Skip to main content

الفصل السابع: الكتب المقدسة

نستمد معرفتنا للإعلان الإلهي العام والخاص من الكتب المقدسة. ومن الأهمية بمكان أن نتفهم العلاقة بين الإعلان والكتب المقدسة. فنلاحظ، من ناحية، أن بينهما فارقاً كبيراً. فالإعلان يسبق أمر تدوينه بوقت طويل في أحيان كثيرة. ولذلك، فمع أن الإعلان كان موجوداً بالتأكيد قبل موسى، لم تكن هنالك كتب مقدسة. وبالإضافة إلى ذلك فإن مثل هذا الإعلان تضمَن، في أحيان كثيرة، أكثر بكثير مما تم تدوينه فيما بعد. وكتب الأنبياء، كسفر عاموس مثلاً، كثيراً ما تكون مجرد خلاصة لما تحدثوا به شفاهاً إلى الناس الذين عاصروهم . وكثيرون من أنبياء العهد القديم، وكثيرون من الرسل في العهد الجديد، وقد كانوا جميعاً قنوات للإعلان الخاص، لم يتركوا من بعدهم أيَّ سجلٍّ مكتوب. بل إن الكتاب يقول لنا بوضوح إن يسوع صنع آيات أخرى كثيرة، لدرجة أنه لو كتبت واحدة واحدة فإن العالم نفسه لا يسع الكتب المكتوبة (يو 20: 30، 21: 25) ومن الناحية المقابلة فلربما أعلن الله شيئاً لأنبيائه أو للرسل أثناء الكتابة لم يعرفوه من قبل ذلك، وبالتالي فلا يكونون قد نادوا به للآخرين قبل ذلك. يصدق هذا، على سبيل المثل، ولو جزئياً، على الإعلان الذي تلقاه يوحنا في جزيرة بطمس بشأن المستقبل.

فالكتب المقدسة إذاً ليست هي الإعلان نفسه، بل هي وصف أو تدوين منه نعرف الإعلان. إلا أننا عندما نقول أن الكتب المقدسة هي سجل الإعلان، فيجب أن نكون على حذر من خطأ آخر. فعلى أي حال، هنالك أولئك الذين لا يميِّزون فقط بين الإعلان الإلهي والكتب المقدسة بل يفصلون ويباعدون بين الاثنين. هؤلاء يقرون بأن الله عمل بكيفية خاصة في الإعلان السابق للتدوين، أما في ما عدا ذلك فإنهم يعتقدون أن تدوين الإعلان الإلهي كان متروكاً تماماً للأشخاص الذين قاموا ذلك، وأن هذا يخرج تماماً عن نطاق عناية الله الخاصة. والكتب المقدسة، بناءً على هذا الرأي، تظلُّ سجلاً للإعلان، ولكنه سجل عرضي تشوبه العيوب. ويترتب على ذلك أنه يجب أن نفحص الكتب المقدسة جيداً، ونتكبد في سبيل ذلك مشقة كبيرة، لنكتشف الأجزاء التي تنتسب إلى الإعلان الخاص، والأجزاء التي لا تتصل به. وعلى هذا الأساس يميزون تمييزاً كبيراً بين كلمة الله والكتب المقدسة. وهي وجهة نظر تقود إلى القول بأن الكتب المقدسة ليست كلمة الله، ولكن كلمة الله متضمِّنة في الكتب المقدسة.

مثل هذه النظرة إلى الموضوع، هي في ذاتها بعيدة الاحتمال. فبالإضافة إلى أنها تفسِّر العلاقة بين الكلمة والكتب بطريقة آلية جداً، فهي أيضاً تنسى حقيقة أن الله عندما أراد أن يعلن إعلاناً خاصاً، ذلك الإعلان الذي، من خلال نسل إبراهيم، تعين لكل البشر في المسيح، كان عليه أيضاً أن يتخذ خطوات خاصة ليحفظ هذا الإعلان في حالته النقية، وان يجعل هذا الإعلان متاحاً للجميع. والكلمات المكتوبة تختلف عن الكلمات المنطوقة في كونها لا تضيع في الهواء، ولكنها تبقى. فهي ليست مثل التقليد الشفهي عرضة للتزييف، كما أنها لا تقتصر في مجالها على العدد المحدود الذي استمع إليها، بل هي بالأحرى من النوع الذي يمكن أن يُنشر لجميع الشعوب والبلدان. فالكتابة تضفي على الكلمة المكتوبة استمرارية، وتحفظها من كل زيف، وتنشرها على أوسع نطاق.

وعلى أي حال، فنحن لسنا بحاجة لأن نقضي وقتاً أطول في هذه المجادلات البشرية. فالرأي القائل بأن الإعلان الخاص يأتي من الله، أما الكتب المقدسة فقد وجدت بعيداً عن عنايته الخاصة هو رأي يناقض تماماً شهادة الكتب المقدسة نفسها. فهي تعلن مراراً وتكراراً وتؤكد أنها بوصفها كتابات فهي أيضاً كلمة الله. وإن كنا نميز بين الكتب المقدسة والإعلان الذي يسبقها فنحن لا نفصل بينهما. فالكتب المقدسة، بالنسبة إلى الإعلان، ليست إضافة بشرية، عرضية، جزافية، تشوبها العيوب، ولكنها هي نفسها جزء من مكوِّنات الإعلان. والكتب المقدسة هي في الواقع تكميل الإعلان وتحقيقه بل حجر الزاوية الذي فيه يبلغ الإعلان أوجه.

ولندرك قوة هذه الحقيقة يجب أن نلاحظ ما يلي: من شهادات الكتاب المقدس الواضحة عن نفسه:

أولاً: كثيراً ما يأمر الله أنبيائه لا بأن ينادوا بالإعلان شفاهاً فقط، بل بأن يدوِّنوه أيضاً. ففي (خر 17: 14) يأمر الرب موسى بأن يدوِّن خبر الحرب مع عماليق والانتصار عليه، وهي معركة كانت لها أهمية كبرى بالنسبة لإسرائيل، وذلك كتذكار في الكتاب عن أعمال الفداء الإلهية. وفي (خر 24: 3، 4، 7) وكذلك (34: 27) يكلِّف موسى القيام بتدوين الشرائع والأحكام التي بمقتضاها قطع الله عهده مع إسرائيل. وعندما بلغ إسرائيل نهاية تيهانه في البرية ووصل مقابل أريحا في سهول موآب، يحدثنا الكتاب صراحة بأن موسى سجل رحلات بني إسرائيل بحسب أمر الرب (عد 32: 2). وفضلاً عن ذلك فإن الكتاب يقول بالتحديد عن النشيد الذي تغنى به موسى في (تث 32) إنه يجب أن يدوَّن ويتعلَّمه بنو إسرائيل حتى متى ارتدوا في الأيام التالية ويقوم هذا النشيد شاهداً عليهم (تث 31: 19، 22). وهنالك أوامر مماثلة للأنبياء ليدونوا الإعلان الذي تسلموه في وقتهم (إش 8: 1، 30: 8، إر 25: 13، 30: 2، 36: 2، حز 24: 2 ، دا 12: 4، حب 2: 2). ومع أن هذا الأمر يتعلق بجزء صغير من الكتب المقدسة، فإنه ينبّه، رغم ذلك، على أن الله، الذي أوصي بأن لا يضيف أحد شيئاً أو يحذف شيئاً من أقواله (تث 4: 2، 12: 32، أم 30: 6) قد أولي هو أيضاً سجلَ إعلانه المكتوب عناية خاصة.

ثانياً: إن موسى والأنبياء أنفسهم كانوا على دراية تامة بأن واجبهم لم يكن مجرد إعلان الكلمة شفوياً فقط، بل كان عليهم تدوينها أيضاً. وقد دُعيَ موسى إلى عمله بكيفية خاصة، إذ دُعي ليكون قائداً لشعب إسرائيل (خر 3) إلا أن الله تحدث إليه وجهاً لوجه كما يكلِّم الإنسان صاحبه (خر 33: 11) وعرّفه كل شرائعه وفرائضه. وكديباجة لكل شريعة من الشرائع، نجد مراراً وتكراراً الكلمات "وتكلم الرب" ثم "قال الله" وما أشبه (خر 6: 1، 10، 13. . . . الخ). ففي كتابات موسى، كما في سائر الكتب المقدسة، نجد أن إعطاء الناموس كله يُنسَب إلى الرب. "يخبر يعقوب بكلمته، وإسرائيل بفرائضه وأحكامه. لم يصنع هكذا بإحدى الأمم، وأحكامه لم يعرفوها" (مز 147: 19، 20، 103: 7) والأنبياء أيضاً يدركون مصدر نبواتهم. فهم يعلمون أن الرب قد دعاهم (1 صم 3، إش 6، إر 1، حز 1 - 3، عا 3: 7، 8، 7: 15) وأنهم تسلموا الإعلان الذي وصل إليهم منه (إش 5: 5؛ 6: 9؛ 22: 14، 28: 22، إر 1: 9؛ 3: 6، 20: 7 - 9، حز 3: 16، 26، 27، عا 3: 8. . . . . الخ) وما قاله عاموس إنما يعبر عن اقتناعهم جميعاً: "إن السيد الرب لا يصنع أمراً إلا وهو يعلن سره لعبيده الأنبياء" (عا 3: 8، قارن 18: 17). لكنهم يعلمون أنهم عندما يكتبون فإنهم يعلنون كلمة الرب وليس كلامهم الخاص. وكما فعل موسى وهو يدون الشريعة، هكذا استهل الأنبياء نبواتهم الخاصة بالعبارات: "هكذا يقول الرب" "وكانت إلي كلمة الرب" أو "رؤيا" أو ("كلمةُ" أو "وحيُ") الرب (إش 1: 1، 2: 1؛ 8: 1، 13: 1، إر 1: 2، 4، 11، 2: 1، حز 1: 1، 2: 1، 3: 1، دا 7: 1، عا 1: 3، 6، 9 ومواضع أخرى).

