوضع على المستوى نفسه مع الآب والابن (متى 28: 19، 2 كورنثوس 13: 14).

هذه النقطة الأخيرة نقطة شديدة الأهمية، وهي تدل على حقيقة كون الروح القدس ليس مجرد شخص وحسب بل أيضاً الله بالذات. وتتوافر في الكتاب المقدس جميع المعطيات الضرورية للإقرار بهذه الحقيقة. فإنما علينا أن نلاحظ أنه على الرغم من التمايز المشار إليه أعلاه، بين الله وروحه، فالاثنان غالباً ما يتبادلان، حسب الكلمة المقدسة، بحيث إنه إذا قال الله أو روحه شيئاً، أو فعلاه، فالمقصود واحد. ففي (أعمال 5: 3، 4) يدعى الكذب على الروح القدس كذباً على الله. وفي (1 كورنثوس 3: 16) يدعى المؤمنون هيكل الله لأن روح الله ساكن فيهم. أيضاً علينا أن نضيف إلى هذه الحقائق الواقعة أن صفات إلهية شتى تنسب إلى الروح القدس تماماً كما تنسب إلى الآب والابن، ومنها: الأزلية (عبرانيين 9: 12)، الحضور في كل مكان (مزمور 139: 7)، العلم بكل شيء (1 كورنثوس 2: 11)، كلية القدرة (1 كو 12: 4 – 6). كما تنسب إلى الروح أيضاً أعمال إلهية شتى، منها: الخلق (مزمور 33: 6)، العناية (مز 104: 30)، الفداء (يوحنا 3: 3). وبالتالي، فالروح يشارك الآب والابن في المجد الواحد عينه. فهو يحتل مكانته إلى جنب الآب والابن من جهة علّة الخلاص (2 كورنثوس 13: 14، رؤيا 1: 4). وباسمه أيضاً اعتمدنا (متى 28: 19)، ونبارك (2 كو 13: 14). أضف إلى هذا أن التجديف على الروح القدس هو خطيئة لا تغتفر (متى 12: 31 _ 32). وبعبارة أخرى، فكما أن جميع الأشياء هي من الآب وبالابن، فكذلك تتواجد كلها وتستقر في الروح القدس.

وعناصر عقيدة الثالوث هذه كلها، المنتشرة في مواضع شتى من الكتاب المقدس كله، قد كثفت جميعاً- إن جاز القول- في أمر المسيح بالمعمودية وفي البركة الرسولية. فبعد القيامة وقبل الصعود طلب المسيح إلى رسله أن يذهبوا إلى جميع الأمم ويتلمذوا الناس له ويعمدوهم باسم الإله الواحد، الذي له هنا ثلاث مسميات ظاهرة. فالآب والابن والروح، في وحدتهم وفي تمايزهم، هم ملء إعلان الله الكامل. كذلك أيضاً بحسب الرسل، يتضمن خير الإنسان الكلي وخلاصه الشامل في محبة الآب ونعمة الابن وشركة الروح القدس.[28] فالمسرة والعلم السابق والقوة والمحبة والملك والقدرة، هي للآب. والوساطة والمصالحة والنعمة والفداء، هي للابن. والتجديد والولادة الجديدة والتقديس والفداء، هي للروح القدس. أما علاقة المسيح بالآب، فتوازيها تماماً علاقة الروح القدس بالمسيح. فكما أن الابن لا يتكلم بشيء ولا يعمل شيئاً من ذاته، بل يتلقى كل شيء من الآب (يوحنا 5: 26، 16: 15)، فكذلك يأخذ الروح القدس كل شيء من المسيح (يو 16: 13، 14). وكما يشهد الابن للآب ويمجده (يوحنا 1: 18، 17: 4، 6)، فكذلك يشهد الروح القدس للابن ويمجده (يوحنا 15: 26، 16: 14). وكما أنه لا يأتي أحد إلى الآب إلا بالابن (يو 14: 6)، فكذلك لا يستطيع أحد أن يقول إن يسوع رب إلا بالروح القدس (1 كورنثوس 12: 3). وبالروح لنا شركة مع الآب ومع الابن. وفي الروح القدس يسكن الله نفسه بالمسيح في قلوبنا. وما دام كل شيء هكذا، فالروح القدس، مع الآب والابن، هو الإله الواحد الحقيقي المستحق أن يمدح ويحمد إلى الأبد على كونه هكذا.

