تذييـل
هلِ الرهبانيَّة من صنع البشر؟
أن يحاول المرء تقديسَ نفسه، أو تطهيرها، بطريقته الخاصَّة، وليس بحسب كلمة الربّ، لَهُوَ أمرٌ يسميّه الكتابُ المقدَّس رجاسة أو نجاسة. بهذا يتعلَّق مغزى الاصحاح الأخير من سفر إشعياء النبي. والأمُر خَطِرٌ إلى أقصى حدّ، لأنَّه -بتعبير الكتاب المقدَّس- قد يعني أنَّ "مَن يُصعِد تقدمةً يُصعِد دم خنـزير" (إشعياء 3:66). ومنذ أيام "الإصلاح" يبدو أنَّ مسألة نَمَط حياة الترهُّب، بجملتها، لم تلقَ اهتماماً جدياً. وعليه، ففي هذا التذييل، لا أجرؤ على عدم الإجابة عن السؤال المهمّ: هلِ الحياةُ الملتزمة لنمط الترهُّب أمرٌ قرَّره الله؟ ومقصدي أن أقيس "حياة الترهُّب" بمعيارِ حقِّ كلمة الله، على حدِّ ما جاء أيضاً في سفر إشعياء:
"إلى الشريعة، وإلى الشهادة: إن لم يقولوا مثل هذا القول، فليس لهم فَجرٌ!" (إشعياء 20:8).
هل حياةُ الترهُّب أمرٌ قرَّره الله؟
لعلّك لاحظتَ، وأنت تقرأ هذا الكتاب، أنَّ كثيرين من هؤلاء الرجال، فضلاً عن كونهم كهنة، قد نشطوا في مجموعاتٍ رهبانيَّة شتَّى داخلَ كنيسةِ روما الكاثوليكيَّة. فقد تحدَّث "إنريك غارسيا" عن كونه كبُّوشيّاً، و"داريو سانتا ماريا" عن كونه دومنيكانيّاً، و"بوب بُش" عن كونه يسوعيّاً، و"بارت ابْرُوَر" عن كونه كرمليّاً. وهؤلاء الرجال لم يتخلَّوا عن كهنوت روما فحسب، بل أيضاً عن نظام الحياة الدينيَّة في كنيسة روما الكاثوليكيَّة. فمن الضروريِّ إذا أن نفهم ماهيّة تعليم روما في نمط حياة الترهُّب مقارنةً بنور الحقِّ الكتابيِّ المقدَّس.
إنَّ كنيسة روما كثيرةُ الدقَّة والوضوح في تعليمها بشأن "نمط حياة الترهُّب". فقد جاء في وثيقة المجمع الفاتيكاني الثاني (رقم 28) بصريح العبارة: "فضلاً عن إعطاء الكنيسة ختْم تقديسها لنمط حياة الترهُّب، وترفيعه تالياً إلى مرتبة الوضع الاكليركيّ الرسميّ، فهي تثبِّته ليتورجيّاً أيضاً باعتباره حالةَ تكريسٍ لله. وهي نفسُها، بفضل سلطتها التي أعطاها الله، تتقبَّل نذور الذين يعترفون علناً باتِّباعهم نمط الحياة هذا".
هنا يُطرَح سؤالٌ لا بُدَّ منه: هل يملك أيُّ كيانٍ عامٍّ سلطةً على إعطاء المصادقة الشرعيَّة لنمطٍ من أنماط الحياة الدينيَّة؟ وهل يحقُّ لأيِّ كِيانٍ عامٍّ أن يُثبِّت نمط حياةٍ مختلفاً عمَّا شرَّعه الربُّ الإله في كلمته المقدَّسة؟ الجواب هو "كلاّ" بكلِّ تأكيد! ففي نظر الله، ليس نمطُ حياة الترهُّب الذي أقامته روما هو تلك الحياةَ التي رتَّبها الله ورسم خطوطها بوضوحٍ في الأسفار المقدَّسة.
