كنتُ أعمى والآن أُبصر
شهادة شخصيَّة من الكاهن المولود ثانيةً
"خوسيه آي فِرْناندِز"
لقد وُلِدت أعمى، لا جسديّاً بل روحيّاً، عام 1899، في منطقة من المناطق الجبليَّة الوعرة في أستورياس، وهي تُدعى بحقّ "سويسرا الاسبانيَّة".
كان والداي كاثوليكيَّين تقيَّين لهما إيمان "عامل المنجم" الذي ذكرَتْه القدِّيسة تيريزا الأفياليَّة. ذلك أنَّهما كان يؤمنان إيماناً مطلقاً بكلِّ ما تؤمن به الكنيسة الكاثوليكيَّة وتعلِّمه. ففي الواقع أنَّهما كانا يملكان إيماناً أعمى نقلاه إلى أولادهما السبعة عشر. وعليه، فقد وُلِدتُ في بيتٍ اخترقت فيه الكثلكة قلب الفرد وعقله، بل جسدَه أيضاً، ورضع الطفلُ فيه مع حليب الأُمِّ المحبَّةَ والتعبُّد لمريم والقدِّيسين جميعاً: بيتٍ ما يلبث ذهنُ الولد فيه أن ينطبع بقِيَم المداليات والأوشِحة والسُّبْحات والإيقونات ونحوها، وكلمةُ الكاهن فيه قانونٌ يجب أن يُطاع.
وبقدْر ما تُسعِفُني الذاكرة، كان لديَّ ميلٌ قويٌّ إلى كلِّ ما يتعلَّق بالكنيسة والكاهن، وقد عُلِّمتُ ان أحترمَه ككائنٍ بشريٍّ متفوِّقٍ مجرَّدٍ من الحاجات والضعفات البشريَّة المألوفة. وقد كانت بهجتي القُصوى أن أخدم كصبيٍّ عند المذبح، معتبراً ذلك امتيازاً وشرفاً عظيماً، ولا سيَّما لاضطِراري إلى النهوض باكراً والمشي مسافةَ ثلاثة كيلومترات في الثلج وشعاب الجبال كي أُعاون الكاهن في القدّاس. حتّى إذا بلغتُ السابعة من العمر بتُّ قادراً على مجاوبة صلوات الكاهن باللاَّتينيِّ.
كانت الصلوات العائليَّة تُقام كلَّ ليلة بغير استِثناء، وقوامُها تلاوة السُّبحة وابتهالاتٌ متطأولة إلى جميع القدِّيسين، حيث تجتمع العائلة كلُّها، بما فيها الصِّغار، في المطبخ الذي كان بمثابة غرفة جلوسٍ أيضاً. جماعةٌ من المصلِّين لا بأس بهاّ! وما إن يسحب الوالد السُّبحة من جيبه، حتّى نخرّ جميعاً جاثين على الأرضيَّة الحجريَّة العارية، مستعدِّين للمِحنة التي كانت تدون ثُلثَي الساعة عادةً. وما كان أصعبَ تلاوة صلاة السُّبحة المؤلَّفة من "قانون الإيمان الرسولي"، و 53 "السلام عليك يا مريم"، وستّة "المجد لك" و خمسة "أبانا"، و "السلام أيتها الملكة المقدَّسة" مرّة واحدة، وابتهالات العذراء المباركة! إلاَّ أنَّ الأصعب من ذلك بعدُ كان ما يلي السُّبحة المعتادة من سلسلة صلوات تبدو بلا نهاية وتُرفَع إلى مختلف "العذارى" والملائكة والقدِّيسين المعروفين بشفاعتهم الخاصَّة وقدراتهم على الحماية في ظروف الحياة كلِّها وتقلُّباتها المختلفة.
وقد كان والدي على الخصوص رجلاً ذا إيمان أعمى بكلِّ ما تُعلِّمه الكنيسة. ولن أنسى أبداً يومَ الرابع عشر من آب (أُغسطس)، عشيَّة عيد صعود العذراء المباركة مريم، شفيعةِ القرية، وكان يومَ صومٍ وقِطاعة في الكنيسة الكاثوليكيَّة (حيث لا يُسمَح للمؤمنين بأكل اللحم أو ما طُبِخَ بلحم). في ذلك اليوم، إذ كان أبي يعمل في الحقل على بُعد ثلاثة كيلومترات من البيت، حملتُ إليه غداءَه في سلَّة. وحالما قعد ليأكل، لاحظ أنَّ الطعام كان طبيخاً بلحم، فلم يمسَّه، وظلَّ صائماً حتّى المساء. وقد قال لي: "كان عليَّ أن أشتري البُولا، ولكنَّها غالية". أمّا "البُولا" فهي وثيقةٌ تبيعها الكنيسة الكاثوليكيَّة في اسبانيا تُبيح لشاريها أكلَ اللحم في الأيام التي فيها تمنع الكنيسةُ أكله بمقتضى قانونها العامّ. وفي الواقع أنَّ أربع "بُولات" تُباع في اسبانيا: بُولا الصليبيَّة المقدَّسة (تمنح الشاري غفراناتٍ كثيرة)؛ وبُولا اللحم (تُبيح أكل اللحم في أيام معلومة)، وبُولا المُنشآت (تسمح لحائزها الاحتفاظ بأيِّ عَقار تمَّ الاستيلاء عليه بالاحتيال ولا يُعرَف مالكُه الشرعيّ) ثُمَّ بُولا الوفاة (لمصلحة المتوفَّين).
هذا، وقد تركَّزت حياتي الدينيَّة الباكرة على حَدَثٍ رئيسيٍّ واحد كلَّ سنة، هو مهرجان عذراء الفجر، تخليداً لذكرى صعود مريم إلى السماء، وذلك في الخامس عشر من آب (أُغسطس). وقد كانت سيَّدةُ الفجر شفيعة منطقتنا. فحسَبَ الأُسطورة، ظهرتِ العذراءُ لراعٍ في جبلٍ مجاورٍ اسمه "ألبا"، أي "الفجر". وشُيِّد مزارٌ في ذاك الموضع تكريماً لذلك الظُّهور. ثُمَّ بات يُقام كلَّ سنة مهرجانٌ يتخلَّله تمثيلٌ دينيّ وزِيّاح، حيث يتقاطر أُلوف الحُجّاج لزيارة ذلك المعبد مُقبِلين من أماكنَ قريبةٍ وبعيدة. وكانت تمثالُ العذراء، المُلبَسُ أفخرَ لِباس، يُحمَل في زيّاحٍ حول سفح الجبل، وسط إكبار المتعبِّدين الذين جاؤوا إمّا للصلاة وإمّا لتأدية التشكراًت على معجزاتٍ حصلت سابقاً. ولكلِّ منطقةٍ في اسبانيا، على الأقلِّ، واحدةٌ مثلُ هذه العذراء العجائبيَّة. ألا إنَّ عذراء "فاطمة" مُستَنسَخةٌ مئاتِ المرّات!
