رحلتي عن روما
شهادة شخصيَّة من الكاهن المولود ثانيةً
"بارثولوميو ف. ابْرُوَر"
ربّما كان ملايينُ الكاثوليكيِّين، أو مُعظَمُهم، من الكاثوليك بالاسم أو بالثقافة، أو بمجرَّد الوراثة. غير أنَّ أُسرتنا كانت كاثوليكيَّة رومانيَّة عنِ اقتِناع. فقد فهمْنا ومارسنا تعاليم ديننا. وكُنّا نؤمن بأنَّ الكنيسة الكاثوليكيَّة هي "الكنيسة الوحيدة الحقيقيَّة" التي أسَّسها يسوع المسيح. وبسبب ذلك قبِلْنا بلا نقاشٍ كلَّ ما علَّمناه إيّاه كهنتُنا. في تلك الأيام السابقة للمجمع الفاتيكاني الثاني، ساد إعتقاد عامٌّ أنَّه "لا خلاصَ خارج الكنيسة الكاثوليكيَّة". وقد آتانا ذلك شعوراً بالطمأنينة وبأنَّنا على حقّ. ومن ثَمّ كُنّا، على نحوٍ ما، بأمانٍ في ذراعي "أُمِّنا الكنيسة المقدَّسة".
منذ تُوفِّي أبي (كنتُ في نحو العاشرة) دأبت والدتي في حُضور القُدّاس كلَّ يومٍ بغير استثناء على مدى أكثر من أربع وعشرين سنة. وكانت عائلتُنا تتلو السُّبحة بأمانةٍ كلَّ مساء. وقد شُجِّعنا على القيام بزيارات منتظمة إلى "مقام السرِّ المقدّس". وفضلاً عن التعليم الدينيِّ في البيت، كان تعليمُنا المدرسيُّ كاثوليكيّاً بجملته. وقد كان من عادة المونسنيور "هيوبَرت كارتْرَيْط" وسائر الكهنة في أبرشيَّتنا الأصليَّة، كاتدرائيةِ القدِّيسَين بطرس وبولس في فيلادلفيا ببنسلفانيا، أن يقولوا إنَّ عائلتنا كاثوليكيَّةٌ أكثرَ من روما بالذات.
فغير عجيبٍ إذا أنِّي لمّا قاربت سِني الدراسة الثانوية شعرتُ بأنَّني مدعوٌّ لإعداد نفسي للكهنوت الكاثوليكيّ. وبدلاً من الكهنوت العلمانيِّ الذي يخدم الأبرشيّات، اخترتُ الانضمامَ إلى "الكرمليِّين الحُفاة"، وهُم إحدى أقدم الرهبانيّات وأشدِّها صرامةً.
ومنذ يومي الأول في "هُولي هِلّ" (التلَّة المقدَّسة) في وِسكونسِن، أحببتُ حياة التديُّن حبّاً شكَّلَ الحافزَ الذي أعوَزَني لدراسة اللاتينيَّة وسواها من الدروس التي استَصعَبتُها جدّاً. وقد كان لي في إخلاص معلِّمينا الكهنة وتضحيتهم مذكِّرٌ دائمٌ بقيمةِ التخلِّي عن أيِّ شيء في سبيل الوصول إلى هدف الرسامة.
وكان لي خيرُ زادٍ في التعلُّم الذي تلقيَّتُه خلال أربع سنين من الدراسة في الثانويَّة اللاهوتيَّة، وسنتين في بيت المُترهبِنين، وثلاث سنين في دراسة الفلسفة، وأربع سنوات في دراسة اللاهوت (كانت الأخيرة منها بعد رسامتي). وقد كنتُ مخلصاً في ممارسة مختلف الإماتات وسواها من ممارسات الانضباط، وما شكَكْتُ مرّةً في دعوتي ولا في أيِّ شيءٍ مِمّا تعلّمتُه. وقد تمثَّل تكريسُ حياتي لله بقبولي نذورَ الطاعة والعفَّة والفقر. وكان صوتُ الكنيسة عندي هو صوتَ الله.