ثالثاً: هنالك شهادة العهد الجديد. ومع أن الرب يسوع والرسل يقتبسون مرات كثيرة كلمات من العهد القديم تحت أسماء موسى وإشعياء وداود ودانيال (مت 8: 4، 15: 7؛ 22: 43، 24: 15) فإنهم يستخدمون، ولمرات لا تقل عدداً، أمثال العبارات الافتتاحية "مكتوب" (مت 4: 4) أو "كما قال الكتاب" (يو 7: 38) أو "كما يقول الروح القدس" (عب 3: 7) وما أشبه. وبهذا الأسلوب في الاقتباس أظهروا بوضوح أنه، مع أن كتابات العهد القديم مكوَّنة من أجزاء مختلفة وعن طريق كتّاب مختلفين، فهي رغم ذلك وحدة عضوية واحدة في صورتها المكتوبة أيضاً، وصادرة من الله نفسه. ولا يعبّر الرب يسوع والتلاميذ عن هذه الحقيقة بمجرد إشارة غير مباشرة، بل يتحدّثون بصورة مباشرة وبأوضح الكلمات. ويعلن المسيح أنه لا يمكن أن ينقض المكتوب، أي يجرَّد من سلطانه (يو 10: 35)، وهو يعلن أنه لم يأت شخصياً لينقض الناموس أو الأنبياء بل ليكمّل (مت 5: 17، لو 6: 27). ويكتب الرسول بطرس قائلاً إن كلمة النبوة ثابتة وجديرة بالثقة وأنها نور لسبيلنا. وهي كذلك لأن الكتب المتضمَّنة في العهد القديم لا تتأسس على نبوة شخصية أو تفسير شخصي للمستقبل، لأنه لم تأت نبوة فقط بمشيئة إنسان، بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين بالروح القدس (2 بط 1: 19 - 21، قارن 1 بط 1: 10 - 12). وبهذا المعنى يشهد بولس الرسول أيضاً بأن الكتب المقدسة التي تكوّن معاً العهد القديم يمكن أن تحكِّمنا للخلاص، إن كنا نفحصها ونقرأها بالإيمان، الإيمان الذي في المسيح يسوع. لأن كل سفر من الكتب المقدسة هو موحى به من الله، ولهذا فهو نافع للتعليم والتوبيخ والتقويم والتهذيب الذي في البر (2 تي 3: 16).

رابعاً: وبشأن كتابات العهد الجديد نفسها يمكن القول بأنه مع أن المسيح نفسه لم يترك من بعده وثيقة مكتوبة، فهو اختار ودعا وأهّل تلاميذه ليذهبوا في وسط العالم، وبصفة خاصة بعد رحيله، ليكونوا شهوده (مت 10: 1؛ مر 3: 13؛ لو 6: 13؛ 9: 1، يو 6: 70). وهو يؤهلهم لهذا العمل بإعطائهم مواهب وقوى خاصة، وبصفة خاصة منحهم الروح القدس الذي سيذكِّرهم بكل ما قاله هو لهم (يو 14: 26) ويرشدهم إلى جميع الحق، لاسيما الحق الخاص بأمور آتية (يو 16: 13). ولذلك فليس الرسل أنفسهم هم الذين يشهدون ليسوع، ولكن هو الروح القدس يشهد فيهم ومن خلالهم ليسوع (يو 15: 26، 27). فكما أن الابن جاء ليمجِّد الآب، فإن الروح القدس يأتي ليمجِّد الابن، ولهذه الغاية فإن الروح يأخذ من الابن كل ما يتكلم به وكل ما يفعل (يو 16: 14).

وكان على الرسل أن يقدّموا شهادتهم للمسيح إلى مواطنيهم ومعاصريهم، ليس فقط ممن يعيشون في أورشليم واليهودية والسامرة، بل إلى الخليقة كلها وإلى أقصى الأرض (مت 28: 19، مر 16: 15، أع 1: 8) وأمرُ التكليف بأن يذهبوا إلى العالم أجمع يتضمن الأمر بأن يشهدوا للمسيح كتابيّاً أيضاً، رغم أن الرسل لم يُطلب منهم بكيفية مباشرة أن يفعلوا ذلك. إلا أنه إن كان الوعد الذي جاء لإبراهيم يجب أن يكون حقاً شرعياً لكل البشر في المسيح، فما كان يمكن لذلك أن يتأتى، ما لم يكن مدوّناً كتابة، وبذلك يحفَظ لكل العصور ويوزَّع على كل البشر. ولذلك فإن الروح القدس قاد الرسل في عملهم الكرازي بكيفية كادت تدفعهم تلقائياً إلى استخدام القلم، وعن طريق الرسائل والخطابات شهدوا لملء النعمة والحق كما ظهرا في المسيح يسوع. ففي كرازتهم الشفوية، كما في كتاباتهم، كان الهدف الذي رأوه بوضوح هو أن يكشفوا عن الحق الذي أعلنه الله في المسيح وبروحه وعرَفهم به.

يدِّون متى كتاب الميلاد، أي تاريخ المسيح يسوع ابن داود (مت 1: 1). ويتحدث مرقس عن كيف ابتدأ الإنجيل بالمسيح يسوع، حيث نقطةُ الانطلاق (مر 1: 1). ويريد لوقا، عن طريق بحث دقيق وسرد منظَّم، أن يعطي تأكيداً لثاوفيلس بشأن الأمور المتيقنة بين المؤمنين على أساس شهادة الرسل (لو 1: 1 - 4). ويدّون يوحنا إنجيله لنؤمن أن يسوع هو المسيح ابن الله، وليكون لنا، إذا آمنا، حياة باسمه (يو 20: 31)، ويقول في رسالته الأولى أيضاً أنه يعلن ما رآه وما سمعه وما شاهده وما لمسه بيده عن كلمة الحياة. ويفعل هذا لتكون لنا شركة مع الرسل، ومع الآب ومع ابنه يسوع المسيح (1 يو 1- 3). ولم يكن اقتناع بولس الرسول محصوراً في أن يسوع المسيح بنفسه دعاه ليكون رسولاً (غلا 1: 1)، ولا بأنه تسلم إنجيله منه بإعلان خاص (غلا 1: 12، أف 3: 2؛ 1 تي 1: 12) بل كان مقتنعاً أيضاً بأنه عن طريق الكلمة الشفوية والكلمة المكتوبة كان يعلن كلمة الله (1 تس 2: 13؛ 2 تس 2: 15؛ 3: 14؛ 1 كو 2: 4؛10 – 13؛ 2 كو 2: 17) بل إنه بلغ الدرجة التي قال فيها إن كل من يعظ بإنجيل آخر فليكن ملعوناً (غلا 1: 8) وكما يربط جميع الرسل الحياة الأبدية والموت الأبدي بقبول كرازتهم أو رفضها، هكذا يهدِّد الرسول يوحنا في الفصل الأخير من رؤياه كل من يضيفون إلى "نبوة هذا الكتاب" أو يحذفون منه بالعقاب الشديد (رؤ 22: 18، 19).

