من التقليد إلى الحقّ
شهادة شخصيَّة من الكاهن المولود ثانيةً
"ريتشارد بيتَر بَنِّيت"
السنوات الباكرة
وُلدتُ إيرلنديّاً في عائلةٍ أفرادُها ثمانية، وكانت طفولتي هانئة وسعيدة. فقد كانت عائلتنا تهوى اللعب والغناء والتمثيل، داخلَ مُعَسكرٍ في "دَبلِن"، إذ كان والدي ضابطاً في الجيش الإيرلنديّ حتّى تقاعد وأنا في التاسعة تقريباً.
كُنّا عائلةً إيرلندية كاثوليكيَّة نموذجيَّة. وكان والدي أحياناً يجثو على حافة سريره ليُصلِّي بكلِّ وقار، كما كانت والدتي تُكلِّم المسيح وهي تخيط أو تجلي الصحون، أو تدخِّن سيكارة أيضاً. وفي أغلب الأمسية كُنّا نركع في غرفة الجلوس لنتلو السُّبحة معاً. وما كان أحدُنا ليُفوِّت قُدّاس يوم الأحد إلاَّ إذا كان مريضاً جدّاً. حتّى إذا بلغتُ من العمر خمس سنين أو ستّاً، كانَ المسيحُ بالنسبة إليَّ شخصاً حقيقياً للغاية، ولكنْ هكذا أيضاً كانت مريم والقدِّيسون. وفي وسعي أن أقف بسهولة في صفِّ غيري من ابناء البلاد الكاثوليكيَّة التقليديَّة، وصفِّ سائر الاسبان والفيلبينيِّين، الذين يتوجَّهون إلى يسوع ومريم ويوسف، وغيرهم من القديِّيسين، في حُمّى إيمان واحدة.
تقطَّر فيَّ التعليمُ المسيحيُّ في "مدرسة بِلفِردي اليسوعيَّة"، حيثُ تلقَّيتُ تعليمي الابتدائيَّ والثانويَّ بمجمله. وككلِّ ولدٍ يتعلَّم عند اليسوعيِّين، كان في وسعي وأنا دونَ العاشرة أن أسرد خمسة أسبابٍ لوجوب وجود الله، وأُدافع عن كون البابا رأساً للكنيسة الواحدة الحقيقيَّة. وقد شكَّل إخراجُ النفوس من المطهر قضيَّةً خطيرةً عندنا، حيثُ إنَّ الكلمات التي تُقتبَس غالباً "إنَّها فكرة مقدَّسة وحكيمة أن نُصلِّي لأجل الموتى حتّى يُحَلُّوا من خطاياهم" كانت ضمن محفوظاتنا مع أنَّنا لم نعرف معناها. كما علَّمونا أنَّ البابا بوصفه رأس الكنيسة هو أهمُّ إنسان على الأرض. فما يقوله هو الشريعة، واليسوعيُّون يدُه اليُمنى. ومع أنَّ القُدّاس كان باللاتينيَّة، فقد حاولتُ حضوره يوميّاً إذ خلب لبِّي ما يحيط به من جوٍّ سحريّ. وكان يُقال لنا إنَّه أهمُّ طريقةٍ لأرضاء الله. كما شجَّعونا على الصلاة إلى القدِّيسين، وكان لنا قدّيسون شُفعاء لمُعظم نواحي الحياة. ولم أُمارس هذا النوع من الصلوات، باستثناءِ قدِّيسٍ واحد هو مار أنطونيوس، شفيع الأشياء الضائعة، إذ بدا أنِّي كنت أُضيِّع أشياءَ كثيرة.
لمَّا بلغتُ الرابعةَ عشرةَ، أحسستُ بدعوةٍ لأكونَ مُرسلاً. على أنَّ هذه الدعوة لم تؤثِّر في طريقة حياتي آنذاك. وما بين السادسةَ عشرةَ والثامنةَ عشرةَ كانت من أمتع السنين وأغناها من بين سني الشباب، ففيها أبليتُ حسناً دراسيّاً ورياضيّاً.
وكنتُ أُضطرُّ غالباً إلى إقلال أُميِّ بالسيّارة إلى المستشفى لتلقّي علاجها. فبينما أنا أنتظرها مرّةً، عثرتُ في كتابٍ هناك على هذا الاقتباس من مرقس 29:10و30 -فأجاب يسوع وقال: "الحقَّ أقول لكم: ليس أحدٌ ترك بيتاً أو إخوة أو أخوات أو أباً أو أُمّاً أوِ امرأةً أو أولاداً أو حقولاً، لأجلي ولأجل الإنيجل، إلاّ ويأخذ مئة ضعف الآن في هذا الزمان، بيوتاً وإخوةً وأخواتٍ وأمّهاتٍ وأولاداً وحقولاً، مع اضطهادات، وفي الدهَّر الآتي الحياةَ الأ بديَّة". وإذا لم تكُن لي أدنى فكرة عن رسالة الخلاص الحقيقيَّة، قرَّرتُ أنَّ لديَّ حقاً دعوةً لأكونَ مُرسلاً.