لئن كان اللاهوت الكاثوليكيّ يُميِّز بين التمثال والشخص الذي يُمثِّله، ففي الممارسة يظلُّ هذا التمييز ضرباً من الأوهام. فعلى الرُّغم من التعليم النظريِّ الذي تلقَّيتُه في دروس التعليم المسيحيّ، لم يقُم في ذهني أدنى شكٍّ بأنَّنا، أنا وأولئك الجبليِّين البُسطاء، كنّا نعبد التِّمثال نفسَه. وقد أُضفِيَت في مُعتقَدِنا على الناحية الملموسة من الشَّخص قوَّةٌ خارقة، لأنَّه لم يكن حتّى تمثالاً بالمعنى الدقيق. إذ كان قوامه بضع عصيٍّ رُتِّبت بحيثُ تبدوكهيكلٍ عظميّ، وقد زيدَ عليه وجهٌ نسائيّ. ثُمَّ أُلبِس ذلك "التمثال" حريراً وذهباً. وأذكُر أنِّي صُدِمتُ صدمةً كُبرى لمّا رأيت ذات يومٍ سيِّدات المذبح ينـزعن لباس التمثال، ولاحظتُ أنَّ عذراء أحلامي كانت مجرَّد دُمية كبيرة. صورةٌ ذهنيَّة لم تُفارِقْني منذئذٍ!
لمّا لاحظ كاهن الأبرشيَّة ميولي الدينيَّة، طالعني بفكرة الدراسة لأصير كاهناً. وإذ وجَّهني رأي المُجِلُّ لتلك الوظيفة، امتثلْتُ نصيحتَه حالاً؛ الأمرُ الذي أفرح كثيراً أبي المتديِّن جدّاً، وإن روَّع أُمِّي المتديِّنة مثلَه، وقد عارضتِ الفكرة بوحيٍ من غريزة أمومتِها ومحبَّتها لي.
راهبٌ ثُمّ كاهن
في الثانيةَ عشرةَ من عُمري، غادرتُ بيتي وأبي وأُمِّي وإخوتي وأخواتي، على ألاَّ أراهم مرّةً أُخرى. فإنَّ بهاء الحياة الكهنوتيَّة، وضُروب السِّحر المنوطة بالدَّير، وخلاصَ نفسي، مرتسمةً على آفاقِ ذهني، دحرتِ الحُزنَ الطبيعيَّ الذي غمرني لمّا غادرتُ أُسرتي ومرابع طفولتي.
أُرسِلتُ إلى ثانويَّة تقع في مقاطعة "فالاّدوليد"، يديرها كهنةٌ تابعون للرهبنة الدومنيكانيَّة وتُعنى بتدريب الصِّبية الذين يُخصِّصهم آباؤهم للكهنوت. وفي أثناء السنوات الأربع التي قضيتُها هناك، لم أدرسْ فقطِ الموادَّ التي تُدرَّس في جميع الثانويّات، بل أصبحت أيضاً متضلِّعاً من التعليم المسيحيِّ الكاثوليكي. هنالك أحكمتِ الكثلكةُ قبضتَها عليَّ جسداً وروحاً؛ وهنالك زُرِعَت بذور التعصُّب في نفسي، إذ إنَّ التعليمَ الدينيَّ الذي تلقيَّتُه أصرَّ على أنَّه ليس ليسوع المسيح إلاَّ كنيسةٌ واحدة حقيقيَّة فقط، هي "الكنيسةُ المقدَّسة الكاثوليكيَّة الرسوليَّة". وهنالك صُوِّر الله لذهني الغضِّ قاضياً مستعداً لمجازاتنا حسب أعمالنا، إلَهاً غضوباً تسترضيه الأعمال الصالحة وفروض التوبة والإماتة.
وفي وسع المرء أن يعي جيداً القبضةَ التي بها تأسرُ الكنيسةُ الكاثوليكيَّةُ نفسَ كلِّ اسبانيّ، ولا سيَّما المرشِّحين للكهنوت، إذا كان قد تربّى منذ الولوديَّة في جوٍّ مثلِ هذا تسودُ فيه أفكارٌ كتِلك. ولعلَّ في هذا أيضاًحاً للسبب الذي دفعَ في القرون الماضية أهلَ اسبانيا، وطني الأصليِّ، إلى إحراق البروتستانت مربوطين بعمود، وإلى اضطهاداتهم في الزمن الحاضر.
كانت سِيرتي، في السنتين الأوليين من تدريـبي، سيرةً مثاليَّة في مراعاتي كلَّ قاعدة، وفي عكوفي على دروسي؛ وقد كوفئت في بضع مناسبات بمكافآتٍ خاصَّة.
من تلك المدرسة "الرسوليَّة" أُرسِلتُ إلى موطن التَّرهبُن الدومنيكانيِّ في "أفيلا". وفي دير "سانتو توماس" الشهير أُلبسِتُ الزيَّ الأسود والأبيض الخاصَّ بالرهبنة الدومنيكانيَّة وأنا في السادسة عشرة، حيثُ خُصِّصت سنةٌ كاملة لدراسة قانون الرهبنة ودستورها دراسةً مكثَّفة، ولتطبيقهما تطبيقاً صارماً، والابتهالِ للعذراء، وإتمام فروض الدين اليوميَّة، تحتَ الرعاية الدائمة والحازمة من قِبَل رئيس المترهبِنين. وقد كانت تلك سنةَ اختبار وامتحانٍ صارِمَين لا يقوى على احتمالها إلاَّ ذوو الشخصيّات الأشدِّ صلابةً. وكان الصَّوم مفروضاً من 14 أيلول (سبتمبر) حتّى الفصح. كما كان البريد، الواردُ والصادرُ، يخضع لرقابة الرئيس المشدَّدة. وكلُّ اتِّصالٍ بالعالَمِ الخارجيِّ كان ممنوعاً. ولم يكُن يُسمَح بمحادثةِ الكاهن ورُهبان الدير المثبَّتين، ولا بالتواصُل معهم. وكان الاعتراف السريُّ إجباريّاً كلَّ أُسبوع، يومَ السبت عموماً، يؤدَّى لرئيس المترهبِنين عينِه، وقد كان في الوقت ذاته رئيسَنا وناظرَنا الدائم.