ثلاث مؤسَّسات رتَّبها الله
يمكننا أن نرى في الكتاب المقدَّس بكلِّ جلاء أنَّ الله رتَّب فقط ثلاث مؤسَّسات مختلفة، ألا وهي العائلة والكنيسة والدَّولة. أمّا العائلة فهي ذات أهميَّة أولى وقُصوى، لأنَّها الأساس الذي عليه تقوم المؤسَّستان الأُخريان*.
ثمَّة نظامٌ في هذه المؤسسات الثلاث المُقامَة من الله. ولكُلٍّ منها دائرةُ حكومتها الشرعية. وعليه، فليس شرعيّاً ولا مشروعاً أن يُحاول الإنسان إقامة، مؤسَّسة تزعم أنَّها أفضل من أنماط الحياة التي حدَّدها الله. وهذا بالضباط ما قد فعلَته روما، وتجّرأت على تسميته "طريقاً أوفى" مشوِّهةً بذلك ضمنيّاً سمعة حياة العائلة. بل إنَّ روما تستخدم أحياناً الكلمة "عائلة" في معرض تعليمها عن الحياة الدينيَّة، كالقول مثلاً: "إنَّ أعضاء هذه العائلات [الدينيَّة] ينعمون بمعوناتٍ شتَّى في سبيل قداسة الحياة؛ فإنَّ لديهم طريقةً للحياة المسيحيَّة ثابتةً وأرسخَ أساساً". وفي هذه النقطة تُخطئ خطيئةً فاضحة. فما من إنسان يمكنه أن يُشرِّع مؤسَّسةً تزعم أنَّها "ثابتة وأرسخُ أساساً" مِمَّا قد رسمه الربُّ بمنتهي الوضوح.
ثمَّ إنَّ المفهوم الأساسيَّ، في بعض الأحيان، لا يقتصر على اعتبار "حياة الترهُّب" بمثابة "اتِّباع للمسيح عن كثب"، بل تُعرَض أيضاً فكرةٌ تعتبرها اتَّحاداً سريّاً بالمسيح. وقد ورد مَثلٌ على هذا التوكيد المضاعف في نصِّ "حياة التكريس ودورها في الكنيسة وفي العالم":
"من جُملة أنماط حياة التكريس هذه رهبانيّة العذارى اللواتي يُصغين إلى الدعوة المقدَّسة لاتِّباع المسيح عن كثب فيُكرِّسُهنَّ لِلّه مطرانُ الأبرشيَّة بموجب الطقس الليتورجيِّ المعهود، وبالتالي يُخطَبن سريّاً للمسيح ابن الله، ويُنذَرن لخدمة الكنيسة".
فهُنا أيضاً لا يُمكن إلاَّ أن يكون "الاتِّباع عن كثب" مناقضاً كليّاً لِما قد رتَّبه الله في كلمته المكتوبة؛ في حين أنَّ الزَّعم الآخر القائل بأنَّ المنخرطات في "رهبانيَّة العذاري" "يُخطَبن سريّاً للمسيح" ما هو إلاَّ كذبةٌ بَلقاء. ففي الكتاب المقدَّس، يفرح الربّ بجميع المولودين من الروح كما يفرح العريس بعروسه: "لأنَّ بَعلك هو صانعك، ربُّ الجنود اسمه" (إشعياء 5:54). وتجاوُزُ ما قد رسمه الله نفسُه ما هو إلاَّ خطيَّة. فالتحذير الكتابيُّ صريحٌ جدّاً: "أن لا تفتكروا فوق ما هو مكتوب!" (1كورنثوس 6:4).
نموذج غير شرعيّ
أنَّ كنيسة روما التي اعلن كرسيُّ سلطتها الأعلى أنَّه لا يُمكِن أن يُحكَم فيه من قِبَل أحد (القانون 1404) تُحاول أن تسوِّغ نمط حياة الترهُّب الذي قد أقامته هي بتصريحها أنَّ النذور الثلاثة بالفقر والعفَّة والطاعة هي جزءٌ من تعليم المسيح وقُدوَتهِ بالذات، على حدِّ ما جاء في "القانون العام":
"ثُمَّ النذور الثلاثة بالفقر والعفَّة والطاعة هي جزءٌ من تعليم المسيح وقُدوَتهِ بالذات، على حدِّ ما جاء في "القانون العام":
"ثُمَّ إنَّ حالة الترهُّب تُشكِّل محاكاةً أوفى وتمثيلاً دائماً وواقعيّاً في الكنيسة لنمط الحياة الذي اتَّخده ابن الله لنفسه لمّا جاء إلى العالم ليعمل مشيئة الآب، والذي اقترحه على التلاميذ الذين تبعوه".