إن نشاط الروح القدس الخاص، الذي عن طريقه تمَّ تدوين الإعلان، يسمي عادة الوحي (2 تي 3: 16). وتُلقى بعض المقارنات المستعارة من الطبيعة، وبعض الإيضاحات المحددة في الكتب المقدسة نفسها، بعض الضوء على طبيعة الوحي. ويصح القول، بصفة عامة، بأن الإنسان يستطيع أن يستوعب أفكار الآخرين في عقله، وأن يسترشد بالآخرين في تفكيره. وعملية التعليم والتربية كلُّها مبنية على هذه المقدرة، وينطبق هذا على كل العلوم، وكل المعارف. ويتم الاتصال الفكري بين شخص وآخر عادة عن طريق وسائل، سواء كانت علامات أو إشارات وكلمات منطوقة أو مكتوبة. وإذ نتأثر بفكر شخص آخر، فنحن نتعمد دراسة هذه الأفكار بدقة، وكثيراً ما يكلِّفنا هذا جهداً كبيراً. وبهذه الوسيلة نحاول أن نجعل آراء الآخرين وأفكارهم جزءاً من حياتنا الروحية الشخصية. إلا أن ظواهر التنويم المغناطيسي والإيحاء وما أشبه، تُثبت أنه دون أي نشاط من جانبنا، يمكن لآراء شخص آخر وأفكاره أن تدخل دائرة وعينا، وأن تُفرَض علينا، وأن تتحكم بإرادتنا وتصرُّفنا. وبهذا يمكن أن يتحول البشر إلى أدوات سلبية، تنفِّذ ببساطة إرادة المنوِّم المغناطيسي. والكتاب المقدس والاختبار يعلّماننا أنه بهذه الكيفية أيضاً يتعرض الإنسان البشري لتأثيرات الرواح الشريرة وقواتها، وفي مثل هذه الحالات لا يتحدث المرء ولا يتصرف عن نفسه، بل يتحكم الروح الشرير بفكره وسلوكه. ففي (مر 1: 24 مثلاً يتحدث الروح النجس من خلال الإنسان وهو الذي يدرك أن يسوع هو قدوس الله.

وهنالك ظاهرة أخرى يمكن أن تلقي ضوءاً على طبيعة الوحي بالروح القدس، وهو ما نطلق عليه اسم الإلهام الفني. فجميع المفكرين العظماء والشعراء قد علّمتهم الخبرة أنهم مدينون بأفضل وأجمل ما أنتجوا لا لمجهودهم الشخصي، بل لومضات من البصيرة غزت حياتهم فجأة. وطبيعي أن مثل هذا الاختبار لا ينفي الأبحاث السابقة والتأمل. إن العبقرية لا تجعل الجهد والمثابرة لا لزوم لهما.

ومع أن الدرس والتحصيل في مثل هذه الحالات شرط ضروري، كقاعدة عامة، في مثل اختبار هذا النوع من الوحي، فإن استنارة البصيرة التي تتحقق ليست النتيجة المنطقية للدرس أو التحصيل ولا هي ثمرته الناضجة. فهنالك قوة خفية تعمل في العباقرة لا تخضع للحسابات المنطقة. وقد كتب نيتشه إلى أخته عن هذه القوة الخفية فقال: "لا يمكنك أن تتصوري مدى قوة هذه الإلهامات، فهي تملأ المرء بنشوة عارمة في عقله، ويحس المرء وكأنه نقل خارج ذاته بل خرج تماماً عن طوره، فلا يسمع شيئاً، ولا يرى شيئاً، ولا يفعل شيئاً سوى أن يقبل ويأخذ، ويأتيه الفكر وكأنه البرق. ويحدث كل شيء لا إرادياً وكأن كل شيء تحمله إليه عاصفة من الحرية، والاستقلال، والقوة والعمل الإلهي. هذا هو اختباري للوحي أو الإلهام".

فإن كانت ظواهر من هذا النوع تحدث في حياة الناس العادية، ومع الفنانين، فيقيناً أنه لا يمكن أن يكون هنالك أساس لمهاجمة فكرة تأثير الله في تفكير خلائقه وإرادتهم. فالله يعمل في خليقته بواسطة روحه الموجود فيهم. (تك 1: 3؛ مز 33: 6؛ مز 104: 30). والإنسان من بين كل الخلائق بصفة خاصة هو الذي صنع بنسمة القدير وبروح الله (أي 33: 4؛ مز 139: 1 - 16 والآيات التالية) وبه نحيا ونتحرك (أع 17: 28). وتفكيرنا وإرادتنا وأفعالنا، حتى ونحن نسلك سبيل الخطأ، إنما تحدث تحت سيطرة الله ولا يحدث شيء خارج رأي مشيئته (أف 1: 11). وقلب الملك في يد الرب كجداول مياه حيثما شاء يحوِّله (أم 21: 1) وطرق الإنسان أمام عيني الرب وهو يزن كل سلبه (أم 5: 21؛ 16: 9؛ 19: 21، 21: 2). بكيفية مختلفة تماماً، وفي علاقة أعمق، يسكن الله بروحه في قلوب أولاده. وعن طريق هذا الروح يجعلهم يعترفون بالمسيح ربّاً لهم (1 يو 4: 3)، ويجعلهم يعرفون الأشياء المعطاة لهم من الله (1 كو 2: 12؛ 1 يو 2: 20؛ 3: 24؛ 4: 6 - 13)، ويهبهم عطايا الحكمة والمعرفة (1 كو 12: 8)، ويعمل فيهم كي يريدوا وأن يعملوا من أجل مسرته (في 2: 13).

واضح أن مختلف تأثيرات روح الله على العالم والكنيسة ليست هي نفسها الوحي الذي جاء للأنبياء والرسل، إلا أنهما على أي حال تصلح كإيضاح وشرح. فإن صح أنه ليس بالكلام فقط بل في حقيقة الواقع أيضاً هنالك ما يمكن أن نسميه سكنى الروح القدس وعمله في كل الخلائق، وإن كان هذا الروح نفسه يسكن في أبناء الله بكيفية مختلفة خاصة، فلا يكون هنالك أساس مطلقاً لاعتبار ذلك النشاط الخاص الذي نسميه الوحي ضرباً من المستحيل أو أمراً بعيد الاحتمال. إلا أنه من الضروري في الوقت نفسه أن نميّز الفارق بين عمل روح الله في العالم وفي الكنيسة من ناحية، وعمله في الأنبياء والرسل من الناحية الأخرى. ويصبح هذا الفارق واضحاً جداً عندما نقارن (رو 8: 14 مع 2 بط 1: 21). ففي الآية الأولى يقول الرسول بولس "لأن الذين ينقادون بروح الله، فأولئك هم أبناء الله" أما في الآية الثانية فيعلن بطرس الرسول أن رجال الله القديسين، أي الأنبياء، كانوا مسوقين بالروح القدس، وهكذا أتت النبوة. إن قيادة الروح القدس هي نصيب جميع المؤمنين، وتتكون من استنارة العقل، والسيطرة على الإرادة والميول وتوجيهها، وعن طريق هذا التأثير ينال العقل تلك المعرفة والقوة والرغبة لأن يفعل ما يسر الله. إلا أن إرشاد الروح أُعطى للأنبياء والرسل فقط، وقوامه دفْعهُم وتحريضهم وإثارتهم ليصبح إعلان إرادة الله الذي سبق أو وصل إليهم معروفاً عند جميع البشر.

وتزداد الصفة المميزة لهذا الوحي وضوحاً بالصياغة المتكرِّرة في العهد الجديد عند الإشارة إلى العهد القديم وذلك بأن ما قيل في القديم تكلم الله به بواسطة الأنبياء (مت 1: 22؛ 2: 15، 17، 23؛ 3: 3؛ 4: 14 وما أشبه)، حيث تستخدم اللغة اليونانية في هذه الصياغة تعبيراً يحدّد أن الرب هو مصدر ما يقال وأصله، كما يحدِّد أن الأنبياء هم وسائل ما يقال ووسائطه. ويزداد هذا التمييز وضوحاً حيث نقرأ أن الله تكلم بفم أنبيائه (لو 1: 70؛ أع 1: 16، 3: 18؛ 4: 25). والحقيقة التي تُعلِّمها الكتب المقدسة في هذا الشأن هي أن الله أو روحه هو فعلاً الناطق بكلمته، ولكنه، ليعبِّر عنها. استخدم الأنبياء والرسل بمثابة وكلاء له.

