Skip to main content

الفصل الثاني: معرفة الله

الله هو خير الإنسان الأعظم: هذه شهادة الكتاب المقدس بأكمله. إذ يبدأ الكتاب المقدس بالحديث عن خلق الله للإنسان على صورته كشبهه، ليعرف الإنسان خالقه بكيفية صحيحة، وليحبه من كل قلبه وليحيا معه في سعادة أبدية. وخاتمة الكتاب المقدس وصف لأورشليم الجديدة التي يرى سكانها الله وجهاً لوجه واسمه على جباههم (رؤ 4:22).

وبين هاتين الحقيقتين نجد إعلان الله عن ذاته بكل ما يشتمل عليه من أبعاد. ومضمون هذا الإعلان هو عهد النعمة الواحد العظيم الشامل: "فأكون لكم إلهاً وأنتم تكونون لي شعباً" (إر 23:7). ويبلغ هذا الإعلان نقطته المركزية وذروته في عمانوئيل، الله معنا (إش 14:7، مت 23:1)، فالوعد وتحقيقه يسيران جنباً إلى جنب، وكلمة الله هي البداية، الأمل والبذر ة، تبلغ تحقيقها الكامل عندما تترجَم إلى أحداث على مسرح التاريخ. وكما أوجد الله الأشياء في البدء بكلمة قدرته (عب 3:1)، فإنه سيتوج الزمن إذ يخلق بكلمته السماء الجديدة والأرض الجديدة حيث يسكن تعالى مع البشر.

لهذا يقول الكتاب عن المسيح، الذي فيه صار الكلمة جسداً، إنه مملوء نعمة وحقاً (يو 14:1). فهو الكلمة الذي كان في البدء عند الله والذي كان هو الله، ولذلك فهو حياة الناس ونورهم ( يو 41:1). ولأن المسيح يشارك الله الآب حياته، ويعبّر الآب عن فكره عن طريق المسيح، فالكيان الإلهي كله معلن في المسيح. فالمسيح لا يظهر لنا الآب ويكشف اسمه فحسب، بل أنه في ذاته يرينا الآب ويعطينا إياه. فالمسيح هو الله معبَّراً عنه والله مقدَّماً لنا. ولهذا فهو "مملوء نعمة وحقاً" (يو 14:1). وكلمة الوعد "فأكون لكم إلهاً" تتضمن بين طياتها منذ لحظة النطق بها تحقيق ذلك الوعد: "أنا إلهكم". فالله يعطي ذاته لشعبه، ليعطي شعبه أنفسهم له.

يعلن الله في الكتاب المقدس باستمرار، وبكيفية متكررة، شهادته عن نفسه بالقول: "أنا إلهكم". ومنذ الوعد الأول في (تك 15:3)، تتكرر هذه الشهادة الغنية التي تشمل جميع البركات وجوانب الخلاص كلها، سواء كان ذلك في ما يتعلق بحياة رؤساء الآباء أو بتاريخ شعب إسرائيل، أو بكنيسة العهد الجديد. وكصدىً لذلك، فإن الكنيسة على مر العصور تعبّر عن إيمانها بأساليب متنوعة، معترفة بالجميل ومسبّحة بحمده: أنت إلهنا ونحن شعبك وغنم مرعاك (مز 3:100).

وإذ تعلن الكنيسة إيمانها لا تقدم عقيدة علمية، ولا صياغة شكلية تتحد في ترديدها، ولكنها تعبّر عن إقرار واعتراف بحقيقة تحسّ بها بعمق، واقتناع بحقيقة نتجت عن اختبارات الحياة. فالأنبياء والرسل عامة والقديسين الذين نلتقيهم على صفحات الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، وفيما بعد ذلك في كنيسة المسيح، لم يجلسوا ليقدموا نظريات فلسفية عن الله في صورة أفكار مجردة، بل أقروا بمكانة الله في حياتهم وبأنهم مدينون له في كل ظروف الحياة. فلم يكن الله بالنسبة إليهم فكرة جامدة يتناولونها بتحليل عقلاني. ولكنه كان في نظرهم قوة شخصية حية، حقيقة يتلامسون معها أكثر جداً من تلامسهم مع العالم المادي الذي يحيط بهم. فهو بالنسبة إليهم الواحد الوحيد السرمدي، الذي يستحق وحده السجود والعبادة. لذا تعاملوا معه وعاشوا في حضرته وسلكوا وكأنهم دائماً في محضره، كما قاموا بخدمته في دياره، وتعبدوا له في مقدسه.