فلو كان ذلك كذلك، أي لو كان تعليم النذور هذا مؤسَّساً بالفعل على تعليم المسيح وقُدوَتهِ، لبقي جميعُ الرسل والتلاميذ عُزّاباً. ولكانت النساءُ اللواتي خدمْن الربَّ بَقينَ أعزاباً وعشْنَ في معتزَلٍ خاصّ. وبالمِثل، لكان هؤلاء الرجال والنساء، بعد قيامة الربّ، ما يزالون تحت نذر الطاعة العمياء للرُّسُل. وطبعاً، لم يكُن أيٌّ من هذه الأمور كما افترضْنا! بل إنَّ الكتاب المقدَّس يُعلِن بالحريِّ أنَّ جميع المؤمنين الحقيقيِّين هم "جنس مختار، وكهنوت ملوكي، أُمّة مقدَّسة، وشعبُ اقتناء" (1بطرس 9:2). أمّا عطيَّة العزوبيَّة فهي مُعطاة فقط لقليلين، واختيار المؤمن أن يعيش هكذا هو أمرٌ بينه وبين الربّ. كما أنَّ وقت حياة البتوليَّة وظروفها هي أيضاً بين الربِّ والمؤمن الفرد فقط: "من استطاع أن يقبل، فليقبل!" (متّى 12:19).
إذاً، على نقيض ما تُعلِنه روما باعتباره "نمط الحياة الذي اتَّخده ابن الله لنفسه"، لم يعش الربُّ يسوع في ديرٍ، ولا لمَّح أيَّ تلميح إلى إقامته نمطَ حياةٍ كهذا. فما كان مهمّاً عند الربِّ أنَّ الأفراد يُقدَّسون بكلمة الحقِّ الكتابيَّة، وليس بمحاولة الفرار من العالم: "لستُ أسأل أن تأخذهم من العالم، بل أن تحفظهم من الشرِّير" (يوحنّا 15:17)؛ "قدِّسهم في حقّك؛ كلامك هو حقّ" (17:17).
إنَّ قانون روما الكنسيّ (1983) مؤسَّس على وثائق المجمع الفاتيكاني الثاني. وكما علَّم المجمع أنَّ حياة الرهبنة "ثابتة وأرسخ أساساً"، فكذلك يُعلِن التعليم الكاثوليكيُّ الرسميُّ (في القانون 573، الفقرة الأولى) أنَّ "الحياة التي تُكرَّس بموجب الترهُّب حسب المشورة الإنجيليَّة هي نمط حياةٍ ثابتٌ به يتكرَّس كليّاً لِلّه المؤمنون التابعون للمسيح عن كثب بفعل الروح القدس".
أمّا وسيلة التكريس فتُحدَّد في الفقرة الثانية من القانون عينه: "إنَّ المسيحيين المؤمنين الذين يترهَّبون حسب المشورة الإنجيليَّة من جهة العفَّة والفقر والطاعة بواسطة النذور أو سواها من الالتزامات المقدَّسة..".
فالتعبير "عن كثب" في الفقرة الأولى، يضع إذا نُذور الزواج في مناقضةِ الحياة المكرَّسة التي هي اتِّباعٌ للمسيح عن كثب. هل أعلن الله هذا مرَّة؟ كلاَّ! فالسبب الذي يحمل الرجل على ترك أبيه وأُمِّه هو أن يلتصق بزوجته، حيث "يكون الاثنان جسداً واحداً. إذا ليسا بعدُ اثنين بل جسدٌ واحد" (متّى 6:19).