تمَّت سيامتي كاهناً كاثوليكيّاً رومانيّاً في كاتدرائيَّة سيِّدة الحبَل بلا دنس في واشنطُن دي سي، وهي سابعُ أكبر كنيسة في العالمَ اليوم. ولمّا بادر "سيادةُ الأُسقف الجزيل الاحترام، جان م. مكنَمارا" إلى وضع يديه على رأسي مكرِّراً كلمات المزمور 4:110 "... أنت كاهن إلى الأبد على رُتبة ملكي صادق،" غمر كياني الإعتقاد أنِّي أصبحتُ وسيطاً بين الله وشعبي. كما أنَّ إعطاء المسحة ووضع اللباس الخاصِّ في يديَّ كانا إشارةً إلى أنَّهما باتتا مكرّستّين لتغيير الخبز والخمر إلى جسد يسوع المسيح ودمه الحقيقيَّين (الحَرْفيَّين)، ولاستِكمال ذبيحة الجلجثة بالقُدّاس، وإعطاء النِّعمة المخلِّصة من طريق سائر الأسرار الكاثوليكيَّة المختصَّة بالمعموديَّة والاعتراف والتثبيت والزواج وغيرها. ويُقال إنَّ الكاهن الكاثوليكيّ عند رسمه ينال علامةً "لا تزول" تؤهِّله لأنْ يختبر تبادُلاً لا ينتهي بين شخصيّته وشخصيَّة المسيح، حتّى يؤدِّي وظيفته الكهنوتية باعتباره "مسيحاً آخر" (آلتِر كريستوس) أو شخصاً يحلُّ محلَّ المسيح. وكان مِن عادة الناس أن يركعوا ويُقبِّلوا أيادِيَنا المكرَّسة حديثاً، عنِ إعتقاد صادقٍ بهذا.
بعدَ إكمالي آخر سنة من دراستي اللاهوتيّه، وكانت في الأساس إعداداً نهائيّاً للوعظ وسماع الاعتراف (الذي يشتمل على "الحلَّة" أو غفران الخطايا)، مُنِحتُ رغبتي التي عبَّرتُ عنها منذ زمنٍ طويل بأن أصير كاهناً مُرسلاً في الفيلبين. وقد كانَ التحوُّلُ من الحياة الرهبانيّة الانضباطيَّة الصارمة إلى بساطة حياة المُرسَل وحرّيتها تحدِّياً لم أكُن مستعداً له. وراقني السَّفر إلى القُرى البدائيّة، البالغِ عددُها ثمانينَ أو أكثر، والمُلحَقة بأبرشيَّتنا. كذلك أيضاً أحببتُ تعليم الدروس الدينيَّة المُسندة إليَّ في الثانوية الكرمليَّة بمدينتنا الصغيرة. وكانت حياتي حتّى ذلك الحين تكاد تقتصر على الخدمة بين الرجال. فكنتُ أستمتع بمشاهدة الفتيات يُقهقِهن فيما يغازلُهنَّ الشبّان. ولكنْ بعد مُدَّةٍ انجذب قلبي إلى واحدةٍ من التلميذاتِ الأكثر جدِّيَّةً، استحوذت على كامل انتِباهي. كانت تلك الشابَّة أنضج من عُمرِها من جرّاء المسؤوليات التي وقعت على عاتقها بعد وفاة والدتها. وقد بَدَت لطيفة وخجِلةً في تجاوُبِها فيما كُنَّا ننتهزُ الأويقات ونتحادث بعد الدروس وحدَنا. كانَت تلك مُغامرةً جديدةً عليَّ، وسرعان ما فسَّرتُ عاطفتَنا المُكتشَفة حديثاً بأنَّها حُبّ.
وليس بِمُدهشٍ أنَّ المطران علم سريعاً بهذا الأمر، وإن كان يبعد عنا كيلومتراتٍ عدَّةً، فبادر حالاً إلى إعادتي إلى الولايات المتَّحدة قبل أن تتطوَّر أيَّةُ علاقةٍ جدّية بيني وبين الفتاة. وكانت خيبتُنا إزاء هذا التدبير الصارم صعبةً على كلَينا، ولكنَّ الحياة تمضي دائماً في سبيلها.
بعد المغامرة والحريَّة في الفيلبين، لم تعُد لديَّ الرغبة في العودة إلى حياة الرهبنة، فأذِن لي أُسقف الأبرشيَّة بالعمل في آريزونا بأبرشيَّة تابعةٍ للكرمليِّين الحُفاة. وقد تمتَّعتُ بالمسؤوليّات التي أُسنِدت إليَّ في تلك الأبرشيَّة، ولكنَّ المَهمَّة التالية التي كُلِّفتُها لم تكُن مرضيةً لي كثيراً. بُعيدَ ذلك مُنِحتُ تحلَّةً من روما لترك الرهبنة الكرمليَّة كي أخدم بصفة كاهنٍ علمانيّ (أو كاهِنِ رعيَّة). وبينما كُنتُ أخدم أبرشيَّة كبيرة في سان دييغو بكاليفورنيا، طلبتُ إذناً بدخول البحريَّة الأميركيَّة بصفة قسِّيسٍ كاثوليكيٍّ روماني، فكان لي ما طلبتُه. وهنالك وفَّرت لي الأهداف الجديدة والرتبةُ العسكريَّة والإبحارُ مناصاً ممّا كان قد أصبح بالتدريج حياةً أبرشيّةً عقيمة حافلة بالطقسيَّة والسِّرَّانيَّة.