السعي لنوال الخلاص
عام 1956 تركتُ أُسرتي وأصدقائي لألتحق بالرهبانيَّة الدومنيكانيَّة. وقضيتُ تسعَ سنين في دراسة مضامين الرهبنة، وتقاليد الكنيسة والفلسفة، ولاهوت توما الأكويني، وقِسطٍ من الكتاب المقدَّس من وجهة النظر الكاثوليكية. ولئن كان لدي إيمان شخصيٌّ ما، فقد وُضِع في قالب المؤسَّساتيَّة والطقسانيَّة بمقتضى النظام الديني الدومنيكانيّ. وقد وُضِعَت أمامي إطاعةُ القوانين باعتبارها وسيلةً للتقديس، سواءٌ في ذلك القانونُ الكنيسيُّ والقانون الدومنيكانيّ. وغالباً ما تحدَّثتُ مع "أمبروز دَفِيّ" رئيسِ الطَّلَبة، في شأنِ اعتبار القانون وسيلةً للتقديس. ففضلاً عن صيرورتي "قدِّيساً"، أردتُ التيقُّن بخلاصي الأبدي. وقد حفظتُ غيباً جزءًا من تعليم البابا بِيوس الثاني عشر حيث يقول: "... إنَّ خلاص الكثيرين يتوقَّف على الصلوات وعلى ذبائح جسد المسيح السرِّيِّ المقدَّمة على هذه النيَّة". وهذه الرسالة المتعلِّقة بنوال الخلاص من طريق الآلام والصلاة هي أيضاً الرسالةُ الأساسيَّة المشدَّد عليها لدى سيِّدتَي فاطمة ولورد. وقد سعيتُ لكسب خلاصي الشخصيِّ، وخلاص سواي أيضاً، بمثلِ هذه الآلام والصلوات. وفي دير الرهبان الدومنيكان في تالاّنْمت، بِدَبْلن، تحمَّلتُ إماتاتٍ صعبةً جدّاً كي أربح النفوس، كالاستحمام بالماء البارد في عزِّ الشتاء، وجَلْد ظهري بسلسلة فولاذيَّة صغيرة. وقد نَمى إلى رئيس الطَّلَبة خبرُ ما كنتُ أفعله، حيثُ كانت حياتة التقشُّفيَّة الصارمة جزءًا من الإلهام الذي جاءني من كلام البابا المُشار إليه. فَبِعزمٍ وحزمٍ عكفتُ على الدرس والصلاة وفُروض التوبة، محاولاً حفظ الوصايا العشر والقوانين والتقاليد الدومنيكانيَّة الكثيرة جدّاً.
روما، إيطاليا
ثُمَّ رُسِمتُ كاهناً كاثوليكيّاً عام 1963 ولي من العُمر إحدى وعشرون سنةً، وذهبتُ لإكمال دراستي عن توما الأكويني في "جامعة إنجيلكُم" بروما. ولكنَّني هناك واجهتُ المصاعب على صعيدَي الأُبَّهة الخارجيَّة والخَواء الداخليِّ معاً. وكنتُ عبرَ السنين قد كوَّنتُ في ذهني، من الصُّوَر والكُتب، صُوَراً عن الكرسيِّ الرسولي والمدينة المقدَّسة. أيُعقل أن تكون هذه هي المدينةَ عينَها؟ وقد صدَمني أيضاً في "جامعة إنجيلكُم" أن أُلاحِظ أنَّ مئاتِ الذين تقاطروا إلى صفوفنا الصباحيَّة كانوا، على ما يبدو، غير مهتمِّين بعلم اللاهوت. ولفت نظري قراءة مجلَّتي "تايم" و"نيوزويك" خلال الدروس. أمّا الذين كانوا معنيِّين بما نتعلَّمُه فبدا عليهم أنَّهم فقط يطمحون إمّا إلى الشهادات العلميَّة وإمّا إلى شَغْل المناصب داخلَ الكنيسة الكاثوليكيَّة في بلدانهم.
وذاتَ يومٍ ذهبتُ أتمشَّى في الكولوسيوم حتّى تطأ قدماي الأرض التي سُفِكت عليها دماء الكثير من الشهداء المسيحيِّين، وقصدت الحَلْبة في الساحة، محاولاً أن أتصَّور في ذهني أولئك الرجال والنساء الذين عرفوا المسيح حقَّ المعرفة حتَّى كانوا مستعدِّين بكلِّ فرح لأنْ يموتوا حَرْقاً موثوقين بالأعمدة، أو يُطرَحوا أحياءٍ لتفترسهم الوحوش، تجاوباً مع محبَّة المسيح الفائقة. غير أنَّ فرحة هذا الاختبار ما لبثت أن تعكَّرت، إذ وأنا عائدٌ في الباص تعرَّضتُ للإهانة من قبل شبّانٍ مستهزئين يردِّدون كلماتٍ معناها "حُثالة أو نُفاية". وقد شعرتُ أن دافعهم إلى مثل تلك الإهانة لم يكُن لأنِّي وقفتُ في صفِّ المسيح كأولئك المسيحيِّين الأولين، بل لأنَّهم رأوا فيَّ النظامَ الكاثوليكيَّ الرومانيَّ. وبسرعةٍ طردتُ هذه المفارقة من ذهني، إلاَّ أنَّ ما سبق أن تعلَّمتُه عن أمجاد روما الحاليَّة بدا مُنافياً للواقع وعديمَ المعنى.
وذاتَ ليلةٍ، بُعيدَ ذلك، صلَّيتُ على مدى ساعتَين أمام المذبح الرئيسيّ في كنيسة القدِّيس اكليمندس. وإذ تذكَّرتُ ربِّي الواحد، ودعوتي إلى الخدمة الإرساليَّة لمّا كنتُ حَدَثاً،والوعدَ بمئاتِ التعويضات في مرقس 29:10و30، عقدتُ العزم على عدم الحصول على الدرجة اللاهوتية التي طالما طمحتُ إليها منذ بدأتُ دراسة اللاهوت الأكوينيّ. كان ذلك قراراً خطيراً، ولكنْ تأكَّدت لي صحَّتُه بعد صلاةٍ طويلة.
أبى الكاهن المُشرف على أُطروحتي أن يقبل قراري. وكي يُهوِّن عليَّ حيازةَ الشهادة، قدَّم لي أُطروحةً كُتِبت قبل بضع سنين، وقال لي إنَّني أستطيع استعمالها باعتبارها أُطروحتي على أن أُعِدَّ لها الدفاع الشفهيَّ. وقد أصابني ذلك بالغثيان، إذ رأيته شبيهاً بما سبق أن شاهدتُه قبل أسابيع في مُتنـزه من متنـزهات المدينة: بغايا أنيقات يعرضن أنفسهنَّ بأحذيتهنِّ الجلديَّة السوداء. فما عرضه عليَّ كان في نظري على المستوى عينه من الإثم والرذيلة. غير أنَّي تمسَّكتُ بقراري، منهياً دراستي الجامعيَّة في المستوى الأكاديمي العاديّ، بغير شهادةٍ عُليا.