في هذا السياق عينه يتكلَّم الربُّ عنِ الذين "خَصَوا أنفسهم لأجل ملكوت السماوات" (ع 12). فمن الجدير بالملاحظة في هذه الحالة أنْ لا ترخيصَ لمؤسَّسةٍ جديدة، بل بالأحري الفردُ الذي يستطيع "أن يقبل فليقبل!" ففي ضوء استقرار الحياة العائليَّة التي وطَّدها الربّ، يُمكِن للفرد الذي خصَّه الله بعطيَّة العزوبيَّة أن يحاول العيش بمقتضى دعوته. والذي لم يقُله الربُّ هُنا هو هذا: "من أجل هذا يترك الرجل أباه وأُمَّه ويلتحق بجماعة من العُزّاب الآخرين، ويكون نمط حياتهم موطّداً". فالربُّ يسوع لم يؤسِّس قطُّ أيَّ نمط حياةٍ من هذا النَّوع!
قد يحاول بعضٌ أن يُعَقلِنوا الأمر بقولهم إنَّ نمط الحياة هذا كان ينبغي أن يقوم على الصعيد الحضاريّ، وإنَّ الربَّ وافق عليه لاحقاً. على أنَّ نمط حياةٍ من هذا النوع كان موجوداً بالفعل حيثُ وجدت أدراج البحر الميت في قمران. فهُناك عاش الأسينيُّون عيشة رهبان في أيام الربّ يسوع. ولو أراد الربُّ تأسيس حايةٍ رهبانيَّة، لفعل!
ولكنْ ما علَّم به الربُّ مراراً وتكرارً هو أن يُبَّوأَ المقام الأول في كلِّ علاقةٍ من العلائق على الإطلاق: "من أحبَّ أباً أو أُمّاً أكثرَ منِّي فلا يستحقُّني..". (متّى 37:10).
وعليه، فإنَّ ترْك البيت أو الوالدين أو الإخوة أو الزوجة أو الأولاد، لأجل المسيح، هو أمرٌ يجب أن يفعله كلُّ مؤمن. فما من شيءٍ ولا شخصٍ ينبغي أن يغدو أغلى من الربّ عند أيِّ مؤمن. أمّا أنَّ عيشةً كهذه لا تُنشيء بدورها بيتاً دينيَّاً، ولا إخوةً دينيِّين، ولا أخواتٍ في دير، فأمرٌ واضحٌ تماماً من وعد الربّ للمؤمنين الذين هم في العالم الآن:
"إلاَّ ويأخذ مئة ضعفٍ، الآن في هذا الزمان، بيوتاً وإخوة وأخوات وأُمَّهات وأولاداً وحقولاً، مع اضطهادات..". (مرقس 30:10)
إنَّما العلائق بحدِّ ذاتها تُعمَّق على نحوٍ أفضل، ومعها الاضطهادُ لأجل الربّ. هُنا أيضاً، كلمةُ الربِّ واضحةٌ ودقيقة: كسيفٍ ذي حدَّين. فلو كان في فكر الربّ بيوتُ رهبانيّاتٍ أو أُمَّهاتٌ رئيسات أو آباءٌ عامُّون، لقال شيئاً من ذلك في هذا السياق. والمئة ضعف التي يأخذها المؤمن هي من النسيج نفسه ممَّا قد رتَّبه الله. فليس مِن تلميح إلى "نمطِ عيشٍ ثابتٍ" منفصل، ولا إلى "اتِّباع المسيح عن كثب". وأنْ نُشرِّع وجودَ مثل هذا النمط إنَّما يُعرِّض الزواج للخطر. أوليس من علاقة لهذا بتلك المشكلة الشائعة الآن بين كثيرين من "الرجال المتديِّنين"، كما يُدعَون، أعني بها "اشتهاء الغلمان"؟ أما قال الربّ: "فالذي جمعه الله لا يفرِّقْهُ إنسان!"؟
ثُمَّ إنَّ الترهُّب أو الانتِذار تُحدِّده روما في القانون 654 كما يلي: "من طريق الانتذار يتعهَّد الأعضاء بواسطة النذر العلنيّ أن يُراعوا المشورات الإنجيليَّة الثلاث، ويُكرَّسون لِلّه من خلال خدمة الكنيسة، وينخرطون في المؤسَّسة الرهبانيَّة بما لهم من حقوق وعليهم من واجبات يُحدِّدها القانون الرسميّ".