اتَّسع أُفق حياتي الدينيَّة على وجه السرعة فيما خالطتُ القُسوس غير الكاثوليك. وإذا بي، أول مرّة، أعيش خارج نطاق ثقافتي الكاثوليكيَّة. وفي وسط الجوِّ المسكونيّ، اتَّجهتُ شيئاً فشيئاً نحو المُحايَدة. حتَّى إذا فتحَ المجمعُ الفاتيكاني الثاني نوافذ التقليد الصارم لإدخال هواءٍ جديد، استنشقتُ نسماتٍ منعشة. ها قد بدأ التغيير يشقُّ طريقه. وقد أراده بعضهم جذريّاً، فيما شاءه آخرون على قليلٍ من التحديث. فعند الكثيرين أنَّ الإيمان الكاثوليكيَّ كان مُخفِقاً في توفير حلولٍ للمشكلات المعاصرة. وشعر كثيرون بالتغرُّب وإساءة الفهم. وكان ذلك يصحُّ على الكهنة خصوصاً. فمع كلِّ مظاهر التغيير، كان الكهنوت فاقِداً بريقه. إذ لم تعُد ثقافة الكاهن تُعتَبر أرقى من ثقافة ابن ابرشيَّته، ولم يعُدِ الكاهن يُثقَّف ثقافةً أعلى مستوًى من غالبيَّة رعيَّته. وقد بات شائعاً بين الكهنة اختبار أزمةِ هويَّة على نحوٍ لم يكن ليعترفَ به بعضُهم، حتَّى بين قُسوس الجيش.
هالَني في أول الأمر أن أكتشف أنَّ بعض الأساقفة الكاثوليك يُقيمون علاقاتٍ سريَّة. وقد أصغيت بانتباهٍ إلى بعضهم وهم يُناقشون الطبيعة غير العمليَّة التي تتَّصف بها العزوبيَّة الإجباريَّة. وسرعان ما استجمعتُ الشجاعة لمُساءَلة سلطات كنيستنا التي أصرَّت على التشبُّث بمثل هذه التقاليد، ولا سيَّما حين شكَّل قانون العزوبيَّة مصدراً لمشكلاتٍ خُلقيَّة كثيرة بين الكهنة. و أول مرة في حياتي شككتُ في سلطة ديانتي، لا بسببٍ من الكبرياء العقلانيَّة، بل بداعي الضمير وبإخلاصٍ حقّ.
لمّا كُنَّا طَلَبة كهنوت، فقد تعرَّفنا جيداً بالتقليد الذي يُلزِم الكاهنَ الكاثوليكيَّ الرومانيَّ حياةَ العزوبيَّة. وقد علمْنا يقيناً أنَّ الأقِلاّء الذين يمنحهم الفاتيكان إذناً بالزواج ربّما لا يُسمَح لهم بأن يُزأولوا البتَّة مهامَّ وظيفتهم الكهنوتيَّة. ولكنَّ الأزمنة قد تغيَّرت، حتّى إنَّ أسئلةً لم يسبقْ أن طُرِحت جهراً قد جرى بحثُها علناً في المجلس الفاتيكاني بِرُوما. وقد رأى كثيرون أنَّ الكهنة المتزوِّجين يُتاح لهم، كما هي الحال لدى البروتستانت، أن يُضفوا على الشؤون الزوجيَّة والعائليَّة فهماً أوفى وتحسُّساً أوفر. وباتتِ المناقشاتُ في مثل هذه القضايا أمراً مألوفاً لدى التقاء كاهنين أو أكثر، ولَو في أثناء زيارةِ المسكن الذي كنتُ أُقيم فيه مع والدتي.