لدى عودتي من روما، تلقَّيتُ خبراً رسميّاً يُعلِمني بقرار إيفادي إلى "جامعة كُورك" لثلاث سنين دراسيَّة. ولكنَّني صلَّيتُ بحرارة لأجل دعوتي الإرساليَّة. ولشدَّ ما أدهشني أن أتلقَّى في أوخر آب (أُغسطس) من العام 1964 أمراً بالذهاب مُرسَلاً إلى "ترينيداد" بجُزر الهند الغربيَّة.
كبرياء وسقوط ثُمَّ جوعٌ جديد
وصلتُ إلى ترينيداد في 1تشرين الأول (أكتوبر) 1964، وكنتُ كاهناً ناجحاً طيلة سبع سنين، من وجهة النظر الكاثوليكيَّة، إذ قمتُ بجميع واجباتي وحملتُ الكثيرين على حضور القُدّاس. وبحلول 1972 كُنتُ قد انهمكتُ كثيراً في الحركة الكارزماتية الكاثوليكيَّة. ثُمَّ في السادس عشر من آذار (مارس) عامذاك، في اجتماع صلاة شكرتُ الربَّ على كوني كاهناً صالحاً جدّاً، وطلبتُ إليه -إن شاءت مشيئتهُ- أن يضعَني كي أصير كاهناً أفضلَ بعدُ. وفي وقتٍ لاحق من مساء ذلك اليوم، حصل لي حادثٌ مفاجئ، فانشدخ قذالُ رأسي وتأذّى عمودي الفقري في غير موضع. ولولا مقاربتي الموتَ على هذا النحو، ما كنتُ أظنُّ أنَّي أخرجُ من نطاق الاكتفاء الذاتيِّ الذي كنتُ فيه. وقد تبيَّن لي عُقم الصلاة الروتينيَّة الناجزة فيما صرختُ إلىالله في ألمي.
وفي أثناء الآلام التي كابدتُها في الأسابيع التالية للحادث، بدأتُ أجد بعض الراحة والعزاء في الصلاة الشخصيَّة المباشرة. فتوقَّفتُ عن تلاوة الصلوات الرسميَّة المفروضة على الكاهن الكاثوليكي، وصلاة السُّبحة، وأخذتُ أُصلِّي مستخدماً أجزاءً من الكتاب المقدَّس بالذات. وقد كانت هذه العمليَّة بطيئةً جدّاً. فلم أعرف أن أشقَّ طريقي في أسفار الكتاب المقدَّس، والقليلُ الذي تعلَّمتُه منه على مرِّ السنين علَّمني الحذَر من الكتاب أكثر من الوثوق به. كما أنَّ دراستي للفلسفة ولاهوت توما الأكوينيّ لم توفِّر لي العون المنشود. وعليه، فإنَّّ إقبالي على الكتاب الآن للاهتداء إلى الربّ كان أشبه بولوج غابة كثيفة كبيرة بلا بوصلة ولا خريطة.
وحينما أُسنِدت إليَّ في وقتٍ لاحقٍ من تلك السنة أبرشيَّةٌ جديدة، تبيَّن لي أنَّ عليَّ أن أعمل جنباً إلى جنب مع كاهنٍ دومنيكانيٍّ كان أخاً لي على مرِّ السنين. فكان علينا أن نعمل معاً سنتينِ وأكثر، مُلتمِسَينِ الله على أفضلِ ما نعرفه، في أبرشيَّة "بوانت آبير". وكُنّا نقرأ وندرس ونصلِّي معاً، ونُمارِس ما تعلَّمناه في تعليم الكنيسة. وقد أنشأنا مجموعاتِ صلاة في "غاسباريلُّو" و "اكلاكستثن باي" و "مارابيلاّ" وقُرىً أخرى أصغر منهنّ. وبالمفهوم الدينيِّ الكاثوليكيّ، كُنَّا ناجِحَينِ جدّاً، إذ حضر القُدّاس كثيرون، ودُرِّس التعليم المسيحي في عدّة مدارس، بما فيها المدارس الحكوميَّة. وقد تابعتُ بحثي الشخصيَّ في الكتاب المقدَّس، ولكنَّ ذلك لم يؤثِّر كثيراً في العمل الذي كُنّا عاكِفَينِ عليه، بل كشف لي بالحريِّ ضآلة معرفتي للربِّ ولكلمته. في تلك الآونِنة صارَتِ الآية الواردة في فيلبِّي 10:3 صرخةَ قلبي: "لأعرفه، وقوَّة قيامته..".
نحو ذلك الزمن كانتِ الحركة الكارزماتية الكاثوليكيَّة تتنامى، وأدخلْناها إلى مُعظم قُرى أبرشيَّتنا. وبفضل هذه الحركة، جاء إلى "ترينيداد" بعضُ المسيحيِّين الكنديين لمشاركتنا. وقد تعلَّمت من رسالاتهم الكثيرَ، ولا سيِّما عنِ الصلاةِ طلباً للشفاء. ولئن كان مُجمَل تأثيرِ ما قالوه موجهاً كثيراً نحو الاختبار، فقد كان لي بركةً بالحقيقة إذ جعلني أتعمَّق في الكتاب المقدَّس بوصفه مرجعاً ذا سلطان. فبدأتُ أُقارن المكتوبَ بالمكتوب، بل أقتبس أيضاً الآيةَ والفصل. وإحدى الآيات التي استعملها الكنديُّون لحثِّنا على الصلاة لأجل الشفاء كانت إشعياء 5:53 "وبحُُبرِه شُفينا". ولكنِّي عندما درستُ إشعياء 53 اكتشفتُ أنَّ الكتاب المقدَّس يركِّز على الخطيَّة لا على الشفاء: "كلُّنا كغنمٍ ضللنا، ملنا كلُّ واحدٍ إلى طريقه، والربُّ وضع عليه إثمَ جميعنا" (ع6).