إلا أننا نسيء فهم الكتب المقدسة تماماً لو استنتجنا من هذه الإشارات أن الأنبياء والرسل كانوا مجرّد وسائل سلبية، توَّقف نشاطهم الذهني والإرادي، وكانوا في يد الروح القدس وكأنهم مجرد بوق للتخاطب. فالله في الواقع يكرم خليقته دائماً. ولا يتعامل مطلقاً مع خلائقه العاقلة وكأنها غير عاقلة. وبالإضافة إلى ذلك فإن الروح القدس يعارض بوضوح أية فكرة آلية عن الوحي. فمع أن الروح القدس كان "يسوق" أو "يدفع" الأنبياء، إلا أنهم هم أنفسهم أيضاً تكلّموا (2 بط 1: 21) ويشار مراراً وتكراراً إلى الكلمات التي دوَّنوها بأنها كلماتهم (مت 22: 43، 45؛ يو 1: 23؛ 5: 46؛ رو 10: 20 وما أشبه). ونقرأ في أماكن كثيرة أنهم هُيِّئوا لهذه الوظيفة، وتم تخصيصهم وتأهيلهم لها (إر 1: 5؛ أع 7: 22؛ غلا 1: 15). وهم يحتفظون بوعيهم الكامل سواء حين يتلقَّون الكلمة أو حين يقومون بتدوين الإعلان الإلهي، وإذ يسوقهم الروح القدس فإنه لا يكبت نشاطهم الخاص، بل يسمو به ويزوِّده بالطاقة ويطهِّره. فهم يبحثون بالتدقيق (لو 1: 3)، وهم يتذكرون ويتأملون الإعلان الذي سبق أن وصل إليهم في زمن سابق (يو 14: 26؛ ا يو 1: 1- 3)، ويستخدمون المصادر التاريخية (عد 21: 14؛ يش 10: 13)، وبعضهم، ككتبة المزامير مثلاً، يجدون مادة ترانيمهم في اختباراتهم الشخصية. وفي كل الكتابات التي يتكوّن منها الكتاب المقدس، فإن استعداد الكاتب الشخصي وتعليمه، ولغته وأسلوبه، هذه كلها تجد تعبيراً عن نفسها عند كل واحد من هؤلاء الكتّاب وعند كل هذا العدد الكبير من الكتّاب. ودراسة الكتب المقدسة تعلّمنا لا عن كلمة الله الواحدة فقط، بل تعرّفنا أيضاً بالأشخاص المختلفين الذين دوَّنوها. وما أعظم الفارق بين أسفار الملوك والأيام، بين إشعياء وإرمياء، بين متى ولوقا، بين يوحنا وبطرس وبولس!

مثل هذه الفكرة التي نقدمها هنا عن الوحي تسمح لنا بأن لا نغمط حق الجانب الإنساني في الكتب المقدسة. فلم يأتِ الكتاب المقدس إلينا كاملاً تامّاً في لحظة من الزمن. لقد نما بالتدريج. والعهد القديم، كما هو بين أيدينا، يتكوَّن من تسعة وثلاثين سفراً: خمسة منها تتعلق بالشريعة، واثنا عشر سفراً تاريخية (من يشوع إلى أستير)، وخمسة شعرية (من أيوب إلى نشيد الأنشاد)، وسبعة عشر سفراً نبوية. ومثل هذا الترتيب ليس بالطبع ترتيباً زمنياً فإن الكثير من الأسفار التاريخية مثل عزرا ونحميا وأستير تاريخها متأخر بالنسبة إلى الكثير من الأسفار الشعرية والنبوية. ومن بين الكتب النبوية، كثير من الأسفار القصيرة مثل يوئيل وعوبديا وعاموس وهوشع أقدم من الأسفار الطويلة، أي إشعياء وإرميا وحزقيال ودانيال. فالترتيب يتبع طبيعة المضمون لا التسلسل التاريخي. وتكوين كل هذه الكتب حدث تدريجيّاً، على مدى قرون طويلة، وسط ظروف متباينة للغاية، وعن طريق جهد أناس مختلفين.

وفي الدراسات اللاهوتية هنالك فرع يركِّز اهتمامه على بحث الظروف التي أحاطت بنشأة كل سفر من أسفار الكتاب المقدس، ومن الذي قام بكتابته، ولمن كتب وما أشبه. وبسبب إساءة استخدام هذا الفرع من الدراسة، اكتسب شهرة سيئة. فلا بد أن نكون قد سمعنا في وقت أو آخر أن "النقد العالي" مزّق بكيفية منتظمة صفحة تلو الأخرى من الكتاب المقدس. إلا أن إساءة استخدام شيء لا يجعل استخدامه الصحيح شراً. فإن كان لنا أن نتفهم الكتب المقدسة ككل وكذلك في أجزائها، فإنه من المهم جداً أن نعرف بالضبط كيف برز الكتاب المقدس إلى الوجود بالتدريج، وتحت أية ظروف نشأ كل سفر. ولا يمكن لمثل هذه المعرفة، على المدى البعيد، إلا أن تفيد تفسير كلمة الله. ونتعلم منها أن وحي الروح القدس تغلغل بعمق وفي اتساع في حياة رجال الله القديسين وفكرهم.

على مدى قرون، أي حتى عصر موسى، لم تكن هنالك كتب مقدسة، ولا سجل مكتوب لكلمة الله. أو يمكننا أن نقول على الأقل أنه لا توجد لدينا معلومات عن مثل هذا السجل. وليس مستحيلاً بالطبع أن تقريراً مكتوباً عن قول معين أو حدث خاص (قول أو حدث كان على جانب كبير من الأهمية لتاريخ الإعلان الخاص) تم وضعُه قبل عصر موسى، ثم أخذه موسى واحتفظ به في كتاباته. ولم يمض وقت طويل على الزمن الذي فيه كانت المناداة بمثل هذه الإمكانية تُعتبر ضرباً من الحماقة. فقد كانوا يفترضون أن فن الكتابة لم يكن معروفاً في عصر موسى. إلا أن الاكتشافات التي تمت في بابل ومصر صحَّحت معلوماتنا، إذ لم تُعلِمنا فقط أن فن الكتابة كان معروفاً قبل موسى بزمن طويل، بل تأكد لنا الآن أيضاً أن الكتابة كانت مستخدمة على نطاق واسع.

فإننا نعلم عن حوادث وعن شرائع كانت مدونة. وتمت الكتابة قبل موسى بمئات السنين. ولذلك فليس من غير المعقول على الإطلاق أن نقول إن موسى قبل أن يدون كتاباته التاريخية والتشريعية استخدم بعض المصادر التي كانت موجودة من قبله. فهنالك احتمال كبير أن سرد الأحداث الذي نجده في (تك 14) مثلاً يعتمد على تقليد مكتوب.

ولكننا لا نعرف هذا كحقيقة مؤكدة. ولذلك فيمكننا أن نقول بوجه عام إن كلمة الله لم تكن مكتوبة قبل موسى. لقد كانت كلمة الله موجودة طبعاً، لأن الإعلان الخاص بدأ حالاً بعد السقوط، وعلى هذا فقد كان هنالك، بهذا المفهوم، ما يمكن أن نسميه "التعليم المعتمد" أي قاعدة للإيمان والحياة. فلم تكن البشرية في أي وقت من الأوقات من دون كلمة الله. وبصفة دائمة، ومن البداية، كان الإنسان يمتلك، لا الإعلان العام عن الله في الطبيعة وفي الضمير فقط، بل كان عنده أيضاً الإعلان الخاص في الكلمة وفي التاريخ أيضاً. إلا أن كلمة الله هذه لم تدون على الفور، ولكنما استمر تناقلها شفويّاً في العائلات والأجيال يسلِّمها الآباء للأبناء. وفي ذلك الزمن القديم، وعندما كان عدد سكان الأرض محدوداً، وعندما كان الناس ما زالوا يتمتعون بنعمة العمر الطويل، وعندما كانت علاقات الدم، والانتماء إلى الأسرة، وتبجيل الماضي كلُّها تعني أكثر جداً مما تعنيه اليوم، كان أسلوب الاستمرارية هذا كافياً للحفاظ على نقاء كلمة الله وعلى انتشارها.

إلا أنه عندما ابتدأ الناس ينتشرون على وجه الأرض في ما بعد، وعندما سقطوا في شراك الوثنية والخزعبلات، لم يعد التقليد الشفاهي كافياً. وكان موسى أول من قام بتدوين كلمة الله. ولربما كانت هنالك روايات مدوَنة من قبله، أخذها وضمَّنها كتاباتِه. وإن لم نكن على يقين من ذلك، كما سبقت الإشارة. فإن احتمال حدوثها يتزايد عندما نأخذ في الاعتبار أن الإشارة في ما يسمى أسفار موسى الخمسة لأي كتابة تمت علي يد موسى لا ترد إلا في فقرات قليلة جداً. ولذلك فمن الممكن جداً أن أجزاء مختلفة من أسفار موسى الخمسة كانت موجودة جزئياً قبل أيامه وأن موسى نفسه قام بتنقيحها، أو كلف آخرين للقيام بذلك، أو أن بعض هذه الكتابات قد تم تحريره بنفس روح موسى وطريقته، في وقت لاحق بعد موت موسى، وتمت إضافته إلى الأجزاء القائمة. والاحتمال المشار إليه أخيراً هنا كان مقبولاً بصفة عامة قبل اليوم في ما يتعلق بالقصة الخاصة بموت موسى (تث 34). إلا أن هذه الفكرة يجب أن تشمل أيضاً الأجزاء الملحقة وما يشبهها كما نجد في (تك 12: 6 الجزء الثاني من الآية)، (13: 7؛ 36: 31 الجزء الثاني من الآية) وما أشبه. وهذا لا يجرد الكلمة من سلطانها الإلهي، كما أنها إمكانية لا تتعارض مع التعبير الكتابي المتكرر: الناموس أو كتاب موسى [4] فأسفار موسى الخمسة تظل هي كتاب (أو ناموس) موسى، مع أن موسى اشتق بعض الأجزاء من مصادر أخرى، أو دوَّنه مساعدوه بتكليف منه، أو قام "بتحريرها" بنفس روحه بعض من جاءوا بعده. وكقاعدة عامة، لم يدون بولس الرسول رسائله بنفسه، بل سطّرتها أياد أخرى (1 كو 16: 21). ويُنسب سفر المزامير أحياناً بجملته لداود لأنه هو مؤسس فكرة المزامير، مع أن بعض المزامير لم يكتبها داود ولكنما ألفها آخرون.