ولم تكُن أُمي تستنكف عن المشاركة في المناقشات. فهي كانت ِامرأةً واسعة الاطِّلاع وحادّة الذكاء، وكنتُ أُقدِّر آراءها كثيراً. وإنِّي لأذكُر مدى استيائها من إدراج نظريَّة التطوُّر في مقرَّرات المدارس الكاثوليكيَّة، ومن كون روما قد قبلت إجراء حوار مع الشيوعيِّين. ولطالما كانت قد انـزعجت من بعض التضارُب الذي لاحظَتْه بين المبادئ التي تُعلِّمها الأسفار المقدَّسةُ وانعدام المبادئ لدى كثيرين من القادة الدينيَّين في كنيستنا. إلاَّ أنَّ المونسنيور "كارترَيْط"، قبل سنين كثيرة، أراحها بتذكيرها أنَّ كنيستنا -وإن كان فيها مشاكلُ كثيرة- قد وعد المسيحُ بأنَّ "أبواب الجحيم لن تقوى عليها". إنَّما دأبت والدتي في التعبير عن بالغ احترامها للكتاب المقدَّس. ومع أنَّها قد قرأتْه بأمانةٍ على مرِّ السنين، فإنَّها آنذاك كانت قد بدأت تصيرُ تلميذةً توّاقةً له. وبينَما لاحظتُ لدى زملائي اتِّجاهاً تحرُّريّاً عامّاً، ألفيتُ والدتي ميّالةً نحو اتِّجاهٍ آخر. فكان ذلك لغزاً أغلق عليَّ. وفيما كان الآخرون يعبِّرون في مناقشاتهم عن رغبةٍ في حلحلة القيود والطقوس التقليديَّة، عبَّرَت والدتي عن رغبتها في رؤية المزيد من التشديد على مفاهيم الكتاب المقدَّس في الكنيسة، مع المزيد من مراعاة النواحي الروحيَّة في الحياة، وتشديدٍ أكبرَ على المسيح، بل على العلاقةِ الشخصيَّة به.
لم أعِ حقيقة الأمر في البداءة، لكنَّني ما لبثتُ أن أخذت أُلاحِظ تغييراً عجيباً في حياة أُمِّي. وقد أسهم تأثيرُها في لَفت انتباهي إلى أهميَّة الكتاب المقدَّس في تحديد ما نؤمن به. وغالباً ما كُنّا نبحث في موضوعاتٍ مثل أوليَّة الرسول بطرس، والعصمة البابويَّة، والكهنوت، ومعموديَّة الأطفال، والاعتراف، والقُدّاس، والمطهَر، وعقيدة الحَبَل بمريم بلا دَنَس، وصعودها بجسدها إلى السماء. وفي حينه أدركتُ أنَّ هذه المعتقدات، عدا كونها غير موجودة في الكتاب المقدّس، تُناقض فعلاً تعليم كلمة الله الصحيح الواضح، أخيراً سقط الحاجزُ الذي طالما منعني حيازةَ قناعاتٍ شخصيَّة راسخة. وما عادت تُخامِرُني أيَّة شكوكٍ بشأن نظرة الكتاب المقدَّس في هذه الموضوعات، ولكنْ أيَّة نتيجة سيكون لهذا كُلِّه بالنسبة إلى حياتي ككاهن؟
كنتُ أُومن حقاً بأنَّ الله قد دعاني إلى خدمته. فإذا بي، وجهاً لوجه، أمام مأزقٍ أدبيّ. ماذا أفعل يا تُرى؟ حقاً أنَّه كان بين الكهنة مَن لا يؤمِنون بعقائد روما كلِّها، وحقاً أنَّ بعض الكهنة كان لهم زوجاتٌ وعائلاتٌ في السرّ. إذاً، كان في وسعي أن أظلَّ قسِّيساً كاثوليكيَّاً وأستمرَّ في خدمتي من دون المجاهرة بقناعاتي المضادَّة. وكان في وسعي أن أظلَّ أتلقَّى راتب الرُّتبة العسكريَّة وأتمتَّع بامتيازاتها، وأن أظلَّ أتلقَّى مُخصَّصات والدتي وتعويضاتها. فإنَّ أسباباً عدَّة كانت تحدوني على البقاء، معنويّة وماديّة على السواء، ولكنَّ قيامي بذلك يكون رياءً ومنافياً للآداب. ومنذُ صباي تعلَّمتُ أن أفعل ما هو صواب. لذلك اخترتُ أن أفعل ذلك أيضاً آنذاك.
على الرُّغم من كون مطراني قد منحني منذ عهدٍ قريبٍ الإذنَ بأن أقضيَ في الجيش عشرين سنة، فقد استقلتُ بعد أربعٍ منها فقط. وما كان منِّي إلاَّ أنِ انتقلتُ مع أُمِّي بهدوء إلى قرب أخي بول وزوجته في منطقة خليج سان فرنسيسكو. وقُبيلَ انتقالِنا قطعَتْ والدتي علاقتها بالكثلكة إذ اعتمدَت في كنيسة أدفنتستيَّة للسبْتيِّين. وقد علمْتُ أنَّها كانت تدرس الكتاب المقدَّس بمعاونة واحدٍ من خدّامهم، غير أنَّها لم تُطلِعني على أمر معموديَّتها حتَّى عزمتُ فعلاً على ترك الكهنوت.