كانتِ الكبرياء خطيَّةً خاصَّة من خطاياي. وما كان أسهلَ أن أنـزعج من الناس، بل كنتُ أغضب عليهم وأسخط أحياناً. ومع أنَّي طلبتُ مغفرة خطاياي، فلم أكُن قد أدركتُ بعدُ أنني خاطئٌ بالطبيعة التي ورثناها من آدم. فحقُّ الكتاب يقول: "كما هو مكتوب، ليس بارٌّ، ولا واحد" (رومية 10:3) وأيضاً: "الجميع أخطأوا وأعوزهم مجدُ الله" (رومية 23:3). ذلك أن الكنيسة الكاثوليكيَّة كانت قد علَّمتني أنَّ فساد الإنسان، المدعوَّ " الخطيئة الأصليَّة"، قد غسَّلته معموديَّتي طفلاً. فكان ذلك الإعتقاد ما يزال في رأسي، ولكنِّني في قلبي علمتُ أنَّ طبيعتي الفاسدة لم يقهرْها المسيح. "لأعرفه وقوّة قيامته..". (فيلبي 10:3): هذه ظلَّت صرخة قلبي؛ وتأكَّد لي أنَّني لا أستطيع أن أحيا الحياة المسيحيَّة إلاَّ بقوَّة المسيح. وهكذا وضعتُ هذه الآية على لوحة الأجهزة في سيّارتي، وعلَّقتُها في أماكن أُخرى أيضاً: كانت هذه هي الطلبة التي حَّركتني وحرَّضتني، وإذا بالربِّ الأمين قد بدأ يستجيب!
المسألةُ الأهمُّ
اكتشفتُ في بادئ الأمر أنَّ كلمة الله في الكتاب المقدّس مُطلقَةُ السلطان ومنـزهةٌ عن الخطأ. وكنتُ قد عُلِّمتُ أنَّ الكلمة نسبيَّةٌ وأنَّ موثوقيَّتها عرضةٌ للشكّ، في مجالات كثيرة. فأخذتُ أُدرِك آنذاك أنَّ الكتاب المقدَّس جديرٌ بالثقة حقاً. ومع الاستعانة بفهرس "يُونغ" بدأتُ أدرسُ الكتاب المقدَّس لأرى ما يقوله عن نفسه. فتبيَّن لي أنَّ الكتاب يعلِّم بوضوحٍ أنَّه من عند الله وأنَّه الكلمةُ الفصل في كلِّ ما يقول. وهو صادقٌ في التاريخ الذي يتضمَّنه، وفي الوعود التي قطعها الله، وفي الوصايا الخُلقيَّة التي يُقدِّمها، وفي تحديده كيف يجب أن تُعاش الحياة المسيحيَّة. "كلُّ الكتاب هو موحي به من الله، ونافعٌ للتعليم والتوبيخ، للتقويم والتأديب الذي في البرّ، لكي يكـون إنسان الله كاملاً، متأهِّباً لكلِّ عمل صالح" (2تيموثاوس 16:3و17).
هذا الاكشاف تيسَّر لي في أثناء زيارةٍ إلى "فانكوفر" و"سِياتل". فلّما طُلب إليَّ أن أتكلَّم إلى مجموعة الصلاة في كنيسة سانت استيفان الكاثوليكيَّ. وقد اتَّخذت موضوعاً لكلامي سلطان كلمة الله المطلقة. وكانت تلك أول مرّة أُدرِك فيها هذا الحقَّ أو أتكلَّم فيه. وبعد الخدمة، صلَّيتُ لأجل امرأةٍ هُناك كانت تشكو من مرضٍ في عينيها منذ صغرها، فشفاها الربّ. وقد فهمتُ ذلك الشفاء علامةً على أنَّ الربَّ كان يُثبِّت صدقَ ما قد بلغتُ فهمَه بشأن طبيعة كلمته المقدَّسة. وصرتُ صديقاً عزيزاً لتلك السيِّدة التي شُفِيَت ولزوجهاً، وما زال شفاؤها قائماً حتى اليوم. وبِتُّ أعتبر هذا الاكتشافَ الجديد بخصوص طبيعة كلمة الله أمراً مركزيّاً في حياتي. إنَّما ينبغي لي أن أقول إنّني لا أعدُّ المعجزات مصدراً ذا سلطان، إذ ليس إلاَّ مصدرٌ واحد ذو سلطان، ألا وهو كلمةُ الله. غير أنَّني ذكرتُ ذلك الشفاء لأنَّه جرى استجابةً فوريَّةً للصلاة بموجب سلطة الله المطلقة.
المأزق يستمرّ
حينما كُنتُ ما أزال كاهن أبرشيَّة في "بُوانت آبيير" انتُدِبَ لمعاونتي "أمبروز دَفيّ"، الرجل الذي سبق أن علَّمني بكل صرامة لمّا كان رئيساً للطلبة. ها هي الأدوارُ تنقلب! ولكنْ بعد بضع صعوباتٍ أوليَّة، صِرنا صديقين عزيزَين. وأطلعتُه على ما كُنتُ آخِذاً في اكتشافه، فأصغى إليَّ معلِّقاً بكلِّ اهتمام، وودَّ لو يعرف دوافعي. ورأيت فيه قناةً توصلني إلى إخواني الدومنيكانييِّن، بل أيضاً إلى المُقيمين في دار المطرانية. ولما مات فجأة بنوبةٍ قلبيّة، هدّني الحزن عليه. وكنت قد اعتبرته قادراً على جلاء المأزق الذي كنت اتخبّط فيه من جهة العلاقة بين الكنيسة والكتاب المقدس، ورجوت أن يفسّر لي ثم لإخواني الدومنيكانييِّن الحقائق التي كان تتنازعُني. وقد ألقيتُ العظة في جنازته وبي حزنٌ شديد.