وعلى أساس فكرة إعطاء الناموس لموسى، أي على أساس عهد الله الذي أبرمه مع الآباء وثبَته لإسرائيل في سيناء ورسمه في ناموس موسى، ظهر في تاريخ إسرائيل المتأخِّر، بقيادة الروح القدس، أدب مقدَّس ثلاثي: المزامير، والنبوة، وكتب "الحكمة". واقترنت عطايا الروح القدس الخاصة هذه بالمواهب الطبيعية التي يتميز بها الجنس السامي وبصفة خاصة شعب إسرائيل. إلا أن الكتّاب تجاوزوا هذه المواهب الطبيعية، وعهد إليهم بمهمة خاصة في خدمة ملكوت الله، ولخير البشرية جمعاء.

تبدأ النبوة بإبراهيم[5] ويواصل يعقوب[6] وموسى[7] ومريم[8] القيام بها، وقد اكتملت بصفة خاصة في صموئيل وما بعده، وتلازم تاريخ إسرائيل لفترة طويلة بعد السبي. وتنقسم كتب الأنبياء في العهد القديم العبري إلى قسمين كبيرين: الأنبياء "المبكرين: والأنبياء "المتأخرين". والمجموعة الأولى تشمل كتب يشوع، القضاة، وصموئيل، والملوك، والسبب في تسمية هذه الكتب بأنها مبكرة إن كتبتها أنبياء، وتتحدث عن أنبياء، يسبقون أنبياء الكتب المقدسة المتأخرين.

وبمعنى آخر، فقد كان هنالك عدد كبير من الأنبياء في إسرائيل يزيد عن الأربعة الكبار والإثني عشر الصغار الذين حُفِظت كتبهم بين ضفتي الكتاب المقدس. والكتب التاريخية المشَار إليها مليئة بأسماء الأنبياء وتشمل أحياناً وصفاً مستفيضاً لأنشطتهم. فهي تتحدث عن دبورة، وصموئيل، وجاد، وناثان، وأخيا، وشمعيا، وعزريا، وحناني وياهو بن حناني وإيليا، وأليشع، وخُلدة، وزكريا لأول شهيد من الأنبياء في مملكة يهوذا وعن كثير غيرهم، بعضهم لا يذكر بالاسم (2 أي 25 على سبيل المثال) ولم يصل إلينا شيء مكتوب بقلم هؤلاء. بل إننا نقرأ أحياناً عن مدارس الأنبياء (1صم 10: 5 - 12؛ 19: 19 والآيات التالية، 2 مل 2: 2، 3، 5؛ 4: 38، 43؛ 6: 1) حيث انشغل كثير من أبناء الأنبياء أو تلاميذهم بالتدريبات الروحية والمسؤوليات الثيوقراطية. وهنالك احتمال كبير أن تكون كتابات الأنبياء التاريخية من إنتاج هذه المدارس، وهذا بالطبع في بعض الكتب مثل يشوع والقضاة وما أشبه. وفي سفري أخبار الأيام بصفة خاصة إشاراتٌ متعدِّدة إلى كتابات تاريخية بقلم الأنبياء (1 أي 29: 29، 2 أي 9: 29؛ 20: 34 وما أشبه).

والأنبياء الذين توصف أنشطتهم في الكتب التاريخية، كثيراً ما يوصفون في عصرنا الحاضر بأنهم أنبياء في الأعمال، لنميّز بينهم وبين الأنبياء المتأخرين في الأقوال. وهذا التمييز لا يجوز إلا متى تذكرنا أن جميع الأنبياء، المبكرين منهم والمتأخرين على السواء، كانوا أنبياء الكلمة. فكلّهم تكلم وكلمهم قدم شهادته. وهنالك احتمال كبير أن الأصل العبري يشير إلى ذلك (خر 4: 16؛ 7: 1). والصفات الأساسية لتعليم الأنبياء كانت موجودة من قبل في شهادة أقدم الأنبياء. وهنالك ناحيتان يختلف فيهما الأنبياء المبكرون عن الأنبياء المتأخرين. فهم أولاً يقصرون تفكيرهم وحديثهم على مقتضيات الأمور الداخلية لشعب إسرائيل، فلا تدخل الشعوب الأخرى نطاق التفاتهم. ثم إنهم ثانياً ينشغلون بالحاضر لا بالمستقبل. فتحذيراتهم وإنذاراتهم لها هدف عملي مباشر. إنها الفترة التي كان فيها الأمل ما زال يراودهم بأن إسرائيل سوف يحافظ على عهد الله ويسير في طرقه، وذلك في أثناء حكم الملك داود والملك سليمان وبعد ذلك بقليل.

إلا أنه، في القرن التاسع قبل الميلاد، عندما ابتدأ إسرائيل ينشغل تدريجياً بالسياسات الخارجية للشعوب المحيطة بهن وعلى الرغم من دعوته وهدف حياته انغمس في تلك السياسات، عندئذٍ أدخل الأنبياء تلك الشعوب دائرة اهتمامهم، وأصبحوا لا يتوقعون إتمام وعد الله في الحاضر وفيه وما فيه من الارتداد. ولذلك كانوا ينتظرون أن يتم ذلك بمجيء المسيا في المستقبل، ذلك المستقبل الذي يجب أن يحقق الله مجيئه. وإذ تطلع هؤلاء الأنبياء من أبراج مراقبتهم إلى الأرض كلها بطولها وعرضها، وأشاروا إلى علامات الأزمنة، لا كمن يقرأونها بأنفسهم، ولكن طبقاً لنور الروح القدس (1 بط 1: 4؛ 2 بط 2: 20، 21) وهم يقوِّمون الحالة في إسرائيل سواء من الناحية الدينية أو الأخلاقية أو السياسية أو الاجتماعية، وكذلك علاقة إسرائيل بالشعوب الأخرى مثل أدوم وموآب وأشور وبلاد الكلدان ومصر، يقوِّمون ذلك كله ويفحصونه على محك العهد المركزي الذي يقف فيه يهوه مقابل شعبه. وتجدهم جميعاً، كل واحد بحسب طبيعته وعصره وطريقته الخاصة، يقدمون في الواقع كلمة الله الواحدة بعينها. فهم يعلنون خطية إسرائيل وعقاب الله للخطية، وهم يشجعون شعب الرب على اساس عدم تغير عهده، والوعد بأمانته وغفران كل خطاياهم، ويوجهون كل الأبصار إلى المستقبل البهيج الذي سيمتد فيه سلطان الله على إسرائيل وعلى كل الشعوب وذلك تحت حكم ملكٍ من بيت داود.

ولذلك فالكلمة التي يعظون بها باسم الله يصبح لها مدلول يتخطى العصر الذي تكلموا فيه برسالتهم. فلم تعد تلك الكلمة محدودة، في نطاقها، وفي هدفها، بإسرائيل الأيام القديمة، بل عوضاً عن ذلك لها مضمون وتأثير يمتدان أقصى إلى الأرض، ولا يمكن أن تتحقق إلا في البشرية نفسها. آنذاك يتمُ تدوين كلمة النبوة. فمن القرن التاسع قبل الميلاد فصاعداً، أي منذ أيام يوئيل وعوبديا، يبدأ الأنبياء في تدوين مضمون نبواتهم وأحياناً بتكليف واضح من الله (إش 8: 1؛ حب 2: 2، إش 36: 3) وهم يفعلون هذا لغرض واضح يعبرون عنه، وذلك حتى تبقى كلمتهم إلى آخر الأيام وإلى الأبد (إش 30: 8)، وتعترف الأجيال المتعاقبة بأصالة نبواتهم وصحتها (إش 34: 16).