وليس من الصعب أن يتصوَّر المرء الاضطراب والعذاب الذهنيَّ اللذين أنـزلَتْهما بالمترهبِنين تلك الممارسةُ القاسيةُ، حتّى إنَّنا كنّا نرتعب من اقتراب يوم السبت. غير أنَّ الحلم والوعد بأن أصير ذات يومٍ راهباً كاملَ الرُّتبة أمدّاني بالشجاعة اللازمة كي احتمل وأُكمِّل بنجاحٍ تلك السنةَ المخصَّصة للاختبار الصارم ونكران الذات الكليّ.
ثمَّ حلّ يومُ التحرُّرِ الجزئيِّ في الثامن من أيلول (سبتمبر) 1917، عيدِ مولد مريم العذراء، يومَ أدليتُ باعترافي عضواً في الرهبنة الدومنيكانيَّة. أما السنوات الأربع التالية فقد قضيتُها في "كليَّة سانتو توماس" المجاوِرة لبيت المترهبنين.
منذُ غادرتُ البيت وأنا في الثانيةَ عشرة حتّى تخرُّجي في الكليَّة وأنا في الحادية والعشرين، لم أُكلِّمِ امرأةً واحدة. فقد صُوِّرت المرأة لأذهاننا الفتيَّة كشيء شرّير، وفي عدّة مناسبات روى لنا معلِّمونا الدينيُّون قصصاً عن قدِّيسين لم يتطلَّعوا قطُّ إلى وجوه أُمّهاتهم، مُبرِزين ذلك باعتباره مثالاً في العفَّة علينا احتذاؤه.
وفي أعقاب سني الكليَّة الأربع، رُتِّب لسبعة عشر منّا، نحن طلاّبَ اللاهوت، أن نسافر إلى الولايات المتَّحدة الأميركيَّة لدرس اللاهوت وتعلُّم الإنكليزية. وهكذا سِرنا في شوارع مدريد، لابسينَ الزيَّ الاكليركيَّ الذي يرتديه الكهنة الكاثوليك الأميركيُّون، وأول مرّة منذ تسع سنين رأىنا بعيوننا الأوانسَ الاسبانيّاتِ الفاتنات، فكانت وجوهُنا الغضَّة تحمرُّ كُلَّما تلاقت عيونُنا بعيني فتاةٍ شابَّة. وبينما نحن نسير في الشوارع، كان الناس يتوقَّفون لينظروا ثانيةً إلينا في لِباسنا الغريب، هامسينَ لأنفُسهم: "هؤلاء همُ الكهنة الذين يتزوّجون،" وهي ملاحظةٌ ساخرة تُطلَق في اسبانيا على قسوس البروتستانت.
كان عمري إحدى وعشرين سنة، وما سبق لي أن عرفتُ ولا التقيتُ أحداً من غير الكاثوليك، لأنَّ كلَّ إنسان في اسبانيا آنذاك كان يُجاهِر بأنَّه كاثوليكيّ. وكنتُ قد قرأتُ وسمعتُ عن البروتستانت، إلاَّ أنَّه لم يكن في وسعي أن أُصدِّق أنَّ أُناساً كهؤلاء يمكن أن يوجَدوا حقاً. فأول مرة أُتيح لي فيها أن أقابل شخصاً من غير الكاثوليك كانت خلال إبحارنا من اسبانيا إلى أميركا. فقد كان على متن السفينة رجلٌ أميركيٌّ أمضى بضع سنين في اسبانيا، وكان راجعاً إلى الولايات المتّحدة بصحبة ابنته الفاتنة ذات السبعة عشر ربيعاً، وكانت تتكلَّم الاسبانيَّة بطلاقة.
ولمّا كانتِ الطبيعة البشريَّة هي إيّاها في الدير أيضاً. وبينما كان ثلاثةٌ منّا نُحادِثُ تلك الفتاة، صُعِقنا إذ اكتشفنا أنَّها بروتستنتيَّة. فدفعتنا حماستُنا المتوقِّدة، لكنْ غيرُ المتبصِّرة، للعمل حالاً على تطبيق كلِّ ما تعلَّمناه، مجرِّبين أن نهديَها من البروتستانتيَّة إلى الكاثوليكيَّة. وكان أول موضوع تطرَّقْنا إليه هو الحديث عن العذراء المباركة مريم.
سِألناها: "ألا تؤمنين بالعذراء المباركة مريم؟"
فأجابت: "بَلى، ولكنْ ليس كما تؤمنون أنتم بها".
فهالَنا جوابُها الناجز، وأردفْنا: "أما تعرفين أنَّ على الإنسان أن يُصلِّي إلى مريم حتّى يخلص؟".
"لا، لستُ أعرف". هذا كان جوابُها السريع والمقتضب.
أخيراً قُلنا لها متهِّورين يأساً: "أما تعلمين أنَّ الفتيات مثلك يجب أن يُصلِّين إلى مريم العذراء لتحمي عذراويَّتهن؟"
فأخذت تبكي، وصعدتِ الدرجَ ركضاً، وأخبرت أباها. وبعد دقيقتين نـزل الأبُ على الدرج وبيده مسدَّسٌ جاهِزٌ لإطلاق النّار علينا. ولولا تدخُّل ربّان السفينة، لكان استعمل مسدَّسه.
كان ذلك أول جهدٍ تبشيريٍّ بذلتُه، ومنذُئذٍ وأنا أخشى البروتستانت!