وما كان قرار تَرْكي للكهنوب بالهيِّنِ قَطّ. فإنَّ دعوى روما بعدم وجود أسباب موضوعيَّة لترك "الكنيسة الواحدة الحقيقيَّة" كانت أمراً ينبغي النظر فيه بتدقيقٍ شديد. ومن شأن الكاثوليك المحافِظين أن يعتبروني بعدُ "كاهناً خائناً كيُوضاس، ملعوناً ومحروماً، من الواجب تجنُّبي". بلى، لقد حفَّت صعوباتٌ كثيرة بتَركي حظيرة الكثلكة الآمِنة، غير أنَّه تبيَّن لي أنَّ الربَّ يسوع لا يخذل أحداً البتَّة.
بعد نفضي غُبارَ الكثلكة عن حذائي، واجهَتْني قضيَّة جوهريَّة جدّاً: أين السُّلطةُ العُليا؟ وبعمليَّةِ "الاستِثناء والاستِغْناء"، استخلصتُ بالتدريج أنَّ الكتاب المقدَّس هو السُّلطة الوحيدة التي لا تمكن زعزعتُها. فإنَّ أنظمة عديدةً، بما فيها الكثلكة الرومانيَّة، قد حاولت عبثاً نقْض كفاية كلمة الله وكمالها وفاعليَّتها، رُغمَ كونها لم تُكتَب بمشيئةِ إنسان بل دوَّنها رجالُ الله القدِّيسين يسوقهم الروحُ القدس: "لأنَّه لم تأتِ نُبوَّةٌ قطُّ بمشيئة إنسان، بل تكلَّم أُناسُ الله القدِّيسون مسوقينَ من الروح القُدُس" (2بطرس 21:1).
هوذا ما أسعدَ اليومَ الذي يُدرك جميع الذين يُسَمُّون اسم المسيح أنَّ الكتاب المقدَّس هو مصدرُ السلطةِ الوحيدُ الثابتُ غير المتغيِّر! فالكتاب المقدس هو المرجع الوحيدُ ذو السلطان الحاسم بسبب ارتباطه الكليّ بمؤلِّفه الأزليّ، وفيه عبَّر الله عن فكره تعبيراً جليّاً مفهوماً. وإنَّها لَمأساةٌ أن ترفضَ كفايةَ الكتاب المقدَّس جماعاتٌ كثيرةٌ، مثل الكاثوليك ومعظمِ البروتستانت التقليديين وقسمٍ كبير من الخمسينيِّين، وسواهم. وهم يؤْثِرونَ وضع ثقتهم، بالمُقابل، في مراجع مشكوكٍ فيها، كالتقاليد والرؤى والأحلام والظُّهورات والتنبّؤات. فهذه كلُّها لا تقومُ لها قائمةٌ كي تُعتبَر "من يد الله"، فضلاً عن كون القسم الأعظم منها مناقِضاً لتعليم الكتابِ الصريح الجلّي.
وربّما كان السبب الذي يدفع كثيرين إلى اعتبار الكتاب المقدَّس غير كافٍ أنَّهم لم يدرسوه حقَّ الدرس. فإنَّ بطاقاتِ علاماتي على مدى ثلاث عشرة سنة من الدراسة الرسميَّة في رهبانيَّة "الكرمليِّين الحُفاة" تُبيِّن أنَّني لم أتلقَّ من دراسة الكتاب المقدَّس إلاَّ اثنتي عشرة ساعةً فصليَّة. وهذا وحده دليلٌ يُبيِّن أنَّ كلمة الله المقدَّسة ليست هي أساسَ التعليم الكاثوليكيِّ الرومانيّ.
بعدَ تَرْكي الكثلكة، أردْتُ أن أدرسَ الكتاب المقدَّس. ولمّا كان للكنيسة موقعٌ هامٌّ في تفكيري، فلم أُ عارض الانضمامَ إلى طائفةٍ أُخرى. وبعدَ استعراض أحوال بعض الكنائس البروتستانتيَّة، تبيَّن لي -واأسفاه!- أنَّها في غباءِ غايتها المسكونيَّة متَّجهةٌ إلى الاتِّحاد من جديد بروما على حساب الحقِّ الذي يؤكِّده الكتابُ المقدَّس. وفي الواقع أنَّ رؤية التشكيلة الواسعة من الكنائس قد يكون مُثبِّطاً، بل خَطِراً جدّاً، للكاثوليكيِّ سابقاً في بحثه عن الحقّ.