ويسير أدب المزامير في خط مواز لكتابات الأنبياء. وهو أيضاً قديم العهد. لقد أحب إسرائيل الأغاني والموسيقى جداً. وقد حُفِظت لنا في الكتب التاريخية تسابيح مخصصة لموضوعات مختلفة. فهنالك أغنية السيف (تك 4: 23، 24)، وأنشودة البئر (عد 21: 17، 18)، وأنشودة غزو حشبون (عد 21: 27 - 30)، وترنيمة عبور البحر الأحمر (خر 15)، وترنيمة موسى (تث 32) وأغنية دبورة (قض 5)، وترنيمة حنة (1 صم 2)، ورثاء لشاول ويوناثان عند موتهما (2 صم 1)، ورثاؤه لأبنير (2 صم 3: 33، 34)، وسفر ياشر (يش 10: 13؛ 2 صم 1: 18) الذي يبدو أنه احتوى على أغان كثيرة. بالإضافة إلى ذلك، فإننا نقابل أناشيد كثيرة في كتابات الأنبياء. فمثلاً نشيد الكرم في (إش 5)، والأغنية التي تسخر بسقوط ملك بابل في (إش 14)، ومزمور حزقيا في (إش 38)، وصلاة يونان في (يونان 2)، وأغنية الشكر لحبقوق وغيرها. وكثير من هذه الأغاني والأناشيد على صلة وثيقة بالمزامير، حتى إن التحوُّل من واحد إلى الآخر لا يكاد يلحظ. كما أن هنالك علاقة وثيقة أيضاً بين أدب المزامير والكتابات النبوية. ونلاحظ هذا حتى من جهة الشكل: فكلاهما يأتي نتيجة وحي الروح القدس القوي، وكلاهما يضع عالم الطبيعة والتاريخ كله ضمن نطاق رؤيته، وكلاهما ينظر إلى الأشياء كافةً في نور كلمة الله، وكلاهما يصدر عن إعلان ملكوت المسيا، وكلاهما يستخدم لغة الشعر وصياغته. وعندما يجد كاتب المزامير نفسه داخل نطاق أسرار إرادة الله ومشورته يصبح رائياً، وعندما تنعش مواعيد الله روح النبي يسمو إلى المستوى الشعري (1 أي 25: 1 - 3) ولقد دعى آساف رائياً (2 أي 29: 30)، كما دعى داود نبياً (أع 2: 30).

إلا أن هنالك بطبيعة الحال فارقاً بين الاثنين. لقد هيأت أغنية مريم، ونشيد موسى (تث 32) ومزمور موسى (مز 90) الجو للمزامير، إلا أن المزامير أزهرت بعد نهضة عبادة الرب بقيادة صموئيل، وذلك في مزامير داود، مرنم إسرائيل الحلو (2 صم 23: 1). ومزامير داود تشكل الصور الأساسية التي على أساسها استُخدمت المزامير في ما عد سواء في أيام سليمان أو يهوشافاط أو حزقيا، وخلال فترة السبي وما بعدها. وفي نهاية (مزمور 72) توصف كل مزامير داود بأنها صلوات. وهذه هي الصفة المميِّزة لكل المزامير، وإن كان بينها تباين كبير. فبعضها تسابيح حمد وشكر، وبعضها تعبير عن الشكوى والتوسلات، وبعضها له صفة الترانيم وبعضها الآخر كأنه قصائد رثاء، بينما نجد مزامير أخرى نبوية تعليمية. وبعض المزامير يتغنى بأعمال الله في الطبيعة، ومزامير أخرى تتغنى بأعماله في التاريخ. وتعالج المزامير الماضي، والحاضر، وفي أحيان كثيرة المستقبل أيضاً. إلا أننا نجد دائماً عنصر الصلاة في تكوينها، وكلها تتميز بذلك. فإن كان الروح القدس، في حالة الكتابات النبوية، يمسك بحياة إنسان فيسيطر عليه ويحرِّكه، فإن هذا الروح بالذات يقود الشاعر في حال كتابة المزامير إلى أعماق حياته الروحية. والحال الروحي الشخصي يشكِّل دائماً مناسبة أنشودته. إلا أن حال النفس هذا يشكله ويكوّنه دائماً روح الرب.

وما كان لداود لأن يكون مرنم إسرائيل الحلو لو لم تكن له تلك الشخصية المتميزة والحياة الغنية بالاختبار. وكان حال ذهنه أو بالأحرى حال نفسه وما اعتراه من حزن وقلق، وتجارب ودوافع، والاضطهاد والنجاة، وغير ذلك من اختبارات، كلُّها كانت بمثابة الأوتار التي عزف عليها أنغام كلام الله وأعماله في الطبيعة والتاريخ، وفي المؤسسات وفي الوعظ، وفي الدينونة والفداء. فهي توافق النغمات بين إعلان الله الموضوعي وقيادته الذاتية التي نسمع صوتها في التراتيل، والتي ترنم في حضرة الله وقد تكرست لمجده، داعية الخليقة كلها لتشترك في التسبيح بحمده، والتي تتردد أصداؤها إلى أن يشترك فيها كل من في السماء والأرض، وبذلك فهي أعمق تعبير لكل ما أحست به البشرية على مدى العصور والأجيال. وتعلمنا المزامير أن نعبر عما تجيش به صدورنا بشأن إعلان الله ذاته في المسيح عن طريق الروح القدس. ولأهمية هذه المزامير فلم ينطق بها المرنم فحسب،بل أصبحت أيضاً على لسان الكنيسة في جميع العصور.

ويجب أن نضيف إلى الكتابات النبوية وإلى المزامير كتابات الحكمة أي فن الأمثال، أو أدب الحكمة. ونجد أساس هذه أيضاً في المواهب الطبيعية، كما يبدو واضحاً في المثل الخيالي الذي رواه يوثام (قض 9: 7 والآيات التالية)، ولغز شمشون (قض 14: 14)، والمثل الذي رواه ناثان النبي (2 صم 12)، وسلوك المرأة التقوعية (2 صم 14) وما إلى ذلك. إلا أن أدب الحكمة هذا اكتسب على يد سليمان، خصوصيته المتميزة (1 مل 4: 29 - 34)، واستمر في أمثال غيره من الحكماء (أم 22: 17 والآيات التالية) وفي سفر أيوب، والجامعة، ونشيد الأنشاد وهكذا إلى ما بعد السبي. وبينما تعلن أسفار النبوة إرادة الله كما تظهر في تاريخ إسرائيل وغيره من الشعوب، وتعبّر المزامير عن صدى تنفيذ إرادة الله في نفوس قديسيه، يربط أدب الحكمة أو الأمثال بين إرادة الله والحياة العملية أو السلوك. ويتأسس أدب الحكمة أيضاً على الإعلان الإلهي، ونقطة الانطلاق بالنسبة إليه هي أن بدء الحكمة مخافة الله (أم 1: 7). إلا أن هذا النوع من الأدب لا يربط بين ذلك الإعلان وتاريخ الشعوب، أو الاختبار الذاتي للنفس، بل إنه بالأحرى ينطبق على الحياة اليومية العادية، حياة الرجال والنساء، الآباء والأبناء، الصداقة والمجتمع، الأعمال والمهن المختلفة. فهذه الكتابات لا تعمل على مستوى النبوة العالي كما أنها لا تنظر بعين النبوة البعيدة، ولا تستكشف الأمور بعمق الكتابات الشعرية. بل تهتم بصروف الحياة المتقلبة، كالاختبارات التي يتعرض الناس تحت ضغطها لأن يستسلموا في يأس، فترتفع بهم ثانية فوق مستوى هذه الاختبارات. وتحقق ذلك بالإيمان في صلاح عناية الله. وبذلك يكتسب أدب الحكمة معنىً إنسانياً عاماً، يُحفظ على مدى العصور بقيادة الروح القدس.

فالإعلان الإلهي الظاهر في الناموس المعبر عن إرادة الله، هذا الإعلان الموجود أساساً في أسفار موسى، يُستكمَل في أيام العهد القديم في وعظ الأنبياء، وترانيم المرنمين وحكم الحكماء. وكأنما النبي هو الرأس، والمرنم هو القلب، والحكيم هو اليد.

وبهذه الصورة حققت الوظائف النبوية والكهنوتية والملوكية عملها في العهد القديم. وفي المسيح أصبح كنز الكتب المقدسة الذي لا يقدر بثمن ملكاً عاماً للجميع في أنحاء العالم كافةً.