أمضيتُ ثلاث سنين في "كليَّة اللاهوت الدومنيكانيَّة" في "لويزيانا"، وبعضَ الوقت في "جامعة نوتردام". وبُعيد سيامتي كاهناً في 1924، أرسلت للمساعدة في رعاية واحدةٍ من أكبر الكنائس الكاثوليكية في "نيو أورليَنـز" بلويزيانا. وشغلتُ تلك الوظيفة على مدى تسع سنوات. ثمَّ عُيِّنتُ راعياً للكنيسة عينها عام 1932، ولي من العمر اثنتان وثلاثون سنةً فقط. وطيلة ستِّ سنوات في الرعاية، عملتُ بلا كلل وبغيرةٍ كثيرة، والحقُّ يقال: بنجاحٍ كبير أيضاً. حتّى إنَّ الكنيسة نمَت في عضويَّتها، وازدادت أعداد حضور الخدمات الدينيَّة ومتقبلِّي اٍلأسرار الكنسيَّة، وتضاعف الدَّخلُ الماديّ. وعندما عُيِّنتُ راعياً، كان في مدرسة الأبرشيَّة نحو 450 تلميذاً؛ لكنَّ العدد بعد سنتين ارتفع حتّى جاوز الألف. وقد يسَّرتُ لمئات التلاميذ الفقراء أن يتلقَّوا تعليماً دينيّاً مجانيّاً.
نفسٌ تائبة
في أثناء سنواتي الأخيرة في الرعاية، بدأتُ أشكُّ في صحَّة بعضٍ من تعاليم الكنيسة الكاثوليكيَّة. وأول ما شككتُ فيه ورفضتُه هو سلطان الكاهن على مغفرة الخطايا في الاعتراف. وبالمِثل، لم أستطع حمْل نفسي على الإيمان بعقيدة الاستحالة، أي حضور المسيح في الخبز والكأس حضوراً ماديّاً فعلياً.
وراح إيماني بالكنيسة الكاثوليكيَّة يضعف. ثمّ شعرتُ أنّي غير قادرٍ بعدُ على أن أبقى مُرائياً، وأخذتُ انظر في فكرة تَركي الكهنوت. ومرّةً أخرى تدخَّل الله فيسَّر فرصةً مؤاتية، مستخدماً آنيةً بشريَّة. وكان الإناءُ هذه المرَّة هو الرئيسَ العامَّ للرهبانيَّة الدومنيكانيَّة، وقد أصدَرَ أمراً يقضي بأن يُغادر الكهنةُ الدومنيكانيُّون الاسبانيُّون العاملون في "لويزيانا" كنائسَهم ويُسلِّموها للدومنيكانيِّين الأميريكيِّين، على أن يرجع بعضُهم إلى اسبانيا ويذهبَ بعضُهم إلى الفيليبِّين.
ومن ثَمَّ فكّرتُ في مغادرة الأبرشيَّة بغير اعتِراض، وأنا أشعر أنَّ يد الله وراء هذا التحوُّل الجديد في مجرى الأحداث. غير أنِّي رفضتُ مغادرة بلدي الثاني الذي تعلَّمتُ أن أُحِبَّه. فتركتُ الكهنوت ومضيتُ في السبيل المُفضي إلى حمأة الخطيَّة. ولكنَّ الله تحنَّن عليَّ في مكانٍ ما على ذلك السبيل فأنقذني من نهايةٍ مأساويّة. وعلى مدى سنةٍ ونصف اعتمل داخل نفسي صراعٌ رهيب، حتَّى راودتني حيناً تجربةُ التحوُّل عن الله وكلِّ ما هو مقدَّس. إلاَّّ أنَّني حينذاك تذكَّرتُ الكلمات التي صدرت من صميم قلب بطرس: "يا ربُّ، إلى من نذهب؟ كلامُ الحياة الأبدية عندك!"
ما كان العالم، بمباهجه ومغرياته كلِّها، ليملأ فراغ نفسي. وبعد محاولتي عبثاً وجدان السعادة في أمور العالم، واستيقاظ رغبتي في خلاص نفسي، سلكتُ الطريقَ المفضية إلى ديرٍ في "فلوريدا". كان قصدي أن أتكرَّس لِلّه في عزلة حياة الرهبنة، دافِناً نفسي داخلَ الأسوار الأربعة المحيطة بتلك الصومعة المقدَّسة، كي أعملَ في سبيل خلاص نفسي وأُحرِزَه. ففي خلوة الدَّير، على ما خُيِّل إليَّ، لا بُدَّ أن يؤتيني الله ما كنتُ أصبو إليه من يقينٍ بالخلاص وسعادة النفس. ذلك كان مَقصدي، ولكنْ كان لدى الله مقصَدٌ آخر من جهتي. ومنذئذٍ فما بعد توضَّحت لي قيادةُ يد الله لحياتي. ففي الدير تعرَّفتُ بالمسيحيَّة الإنجيليَّة. ذلك أنِّي عملتُ زمناً في مكتبة الدير، وكان فيها خزانة خاصَّة مكتوبٌ عليها: "كُتبٌ محظورة". فدفعني الفضول، حتّى أخذتُ المفتاح ذاتَ يوم، فرأيت ستّة كُتب أو سبعة. ثُمَّ عكفتُ على قراءتها، كتاباً كتاباً. وقد كانت تلك كُتباً دينيَّة تتناول البيِّنات المناقِضة لزعم الكثلكة أنَّها كنيسة يسوع المسيح الحقيقيَّة.
وفي موازاة ذلك، عكفتُ على قراءة الكِتاب المقدَّس. وقبلَ ذلك لم يكُنِ الكتابُ المقدَّس يعني لي الكثيرَ شخصيّاً. كنتُ اعتبرهُ بالحقيقة كلمة الله الموحي بها، ولكنْ قيل لي إنَّ الذِّهن العاديَّ غير قادرٍ على فهم معناه الحقيقيّ. وقام في إعتقادي أنَّه لا بُدَّ من ذهنٍ فائقٍ للعادة ذي سلطةٍ معصومة لإعطائنا المعنى الذي كان في فكر الروح القدس عندما أوحي بالكلمة إلى كتَبَة الوحي. ومن هنا آثرْتُ قراءة كلمة الله مثلَما تفهمها هذه السلطةُ المعصومة، ومثلَما هي موجودةٌ في كُتب القداديس والصلوات الكاثوليكيَّة. على أنَّ قراءتي للكتاب المقدَّس بالذات أصبحت بالتدريج مصدر عزاء وإلهامٍ لي في عزلة الدير، وبدأتُ أفهم المعنى الصحيح لمقاطعَ مِن الكتاب لم أكُن أوليها في ما مضى أيَّ انتباهٍ خاصّ. وقد تأثرتُ خصوصاً بالآيات التالية، حينما قرأتُها في ترجمة "دُوَاي" الكاثوليكيَّة:
1تيموثاوس 5:2و6: "لأنَّ الله واحد، والوسيط بين الله والناس واحد، وهو الإنسان يسوع المسيح الذي بذل نفسه فداءً عن الجميع. وهذه شهادةٌ في آونِتها".