على أنَّ لقائي أصدقاءَ أُمِّي السبتيِّين كانَ مُبهِجاً لي. فقد ألفيتُهم متحمِّسين لإيمانهم، كما ردَّد حبُّهم للكتاب المقدَّس أصداءَ رغبتي في دراسته. وآلَ ذلك إلى اتِّخاذي قراراً متسرِّعاً بالانضمام إلى طائفة الأدفنتست السبتيَّين. وقد دبَّر القسِّيسُ الذي عمَّدني أن يُرسلني "المجمعُ الكاليفورنيانيُّ الجنوبيُّ" إلى دراسة اللاهوت في جامعة " أندرُوز" لمدّة سنة واحدة. وبينما كنتُ أستعدُّ لتلك السنة الدراسيَّة، الْتقيتُ "رُوث". وكنتُ منذ سنة قد دأبتُ في الصلاةِ بشأنِ العثور على زوجة، راجياً ذلك. وأول مرَّةٍ زارَت روث فيها كنيستَنا، عرفتُ أنَّها ستكونُ رفيقة دربي. ومن ثَمّ تزوَّجْنا قُبيلَ التوجُّه إلى كليَّة اللاهوت. كانت روث قد تحوَّلت إلى السبتيَّة، وشأنُها شأنُ غيرها، افترضَت أنِّي مسيحيٌّ حقاً بما أنَّني كنتُ مستعداً لدراسة اللاهوت.
وإذ أدركَتْ زوجتي أنِّي لم أذكر شيئاً عن "الولادة الثانية"، سألَتْني يوماً: "مَتى صرتَ مسيحيّاً حقاً، يا بَارت؟" فكان جوابي الذي لا يُصدَّق: "لقد وُلِدتُ مسيحيّاً!" وفي ما أعقب ذلك من محادثات، ساعدَتْني روث على أن أفهم أنَّ الإنسان، لكونه مولوداً بالخطيَّة، ينبغي أن يُدرك في وقتٍ ما حاجتَه إلى المخلِّص، ويستطيع أن يولد ثانيةً ولادةً روحيَّة بوضْع ثقته في يسوع المسيح وحدَه ليُخلِّصه من عواقب الخطيَّة. ولمّا أجبتُها بأنَّني طالَما آمنتُ بالله، علَّقَت بما جاء في يعقوب 19:2 "أنت تؤمن أنَّ الله واحد. حسناً تفعل، والشياطين يؤمنون ويقشعرُّون".
وبعد مُدَّة، بسببٍ من هذه المحادثات وبفضل دروسٍ تلقَّيتُها حول رسائل رومية وغلاطية والعبرانيِّين، تبيَّن لي أنَّني كنت متَّكلاً على برِّي الذاتي وعلى مجهوداتي الدينيَّة، لا على ذبيحة المسيح المُنجَزة والكافية والوافية. ولم تكُنِ الديانةُ الكاثوليكيَّة قد علَّمتني قطُّ أنَّ برَّنا الذاتيَّ جسديٌّ وغيرُ مقبولٍ أمام الله، وما كانت قد علَّمتني أيضاً أنَّ كلَّ ما علينا هو أن نثق ببرِّ الله ونتَّكِل عليه وحده. فهو تعالى قد سبق أن فعل كلَّ ما ينبغي فعلُه لأجل مصلحتِنا. ثُمَّ أقنعني الروحُ القُدس ذاتَ يوم، ونحنُ في اجتماع الصلاة الصباحيّ، بحاجتي إلى التوبة وقبول "عطيَّة" الله.
طيلةَ تلك السنين التي قضيتُها في حياة الرهبنة، كنتُ أتَّكل على " أسرار روما المقدَّسة" لإعطائي النعمة وتخليصي. أمَّا آنذاك فقد وُلِدتُ بنعمة الله ولادةً روحيَّة، وتأكَّد لي خلاصي. فلّما كنتُ جاهلاً برَّ الله، كاليهودِ أيام بولس الرسول، مضيتُ مُحاولاً إثباتَ برِّي الخاصِّ، غيرَ مُخضِعٍ ذاتي لبرِّ الله (رومية 2:10و3).