إن ما يميز اختبار هؤلاء من أصالة وعمق يظهر في اللغة التي عبروا بها عن مكانة الله في حياتهم. فلم يجدوا أنفسهم في حاجة لأن يبذلوا الجهد بحثاً عن المفردات، إذ تدفقت الكلمات على شفاههم وزودهم عالم البشر والطبيعة بصور التعبير المختلفة. وكان الله بالنسبة إليهم هو الملك والسيد، الرب الجبار، القائد والراعي والفادي والمعين والطبيب والأب. وهو مصدر بركتهم وهنائهم وحقهم وبرّهم وحياتهم، مصدر رحمتهم وقوتهم وبأسهم وسلامهم وراحتهم. إنه شمسهم وترسهم، وهو الذي يَقيهم، كما أنه نورهم ونارهم، وينبوعهم المروي والبئر الذي يستقون منها، صخرتهم وترسهم، حصنهم وبرجهم، مكافأتهم وسترهم، مدينتهم وهيكلهم. فكل ما يمكن للعالم أن يقدمه من خير إنما هو ظل باهت للخلاص الكامل الذي يقدمه الله لشعبه. ولذلك يخاطب داود الرب قائلاً: "قلت للرب أنت سيدي. خيري، لا شيء غيرك" (مز2:16). ويتغنى آساف قائلاً: "من لي في السماء؟ ومعك لا أريد شيئاً في الأرض. قد فني لحمي وقلبي، صخرة قلبي ونصيبي الله إلى الدهر" (مز 26 25:73) حتى السماء في نظر المؤمن، بكل بركاتها ومجدها تضحي، من دون الله، باطلة عقيمة تافهة. وإذ يحيا في شركة مع الله، لا ينشغل بما هو أرضي، لأن محبة الله تسمو على كل خير آخر.

هذا هو اختبار أولاد الله. إنه اختبار أحسوا به لأن الله قدّم ذاته ليسعدوا به في شخص ابن محبته. وبهذا المعنى قال المسيح أن الحياة الأبدية، أي الخلاص في كماله، يتركز بالنسبة للإنسان في معرفة الإله الحقيقي الواحد، ويسوع المسيح الذي أرسله (يو 3:17).

لقد نطق المسيح بهذه الكلمات في لحظة مباركة. لقد كان يوشك أن يعبر وادي قدرون ليدخل بستان جثسيماني، ويواجه آخر صراعاته هنالك. إلا أنه، قبل أن يصل إلى ذلك المكان، يهيئ نفسه–بوصفه كاهننا الأعلى- لآلامه وموته. ويصلي للآب ليمجده الآب في آلامه، وبعد ذلك ليمجد الابن الآب بأن يوزع جميع تلك البركات التي كان يوشك أن يحققها بطاعته حتى الموت. وإذ يصلي الابن هكذا، فهو لا يرغب في شيء سوى إرادة الآب ومشيئته الصالحة. لقد أعطى الله الابن سلطاناً على كل ذي جسد، ليعطي هو حياة أبدية لكل من أعطاه إياها. وقوام هذه الحياة الأبدية ليس شيئاً سوى معرفة الإله الواحد الحقيقي، ويسوع المسيح الذي أُرسل ليعلنه (يو 17: 1- 3).

واضح أن المعرفة التي يتكلم عنها هنا لها صفاتها المميزة. فهي تختلف عن أية معرفة أخرى يمكن للمرء أن يحصل عليها– لا من جهة درجة المعرفة. بل من جهة جوهرها.