لهذه العقيدة المختصة بالروح القدس قالت الكنيسة المسيحية نعم وآمين، وذلك في اعترافها بالثالوث الأقدس. ولم تبلغ الكنيسة هذا الاعتراف المجيد والثمين إلا بعد جهاد مرير وطويل مع الأرواح. وها قد نطوت قرون على حسم هذه المسألة بعدما شهد أولاد الله أعمق المعاناة في حياتهم الروحية، إذ انصبت جهود جبارة على سبر أغوار هذه التعاليم من تعاليم كلمة الله المقدسة لصياغته في إقرار الإيمان الكنسي بكل نقاوته، جهود بذلها آباء الكنيسة ومعلموها ذوو الفكر الثاقب والموهبة الفذة. وما من شك في أن الكنيسة ما كانت لتحرز النجاح في هذا الجهد المعتبر من قبل إرساء الأسس، لو لم يقدها الروح القدس إلى الحق، ولو لم تقبل أولئك الذين التزموا سواء السبيل من الموهوبين مواهب غير عادية وذوي التقوى والحكمة، أمثال ترتليان وإيرينايس وأثناسيوس والكبدوكي الثلاثة وأغسطينوس وهيلاريوس وكثيرين سواهم.

وفي معركة الأرواح تلك لم يكن على شفا الإفساد إلا جوهر المسيحية الخاص. فمن جهتين تعرضت الكنيسة لخطر السماح لنفسها بالسقوط عن الأساس الراسخ الذي بنيت عليه، مما يؤول إلى غلبة العالم عليها.

فمن جهة، كان هنالك خطر الآريوسية، وهي منسوبة إلى الشيخ الاسكندراني آريوس الذي توفى في سنة 336. وقد ارتأى آريوس أن الآب وحده هو الإله الأزلي الحقيقي، مادام هو المصدر غير المنبثق بكل معنى الكلمة. أما بخصوص الابن، أي الكلمة الذي صار في المسيح جسداً، فقد علّم آريوس بأنه لا يمكن أن يكون هو الله لأنه منبثق، ولذلك زعم أن المسيح مخلوق. وبينما ذهب إلى أنه صنع قبل سائر الخلائق، ارتأى أنه مع ذلك مخلوق، لأنه تكوّن بمشيئة الله شأنه شأن تلك الخلائق. وعلى هذا النحو نفسه ارتأى آريوس أن الروح القدس مخلوق، أو أنه صفة من صفات الله أو سجية من سجاياه.

ومن جهة ثانية، كانت جماعة السابليوسية نشيطة، وهي منسوبة إلى شخص اسمه سابليوس عاش في روما في أوائل القرن الثالث. وقد ارتأى سابليوس أن الآب والابن والروح القدس ليسوا إلا ثلاثة أسماء لمسمى واحد هو الله الذي أعلن ذاته هكذا على التوالي في أشكال وتجليات متنوعة مع تدرج الإعلان الإلهي. وحسب زعمه أن الله، في شكل الآب، كان فعالاً كخالق ومعط للناموس. ومن ثم قام بعمل الفادي في شكل الابن. وهو الآن، في شكل الروح القدس، يقوم بعمل مجدد الكنيسة.

وفيما تحاول الآريوسية توكيد وحدانية الله لإقصاء الابن والروح القدس إلى خارج كيان اللاهوت وإنزالهما إلى مستوى المخلوقات، تسعى السابليوسية إلى بلوغ الهدف نفسه عن طريق سلب أقانيم اللاهوت الثلاثة استقلالها. وهي تفعل ذلك بزعمها أن الأقانيم ما هي إلا استحالات ثلاث للكائن الإلهي الواحد في ثلاثة أنماط من الإعلان متعاقبة. وفي الحركة الأولى تعبير مميز عن الفكر اليهودي التأليهي العقلاني، فيما تعبر الثانية عن تعدد الآلهة والتصوف عند الوثنيين. فما إن عكفت الكنيسة على النظر ملياً في الحق الذي نص عليه فيما بعد الاعتراف بالثالوث الإلهي حتى قامت هاتان الحركتان إلى اليمين وإلى اليسار، ومازالتا تواكبان إقرار الكنيسة حتى اليوم. فهكذا في كل حين ومرة بعد مرة ينبغي أن تكون الكنيسة كلها، وأعضاؤها فردياً، في تيقظ دائم للاحتراس من عدم إنصاف وحدانية الكائن الإلهي من جهة، وحقيقة الأقانيم الثلاثة في ذلك الكائن من الجهة الأخرى. فلا يجوز أن يضحى بالوحدانية في سبيل التنوع، ولا بالتنوع في سبيل الوحدانية. ذلك أن دعوة جميع المؤمنين هي إلى المحافظة على كلتا الحقيقتين في ارتباطهما الذي لا تنفصم عراه وعلاقتهما الوثيقة إحداهما بالأخرى، لا نظرياً فقط بل أيضاً في الحياة العملية.