قارئي الكريم، إنَّني لا أعرفُ مَن أنت، وما هي حقيقةُ علاقتك بالله، ولكنِ اسمحْ لي بأن أسألك أهمَّ سؤالٍ في الحياة: أأنت مسيحيٌّ كتابيّ؟ أأنت واثقٌ كليّاً فقط بذبيحة المسيح الكاملة لمغفرة خطاياك؟ إن كان لا، فلماذا لا تسوِّي المسألة الآنَ الآن؟ فكما في احتفال الزواج البسيط، عِدِ المسيحَ بمحبَّتك وتكريسك وثقتك. ذلك أنَّ قبول المسيح مخلصاً ليس أمراً تفعلُه كطقسٍ دينيّ، بل هو تسليمُه حياتَك مرَّةً واحدة لأجل مغفرة خطاياك. ولحظةَ تفعلُ هذا، يحتلُّ يسوعُ المسيح موقعاً حيويّاً في كِيانك وتنالُ الحياةَ الأبدية. بعد ذلك تتغيَّر كلَّ حين. فالكتابُ يقول: "واثقاً بهذا عينه: أنَّ الذي ابتدأ فيكم عملاً صالحاً يُكمِّل إلى يوم يسوع المسيح" (فيلبِّي 6:1).
في أواخر سنتي الرابعة مع السبتيِّين، تأثَّرتُ ببعض أعضاء الكنيسة لحضور اجتماعاتٍ كارِزماتيَّة. قالوا لي إنَّ الروح القدس كان آخِذاً في إسقاط الحواجز الطائفيَّة في الأيام الأخيرة قبل رُجوع المسيح. فرغبةً منِّي في الحصول على كلِّ ما يخزنه الله لي، ذهبت إلى غُرفة صلاة لاقتِبال "موهبة الألسنة". كنتُ حَذِراً تجاه تلك الممارسات كلِّها، ولا سيَّما لأنِّي لم أستطع حمل نفسي على إدخالِ الآخرين في تلك الحركة. إذ كانَ أكثر أهميَّة عندي بكثير أن أُحرِّضَ الناس على دراسة الكتاب المقدَّس وآخذَ بأيديهم إلى الوثوق بالمسيح والعيش بمقتضى المبادئ الكتابيَّة. وكان دافعي إلى الانجِذاب نحو الحركة الكارزماتيّة ذلك الاهتمام بالآخرين الذي بدا أنَّها تعمل على بعثه. فهذا، فضلاً عن عفويَّتها وحماستها، أثَّر فيَّ باعتباره مُمثلاً لنمط حياةٍ كتابيٍّ بدا مفقوداً في عدَّة كنائس.
بعد مدَّةٍ قصيرة من سيامتي خادماً سبتيّاً أدفنتِستيّاً، على المجمعُ الجنوبيُّ شأن كتاباتِ "ألِن جي وَيت"، وكانت واحدةً من مؤسِّسي الأدفنتستيَّة يعتقد السبتيُّون أنَّها نبيَّة. وقد وجدتُ، وزوجتي روث، حلقاتِ الرُّعاةِ الدراسيَّةَ ذاتَ عونٍ كبير، ما عدا الأخيرةَ منها. كان المُحاضر من اعضاء المجمع العامّ في واشنطن دي سي، وقد أقلقَتْنا جدّاً بعضُ تصريحاته. والتصريحُ الذي باتَ نقطة تحوُّلٍ في حياتي هو قوله إنَّ كتابات "ألن وَيت" "موحي بها، تماماً مثل متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا". وإذِ انـزعجتُ أيَّ انـزعاج، تشاورتُ مع قائدٍ محترَمٍ جدّاً عندهم، ولكن لم يتأتَّ لي قطُّ أن أُريح ضميري على ذلك. وكنتُ قد بدأتُ أشعر بأنَّني مقيَّدٌ روحيّاً في السبتيَّة بسببِ ناموسيَّتها وانغلاقها، إلاَّ أنَّ ذلك التصريح الخطير كان في رأىي زيادةً خَطِرة على الكتاب المقدَّس.
وحينَ آثرتُ ألاَّ أبدأ في كنيستنا السلسلة التي تُسمَّى "العدّ العكسيّ في الشهادة"، اعترض بضعةُ أعضاء. وفي غضون أيام قليلة، تأكَّد لي في ضميري أنِّي لا أستطيع الاستمرارَ بعدُ بتأدية دوري خادماً أدفنتستيّاً. ولولا التشجيعُ والعون اللذين تلقيَّتُهما من بعض الخدّام الأصدقاء الذين لا ينتمون إلى الأدفنتستيَّة، لكان تحوُّلي أمراً محفوفاً بالصعاب على نحوٍ أعظم.
في أثناء السنين الأربع التالية تولَّيتُ رعاية كنيستين، ونموتُ سريعاً في معرفة الكتاب المقدَّس، وتبيَّنت لي صعوبة التعامُل مع أناسٍ لا يخضعون لنظامٍ سُلطَويّ. وقد أُتيحت لي فُرَصٌ عديدة لتقديم شهادتي الشخصيَّة. وقام في قناعتي أنَّ الله "حسبني أميناً، إذ جعلني للخدمة" ولكن ليس كراعٍ.