أفسس 24:6: "النعمة مع جميع الذين يحبُّون ربَّنا يسوع المسيح حُبّاً لا فساد فيه".
أعمال الرسل 31:16: "آمِن بالربِّ يسوع، فتخلصَ أنت وأهل بيتك".
1تيموثاوس 1:4-3: "والروح يقول صريحاً إنَّ قوماً يرتدُّون عن الإيمان، في الأزمنة الأخيرة... ويمنعون عن الزواج، وعن أكل أطعمةٍ خلقها الله ليتناولها بشكرٍ كلُّ مَن آمن وعرف الحقّ".
عندئذٍ زُرِعت بذرة كلمة الله في بستان نفسي. صحيحٌ أنِّي حاولتُ أن أخنقها، ولكنَّها -على صغرها- نَمت في ما بعد وأنتجت ثمراً في حينه.
وبينما أنا أُعلِّم الرهبانَ الشبّان تاريخَ الكنيسة، تعرَّفت بفساد الكنيسة الكاثوليكيَّة، سواءٌ في العقيدة أو الممارسة، وداخلَ قلبي شعورٌ بالإعجاب تجاه رُوّاد الإصلاح الشجعان.
ولكنَّني، بعد قضاء سنتين في ذلك الدير، لم أكُن قد بلغتُ سلامَ الذِّهن ولا سعادة النفس اللتين كنتُ أَنشدهما. فماذا عساني أفعل؟
جنديٌّ أميركيّ
لمّا لم أكُن راغباً في الاستمرار بالعيش في ذلك المحيط، ومتشوِّقاً إلى خدمة الإنسانيَّة بطريقةٍ نافعة، وعلماً منِّي بأنَّ وطني الثاني يخوض الحرب، قُمتُ بأشرف عملٍ بدا لي، فتطوَّعتُ في الجيش الأميركيّ جنديّاً عاديّاً. وبالحقيقة أنَّ العناية الإلهيَّة تولَّت إرشادي. حتّى ليُمكِنُ أن تُكتَب كُتبٌ كاملة عن اختباراتي في الحياة العسكريَّة، في سِنِّي وبخلفيَّتي، بصفتي نَفَراً في زمن الحرب.
إنَّ الجيش مؤسَّسة رائعة، وأنا مسرورٌ بالخبرة الغنيَّة التي تأتَّت لي في غضون السنين الثلاث التي قضيتُها في الجُنديَّة. وأسوأُ ما لقيتُه في الجيش كان على أيدي الرُّقباء والعُرَفاء الصِّغار الذين كانوا يتواجدون غالباً في خدمة الضُبّاط، والذين خوَّلوا أنفسَهم سلطةً جعلتهم يعتبرون أنفسَهم نُسَخاً عن هتلر وموسوليني، بل عن توجو أيضاً، فحوّلوا حياة الأنفار جحيماً.
وبعد انتهاء فترة التدريب الأساسيّ، أُرسلت إلى مركز التدريب الخاصّ بالاستخبارات العسكريَّة في "معسكَر ريتشي" بماريلاند. وكان الذين يُختارون لحضور معهد الاستخبارات ذاك من ذوي الثقافة العالية. وقد كان علينا أن نتلقَّى الأوامر من عُرَفاء ورُقبَاء، ربَّما أمضَوا القسم الأكبر من حياتهم المدنيّة وهم يكنسون الطرقات ويغسلون الصحاف، ولكنْ كان في وسعهم أن يستخدموا لغةً فظَّة، وكُلَّما كانت الكلماتُ أقسى باتتِ الترقياتُ أوفر. على أنِّي أشكر الله من أجل أولئك الرجال، لأنَّهم أعدُّوني لخدمتي المسيحيَّة المُقبِلة، إذ علَّموني الاتِّضاع والطاعة والانضباط و"الديمقراطيَّة الروحيَّة".
أضِف أنَّني فُصِلتُ حيناً إلى مكتب قسِّيس الجيش. وكان القسِّيس خادماً تابعاً للكنيسة الهولنديَّة المُصلَحة، متوقِّدَ الذكاء، ذهبيَّ القلب. أما اسمه فهو القسِّيس (الرائد) "هِرمان جاي اكْريغل"؛ وكان بعد خدمته ثلاثةَ أعوام بصفة قِسِّيسِ فرقة مع قوّات الاحتلال في اليابان قد عُيِّن قِسِّيسَ معسكر بالكليَّة العكسرية في "وَسْت بُوينْت". وكم راقني أن اسمع عظاته صبيحةَ الأحد، إذ كان متكلِّماً بارعاً ومشوِّقاً. وعلى هَدي مثاله، باتَ قلبي أسيرَ قُدوَتِه في التصرُّف والمحبَّة والتضحية وانفتاح الذهن والطَّبَعيَّة، فيما كان عقلي يتفاعل على نحوٍ محبَّب مع تفسيراته الوافية والصافية للقضايا العقائديَّة الشائكة. إذ ذاك تبيَّن لي، أول مرّة، أنَّ الخادمَ البروتستانتيَّ قد يكون سعيداً وصادقاً في إيمانه وعمله.