وبينما يُقال إن الأعضاء في الرهبانيّات "يُكرَّسون لِلّه" على هذا النحو، يتَّضح من القوانين الكنسيَّة المتعلِّقة بنمط الحياة الدينيّة أنَّ التكريس هو لكنيسة روما وليس لِلّه. ولو كان الأمرُ على خلاف هذا، فكيف يُمكن أن يُفسَّر القانون 701 تفسيراً مُغايراً؟ "إنَّ النذور والحقوق والواجبات المترتِّبة على الترهُّب يُبطِل مفعولها بالصَّرف المشروع..". فإن كانت نذور المُتَرهِبن تكرِّسه لِلّه، فما من "صرفٍ مشروعٍ" مِن قِبَل البشر يُمكن أن يُبطِل مفعولها!
اجتذاب الشباب
يجتذبُ نظام روما الشبيبة لدخول "حالة الرهبنة". فهو يُعلِن في المجمع الفاتيكاني الثاني معلِّماً أن المسيح جعل حالة الرهبنة "نمط حياته الخاصّ أعلنها لتلاميذه". وبصريح العبارة، هذا القول كذبةٌ بَلقاء. فالمسيح يسوع عاش في العالم، لكنَّه لم يكُن من العالم. وكان طائعاً لأبيه طاعة مطلقة، مثلَما يُوصى المؤمن بأن يكون مطيعاً له ولكلمته: "خرافي تسمع صوتي". "من أحبَّني يحفظ كلامي".
غير أنَّ النذر الكاثوليكيَّ بالطاعة يأتي بمفهوم غريب عن كلمة الله. فقد جاء في القانون 601 أنَّ "المشورة الإنجيليَّة بالطاعة التي تُلتَزم بروح إيمان ومحبَّة، على خُطى المسيح الذي أطاع حتّى الموت، تقتضي إخضاع الإرادة للرؤساء الشرعيِّين الذين يقومون مقام الله إذ يُصدِرون الأوامر بموجب الدساتير ذات الصِّلة".
وفي متَّى 23 دان الربُّ الفرِّيسيِّين كليّاً إذ كانوا يتوجَّهون هذا التوجُّه حين طالبوا الناس بأن يدعوهم "أبي" أو سيِّدي". فلم يكن الربُّ بعيداً جدّاً عن هذا النظام فقط، بل إنَّه أيضاً دان الهيمنة التي يُفضي إليها. ومع أن الفرِّيسيين فرضوا أحمالاً على الناس، فإنَّهم لم يُقاربوا قطُّ التصريحَ بوجوب الخضوع "للرؤساء الشرعيِّين الذين يقومون مقام الله"! ولكنَّ في وثائق المجمع الفاتيكانيِّ الثاني هذا النصَّ الصريح: "بالمِثل، يُلزَم المترهبنون أن يُراعوا جميع هذه الفروض التي ترسمها المجامع الأُسقفيَّة قانونيّاً باعتبارها مُلزِمة للجميع".
كذلك يؤكِّد القانون الكنسيّ هذا المعيار نفسه: "يجوز إكراه المتديِّنين على أداء واجباتهم من طريق العقوبات التي يفرضها الرئيسُ المحلِّيُّ في جميع الأمور التي فيها يَخضعون له" (ق 1320).