فهذه المعرفة مختلفة أولاً في مصدرها، إذ أننا مدينون بها تماماً للمسيح. لذا يمكننا أن نقول من زاوية معينة بأننا نحصل على معرفتنا في المجالات الأخرى عن طريق إدراكنا وتقديرنا للأمور، بمجهودنا ودراستنا. أما معرفة هذا الإله الواحد الحقيقي، فينبغي لنا، وكأننا أطفال، أن نسمح للمسيح بأن يعطينا إياها. ولا يمكن أن نجدها بعيداً عنه، لا في معاهد العلم، ولا بين الفلاسفة البارزين. فالمسيح وحده هو الذي عرف الآب. كان في البدء مع الله، في حضنه، ورآه وجهاً لوجه. وهو نفسه الله: بهاء مجده ورسم جوهره، وهو ابن الآب الوحيد المحبوب، الذي كان سروره الكامل فيه. (مت 17:3، يو 14:1، عب 3:1). فليس شيء في كيان الآب خفي عن الابن، ما دام الابن يشترك في الطبيعة نفسها والصفات عينها والمعرفة ذاتها. ولا يوجد من يعرف الآب معرفة كاملة سوى الابن (مت 11: 27).

وقد جاء هذا الابن إلينا، وأعلن لنا الآب. فهو أعلن اسم الآب للبشر. لهذا تجسد، وظهر في الأرض: لنعرف ذاك الذي هو الحق (1 يو 5: 20)، إننا لم نعرف الله ولم نسر بمعرفة طرقه (أي 21: 14)، إلا أن المسيح أعطانا أن نعرف الآب. لم يكن المسيح فيلسوفاً أو عالماً، أو فناناً، بل كان عمله هو أن يعلن اسم الآب لنا. وهذا فعله بالتمام في حياته كلها. ولقد أعلن الله بأقواله وأفعاله، بحياته وموته، وبشخصه وبكل ما كان هو إياه وبكل ما فعله. فلم يقل أو يفعل شيئاً سوى ما رأى أن الآب يفعله، كما كان طعامه أن يصنع مشيئة الآب. وكل من رآه فقد رأى الآب أيضاً (يو 34:4، 8: 26- 28، 50:12، 9:14).

ويمكننا أن نركن إليه تماماً في إعلانه لله، لأنه هو يسوع المسيح المرسل من لدن الآب. ولقد أعطاه الله نفسه اسم "يسوع" "لأنه يخلص شعبه من خطاياهم" (مت 1: 21). واسمه "يسوع" لأنه مسيح الآب، وقد اختاره الله نفسه وأهله لكل وظائفه (إش 1: 42، مت 3: 16). وهو الواحد المرسل من الله، لأنه لم يأت باسم نفسه كالكثيرين من الأنبياء والكهنة المزيفين. الذين يأتون باسم أنفسهم، ويقيمون أنفسهم، وينسبون الفضل لأنفسهم. إنه ليس كذلك، ولكن لأن الآب أحب العالم كل هذا الحب، قدم ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية– لأجل هذا هو مرسل من الآب (يو 3: 16).

لذلك فالذين يقبلونه ويؤمنون به، أعطاهم جميعاً الحق والأهلية ليكونوا أولاد الله (يو 1: 12). فهم مولودون من الله، وشركاء الطبيعة الإلهية، ويعرفون الله في وجه المسيح ابنه. ذلك أنه لا يعرف أحد الابن إلا الآب، كما لا يعرف أحد الآب إلا الابن ومن يريد الابن أن يعلن الآب له (مت 11: 27).

ومن الناحية الثانية تختلف معرفة الله عن سائر أنواع المعرفة من حيث موضوعها. فالمعارف الأخرى كلها يمكن– وبصفة خاصة في عصرنا الحاضر– أن يكون مجالها واسعاً. إلا أنها تدور حول المخلوق وتقتصر على ما هو وقتي، ولا يمكن أن تعرف ما هو أبدي. طبيعي أن قدرة الله الأزلية ولاهوته معلنان في الطبيعة أيضاً. إلا أن معرفة الله التي نستمدها من هذا المصدر معرفة هزيلة غامضة يشوبها الخطأ، بالإضافة إلى أن البشر لا يقدرونها كثيراً. ومعرفة الله عن طريق الطبيعة لم تدفع البشر لأن يمجدوه أو يحمدوه كإله، بل حمقوا في تصوراتهم، وأبدلوا بمجد الله الذي لا يفنى، صوراً مشابهة للمخلوقات. إذاً الخليقة تعلن الله وتخفيه على حد سواء (رو 1: 20- 23).