وبعد كثيرٍ من الصلاة عقدتُ العزم على العودة إلى "سان دييغو"، حيثُ خدمتُ ككاهنِ رعيَّةٍ في ما مضى. فوعياً منّي لكون المجمع الفاتيكانيِّ الثاني قد سبَّب لكثيرٍ من الكاثوليك اضطراباً وخيبةَ أمل، شعرتُ بأنَّ الله يقودني إلى الانطلاق بخدمةٍ تُعاوِنُهم على التحوُّل عن الطائفة الكاثوليكيَّة. ولم يمضِ وقتٌ طويل حتَّى فتح لي الربُّ أبواباً للتكلُّم. وحين كان الناسُ يسألون عن هويَّة خدمتنا، كُنّا نجيبُهم بأنَّها شِبه إرساليَّة موجَّهة نحو الكاثوليك.
لمَّا نَمَونا روحيّاً، أنا وروث، اقتنعنا بمسكونيَّة الحركة الكارزماتيَّة فتركناها. في ذلك الحين تقريباً التقَيْنا بعض المُحافِظين الكتابيِّين الذين كانوا مؤمنين بمبادئ الكتاب المقدَّس وممارسين لها بأمانة. ومع أنَّ لنا أصدقاءَ كُثُراً في كنائس كتابيَّة مستقلَّة، فقدِ انتمَيْنا إلى كنيسة معمدانيَّة مُحافِظة، رُسِمتُ فيها خادماً أيضاً.
كانتِ "الإرساليَّة الدُّوَليَّة إلى الكاثوليك" قد أُنشيءت ومُنِحَت ترخيصاً كمؤسَّسةٍ غير هادفة للرِّبح. ومنذئذٍ وزّعت ملايين الكُرّاسات والكتب والأشرطة المسجَّلة التي تُفصِّل التناقُضات بين الكثلكة الرومانيَّة والكتاب المقدَِّس، وتُقدِّم الخلاص بمفهومه الكتابيِّ السليم. وتتوافر نشرة إخبارية شهريَّة لأيّ مُساهِم يطلبها. وقد دبَّر لنا الربُّ فُسحةً من البثِّ الإذاعيِّ والتلفزيونيّ، كما سرَّنا أن تُطبَع سيرتي الذاتيَّة "رحلَتي عن روما" وتلقى قبولاً واسعاً، بالانكليزية والاسبانيَّة معاً. وتيسَّر لنا أن نُقيم الاجتماعات ونُدخِلَ المطبوعاتِ في عدَّة بلدانٍ أجنبيَّة، وما برحَتِ الطلبات البريديَّة تُرسل على مدى خمسة أيام في الأُسبوع من مكتبِنا في منـزلنا بِسان دييغو.
إنَّّ الاجتماعات تشغلنا على مدى ثلاثة عشر أُسبوعاً بالسفر داخل الولايات المتَّحدة وخارجها. كما أنشأنا "مدرسة" لتبشير الكاثوليك" توفِّر أُسبوعاً أو أكثر من التدريب المكثَّف للخدّام والقادة الراغبين في توفير خدماتٍ متخصِّصة عبر كنائسهم للوصول على نحو فعّال إلى الكاثوليك المُحيطين بهم. كذلك يُشجَّع المرسَلون والكاثوليكُ سابقاً على الحُضور أيضاً (ولا سيّما الكهنة المولودون ثانيةً والراهباتُ سابقاً) ليتسنّى لهم أن يخدموا الربَّ والناسَ في إطارٍ كتابيٍّ مُحافِظ.
إنَّنا في "الإرساليَّة إلى الكاثوليك" مقتنعون بأنَّه ليس من المحبَّة في شيء أن يُحجَب الحقُّ عن الذين في الظلام. فالكاثوليك كغيرهم في حاجةٍ لأن يُحمَلوا على التفكير في ما يؤمنون به ويدرسوا الكتاب المقدَّس، مقارنين ديانتَهم بحقِّ الكلمة الإلهيَّة. وعندئذٍ فقط يتسنَّى لهم أن يختبروا الحريَّة والنُّور في رحاب حقِّ الله: "وتعرفون الحقَّ، والحقُّ يُحرِّركم" (يوحنّا 32:8).
(الكاهن المولود ثانيةً: بارثولوميو ف. ابْرُوَر)
- عدد الزيارات: 3683