وهكذا تسعى كنيسة روما الكاثوليكيَّة إلى التحايُل على نذور الزواج إذ تُطالب بالوفاء بتعريفها الخاصّ للعفّة، وبذلك تُشرِّع العزوبيَّة بوصفها الحالة المطلوبة للمترهبنين. و"الكنيسة الأُمّ"، جزاءَ القَسَم بالتزام نذور الفقر المؤدّاة لها، تَعِد المترهِّب بالضمان الكُلِّي عل الصعيد المادّي. (في حالة الفقر هذه، كما يدعونها، لا يحقُّ للفرد أن يمتلك أيَّ شيء، ولكنْ باعتباره عضواً في رهبانيَّة يجوزُ له أن يحوز مقتنياتٍ مادِّيَّة!) وفي هذا التحايُل محاولةٌ لوقف النضج الروحي لدى المرء كما يتبدَّى في اتِّكاله على الله ليس فقط لتأمين خبزه اليوميّ، بل أيضاً يصرف نظره أيضاً عن وجوبِ أنْ يحيا حقاً "بكلِّ كلمة تخرج من فم الله" (متّى 4:4).
على هذا الحَوْك تتحوَّل الطاعة للربِّ، كما يوصي بها الكتاب المقدَّس، إلى طاعةٍ للرئيس المحلِّي الذي يُعتبَر حسب القانون الكاثوليكيّ من الذين "يقومون مقام الله". وفي النُّصوص الرسميَّة الصادرة عن الكنيسة بالذات يُمكِننا أن نرى هذا التحوير للمفاهيم الكتابيَّة المقدَّسة على نحوٍ يجعلها تقاليد من صنع البشر. هذه القوانين التي وضعها البشر، لإرغام قومٍ على الخضوع لمؤسَّسةٍ من صنع البشر، هي كلُّها مناقضة لِما يوصي به الربُّ عِبادَهُ:
"فاثبتوا إذا في الحريَّة التي قد حرَّرنا المسيح بها، ولا ترتبكوا أيضاً بنير عبوديَّة" (غلاطيَّة 1:5).
صورة الإغواء
يجب أن ترفد الدماءُ الجديدة نظامَ الكنيسة الكاثوليكيَّة في كلِّ جيل. ولو سُمِح لكهنتها أن يتزوَّجوا، لكان أولادُهم، على أرجح تقدير، يتنبَّهون إلى خداعها. غير أنَّ الهدف الأساسيَّ في نظام روما الكنسيّ هو حماسة الشباب ومثاليَّتهم. ولا شكَّ في أنَّ هذا السبيل العريض لاكتساب المتَرهبِنين سوف يظلُّ محروساً من قِبَل النظام حراسةً مشدّدة. فضرورة حياة الترهُّب لأجل سيرورة نظام روما الكاثوليّ عظيمةٌ جدّاً بحيثُ يواظب ذلك النظام على إثارة شهيَّة شبيبتها بكلماتٍ مؤثِّرة للغاية، من قبيل ما يلي:
"إنَّ معنى الطاعة العميق يتبدّى في ملء هذا السرّ، سرِّ الموت والقيامة، الذي فيه يتحقَّق مصير الإنسان الفائقُ للمعتاد تحقُّقاً كاملاً. فإنمَّا بالتضحية والألم والموت يُحرِزُ الإنسان الحياة الحقيقية فعلاً. وعليه، فمعنى ممارسة السلطة في وسط إخوتكم هو أن تكونوا خُدّاماً لهم، اقتداءً بمثال ذلك الذي بَذل نفسه فديةً عن كثيرين؛" (مقتَبسٌ من وثيقة المجمع الفاتيكاني الثاني، "الشهادة المسيحيَّة").
إنَّ عنوان جزء الوثيقة الذي أوردنا منه هذا الاقتباس هو "حثٌّ رسوليٌّ على تجديد حياة الترهُّب". وفي الواقع أنَّ كثيرين من الرجال المذكورين في هذا الكتاب قد اجتُذِبوا إلى الانخراط في الرهبنة بفضل ما ألْفَوه من سحرٍ عاطفيٍّ أخَّاذ في تعابيرَ مثلِ هذا: "فإنَّما بالتضحية والألم والموت يبلغ الإنسان الحياة الحقيقيَّة فعلاً"! والواقع أنَّ الشيطان يُحوِّر دائماً المفاهيم الكتابيَّة المقدَّسة لتُوافِق رسالته الخاصَّة التي يعمل على نشرها، ألا وهي القولُ بأنّك تستطيع أن تخلِّص نفسك بنفسك.