إلا أنه في صلاة رئيس كهنتنا، تلك التي سبقت الإشارة إليها، يبرز أمامنا شخص ينصرف عن مثل هذه المعرفة، ويتحدث بجرأة عن معرفة الله. أيمكن أن يكون الله موضوع معرفة البشر؟! من يستطيع أن يسبر أغوار ذلك؟ كيف يمكن للإنسان أن يعرف الله الذي لا تحده حدود ولا يدركه أحد، لأننا لا نستطيع أن نقيسه بحدود الزمن أو الأبد، ذاك الذي في حضرته تغطي الملائكة وجوهها بأجنحتها والساكن في نور لا يدنو منه أحد، والذي لم يره إنسان قط ولا يمكن لأحد أن يراه؟ كيف يمكن للإنسان الذي في أنفه نسمة، والذي لا يحسب شيئاً، أن يعرف مثل هذا الإله (إش 2: 22)؟ كيف يمكن لإنسان معرفته– مهما سمت– معرفة جزئية أن يعرف الله؟ إن معرفة الإنسان إنما هي معرفة عن الأشياء، وليست معرفة للأشياء في ذاتها. فماذا يعرف عن الأشياء في مصدرها وجوهرها وهدفها؟ ألا يلفه المجهول من كل جانب؟ أو لا يقف دائماً على حافة ذلك المجهول؟ فهل يمكن القول إن مثل هذا الإنسان الفقير، الضعيف، المعرض للخطأ، والذي يحيط به الجهل من كل جانب، يستطيع أن يعرف الله السامي القدوس الذي له وحده الحكمة والقادر على كل شيء؟

إن هذه المعرفة تفوق إمكانياتنا، إلا أن المسيح الذي رأى الآب وأعلنه لنا يتحدث عنها. ويمكننا أن نعتمد عليه لأن شهادته حق وتستحق أن نقبلها تماماً. فإن كنت تريد، أيها الإنسان، أن تعرف من هو الله، فلا تسأل الحكماء والكتاب ومجادلي هذا العصر، بل انظر إلى المسيح واصغ لكلمته! ولا تقل في قلبك من يصعد إلى السماء أو من ينزل للأعماق؟ لأن الكلمة قريبة منك، الكلمة التي أعلنها المسيح. (رو10: 6- 8). فهو نفسه الكلمة، إعلان الآب الكامل. وكما الابن فكذلك الآب. بار وقدوس ومملوء نعمة وحقاً. وفي صليب المسيح أصبح كل مضمون العهد القديم واضحاً معلناً: الرب إلهنا حنان ورحيم، طويل الروح وكثير الرحمة. لا يعاملنا كخطايانا ولا يجازينا كآثامنا. لأنه كما ارتفعت السماوات فوق الأرض، كذلك عظمت رحمته نحو خائفيه. كبعد المشرق عن المغرب أبعدَ عنّا معاصينا. كما ترأف الآب على البنين، كذلك يترأف الرب على خائفيه (مز 103: 8– 13) وإذ نرى مجد المسيح في مرآة كلمته نهتف فرحين: نحن نعرفه لأنه هو عرفنا أولاً، نحن نحبه لأنه هو أحبنا أولاً (1 يو 4: 19).

هذا المصدر وهذا المضمون يحددان الجوهر الخاص الذي تتميز به معرفة الله.