وكما يبلغ الوعد ذروته عندما يتحقق، فإن كتابات العهد القديم المقدّسة تبلغ ذروتها في العهد الجديد، فلا يكتمل الواحد بدون الآخر. فالقديم لا يُعلَن إلا في الجديد، ولبُّ العهد الجديد وجوهره متضمن مسبقاً في العهد القديم. والعلاقة بينهما تشبه العلاقة بين قاعدة التمثال والتمثال نفسه، بين القفل والمفتاح، بين ظل الجسم والجسم نفسه. وتعريف العهدين القديم والجديد بهذه التسمية كان يشير أولاً إلى تدبيري عهد النعمة اللذين أعطاهما الله لشعبه قبل المسيح وبعده. ثم تحول استخدام هذين التعبيرين للإشارة إلى مجموعتي الكتابات اللتين تتضمنان وصف تدبيري العهد هذين وشرحهما. وفي (خر 24: 7) نجد أن الناموس الذي كان إعلاناً لعهد الله مع إسرائيل أو نطقاً به يسمَّى كتاب العهد (قارن 2 مل 23: 2). وفي (2 كو 3: 14) يتحدث بولس الرسول عن قراءة العهد القديم، وطبيعي أن الإشارة هنا هي إلى كتابات هذا العهد. وتمشياً مع هذه الأمثلة أُستخدمت الكلمة "عهد" شيئاً فشيئاً للكتابات أو الكتب المتضمنة في الكتاب المقدس التي تشرح تدبيري النعمة القديم والجديد.

وكما يتكون العهد القديم من عدة كتب، فكذلك العهد الجديد. فهو يشتمل على خمسة كتب تاريخية (الأناجيل الربعة وأعمال الرسل) وواحد وعشرين كتاباً عقائدياً (رسائل الرسل وخطاباتهم) كتاب نبوي واحد (رؤيا يوحنا). ومع أن كتب العهد القديم التسعة والثلاثين كُتبت خلال فترة تزيد على الألف عام، فإن كل كتابات العهد الجديد كُتبت خلال النصف الثاني من القرن الأول الميلادي.

وتحتل الأناجيل المكان الأول في العهد الجديد. ومرة أخرى نجد الترتيب مادياً لا تاريخياً. ومع أن الكثير من رسائل كُتب قبل تدوين الأناجيل، فالأناجيل وضعت أولاً لأنها تتحدث عن شخص المسيح وعمله، وهي أساس مجهودات الرسل التالية كلها. والكلمة "إنجيل" كان لها في البداية معنى مختلف تماماً، وهو بصفة عامة الخبر الطيِّب أو السار. وفي أيام العهد الجديد أصبحت الكلمة تُستخدم عن الأخبار السارة التي أعلنها المسيح (مر 1: 1) ولم يستخدم كُتَاب الكنيسة أمثال أغناطيوس، وجستنيان وغيرهما الكلمة "إنجيل" بمعنى الكتب أو السجلات المدون فيها رسالة المسيح المفرحة إلا في وقت لاحق.

يضم العهد الجديد أربعة أناجيل لا تشمل طبعاً أربعة أخبار سارة مختلفة، فهنالك إنجيل واحد، إنجيل يسوع المسيح (مر 1: 1، غلا 1: 6 - 8). إلا أن هذا الإنجيل الواحد، هذا الخبر السار الواحد بشأن الخلاص، يُقدَّم بطرق أربعة مختلفة، بواسطة أربعة أشخاص مختلفين، من أربعة وجهات نظر مختلفة، وبأربعة أشكال مختلفة. وهذا يبدو واضحاً عندما نقول الإنجيل كما دونه متى، أو كما دونه مرقس وما أشبه. والفكرة هي أن الأناجيل الأربعة تصف الإنجيل الواحد، والصورة الواحدة لشخص المسيح وعمله، من نواح مختلفة. ولذلك قارنت الكنيسة في العصور المبكرة الأناجيل الربعة بالكائنات الحية (الحيوانات) الأربعة في (سفر الرؤيا 4: 7). فمتى يمثل الإنسان، ومرقس يمثل الأسد، ولوقا يمثل العجل، ويوحنا يمثل النسر. وقد فعلوا هذا انطلاقاً من أن الإنجيلي الأول يصف المسيح كما هو في ظهوره الإنساني، والثاني في دوره النبوي، والثالث في دوره الكهنوتي، والرابع في طبيعته الإلهية.

ومتى، الذي هو أيضاً لاوي العشار لذي اختاره المسيح ليكون رسولاً (مت 9: 9؛ مر 2: 14، لو 5: 27)، كتب إنجيله أساساً، كما يقول إيريناوس، باللغة الآرامية وفي فلسطين حوالي عام 62 م. وبصفة خاصة إلى اليهود، لاسيما يهود فلسطين المتنصِّرين، ليبين لهم أن يسوع كان فعلاً المسيح وأن نبوات العهد القديم كلَّها تحقَّقت فيه (مت 1: 1).

وكان مرقس ابن مريم (أع 12: 12) التي يرجَّح أنها كانت تمتلك بيتاً في أورشليم (أع 1: 13، 2: 2). وقد كان مرقس في البداية في خدمة بولس ثم بعد ذلك في خدمة بطرس (1 بط 5: 13). ويقول التقليد إن المسيحيين في روما دعوه ليروي ما يتعلق ببدء إنجيل يسوع المسيح (مر 1: 1). ويقال إن الدعوة قُدِّمت إليه لأنه أقام في أورشليم وتنقل مع بطرس، ولذلك كان ملماً تماماً بالموضوع. ومن المعتقد أن استجاب لدعوة روما حوالي سنة 64 -67م.

ولوقا، الطبيب الحبيب، كما يسميه بولس الرسول (كو 4: 14)، ربما كان من أنطاكية. وكان منتمياً إلى الكنيسة في ذلك المكان منذ وقت مبكر حوالي عام 40 م. وكان رفيق بولس في رحلاته وشريكه في الخدمة، وظلَّ مخلصاً له إلى النهاية (2 تي 4: 11) وقد سطّر كتاباً تاريخياً لا يَشمل حياة المسيح وعمله فقط (في إنجيله) بل بدء انتشار المسيحية أيضاً في فلسطين، وآسيا الصغرى، وبلاد اليونان، وروما (في سفر أعمال الرسل). والكتاب الثاني كتبه حوالي سنة 70 – 74 ك ووجهه إلى شخص ثاوفيلس كان يشغل مكاناً مرموقاً في المجتمع، وكان شغوفاً بالإنجيل.

ترتبط هذه الأناجيل الثلاثة بعضها ببعض ارتباطاً وثيقاً، وتُبنى على أساس التقاليد التي كانت متداولة بين التلاميذ بشأن تعاليم المسيح وحياته. أما الإنجيل الرابع فهو من نوع مختلف. فيوحنا، التلميذ الذي كان يسوع يحبه، بقي في أورشليم بعد صعود المسيح. وكان مع يعقوب وبطرس أحد أعمدة الكنيسة الثلاثة (غلا 2: 9)، ثم غادر أورشليم، وقرب أواخر حياته وصل إلى أفسس خلفاً لبولس. ومن هناك نُفي في عهد الإمبراطور دوميتيان إلى جزيرة بطمس ما بين 95، 96 م ومات شهيداً في عام 100 م، لم يكن يوحنا بالرجل الذي يقوم بأعمال تبشيرية، ولم يؤسس كنائس جديدة، ولكنه كان يسهم في الحفاظ على الكنائس القائمة عن طريق معرفة نقية للحق. وتغيرت الظروف المحيطة بالكنيسة تدريجياً قرب نهاية القرن الأول الميلادي. فقد انتهى الصراع حول علاقة الكنيسة المسيحية بإسرائيل والناموس والختان. واتخذت الكنيسة موقفاً مستقلاً في ما يتعلق باليهود وكانت تتغلغل أكثر فأكثر في العالم اليوناني الروماني. وهنا اتصلت بتيارات روحية أخرى، وبصفة خاصة بالغنوسية. وبذلك أصبح هدف يوحنا أن يقود الكنيسة بسلام عبر مخاطر العالم المقاوم للكنيسة. ومن الانحراف نحو إنكار تجسد الكلمة (1 يو 2: 22؛ 4: 3). وفي كل كتابات يوحنا والتي دونها في ما بين عامي 80، 95 م يقدِّم في مواجهة هذا الاتجاه المناهض للمسيحية الصورة الكاملة للمسيح بوصفه الكلمة الذي صار جسداً. فيبين يوحنا في إنجيله أن هذا ما كان عليه المسيح إبان حياته على الأرض، كما يبين في رسائله أن المسيح ما زال هو الكلمة المتجسد في الكنيسة الآن. وفي سفر الرؤيا يوضح أن هذا ما سيكون عليه المسيح في المستقبل أيضاً.

وكتابات العهد الجديد التي أشرنا إليها حتى الآن إنما دفعت إلى كتابتها بإرشاد الروح القدس مناسبات تاريخية محددة. وينطبق هذا أيضاً على كتابات بولس وبطرس ويعقوب ويهوذا. فبعد صعود المسيح، وبعد اضطهاد الكنيسة في أورشليم، لم يقم الرسل بالكرازة بالإنجيل لليهود والأمم فحسب، بل ظلوا مع رعايا الكنائس التي أسسوها في شركة معهم وزيارات شخصية لهم. وكانت تصلهم تقارير شفوية أو مكتوبة عن الحالة الروحية لتلك الكنائس، وكانوا يهتمون بنموها، ويحملون إهتمامات الكنائس كلها في قلوبهم الرسولية (2 كو 11: 28). ولذلك كانوا يحسون بأنهم مدعوون، ما أمكن ، لزيارة جميع الكنائس شخصيّاً، أما إن لم يتيسر ذلك فإنهم يكتبون الرسائل والخطابات لتحذير الكنائس وتعزياتها طبقاً لاحتياجاتها، فكانوا ينذرونهم ويشجعونهم بكل هذه الوسائل لعلهم يقودونهم إلى التعمق في الحق الذي للخلاص.