ظللتُ أُصلِّي ما جاء في فيلبي 10:3 "لأعرفَه وقوَّة قيامته..". ولكنْ لكي أتعلَّم المزيد عنه، كان يجب أولاً أن أعرف حقيقةكوني خاطئاً. فقد تبيَّن لي من الكتاب المقدَّس (1تيموثاوس 5:2) أنَّه كان خطأً الدَّورُ الذي كنتُ أقومُ به بوصفي وسيطاً كهنوتيّاً، الأمرُ الذي تُعلِّمُه الكنيسة الكاثوليكيَّة بالضبط ولكنَّه مناقضٌ تماماً لِما تُعلِّمهُ كلمة الله المقدَّسة. وقد أبهجني فعلاً أن ينظر إليَّ الناسُ نظرة إكبار، وأن أكونَ في الواقع بمثابةِ صَنَمٍ عندهم. وفسَّرت خطيئتي عقلانيّاً بأنَّ ذلك ما تُعلِّمه أكبرُ كنيسة في العالم على كلِّ حال، فمَن أنا لأُشكِّك فيه؟ ومع ذلك بقيتُ أخوضُ صراعاً داخلَ نفسي. وبدأتُ أرى عبادة مريم والقدِّيسين وضلال الكهنة باعتبارهما من الخطايا فعلاً. ولكنْ بينما كنتُ مستعداً للتخلِّي عن مريم والقدِّيسين كوُسَطاء، لم أكُن راغباً في التخلِّي عنِ الكهنوت، لأنِّي ربطتُ به حياتي كلَّها.
سنواتُ صراعٍ عنيف
لم تكن مريم والقدِّيسون والكهنوت إلاَّ جزءاً يسيراً من الصراع الكبير الذي كنتُ أواجهه. مَن كان سيِّد حياتي: يسوعُ المسيحُ في كلمته أو كنيسةُ روما؟ هذا السؤالُ ذو الأهميَّة القصوى اصطخب في داخلي، خصوصاً في آخر ستِّ سنواتٍ قضيتُها كاهنَ أبرشيَّة في "سانغْر أغراند" (من 1979-1985). فقدِ انطبعَ في ذهني منذُ نعومةُ أظفاري أنَّ الكنيسة الكاثوليكيَّة مُطلقةُ السلطان في جميع قضايا الإيمان والأخلاق. وبدا لي من المستحيل أن أُغيِّر هذه القناعة. ولم تكن روما كليَّةَ السيادةِ فقط، بل كُنّا ندعوها أيضاً "الأمُّ المقدَّسة". فكيف يُعقَل أن أسلك سبيلاً مُناقِضاً لهذه "الأمِّ المقدِّسة"، ولا سيَّما لأنَّ لي فيها دوراً رسميّاً بإجراء أسرارها المقدَّسة والمحافظة على أمانِةِ الناس نحوَها؟
عام 1981 كرَّستُ نفسي من جديد فعلاً لخدمة الكنيسة الكاثوليكيَّة الرومانيَّة في أثناء حضوري حلقةً دراسيَّة لإنهاض الرعيَّة في "نيو أورليَنـز". ولكنْ لمَّا رجعتُ إلى "ترينيداد" وعُدتُ إلى الانهماك مجدَّداً في مشكلات الحياة الواقعيَّة، شرعتُ في الرجوع إلى سُلطة كلمة الله المقدَّسة. وأخيراً اتَّخذ الصراع داخل نفسي ما يُشبِه لعبةَ شدِّ الحبل. فكنتُ حيناً أنظر إلى كنيسة روما باعتبارها مُطلَقةَ السُّلطان، وحيناً أنظر إلى الكتاب المقدَّس بوصفه المرجِع الحاسم. في تلك السنين قاسيتُ كثيراً من جرّاء آلامٍ في معدتي، وقد تنازع مشاعري قطبان. كان ينبغي لي أن أعرف الحقَّ البسيط المتمثِّل في عدم قدرة المرء على خدمة سيِّدين. إنَّما كان وضعي الوظيفي يَضطرُّني إلى وضع سلطان كلمة الله المُطلَق تحت سُلطة كنيسة روما الشاملة.
هذا التناقُض تمثَّل في ما فعلتُه بالتماثيل الأربعة التي كانت في كنيسة "سانغر اغْراند". فقد نـزعتُ التمثالَين العائدَين للقدِّيسَين افْرنسيس ومارتن، وحطّمتُهما، لأنَّ الوصيَّة الثانية من ناموس الله تقولُ صراحةً في خروج 4:20 "لا تصنعْ لك تمثالاً منحوتاً..". ولكنْ لمّا احتجَّ بعضُ أفراد الرعيَّة على إزالتي تمثالَي القلب الأقدس ومريمَ العذراء، تركتُهما في مكانَيهما، وذلك لأنَّ السلطة العُليا، أيِ الكنيسة الكاثوليكيَّة، قالت في البند 1188 من قانونها العامّ: "تبقى ساريةَ المفعولِ الممارسةُ المعتادَةُ بعرض الصُّور المقدَِّسة في الكنائس لتكون موضعَ توقير المؤمنين". وما رأيت أنَّ ما كنتُ أُحاول القيام به إنَّما هو إخضاعُ كلمة الله لكلام الناس.
غلطتي الشخصيَّة
لئن كنتُ قد تعلَّمت سابقاً أنَّ كلمة الله مُطلقَةُ السُّلطان، فقد مَضيتُ رُغمَ ذلك في عناء المحاولة المتمثِّلة في إعلاء شأن الكنيسة الكاثوليكيَّة كما لو كانت ذات سُلطةٍ اسمى من سلطان كلمة الله، حتّى في المسائل التي فيها تقولُ كنيسةُ روما بما يُناقِضُ تماماً ما جاء في الكتاب المقدَِّس. وكيف أمكن أن تكون الحال على هذا المنوال؟ أولاً، كانتِ الغلطة غلطتي الشخصيَّة. فلو كنتُ قبلتُ الكتاب المقدَّس بوصفه المرجع الأعلى ، لكانت كلمةُ الله أقنعتني بالتخلِّي عن دوري الكهنوتيّ وسيطاً، ولكنَّ هذا الدّور كان عزيزاً جدّاً عندي. ثانياً، ما مِن أحدٍ ساءلني قطُّ في ما كنت أقومُ به كاهناً. فقد أمَّ القُدّاسَ مسيحيُّون من خارج البلاد، ورأوا ما عندنا من زيت مقدّس وماء مُصلَّى عليه ومدالياتٍ وتماثيل وأوشِحة وطقوس، وما قالوا كلمةً قَطّّ! فقد كان آسِراً للغاية كلُّ ما ألْفَوه لدى الكنيسة الكاثوليكيَّة من روعة الألبسة والجوِّ الرمزيّ والموسيقى والذوقِ الفنِّيّ. كما أنَّ البخور ينشر جوّاً عابقاً بالسِّحر، فضلاً عن رائحته الطيِّبة.