هذه هي صورة الإغواء التي يُجتَذب بها الشباب في الوقت الحاضر. وقد كانتِ الرسالةُ عينُها شائعةً في الأزمنة الماضية: "لتكن عندك غيرة لتخليص نفسك والآخرين!" أمّا الفرق الوحيد بين هذه وتلك فهو في الكلمات التي صِيغت بها هذه الرسالةُ الخدّاعة. فمثلاً، في السنين التي أعقبت الحرب العالميَّة الثانية، كان بأيدي كثيرين منّا -نحنُ المذكورين في هذا الكتاب- المنشورُ البابويُّ العامُّ الذي أصدره البابا بيوس الثاني عشر في رسالته الشهيرة المُعَنوَنة "في جسد المسيح السرِّيّ". وقد جاء في الفقرة 44 من تلك الوثيقة:
"إنَّه لَسِرٌّ عميق، وموضوعُ تأمُّلٍ لا يُستنفَد، أنَّ خلاص الكثيرين متوقِّفٌ على الصلوات والتكفيرات الطوعيَّة التي يقدِّمها أعضاء جسد المسيح السرّي لهذه الغاية".
في أوائل سني ترهبُني، وانا في الثانية عشرة من العمر، أذكرُ أنَّ رئيس الأساقفة "فِنْبار ريان" جاء إلى الدير الذي كنتُ فيه. وبنبرةٍ دراميَّة حادَّةٍ كان مشهوراً بها، تكلَّم عن كأس الآلام التي ينبغي أن تمتلئ، قال: "لقد طُعِن قلبُ مريم حتّى سال منه الدم، ثُمَّ قلبُ كلٍّ من يوسف ويهوذا والرُّسُل ودومنيك وفرنسيس والأكويني وكاثرين. وجميع هؤلاء تقطَّرت دماؤهم في هذه الكأس. والآنَ دورُكم أنتم!" وقد رفع بيده كأساً وهميَّة مرَّرها أمام أنظار المترهبِنين الذين ران عليه صمتٌ مهيب. وفي حديثٍ منفردٍ لاحقاً تكلَّم عن حماسة الشباب الهتلري قُبيَِل نهاية الحرب،كما تحدَّث عن صرخةٍ "شِرشِليَّة" إلى بذل ما يتعدَّى الدَّم والعرَق والدَّمع، عن دعوةْ إلى التضحية بحياتنا، كما فعل المسيح لأجل خلاص النفوس.
أمَّا أنَّ النفوس يمكن أن تُخلَّص من طريق تكفيراتِ كائناتٍ بشريَّة فما برحت هي دعوى الشيطان في الديانات السريَّة والأديان الوثنيَّة. وهذه الرسالة تُرضي كبرياء الإنسان الروحيَّة، ولو في حياة الدير حيث لا يراك أحد. "تكونان كالله" (تكوين 5:3): تلك كانت رسالةَ كذبةِ الشيطان الأصليَّةٍ، وهكذا تستمرُّ الفكرة عينُها على مدى الأجيال. "فإنَّما بالتضحية والألم والموت يُحرِز الإنسان الحياة الحقيقيَّة فعلاً". إنَّ حيلة الشيطان التكتيكيَّة هي أن يستعمل دائماً أنصافَ حقائق تخدع كليّاً.
رسالة الكتاب المقدَّس الحقيقيَّة
إنَّ رسالة الكتاب المقدَّس هي أن نُدرك أن كلَّ إنسان بالطبيعة يملك سجّلاً أسودَ وقلباً رديئاً، كما تُبيِّن الآيتان التاليتان: "إذِ الجميعُ أخطأوا وأعوزهم مجد الله" (رومية 23:3)؛ "القلب أخدع من كلِّ شيء، وهو نجيس: مَن يعرفه؟" (إرميا 9:17).
وقد أدّى الربُّ يسوع المسيح الفدية عن خطيَّة العالم: "بعدما صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا، جلس في يمين العظمة في الأعالي" (عبرانيين 3:1).