وكما كان عملهم الرسولي بصفة عامة، كذلك كان جهدهم في الكتابة، وهو بجملته يكون عنصراً تاريخيّاً عضويّاً جوهريّاً في ذلك العمل الرسولي وقد كان رسولياً وقد كان ضرورياً إذ وضع حجر الأساس للكنيسة المسيحية، فالأناجيل ورسائل الرسل كانت ككتابات الأنبياء كتابات ترتبط بمناسبات خاصة. إلا أنها تجاوز حدود الزمن والاهتمامات المحلية لكنائس في ذلك العصر، متوجِّهةً إلى الكنيسة على مر العصور.

إن لكل الكتابات المقدسة جذوراً تاريخية، إلا أنها جميعاً، كما قال أوغسطينوس تمثِّل رسالة من الله يرسلها من السماء إلى كنيسته على الأرض. وعلى ذلك فإننا لا نعتبر أن "البحث التاريخي" عن تكوين أسفار الكتاب المقدس - ما عدا إساءة استخدام مثل هذه الدراسة - أمر يتعارض مع الطبيعة الإلهية للكتب المقدسة، بل نرى أن هذه الدراسة تلائم بكيفية متميزة كيف نتعلم عن الطرق العجيبة التي حقق الله بها عمله الغني هذا.

طبيعي أن هذه اللمحة عن أصل أسفار الكتاب المقدس لا تستنفذ دراسة الكتاب المقدس، ولكنها مجرد بداية. وقد نمت بالتدريج مجموعة كبيرة من العلوم حول الكتاب المقدس، وهدفها جميعاً مزيد من فهم الكتب المقدسة. ويكفي أن نشير إلى هذه الدراسات في عبارة موجزة.

فنقول أولاً إننا نعلم أنه بالإضافة إلى الكيفية المتميزة التي نشأ بها كل سفر من أسفار الكتاب المقدس، فإنه بمرور الزمن أخذ موقعه بين المجموعة المكوِّنة لأسفار الكتاب المقدس القانونية، وهي قائمة بمجموعة الكتابات التي تشكل قاعدة لإيمان والحياة. وفكرة جمع الكتابات هذه نجدها حتى في إطار سفر واحد. فقد كتب سفري المزامير والأمثال أشخاص مختلفون تم جمع كتاباتهم بالتدريج. ثم جمعت كل الأسفار في ما بعد في كتاب واحد هو الكتاب المقدس. وينبغي ألا نعتبر أن الكنيسة هي التي أوجدت مجموعة الأسفار القانونية، أو أسبغت السلطة القانونية إلى كتابات الأنبياء والرسل. فإن هذه الكتابات في حقيقة الواقع منذ تدوينها، كان لها فوراً سلطانها في الكنيسة واستُخدِمت كقانون ينظِّم الحياة والإيمان. فكلمة الله التي لم تكن مكتوبة في البداية ثم تم تدوينها، لا تستمد سلطتها من البشر، ولا حتى من سلطة جماعة المؤمنين، بل من الله الذي يسهر عليها ويستدعي الاعتراف بها.

وعندما تزايد عدد كتابات الأنبياء والرسل في ما بعد، وعندما ظهرت بعض الكتابات التي لم يسطِّرها أنبياء، ولا رسل جنباً إلى جنب معها، ولكنما زعم بعضٌ أنهم كتبوها، وقبلها قومٌ وكأن لها هذه الصفة، عندئذ أصبح لزاماً على الكنيسة أن تميز بين الأسفار القانونية الحقيقية والكتابات المزيفة، المزعومة والأبوكريفية والمنسوبة إلى غير كتَّابها الحقيقيين، وأن تضع قائمة بالكتب الحقيقية. وقد تم هذا قبل مولد المسيح بالنسبة إلى كتب العهد القديم، وفي القرن الرابع الميلادي بالنسبة إلى العهد الجديد. وهنالك دراسات مختصة تتناول هذا الموضوع بالبحث وتلقي الأضواء على قانونية أسفار الكتاب المقدس.

وتجدر الملاحظة ثانياً أن المخطوطات الأصلية التي سطرها الأنبياء والرسل أنفسهم، قد فُقدت جميعاً بلا استثناء. وليس لدينا سوى ما نسخ عنها. وأقدم هذه بالنسبة إلى العهد القديم تعود بنا إلى القرنين التاسع والعاشر، وبالنسبة إلى العهد الجديد إلى القرنين الرابع والخامس بعد الميلاد. وبعبارة أخرى فإنَّ قروناً كثيرة تفصل بين المخطوطات الأصلية والمخطوطات التي نقلت عنها والموجودة عندنا . وقد واجه النص خلال هذهالحقبة صروف الزمن مما أدى إلى تغييرات معينة طفيفة أو كبيرة. فعلى سبيل المثال - ونحن نقدِّم هنا مثلاً واحداً في هذا الموضوع المتشعب - لم تكن هنالك حركات أو علامات ترقيم في المخطوطات العبرية الأصلية، ولكنها أُدخلت بعد ذلك بقرون. وتقسيم الكتب إلى فصول كما هي بين أيدينا اليوم. لم يتم إلا في القرن الثالث عشر الميلادي، وتقسيم الآيات في القرن السادس عشر. ولهذا، وبسبب اعتبارات مماثلة، كان من الضروري أن يكون هنالك علم خاص يستخدم كل الوسائل التي تساعد على بلوغ النص الأصلي ليسُتخدم أساساً للتفسير.

وينبغي أن نلاحظ ثالثاً أن العهد القديم كُتب بالعبرية وأن العهد الجديد كُتب باليونانية. وبمجرد أن تم توزيع هذه الكتب على الناس لم يفهموا هاتين اللغتين، أصبحت ترجمة هذه الكتب أمراً ضرورياً. وكانت بداية ذلك في القرن الثالث قبل الميلاد عندما تُرجم العهد القديم إلى اليونانية. ثم تُرجم بعد ذلك العهدان القديم والجديد إلى لغات كثيرة قديمة، ثم إلى لغات حديثة كثيرة. وبعد نهضة العمل الكرازي بين الوثنيين في القرن التاسع عشر، دب نشاط كبير في عمل الترجمة، والكتب المقدسة موجودة اليوم بكاملها، أو بأحد أجزائها، في أكثر من أربعمائة لغة ودراسة هذه الترجمات ، لاسيما القديمة منها، على جنب كبير من الأهمية لبلوغ فهم صحيح للكتب المقدسة. لأن كل ترجمة هي في الواقع تفسير.

ونرى رابعاً وأخيراً أن هنالك عناية كبيرة وجهداً كبيراً يبذلان في تفسير الكتاب المقدس. ولقد استمر هذا من أيام اليهود القدامى عبر القرون وهو في تزايد في عصرنا هذا. ومع أن لكل مفسر وجهة نظره الخاصة، وأن تفسيرات كثيرة كانت منحازة، فإن تاريخ تفسير الكتاب المقدس يشير إلى تقدُّم ملحوظ ساهم فيه كل قرن من القرون بنصيب خاص. فإننا نرى في نهاية المطاف أن الله نفسه غالباً عن طريق الأخطاء البشرية هو الذي يحفظ كلمته ويعطى لأفكاره أن تنتصر على حكمة العالم.

[4] 1 مل 2: 3؛ 2 مل 14: 6؛ مل 4: 4؛ مر 12: 26؛ لو 24: 27، 44؛ يو 5: 46، 47.

[5] تك 18: 17؛ 20: 7 قارن أيضاً عا 3: 7؛ مز 105: 15.

[6] تك 49.

[7] عد 11: 25؛ تث 18: 18؛ 34: 10؛ هو 12: 13.

[8] خر 15: 20؛ عد 12: 2.

بعد أن دوّن الكاتب الكلمات أعلاه تم اكتشاف مخطوطات قمران التي نجد فيها أجزاء من العهد القديم تعود بنا إلى ما قبل القرن الأول الميلادي وكذلك أجزاء من إنجيل يوحنا تعود بنا إلى حوالي سنة 140 ميلادية، وغير ذلك من مخطوطات (المترجم).

بلغت الترجمات حتى آخر 1985 ما هو أكثر من ذلك بكثير (1780 لغة ولهجة).

  • عدد الزيارات: 3441