ليس اكتسابُ دخلاءَ من أتباع المذاهِب الأخرى، على يد القِسِّيس، بالممارسة المألوفة في الجيش الأميركي، على خلاف ما يجري في أماكنَ أُخرى. من هنا كانت العلائقُ بيني وبين القسِّيس البروتستانتي علائق وديَّة بمقتضى العلاقة المُعتادة بين قسِّيس الجيش والجنود، ليس غير. وهو لم يُبدِ أيَّ اعتراضٍ حيال حضوري خدمات بروتستنتيَّة. أفليس حقُّ العبادة أينما ومتى شاء المرءُ إحدى القضايا التي كُنّا نحارب في سبيلها؟
وذاتَ أحدٍ تكلَّم القسِّيس عن الخلاص بالإيمان وحده، مركِّزاً حججه خصوصاً على كتابات الرسول بولس. وكنتُ ذلك الحين قد تخلَّيتُ عمليّاً عن كلِّ تعليم وممارسة تمّيزت بهما الكنيسةُ الكاثوليكيَّة، إلاَّ أنَّني كنت ما أزال متشبِّثاً بعقيدة الخلاص بالأعمال. وبعد الخدمة قصدتُ إلى مكتبِه وأطلعتُه على فِكري بخصوص عباراته "الهرطقيَّة". فإذ تسلَّحت بالآية الواردة في يعقوب 24:2 "تَرون إذا أنَّه بالأعمال يتبَّرر الإنسان، لا بالإيمان وحده"، قُلتُ له بعنادٍ وجهل: "إن كان ما قلتَه صحيحاً، يكون يعقوب على خطأ؛ وإن كان يعقوب على حقّ، فأنت وبولس على ضلال. وإلاَّ، فعليك الإقرارُ بأنَّ في الكتاب المقدَّس تناقضاً". ولكنَّه طلب إليَّ أن أُهوِّن عليَّ الأمر، ودعاني إلى الجلوس، وقد رانت على وجهه بسمةُ إشفاق. ثمَّ بطريقةٍ هادئةٍ ومتواضعة ومتأنِّقة، ونبراتُ صوته تنضح بالغَيرة على المصحلة الروحيَّة لهذا الجنديِّ الذي شكَّك في آرائه اللاهوتيَّة، مضى يقول شارحاً:
"يا عزيزي خوسيه، لا يُعقَل أن يكون في الكتاب المقدَّس تناقُض، لأنَّ مؤلِّفه الواحد هو الروح القدس، والروح لا يُناقِض ذاته". وفي هذا كنتُ أوافقه كليّاً بطبيعة الحال.
ثُمَّ أردف: "عندما يقول بولس إنَّ الخلاص بالإيمان وحده، يتكلَّم من وجهة نظر الله العليم بأفكارنا والخبير بقلوبنا. ففي ما خصَّ الله، نخلصُ لحظةَ نؤمن. غير أن هذه الإيمان، كما أرجو أن تعلم، هو إيمان ثقة، وليس مجرَّد قبولٍ عقليٍّ لبضع تصريحات عقائديَّة". ولم يكن قد سبق لي أن سمعتُ تعريفاً للإيمان مثلَ ذلك.
ومضى القسِّيس يقول: "وفي المقابِل، حين يقولُ يعقوب إنَّ التبرير بالأعمال أيضاً، فإنَّما يتكلَّم من وجهة نظر البشر الذين يعجزون عن قراءة أفكارنا ورؤية قلوبنا ولذلك ينبغي أن يكون لهم شيءٌ ملموس ومرئيٌّ ليحكموا به على كوننا مخلَّصين أو غير مخلَّصين. ففي ما يخصُّ الناس، نكون مخلَّصين إذا أنتجنا أعمالاً صالحة، لأنْ "من ثمارهم تعرفونهم" (متّى 16:7). ولكنَّ الأعمال الصالحة ليست هي أصل الخلاص بل نتيجتُه.
كان هذا التفسير فريداً ما سمعتُ مثلَه من قبل. وفي الحال وافقتُ عليه، فانتُزِع منِّي آخِرُ حاجز عقليّ. وهكذا صرتُ مؤمناً عقلانيّاً، ووعدتُ الربَّ بأن أُكِّرس ذاتي، بعد تسريحي من الجيش، للخدمة البروتستانتيَّة. ولكنِّي لم أكُن حتى ذلك الحين مؤهّلاً لتلك الخدمة. فالتحُّول، أو الولادة الثانية، ينبغي أن يشتمل على حدوث تغيير لا في الذهن فقط، بل في القلب قبل كلِّ شيء. ذلك أنِّي بتُّ أُومن بكلِّ حقيقة أساسيَّة من حقائق الكتاب المقدَّس، ولكنَّني لم أكن قد سلَّمتُ المسيحَ قلبي.
وفي أثناء أحد غياباتي عن المعسكر في مهمَّة وقتيَّة، زارني ممثِّلٌ للقاصد الرسولي (على عادة النظام الفاتيكاني في تفقُّد رجاله) وأشار عليَّ بالعودة إلى ديرٍ مدَّةً من الزمن تكفيراً عن ذنبي، وبعدئذٍ تُسنَد إليَّ أبرشيَّةٌ جديدة. على أنَّ عجلات روما كانت تدور ببطءٍ شديد جدّاً. فقدِ اختمرت في ذهني، منذ إلحاقي بمكتب القِسِّيس، شكوكٌ وأسئلة كثيرةٌ جدّاً لا أجوبةَ عنها لدى روما...
خاطئ مخلَّص بالنعمة
واظبتُ على الصلاة طلباً للنور، وعلى الدرس التماساً للمعرفة، وكنتُ في أيام فراغي أزور مختلف الكنائس في "ماريلاند" و"بنسلفانيا" لأجدَ أيَّةُ واحدةٍ منها تروقُني أكثرَ الكلِّ على أُسسٍ كتابيَّة. وفي أثناء إحدى جولاتي على كنائس "بلطيمور"، التقيتُ المرأةَ التي صارت شريكة حياتي لاحقاً، وهي أختٌ فاضلة تقيَّة من الرعيَّة المعمدانيَّة، ذاتُ شخصيّةٍ جذّابة، وروحِ مَرَحٍ محبَّبة، وقلبٍ مسيحيٍّ نقيّ. وقد آلت فترة خطبتنا القصيرة إلى زواجٍ سعيد جدّاً أجراه قِسِّيسٌ معمدانيٌّ في كنيسةٍ معمدانيَّة. ومنذئذٍ وأنا أُحبُّ المعمدانيين! غير أنَّ اختباريَ الأعظم لم تستطع أن تهبَني إيّاه تلك الزوجةُ الفاضلة، بل إنَّ الربَّ الرحيم كان مزمعاً أن يؤتيَني إيّاه بعد مرور ستَّة أشهر على زواجنا.
في خريف 1944 عُيِّنتُ مترجماً للضبّاط الأميركيِّين الجنوبيِّين الذين يدرسون العلوم العسكريَّة في كليَّة سِلاح الفُرسان، في "فورت رأىلي" بولاية "كَنساس". وبينَما كنتُ أقوم بالاستطلاع العسكري، انهمكتُ أيضاً في الاستطلاع الروحيّ. ففي تلك الفترة كنتُ أبحث عن الحقّ. وعشيَّة ذات سبت حضرتُ خدمةً في الهواء الطَّلق عند زاوية أحد الشوارع في "جَنكشِنْ سِيتي" بكنساس، كان يقيمُها متطوِّعو "جيش الخلاص". وكان موقفي من ذلك الاجتماع في بادئ الأمر موقفَ لامبالاة، بلِ ازدراء. ولكنْ بينما تقدَّم الاجتماع، أخذَتْ قوّةٌ فائقةٌ تدفعني إلى الإصغاء بانتباه. وبالحقيقة أنّ جهدي هذا كوفئ بالخير.