نقطةُ التحوُّل
ذاتَ يومٍ تحدَّتني امرأةٌ بقولها: "أنتم الكاثوليكيِّين لكُم صورةُ التقوى ولكنّكم مُنكِرون قوَّتها". (وكانت تلك المرأةُ هي الشخصَ المسيحيّّ الوحيد الذي تحدّاني طيلة سِنيَّ الاثنتين والعشرين في الكهنوت).وقد أزعجتني كلماتُها مدّةً، لأنَّ الأضواء والرأىات والموسيقى الشعبية والغيتارات والطبول كانت عزيزةً عندي. وربَّما لم يكن في جزيرة ترينيداد كلِّها كاهنٌ له ما لي من أرديةٍ ملوَّنه ورأىات وألبسة كهنوتيَّة. فمن الواضح أنِّي لم أكُن أُطبقُ عمليّاً الحقَّ الذي رأيته نُصبَ عينيَّ.
وفي تشرين الأول (أكتوبر) 1985، تبيَّن لي أنَّ نعمة الله أكبرُ من الكذبة التي كنتُ أُحاول أن أعيشها. فقد ذهبت إلى "باربادوس" لأُصلِّي في شأنِ التسوية التي كنتُ أُرغِم نفسي على عيشها. وشعرتُ أنَّني واقعٌ في مِصيَدة فعلاً. فكلمةُ الله مُطلقة السلطان حقاً، وعليَّ أن أُطيعها وحدَها. غير أنَّني نذرتُ أمام الله نفسه أن أُطيعَ سلطة الكنيسة الكاثوليكيَّة. وفي باربادوس قرأتُ كتاباً تناول الآية المعروفة الواردة في متّى 18:16، حيث يقول الربّ: "...ابني كنيستي". فبِلُغةِ ربِّنا الخاصَّة، الكلمةُ "كنيسة" هي "إداع" ومعناها "شَرِكة". وكنتُ قد فهمت معنى "كنيسة" دائماً بمعنى "السلطة التعليمية العُليا في جميع قضايا الإيمان والأخلاق". فإذ رأيت وأدركتُ أنَّ معنى "كنيسة" هو "شَرِكة"، انطلقَتْ حُرِّيَّتي للتخلِّي عن كنيسة روما الكاثوليكيَّة بوصفها سُلطةً عُليا وللاتِّكال على يسوع المسيح ربّاً. وابتدأ يتَّضح لي، بلغةِ الكتاب المقدَّس، أنَّ الأساقفة الذين عرفتُهم في الكنيسة الكاثوليكيَّة لم يكونوا مؤمنين كتابيِّين، بل كانوا في أغلب الأحوال رجالاً أتقياءً عاكفين على التعبُّد لمريم وصلوات السُّبحة والموالاة لروما، ولكنَّ أيّاً منهم لم تكن له أدنى فكرة عن عمل الخلاص الكامل: أنَّ عمل المسيح قد أُكمِل، وأنَّ الخلاص شخصيٌّ وكامل. وقد كرزوا جميعاً بفروض التوبة لغفران الخطايا، وبالآلام البشريّة والأعمال الدينيَّة، أي "بطريق الإنسان" لا بإنجيل النعمة. ولكنَّني بنعمة الله رأيت أنَّ الإنسان لا يخلص بواسطة كنيسة روما ولا بأعمال من أيِّ نوع: "لأنّكم بالنعمة مخلَّصون، بالإيمان، وذلك ليس منكم. هو عطيَّة الله. ليس من أعمال كيلا يفتخر أحد" (أفسس 8:2و9).
الولادة الجديدة في الثامنة والأربعين
تركتُ الكنيسة الكاثوليكيَّة الرومانيَّة لمّا تأكَّد لي أنَّ الحياة في يسوع المسيح ليست مُمكِنة مع البقاء على التمسُّك بتعاليم روما الكاثوليكيَّة. ولدى مغادرتي ترينيداد في تشرين الثاني (نوفمبر) 1985، انتقلت إلى باربادوس المُجاورة، حيثُ أقمتُ عند زوجَين مُسِنَّين، وصلَّيتُ طالباً أن يدبِّر لي الربُّ طقماً ألبسه ومالاً يكفيني للسفر إلى كندا، إذ لم يكُن لديَّ إلاَّ لباسٌ استوائيٌّ وبضعُ مئات من الدولارات باسمي. وقد استجيبت كِلتا الطِّلبتَين، بغير أن أُطلع على احتياجي أحداً سوى الربّ.
وبعد حرارةٍ استوائيَّة حارقة، هبطت بي الطائرة فوق ثلوج كندا وجليدها. ثُمَّ أمضيتُ شهراً واحداً في "فانكوفر" سافرتُ بعدَه إلى الولايات المتَّحدة الأميركيَّة. في ذلك الحين وثقتُ بالربِّ من جهة سدِّ احتياجاتي، إذ كنتُ قد بدأتُ حياتي الجديدة وأنا في الثامنة والأربعين من العمر، وليس لديَّ فلسٌ واحد، ولا بطاقةُ إقامة، ولا إجازةٌ لقيادة السيّارة، ولا توصيةٌ من أيِّ نوع، بل معي الربُّ وكلمتُه فقط.