وفي الآية التي أشرنا إليها من صلاة رئيس كهنتنا، يتحدث الرب يسوع عن معرفة ليست هي مجرد معلومات ولكنها معرفة حقيقية. وهنالك فارق كبير بين هذين النوعين من المعرفة. فإذ نحصل على بعض المعلومات من الكتب عن نبات، أو حيوان، أو شخص، أو بلد من البلاد، أو شعب من الشعوب، فهذا لا يعني معرفة مباشرة شخصية عن هذا الأمر أو ذاك. فمثل هذه المعلومات تتأسس على وصف شخص آخر للموضوع. ومن هذه الزاوية، فالمعلومات أمر عقلاني فحسب. إلا أن المعرفة الحقيقية تتضمن عنصراً من الاهتمام الشخصي والمشاركة، ونشاط العاطفة والإرادة.

ولا شك أن الكلمة المقدسة تقدم وصفاً لمعرفة الله التي أعطاها المسيح. ولذلك فمن الممكن أن نحصل على معلومات عن الله تختلف جوهرياً عن المعرفة الحقيقية التي قصدها المسيح. وعليه، فمن الممكن أن يعرف المرء إرادة الرب، دون استعداد قلبي لتنفيذ هذه الإرادة (لو 12: 47، 48). يمكن للإنسان يقول: "يا رب، يا رب" دون أن يدخل ملكوت السماوات (مت 7: 21). وللشياطين مثل هذا الإيمان الذي لا يدفع إلى المحبة بل إلى الخوف والفزع (يع 2: 19) وهنالك من يسمعون الكلمة ولكنهم لا يرغبون في العمل بالكلمة فينالون عقاباً مضاعفاً (يع 1: 22).

وإذ يتحدث المسيح في هذا المجال عن معرفة الله، يتحدث عن معرفة تماثل من حيث نوع المعرفة التي عنده هو. فلم يكن المسيح لاهوتياً محترفاً، كما لم يكن أستاذاً متخصصاً في العلوم اللاهوتية. ولكنه عرف الله عن طريق الرؤية الشخصية والبصيرة التي له. لقد رأى الله في كل مكان: في الطبيعة، وفي كلمته وفي خدمته. وقد أحبه أكثر من كل شيء أو شخص، وأطاعه في جميع الأشياء، حتى في الموت على الصليب. لقد كانت معرفته الحق جزءاً لا يتجزأ من تطبيق الحق عملياً. فالمعرفة والمحبة تسيران جنباً إلى جنب.

ومعرفة المرء لله ليست في معرفة الكثير عنه، بل في أن نراه في شخص المسيح، أن نتقابل معه في طريق الحياة، وفي اختبارنا الشخصي، أن نتعرف بفضائله وبرّه وقداسته ورأفته ونعمته.

ولأجل هذا فإن هذه المعرفة، في تميزها عن أنواع المعارف الأخرى، نسميها معرفة الإيمان. فهي ليست حصيلة دراسة علمية أو تأملات فلسفية، بل هي إيمان بسيط كإيمان الأطفال. وليس هذا الإيمان معرفة يقينية فحسب ولكنه ثقة وطيدة بأن الله لا يعطى الآخرين فقط، بل يعطيني أنا أيضاً غفران الخطايا والبر الأبدي والخلاص، وكل هذا مجاناً وبمجرد النعمة، وعلى أساس استحقاقات المسيح، ولا شيء غير ذلك. ولا يدخل ملكوت السماوات سوى من يصبحون كالأطفال الصغار (مت 18: 3). ولا يرى وجه الله سوى الأنقياء القلب (مت 5: 8)، كما لا يدخل الملكوت سوى المولودين من الماء والروح (يو 3: 5). والذين يعرفون اسمه يضعون ثقتهم فيه (مز 9: 10). ونحن نعرف الله بقدر ما نحبه.

متى تفهمنا معرفة الله بهذه الكيفية، لن يدهشنا أن نلاحظ أن عمل هذه المعرفة ومفعولها لا بد أن يفضيا إلى الحياة الأبدية، وليس أقل. والواقع أنه يبدو أن العلاقة بين المعرفة والحياة ضئيلة. ألا يقول الجامعة حقاً: "لأن في كثرة الحكمة كثرة الغم، والذي يزيد علماً يزيد حزناً و"لعمل كتب كثيرة لا نهاية والدرس الكثير تعب للجسد" (جا 1: 18، 12: 12)؟