قدَّمتِ الرسالةَ شابَّةٌ ترتدي زيَّ جيش الخلاص، وكانت رسالةً جميلةً مؤثِّرة أنهَتها المتكلِّمةُ بدعوةِ الواقفين هناك إلى تسليم المسيح قلوبَهم. ثُمَّ اقتبست كلمات المسيح المدوّنة في يوحنّا 24:5: "الحقَّ الحقَّ أقول لكم: إنَّ من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية، ولا يأتي إلى دينونة، بل قدِ انتقل من الموت إلى الحياة".
في تلك اللحظة شعرتُ بأنِّي أنتقل من الموت إلى الحياة، وتحت تأثير قوَّة خارقة جثَوتُ على ركبتيَّ، واعترفتُ بالمسيح ربّاً على حياتي وقبلته مخلصاً شخصيّاً لي. أمّا ماذا حدث، وكيف حدث، فلا أستطيع أن أقول. بل كلُّ ما يسعني قوله هو أن أُردِّد صدى ما قاله أعمى إنجيل يوحنّا: "كنتُ أعمى، والآن أُبصِر!"
إزاء الحياةِ المُغيَّرة، لا يُمكِن إنكارُ قوّة الروح القدس. فقد حدث في حياتي أمرٌ محقَّق، وما عُدتُ أنا الرجُلَ نفسه. إذ أُحِبُّ ما كنت أكرهه، وأكرهُ ما كنتُ أُحبُّه. وقد يبدو هذا حماقةً في نظر الرجل والمرأة غير المتجدِّدَين، لأنَّ "الإنسان الطبيعيَّ لا يقبل ما لروح الله، لأنَّه عنده جهالةٌ، ولا يقدر أن يعرفه لأنَّه إنّما يُحكم فيه روحيّاً" (1كورنثوس 14:2).
وما برحَت حياتي منذئذٍ شهادةً علنيَّة لقوَّة الروح القدس المغيِّرة والمُجدِّدة، فما أنا إلاّ خاطئٌ مخلَّصٌ بالنِّعمة.
مرَّةً أُخرى، في سبيل اليقين
منذ أن صرتُ مؤمناً في عقلي، قبل ستّة أشهر من اختباري الولادة الثانية على نحوٍ مجيد،كثيراً ما هاجَمتني الشكوك والمخاوف، حتّى غدت أحلامي كوابيس. ولكنْ حالما صرت مؤمناً بالقلب وطرحتُ نفسي كليّاً بين ذراعَي المخلِّص المصلوب المفتوحتَين، لم أختبر سوى السلام والسكينة واليقين الكامل الذي يحوزه المتِّكِلون على الربِّ يسوع. حقاً لقد بدأتِ الحياةُ عندي في الرابعة والأربعين من العمر!
خادمٌ للإنجيل
"ابْلُو رِدْج صَمِّت" مُنتجَعٌ صيفيٌّ يقع في سلسلة الجبال الفاصلة بين "ماريلاند" و"بنسلفانيا"، على بُعد ثلاثة وعشرين كلمً عن "غتِّيسبرغ" وأقلَّ من كيلومتر واحد عن معسكر "ريتشي"، قاعدتي العسكرية الدائمة.
وبُعَيدَ زواجنا سكنتُ وزوجتي في تلك المنطقة، حيث كانت الكنيسةُ المشيخيَّة أكثر انتِشاراً من سواها. وكان راعي الكنيسة في تلك المحلَّة هو القِسِّيس "سي بي مُويسْكِنـز"، وقد كان زميلاً في الكليَّة للقِسِّيس "اكُرِيغِل"، وكان مثلَه خادماً تابعاً للكنيسة الهولنديَّة المُصلَحة. فإذ واظبنا على حضور اجتماعات الكنيسة التي يتولّى مويسكنـز رعايتَها، تعرَّفْنا بمزاياه الممتازة راعياً وواعظاً؛ وبزيارتنا له في منـزله انطَبعْنا بحياة عائلته المسيحيَّة. فهو لم يترك ديانته على المنبر، بل أخذها معه إلى البيت. وفيه وجدتُ ما أعوزني من إلهامٍ وتوجيه وتشجيع خلال تلك الفترة الانتقاليَّة، من الجنديَّة إلى خدمة الإنجيل.
وما إن شرعتُ في تلقِّي توجيهاته، حتَّى كُلِّفتُ خدمةً مستقلَّة في "فورت رأىلي". وعند رجوعي بعد أربعة أشهر، كنتُ أسعدَ إنسان على وجه الأرض، إذ كان في حوزتي أمران عظيمان: المسيحُ في قلبي، وتنويهٌ من قائد كليَّة سِلاح الفُرسان.
وفي الرابع عشر من نيسان (أبريل) 1945 رُسِمتُ قسِّيساً مشيخيّاً "بكنيسة هأولي المشيخيَّة التذكاريَّة" في "ابْلو رِدْج صَمِّت"، وكنتُ ما أزال في الجيش. وبعد شهرين أُعطِيتُ تلك الورقةَ التي طالما انتظرتُها بشوقٍ زائد: شهادة تسريح من جيش الولايات المتَّحدة الأميركيَّة تشرَّفتُ بها!
في خريف تلك السنة دخلتُ معهد "ابْرِنستُن" اللاهوتيّ، حيث أعددتُ وحُزتُ درجةَ ماجستير في اللاهوت. وما من شكٍّ في أنَّ تلك السنة التي قضيتُها في ابْرنْستُن كانت أسعدَ سِني حياتي. فهنالك توافر لي الانتعاش الروحيُّ والنُّضج الفكريّ والاختبار الدينيُّ العميق. وقد كانت تلك الفترة بالنسبة إليَّ بمثابة "العربيَّة" في حياة الرسول بولس. ففضلاً عن جمال المحيط الطبيعيّ، تأثَّرتُ على نحوٍ خاصٍّ بسلامة العقيدة لدى أساتذتي، وبالحياة المشرقة وحريَّة الروح اللتين ميَّزتا أولئك الشبّانَ والشابّاتِ الذين كرَّسوا كاملَ وقتهم للخدمة المسيحيَّة. فحينَ قارنتُ أحوالي هُناك بما خبرتُه في أثناء الأيام الأولى من حياة الرهبنة، وجدتُ الفرق هائلاً، إذ حلَّتِ المحبَّةُ والفرح وحريَّةُ أولاد الله محلَّ الخوف والوسوسة والنظام الصارم.