ولم يتوقَّفِ الأمرُ على تأدية المسيح بالكامل للكفّارة التي يطلبها الله نظير الخطايا كلِّها، بل إنَّ كُلَّ من صار في المسيح يُحسَب له برُّ المسيح بالذات، على حدِّ ما هو مُبيَّن بجلاء تامٍّ في 2كورنثوس 21:5 "لأنَّه جعل الذي لم يعرف خطيَّة، خطيَّةً لأجلنا، لنصير نحنُ برَّ الله فيه".
فالخلاص يأتي من طريق الإيمان بالمسيح وحده: "الآب يحبُّ الابن، وقد دفع كلَّ شيء في يده: الذي يؤمن بالابن له حياة أبدية، والذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياة بل يمكث عليه غضب الله" (يوحنّا 35:3و36).
ليتك تُدرك أنَّ كلَّ إنسان بالطبيعة يملك سجّلاً سيِّئاً وقلباً رديئاً. فأمام الله، كلُّ إنسان مَيْتُ بالذنوب والخطايا، وهو من ذاته لا يستطيع أن يفعل أيَّ شيء لاكتساب الخلاص. وليتك تعترف بأنَّ المسيح عوَّض عنك على الصليب، مرَّةً واحدة وإلى الأبد، إذ "حمل هو نفسه خطايانا في جسـده على الخشبـة" (1بطرس24:2). وليتك تصرخ إليه طالباً نعمته كي يُغيِّر قلبك فيمكنك أن تتَّكل عليه. عندئذٍ ينشيء فيك رغبةً في التوبة، وهكذا تولَد فيه ولادةً ثانية: "المولود من الجسد جسد هو؛ والمولود من الروح هو روح" (يوحنّا 6:3).
حياةُ الإيمان
ممّا يُشجِّع كثيراً أن ترى امرأً مثل "بوب بُش" الذي ترك حياة الرهبنة يتّكل على الربِّ حقاً في شلله الكُلِّيِّ بعد عمليَّة جراحية في العمود الفقري أُجريت له قبل سنتين. فإنَّ السلام والفرح اللذين غمرا بُوب في أثناء محنته الشديدة تلك لَيُبرهنان على الحياة الدينيَّة الحقيقيَّة كما يصفها الكتاب المقدَّس. والرجال المذكورون في هذا الكتاب، شأنهم شأنُ بُوب بُش، قد تركوا نمط حياة الترهُّب التي لا أساسَ لها في الكتاب المقدَّس لكي ينموا في قداسة الحياة فيمن هو الحياة: ربُّنا يسوع المسيح.
والذين هُم مخلَّصون بالنعمة حقاً ويتّكلون فقط على برِّ يسوع المسيح، إلاَّ أنَّهم ما زالوا في سلك حياة الرهبنة، يمكنهم الآن أن يروا لماذا ترك الآلاف أديرتهم في زمن "الإصلاح". ولعلَّك تعرف مثلي القانون 702: "إنَّ أولئك الذين تركوا شرعيّاً مؤسَّسةً رهبانيَّة، أوِ الذين طُرِدوا شرعيّاً من مؤسَّسة كهذه، لا يمكنهم أن يطلبوا منها أيَّ شيء لقاء أيِّ عملٍ أُدِّيَ فيها".
فمن داخل هذا النظام، يَبدو مستحيلاً التمكُّنُ من مواجهة المستقبل. وهذه هي النقطة التي تجعل هذه الشهادات لأمانة الربِّ ذاتَ قيمة مضاعفة. ذلك أنَّ أبانا السماوي يهتمُّ بكلِّ واحدٍ منّا. فهو يدعوك باسمك، ثُمَّ يؤمِّن لك ما تحتاج إليه. وهو، الإلهُ القدير، أبونا المبارَك، يقول لك:
"لذلك اخرجوا من وسطهم، واعتزلوا -يقول الربّ- ولا تمسُّوا نجساً، فأقبلكم، وأكونَ لكم أباً، وأنتم تكونون لي بنينَ وبناتٍ -يقول الربُّ القادرُ على كل شيء" (2كورنثوس 17:6و18).
- عدد الزيارات: 2536