وفي سبيل الوفاء لهذا المطلب، لجأت الكنيسة المسيحية وعلم اللاهوت المسيحي، في الفترة المبكرة، إلى استخدام عدة كلمات وتعابير لا توجد حرفياً في الكلمة المقدسة. فقد شرعت الكنيسة تتحدث عن جوهر الله وعن وجود ثلاثة أقانيم في جوهر الكينونة هذا. كما تحدثت عن الثالوث والثالوثية (التنبيه على وجود الأقانيم الثلاثة)، أو عن الخصائص الجوهرية والخصائص الأقنومية، وعن ولادة الابن قبل كل الدهور، وعن انبثاق الروح القدس من الآب ومن الابن، إلى ما هنالك.

وليس من سبب البتة يدعو الكنيسة وعلم اللاهوت المسيحي إلى الكف عن استخدام مثل هذه الألفاظ والتعابير. فإن الكلمة المقدسة لم تعط للكنيسة من عند الله كي تتلى دون تفكير بل بالأحرى لكي تفهم حق الفهم بكل ملئها وغناها، ولكي تعبر الكنيسة عن حقائقها بلغتها الخاصة لعلها تذيع بهذه الطريقة أعمال الله المقتدرة. ثم إن مثل هذه الألفاظ والتعابير ضرورية في سبيل الحفاظ على الحق الكتابي المقدس في وجه مناوئيه، وصونه من سوء الفهم والضلال. وقد علمنا التاريخ على مدى القرون أن الاستعجال في رفض هذه الألفاظ والتعابير أو عدم استحسانها، يفضي إلى صنوف شتى من الانحراف عن الاعتراف الصحيح. وفي الوقت نفسه ينبغي لنا حين نستعمل هذه الألفاظ أن نذكر دائماً أنها ذات أصل بشري، وبالتالي فهي محدودة وناقصة وغير معصومة. حقيقة اعترف بها آباء الكنيسة دائماً. فقد اعتقدوا مثلاً أن اللفظة (أقنوم) التي استخدمت للدلالة على أنواع الكينونة الثلاثة في اللاهوت لم تنصف تماماً الحق المتعلق بهذه المسألة، إلا أنها أدت عملها المساعد على توكيد الحق ودحض الضلال. هذه الكلمة اختيرت لا لأنها دقيقة من جميع النواحي، بل لأنه لم يتم الاهتداء إلى كلمة سواها أفضل منها. وفي هذه المسألة أيضاً، تقصر هذه الكلمة عن الفكرة، كما تقصر الفكرة عن الحقيقة. ومع أننا لا نستطيع تسجيد الحقيقة إلا عن هذه الطريقة غير الوافية، فينبغي لنا ألا ننسى البتة أن ما يهم هو الحقيقة ذاتها وليس الكلمة المعبرة عنها. ولا شك أن تعابير أخرى وأفضل سوف توضع على ألسنتنا في تدبير المجد العتيد.

إذاً فالحقيقة التي يتناولها الاعتراف بالثالوث الأقدس هي في حد ذاتها بالغة الأهمية، سواء بالنسبة إلى العقل أو بالنسبة إلى القلب.

ذلك لأن الكنيسة، باعترافها هذا، تحافظ– في المقام الأول– على حقيقة كل من الوحدانية والتنوع في كينونة الله. فالكائن الإلهي واحد، إذ لا يوجد إلا كائن واحد هو الله ويمكن أن يسمى "الله". ففي الخلق والفداء، والطبيعة والنعمة، والكنيسة والعالم، والدولة والمجتمع، وفي كل مكان وزمان، نحن معنيون بإله واحد حي حقيقي لا يتغير. حتى إن وحدة كل من العالم والبشرية والحق والفضيلة والعدل والجمال تتعلق جميعها بوحدانية الله. وحالما تنكر وحدانية الله هذه أو يضعف التشديد عليها، يفتح الباب أمام الإيمان بتعدد الآلهة.

على أن وحدانية الله هذه أو وحدته، بحسب كلمة الله المقدسة واعتراف الكنيسة، ليست وحدانية بلا مضمون، ولا توحداً خاوياً، بل هي كمال حياة وقوة. وهذه الوحدانية تنطوي على تمايز أو تنوع أو اختلاف. هذا التنوع معبر عنه بالأقانيم الثلاثة، أو صور الكينونة الإلهية الثلاث. وهذه الأقانيم الثلاثة ليست مجرد صور ثلاث لإعلان الله عن نفسه بل هي صور كينونة. فكل من الآب والابن والروح يشترك في ذات الطبيعة الإلهية الواحدة والخصائص الإلهية عينها. ذلك أن الثلاثة كائن واحد. غير أن لكل اسمه الخاص، له الأبوة، والابن وحده له البنوة، والروح وحده له صفة الانبثاق من كليهما.