قضيتُ ستّةَ أشهر عند زوجين مؤمِنَين في مزرعة بولاية واشنطن. وأوضحتُ لمضيفَيَّ أنَّني قد تركت الكنيسة الكاثوليكيَّة الرومانيَّة وقبلتُ الربَّ يسوع المسيح وكلمته في الكتاب المقدَّس مصدراً كليَّ الكفاءة، وقد فعلتُ هذا، كما قُلت لهما: "كليّاً ونهائيّاً وبقرارٍ عمديٍّ حاسم". ومع ذلك لم يبدُ أنَّ هذه العبارة الأخيرة أثَّرت فيهما تأثيراً خاصّاً، إذ استفسراني هل أُضمر أيَّةَ مرارة أو يؤلِمُني أيُّ جُرحٍ داخليّ. ثُمَّ خدماني خدمةً عظيمة بصلواتهما لأجلي وعطفهما عليَّ، وهما أنفسُهما قد خبرا هذا الانتقالَ وعرفا أنَّ المرارة قد تتسلَّل إلى الداخل بسهولةٍ فائقة. وبعد أربعة أيام من نـزولي ببيتهما، بدأتُ بنعمة الله أرى في التوبة ثمرَ الخلاص؛ الأمرُ الذي مكَّنني أن أقبل شفاء الربّ لمشاعري الجريحة في العُمق، فضلاً عن التماسي صفحَهُ عن سِني المساومة التي طَالت عليَّ. وأخيراً، في الثامنة والأربعين من عمري، وبناءً على سلطان كلمة الله وحدَها، وبالنعمة فقط، قبلتُ موت المسيح الكفّاري على الصليب دون غيره. فله وحدَه المجد!
وإذ تجدَّدتُ روحيّاً على أيدي هذين الزَّوجَين المسيحيَّين وعائلتِهما، رزقني الربُّ زوجةً اسمها "لِن"، مولودةً ثانيةً وأنيسةَ المعشر ووافرةَ الذكاء. ومعاً توجَّهنا إلى "أطلنطا" حيثُ حصل كِلانا على عَمَل.
مُرسٍلٌ حقيقيٌّ ذو رسالة حقيقيَّة
في أيلول (سبتمبر) 1988، غادرنا أطلنطا لنذهَب مُرسَلَينِ إلى آسيا. وقد كانت سنةَ إثمارٍ مُباركة، اختبرتُ فيها ما لم أعرف قطُّ أنَّه مُمكِنٌ من المحبَّة والفرح والسلام التي في الروح القدس. وأقبلَ الناسُ، رجالاً ونساءً، إلى معرفة سلطان الكتاب المقدّس وقوّة موت المسيح وقيامته. وأدهشني كم يسهل أن تكونَ نعمة الربِّ فعّالةً حينَ يُعتمَد الكتابُ المقدَّس،وحده دون سواه، لتقديم المسيح إلى الناس. وقد شكَّل ذلك مفارقةً مُذهِلةً مع أشراك التقليد الكنسيّ التي تلبَّدت بها السنون الإحدى والعشرون التي قضيتُها في ثيابِ المُرسَلين في ترينيداد: إحدى وعشرون سنةً خالية من الرسالة الحقيقيَّة.
ولتوضيح الحياة الفيّاضة التي تحدَّث عنها المسيح والتي أتمتَّع بها الآن، ليس في وسعي أن أستخدم كلاماً أفضل ممّا جاء في رمية 1:8 -"إذاً لا شيءَ من الدَّينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع... لأنَّ ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد أعتقني من ناموس الخطيَّة والموت". فأنا لم أتحرَّر فقط من نظام روما الكاثوليكيّ، بل صرتُ خليقةً جديدةً في المسيح. وبنعمة الله، بها وحدَها فقط، انتقلتُ من الأعمال الميتة إلى الحياة الجديدة.
الشهادة لإنجيل النعمة
لو أنَّ أولئك المسيحيِّين الذين علّموني عن شفاء الربّ لأجسادنا، سنةَ 1972، فسَّروا لي السُّلطانَ الذي على أساسه تُغفـَر الخطيَّة وكيف تُصلَح حالُنا -نحن الخطاة بالطبيعة- أمامَ الله، لكان ذلك أعانَني أيَّ عون. فالكتاب المقدَّس يُرينا أنَّ المسيح قدَّم نفسه على الصليب عوضاً عنّا. ولا يُمكنِني أن أزيد شيئاً على التعبير الدقيق الوارد في إشعياء 5:53 -"وهو مجروحٌ لأجل معاصينا، مسحوقٌ لأجل آثامنا: تأديبُ سلامنا عليه، وبحُبره شُفينا". (معنى هذا أنَّ المسيح احتمل بنفسه ما كان ينبغي أن أُقاسيه أنا جزاءَ خطاياي؛ وأمام الله الآب، أضعُ كامل ثقتي في المسيح بديلاً لي).
كُتِبت هذه الكلمات قبل صَلْب ربِّنا يسوع بسبع مئة وخمسين سنة. وبعد مدّةٍ قصيرة من ذبيحة الصليب، أكَّدت كلمة الله في 1بطرس 24:2 أنَّ المسيح قد "حملَ هو نفسُه خطايانا على الخشبة، لكي نموت عن الخطايا فنحيا للبّر؛ الذي بجلدته شُفيتُم".
فلأنَّنا ورثنا طبيعتنا الخاطئة من آدم، أخطأنا جميعاً وقصَّرنا عمّا يُمجِّد الله. إذاً، كيف يمكننا أن نقَف أمام إلهٍ قدّوس، إلاَّ في المسيح وحده، معترفين بأنَّه مات حيث كان ينبغي أن نموت نحن. واللهُ يُعطينا الإيمان حتّى نُولَد ثانيةً، ممكِّناً إيّانا من الاعتراف بالمسيح بديلاً لنا. فالمسيح هو من أدَّى عقوبة خطايانا، إذ صُلِب مع أنَّه بِلا خطيَّة. هذه هي رسالة الإنجيل الحقيقيَّة. وهل يكفي الإيمان وحده؟ نعم، الإيمان المؤدِّي إلى الولادة الجديدة كافٍ. وهذا الإيمان، إذ يجعل الإنسان مولوداً من الله، لا بُدَّ أن يُنتِج أعمالاً صالحةً ضمنَها التّوبةُ: "لأنَّنا نحن عمله، مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة قد سبق الله فأعدَّها لكي نسلك فيها" (أفسس 10:2).