والمعرفة قوة. ويمكننا أن نتفهم ذلك ولو لدرجة محدودة. وكل معرفة فيها انتصار للروح على المادة، وإخضاع للأرض لسيادة الإنسان. إلا أن هذه المعرفة يجب أن تكون حياة. ومن يستطيع أن يتفهم ذلك؟ إلا أنه حتى في النظام الطبيعي، فإن عمق الحياة وغناها يتزايدان بالمعرفة. فكلما كان الوعي والإلمام بالأمور شاملين، كانت الحياة قوية من جميع النواحي. فالجماد لا يعرف، ولذلك يحيا. وإذ ينمو الإدراك في الحيوانات، فإن حياتها تزداد غنى من حيث المضمون واتساع المجال والأفق. وإن أغنى أنواع الحياة بين البشر هي حياة ذاك الذي يعرف أكثر من الجميع. فما هي في الواقع حياة ذاك الذي يعرف أكثر من الجميع. فما هي في الواقع حياة مختل العقل، والساذج، والمتخلف؟ إنها حياة فقيرة محدودة بالنسبة إلى حياة المفكر والشاعر. إلا أننا مهما لاحظنا من اختلاف هنا، فهو اختلاف في الدرجة. فهذه المعرفة لا تجري تغييراً في الحياة. ومثل هذه الحياة، سواء أكانت حياة عالم ممتاز أو حياة عامل كادح بسيط، لابد أن تنتهي بالموت، لأنها تعيش على موارد هذا العالم المحدودة.

إلا أن هذه المعرفة التي يتحدث المسيح عنها ليست معرفة المخلوق، ولكنها معرفة الله الحقيقي الواحد. فإن كانت معرفة الأشياء المنظورة تُغني الحياة، فكم يمكن أن تقدم معرفة الله للحياة؟ فالله ليس إله الموت والأموات بل إله الحياة والأحياء. وكل من خلقهم من جديد على صورته وردّهم إلى شركته، وقد رفعهم بذلك فوق مستوى الموت وقابلية الموت. فقد قال المسيح أن من يؤمن به، ولو مات، فسيحيا، وكل من كان حياً وآمن به لا يموت (يو 11: 25، 26) إذاً معرفة الله في المسيح تأتي بالحياة الأبدية معها، بفرحٍ لا ينطق به، وسعادة سماوية. وليست هذه مجرد تأثيرات معرفة الله، لأن معرفة الله نفسها بكيفية مباشرة حياة جديدة أبدية ومباركة.

وتمشياً مع تعليم الكتب المقدسة في هذا المجال، حددت الكنيسة المسيحية صفة تلك المعرفة أو ذلك العلم الذي أطلق عليه منذ زمن بعيد "علم اللاهوت". وعلم اللاهوت هو ذلك العلم الذي يستمد معرفة الله من إعلانه عن ذاته، وهو الذي يدرس هذه المعرفة ويفكر فيها بإرشاد روح الله، ثم يحاول بعد ذلك أن يصفها لتخدم مجد الله. واللاهوتي الحقيقي هو الذي يتحدث من عند الله، وعن طريق الله، وعن الله، ويفعل هذا لمجد اسم الله دائماً. والفارق بين المتعلم والشخص البسيط هو اختلاف في الدرجة وحسب– فلكليهما رب واحد، إيمان واحد، معمودية واحدة وإله وآب واحد للجميع الذي هو فوق الكل وفي الكل. . . إلا أنه لكل واحد أعطيت النعمة بحسب قياس عطية المسيح (أف 4: 5- 7).

بمثل هذه الروح ابتدأ كلفن أصول إيمان جنيف بالسؤال: "ما هي غاية الإنسان العظمى؟" وجاءت الإجابة واضحة مدوية: "أن يعرف الله الذي خلقه". وعلى النهج نفسه يبدأ ملخص أصول الإيمان الوستمنستري تعليمه بالسؤال: "ما هي غاية الإنسان الأسمى والرئيسية؟" ويقدم إجابة مختصرة غنية: "أن يمجد الله وأن يتمتع به إلى الأبد".

  • عدد الزيارات: 11341