ودور كل من الأقانيم الثلاثة في جميع الأعمال الإلهية يتوافق مع خاصية وجوده في الكائن الإلهي. فالآب هو الذي منه كل الأشياء، والابن هو الذي به كل الأشياء، والروح هو الذي فيه كل الأشياء. وجميع الأشياء في الخلق، وفي الفداء أو التجديد، تأتي من الآب بالابن بواسطة الروح، كما أنها تعود إلى الآب في الروح وبالابن. فبالتخصيص إذاً نحن مدينون للآب من أجل محبته المختارة، وللابن من أجل نعمته الفادية، وللروح أجل قوته المجددة المحيية.

وفي المقام الثاني، تقف الكنيسة في الحفاظ على هذا الاعتراف موقفاً صلباً في وجه بدع التأليه الطبيعي ووحدة الوجود وتعدد الآلهة والتهويدية والوثنية. ففي القلب البشري دائماً هذا الميل المزدوج: الميل إلى التفكير في الله كما لو كان بعيداً ونائياً جداً واعتبار الذات والعالم مستقلين عنه، والميل إلى إحدار الله إلى قلب العالم واعتباره هو والعالم شيئاً واحداً ومن ثم إلى تأليه الذات والعالم. وحينما تستظهر النزعة الأولى فينا نصل إلى حد الظن بأننا نستطيع التصرف بمعزل عن الله في الطبيعة، وفي دعوتنا ومهنتنا، وفي علمنا وفنّنا، وأيضاً في عمل الفداء. وإذا استظهرت فينا النزعة الثانية، نستبدل بمجد الله صورة مخلوق ما، ونؤله العالم، أو الشمس والقمر والنجوم، أو الفن أو العلم أو الدولة، ونعبد في المخلوق عظمتنا الذاتية في صورة نتوهمها لنا في العادة. وهكذا يكون الله في الحالة الأولى بعيداً جداً وحسب، كما يكون في الثانية قريباً جداً وحسب.ويكون في الأولى خارج العالم وفوقه ولا علاقة له به، كما يكون في الثانية داخل العالم بل مشاكلاً له.

غير أن الكنيسة تعترف بكلا الأمرين: أن الله فوق العالم ومتميز عنه في الجوهر، ومع ذلك فهو حاضر فيه بكل كيانه وليس منفصلاً عنه عند أية نقطة في الزمان أو المكان. فهو بعيد عنه جداً وقريب منه في آن واحد. إنه متعال جداً على جميع الخلائق وفي الوقت نفسه متنازل إليهم جميعاً إلى أقصى حد. هو خالقنا الذي أتى بنا إلى الوجود بمشيئته تعالى كخلائق متميزين عنه نوعاً. وهو فادينا الذي يخلصنا، لا بأعمالنا بل بغنى نعمته. وهو مقدسنا الذي يسكن فينا، هيكلاً له. وبوصفه الله المثلث الأقانيم، فهو إله واحد، وهو فوقنا ومعنا وفينا.

أخيراً، وفي المقام الثالث، نجد أن اعتراف الكنيسة هذا بالغ الأهمية أيضاً لخير الحياة الروحية. فعلى نحو لا مسوغ له يؤكد أحياناً أن عقيدة التثليث ليست إلا معتقداً نظرياً مجرداً بصورة فلسفية وان لا قيمة له بالنسبة إلى الدين والحياة. غير أن إقرار الإيمان المعتمد عند الكنيسة المصلحة ينظر إلى هذا الأمر نظرة مغايرة كلياً. ففي البند الحادي عشر من ذلك الإقرار تصرح الكنيسة أن الله واحد في الجوهر وثلاثة في الأقانيم. وهذا نعرفه من شهادة الكتاب المقدس، ومن أعمال الأقانيم الثلاثة ولاسيما ما نشعر به في داخلنا. صحيح أننا لا نؤسس إيماننا بالثالوث على شعورنا واختبارنا، ولكن عندما نؤمن به نرى أن لهذه العقيدة علاقة وثيقة بالاختبار الروحي الذي يختبره أولاد الله جميعاً.