وعندما نتوب نُنحي جانباً، بقوَّةِ الله، طريقةَ حياتنا السَّالفة، ونُقلِع عن خطايانا السابقة. لا يعني ذلك أنَّنا لن نُخطئ البتَّة بعدُ، بل يعني حقاً أنَّ مقامنا أمامَ الله قد تغيَّر. ونحن مدعوُّون أولاد الله، لأنَّنا هكذا نحن بالحقيقة. وإن أخطأنا، فالمسألة تتعلَّق بشركتنا مع الآب، وهذا امرٌ يُسوّى، لا بفقداننا مقامَنا كأولادٍ لله في المسيح. ذلك أنَّ مقامَنا ثابتٌ لا يُمكِن نقضُه أبداً. وفي عبرانيِّين 10:10 يقولُها الكِتابُ المقدَّس على نحوٍ رائعٍ عجيب: "... نحنُ مقدَّسون بتقديم جسد يسوع المسيح مرَّة واحدة". ذلك أنَّ عمل المسيح المُنجَز على الصليب كافٍ وكامل. فإذ تثق فقط بهذا العَمَل المُتمَّم، تُعطى حياةً جديدةً مولودةً من الروح: تولَدُ من فوقُ ولادةً ثانية!
والآنَ
سُطِّرت هذه الشهادة عام 1994، وقد أعدَّ لي الربُّ عملاً صالحاً قضى بأن أكونَ مبشِّراً مقرُّه شمال غرب الباسيفيكي. فما قاله بولس عن بني قومه، أقوله عن إخواني الكاثوليك الأحبّاء: إنَّ رغبة قلبي وصلاتي لأجل الكاثوليك أن يخلصوا. وفي وسعي أن أشهد عنهم بأنَّهم غيورون في سبيل الله، ولكنَّ غيرتَهم ليست على أساس كلمة الله، بل هي منصرفةٌ ناحيةَ تقليد كنيستهم. فإن كُنتَ واعياً التكريس والجهاد اللذين يبذلهما بعضٌ من إخوتنا وأخواتنا، في الفيلبين وأميركا الجنوبيَّة، للقيام بفروض دينهم، فلا بُدَّ أن تُدرِك صرخةَ قلبي: "ربِّ، أعطِنا حُنُوّاً حتّى نفهم الألم والعذاب المقترِنَين بسعي إخوتنا وأخواتنا لأرضائك. فإذا ما فهمنا المعاناة في قلوب الكاثوليك، تنشأُ فينا رغبةٌ صادقة لإبلاغهم بشارةَ عمل المسيح الكامل على الصليب".
تُبيِّن شهادتي الصعوبةَ الفائقة التي واجهتني، وأنا كاثوليكيُّ، بصدَد التخلِّي عن تقليد الكنيسة. ولكنْ ما دام الربُّ يطلب منّا في كلمته أن نقوم بهذا، فعلينا أن نقوم به. إنَّ "صورة التقوى" التي لدى كنيسة روما الكاثوليكيَّة تُصعِّب على الكاثوليكيِّ كثيراً أن يرى أين تكمن المشكلة فعلاً. فعلى كُلِّ واحدٍ أن يحدِّد المرجع ذا السُّلطان لمعرفة الحقّ. وروما تدَّعي أنْ بِسُلطتِها وحدَها يُعرَف الحقّ. فهاك الكلماتِ التي تقولُها هي في الجزء الأول من القانون 212: "إنَّ المؤمنين المسيحيِّين، وعياً منهم لمسؤوليتهم الشخصيَّة، مُلزَمون بمقتضى الطاعة المسيحيَّة، أن يعملوا بموجب ما يتولّى الرُّعاة المقدَّسون، باعتبارِهم ممثِّلين للمسيح، تعليمَهم إيّاه بوصفهم مُعلِّمي الإيمان، أو إقرارَهُ لهم بوصفهم قادةَ الكنيسة". ("دستور القوانين" المؤسَّس على المجمع الفاتيكاني الثاني، كما نشره البابا يوحنّا بولس الثاني، 1983). ولكنْ بحسب الكتاب المقدَّس،كلمةُ الله وحدها هي المرجع ذو السُّلطة الذي به يُعرَف الحقّ. وقد كانت التقاليد التي مِن صُنع البشر هي التي حَدَتِ المُصلِحين على المُناداة: "الكتابُ المقدّس وحدَه، الإيمان وحدَه، النعمةُ وحدَها".
دافِعي إلى المُشاَركة
لقد عانيتُ كثيراً على مدى أربع عشرة سنة وليس من يتجرَّأ على إخباري بالحقّ. وها أنا أطلِعُك على هذه الحقائق لعلّك تعرف طريق الله للخلاص، مصلِّياً أن يُعطيَك الآبُ نعمةً كي تقبلَ أنَّ المسيح مات على الصليب عوضاً عنك، وتعرفَ أنَّ كفّارته كافيةٌ ووافيةٌ لجعلك خليقةً جديدةً فيه: "لأنَّه هكذا أحبَّ الله العالم، حتّى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كلُّ مَن يؤمن به، بل تكون له الحياةُ الأبدية" (يوحنّا 16:3).
إنَّ رحلتي في الإيمان حملتني إلى الاتّكال على الربِّ يسوع المسيح وحدَه وعلى كلمته وحدَها. فإن كان هو وحدَه راعيَك، فلن يُعوِزَك شيءٌ حقاً. إذ يغفر لك خطاياك ويجعلك خليقةً جديدةً في شخصه المبارك. فقد جاء في 2كورنثوس 21:5 "لأنَّه جعل الذي لم يعرف خطيَّةً، خطيَّةً لأجلنا، لنصير نحنُ برَّ الله فيه". حمداً لله!
هلاّ تطلب إلى الله أن يُعطيَك النعمةَ والإيمان كي تقبل كلمته. فإنْ طلبتَ هذا بكلِّ قلبك، يضع في داخلك الإرادة والقصد للاتِّكال عليه. ثُمَّ إذ يُدنيك إلى ذاته بالنعمة، تُدرِك أنّك قد وُلِدتَ من جديد، وأنَّ لك حياةً جديدة ومقصِداً جديداً، لأنِ "المولودُ من الجسد جسدٌ هو، والمولودُ من الروح هو روح" (يوحنّا 6:3).
(الكاهن المولود ثانيةً: ريتشارد بيتَر بَنِّيت)
- عدد الزيارات: 3489