ذلك أن المؤمنين يعرفون أعمال الآب خالق كل شيء، والذي أعطاهم حياة ونفساً وكل شيء. وهم يتعلمون أن يعرفوه باعتباره معطي الشريعة الذي أعطى الإنسان وصاياه المقدسة كي يسير بموجبها. ويتعلمون أن يعرفوه باعتباره القاضي الذي يثير غضبه الرهيب جميع فجور الناس وإثمهم، والذي لا يمكن بحال من الأحوال أن يبرئ المذنب. وأخيراً يتعلمون أن يعرفوه باعتباره الآب الذي هو إلههم وأبوهم بفضل المسيح وإكراماً له، والذي يتكلمون عليه بحيث لا يشكون في أنه سيلبي لهم كل حاجات الجسد والنفس، وأنه سيحول إلى الخير كل سوء يحل بهم في وادي الدموع هذا. وإنهم لعالمون بأنه يقدر على فعل ذلك كله باعتباره الله القدير، وأنه يريد أن يفعله بوصفه الآب المحب. لهذا السبب يعترفون قائلين: أومن بالله الآب القدير خالق السماء والأرض.

وهكذا أيضاً يتعلمون أن يعرفوا أعمال الابن في نفوسهم، ذاك الوحيد عن الآب والذي حبل به في مريم بالروح القدس. ويتعلمون أن يعرفوه باعتباره نبيّهم العلى ومعلمهم الأسمى، ذاك الذي كشف لهم على نحو كامل مشورة الله الخفية ومشيئته الصالحة فيما يتعلق بأمر فدائهم. كما يتعلمون أن يعرفوه بوصفه رئيس كهنتهم الوحيد الذي افتداهم بذبيحة جسده الواحدة، والذي ما زال يشفع فيهم دائماً عند الآب.

كذلك يتعلمون أن يعرفوه بوصفه ملكهم الأبدي الذي يملك عليهم بكلمته وروحه والذي يحميهم ويحفظهم في فدائه الكامل لهم. لهذا السبب يعترفون قائلين: أومن بيسوع المسيح ربنا، ابن الله الوحيد.

وكذلك أيضاً يتعلمون أن يميزوا في أنفسهم أعمال الروح القدس، ذاك الذي يجددهم ويقودهم إلى كل الحق. ويتعلمون أن يعرفوه بوصفه محرك إيمانهم، ذاك الذي بواسطة ذلك الإيمان يجعلهم يشتركون في المسيح وفي جميع البركات المرتبطة به. كما يتعلمون أن يعرفوه باعتباره المعزي، الذي يصلي فيهم بأنات لا ينطق بها والذي يشهد مع أرواحهم (أو لها) بأنهم أولاد الله. كذلك يتعلمون أن يعرفوه باعتباره عربون ميراثهم الأبدي. ذاك الذي يحفظهم إلى يوم الفداء الحاسم. لهذا السبب يعترفون قائلين: أؤمن بالروح القدس.

إذاً فالاعتراف بالثالوث القدس هو خلاصة الديانة المسيحية، وبمعزل عن هذه العقيدة لا يمكن إثبات الحقائق المختصة بالخلق وبالفداء وبالتقديس إثباتاً قاطعاً.

ومن شأن كل انحراف عن هذا الاعتراف أن يفضي إلى الضلال في عناوين العقيدة الأخرى، كما أن التمثل المغلوط فيه لحقائق الإيمان المسيحي يمكن أن يعزي أساساً إلى سوء فهم لعقيدة التثليث. فنحن لا نستطيع حقاً أن نذيع أعمال الله المقتدرة إلا متى ميزناها واعترفنا بها باعتبارها المأثرة الواحدة الرائعة التي أنجزها الآب والابن والروح القدس.

أجل، إن خلاص البشر الكامل كامن في محبة الآب ونعمة الابن وشركة الروح القدس.

(20) تث 4: 35، 39، يش 22: 22، 2 صم 22:7، 22: 32، 1 مل 18: 39، إش 45: 5، 18، 21، وغيرها.

(21) يوحنا 17: 3، 1 كو 8: 4، 1 تي 2: 5.

(22) لو 9: 20، ا كو 3: 23، رؤ 12: 10.

(23) أي 38: 7.

(24) تث 1: 31، 8: 5، 14: 1، 32: 6، 18، هو 11: 1.

(25) 2 صم 7: 11- 14، مز 2: 7.

(26) يو 3: 16، غل 4: 4، عب 1: 6.

(27) يو 1: 1، 20: 8، رو 9: 5، عب 1: 8 و 9.

(28) 2 كو 13: 14، 1 بط 1: 2، 1 يو 5: 4 -6، رؤ 1: 4 -6.

  • عدد الزيارات: 4260