شاهدٌ للربّ
أمَا، وقد شهدْتُ آنِفاً لقوَّة يسوع المسيح المخلَّصة، يليقُ الآنَ أن أتحوَّل إلى الكلام عمّا تعنيه لي الحياةُ المسيحيَّةُ الحقيقية، وفي هذا شهادةٌ لحيويَّة المسيحيَّة الإنجيليَّة وديناميَّتها.
إنَّ المسيحيَّة الإنجيليَّة، في شكلها التاريخيَّ القويم العقيدة، تُمثِّل عندي تجسيداً للإيمان المسيحيِّ الحقيقيّ. وما المسيحيَّةُ عندي سوى حياةٍ يعيشها المرء بالإيمان في المسيح القادرِ وحدَه على خلاص النفس.
لقد زوَّدتني المسيحيَّة الإنجيليَّة بالكتاب المقدَّس، وبواسطته تعرَّفت بالمسيح الحيِّ الحقيقيّ الذي قبلتُه بصفته مخلَّصي الشخصيَّ "والوسيطَ الوحيد بين الله والناس". فحينما كنت كاثوليكيّاً اسبانيّاً، ما عرفتُ المسيح إلاَّ طفلاً على ذراعَي أُمِِّه مريم، وجثّةً هامدةً ملقاةً عند قدميها. ولَم أختبَرِ المسيح الحيَّ المقام من بين الأموات إلاَّ عندما حملني الكتابُ المقدَّسُ إلى الجُلجثة والقبرِ الفارغ.
على مدى أربع وأربعين سنةً كُنتُ أُقاد إلى سيناء حيث طرقَت أُذنيَّ رعود النّاموس من خلال طقوس الكنيسة. غير أنَّ رعود الناموس كلَّها ما كانت لِتُبكِّتَني على خطاياي، حتَّى توجَّهت يوماً إلى الجُلجثة فرأيت مخلِّصي معلَّقاً هُناك لأجلي. وبحضور الصليب في حياتي أول مرّة، أدركتُ مغزى الكفّارة الكامل. فآمنتُ، لا بعقلي فقط بل بقلبي أيضاً، وطرحتُ نفسي بين ذراعَي المخلِّص المصلوب المفتوحتين. في تلك اللَحظة بالذات شعرت بحِملي وقد انـزاح عن كاهلي. لقد وُلدتُ ثانيةً آنذاك وامتلكت نفسي الحياةَ الأبدية.
من جرّاء ذلك ذُقتُ بُلغةً من مجد القيامة. إذ صِرتُ مبرراً في نظر الله، وخطاياي كُلُّها طُرِحت وراء ظهره. وغدا المسيحُ عندي حقيقةً حيَّة. وما انفكَّ الروحُ نفسه يشهد مع روحي بأنِّي ابن لِله من "شركاء الطبيعة الإلهيَّة". أمّا خوفُ الموت، المغروس في قرارة نفس الكاثوليكي، فقد تلاشى من قلبي نهائيّاً. وهكذا استطيع الآن أن أقول مع الرسول بولس: "لي الحياة هي المسيح، والموت هو ربح"؛ ومع أيُّوبَ الصدِّيق: "قد علمتُ أن وليِّي حيّ"؛ كما يمكنني أن أُرنِّم مع ناظم الترنيمة بفرحٍ وانتصار: "إنَّه حيٌّ! فهو يتكلَّم معي، ويسير معي، ويقول لي إنِّي له. تسألُني: كيف تعرف أنَّه حيٌّ؟ إنَّه حيٌّ داخلَ قلبي".
إنَّني على يقين بأنَّ المسيحيَّة الإنجيليَّة، في جوهرها، حيَّة وديناميَّة، لأنَّها تمتلك القوّة الديناميَّة الكامنة في رسالة الإنجيل الصافية، ذلك الإنجيل الذي قال عنه الرسول بولس إنَّه "قوَّة الله للخلاص لكلِّ مَن يؤمن" (رومية 16:1). ويبدو أنَّ هذه القوّة الديناميَّة تُسقِط ذاتَها من عالم الروح على مختلف نواحي الحياة، بما فيها النواحي الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والسياسيَّة، بموجب وعدِ الله المباشر ليشوع: "لا يبرح سفر هذه الشريعة من فمك... لأنّك حينئذٍ تُصلِح طريقك، وحينئذٍ تُفلِح" (يشوع 8:1).
نحن في مسيس الحاجة لأن نحتكَّ مباشرةً "بقوّة الله للخلاص"، أيِ الكتاب المقدَّس. فقد كان الكتاب مصدر قوّة الإنجيليِّين، والأساسَ الذي عليه بُني إيمانهم. وعندَ كثيرين من البروتستانت اليوم، الكتابُ المقدَّس كتابٌ ضائع، ربَّما يُزيِّن رفوف مكتباتنا، ولكنْ لا يُقرأ أبداً، أو لا يُقرأ إلاّ لماماً. هذا الكتاب الموحي به من السماء يتعرَّض للنقد المجهريّ من قِبَل عقولنا الضئيلة. فما أحزنَ وأقتلَ أن تدكَّ البروتستانتيَّة الأساس ذاته الذي بُنيَت عليه! هل نسينا كونَنا "مبنيِّين على أساس الرسل والأنبياء، ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية؟" (أفسس 20:2)... و "إذا انقلبتِ الأعمدة، فالصدِّيق ماذا يفعل؟" (المزمور 3:11).
أعطوني رسالةَ الإنجيل البسيطة، تلك الرسالةَ التي تبدو جهالةً عند حكماء هذا الدهر. ففيها لي كلُّ الخير والصلاح، لأنَّها "قوَّة الله للخلاص". بهذه الرسالة البسيطة تأتي للمسيحيِّين الأولين أن يُخضِعوا العالمَ الوثنيَّ للمسيح. وبها أفلح المصلِحون في مناهضة كامِل قوَّةِ جلياتَ الجبّار المتمثِّل في كنيسة روما.
ما من واحِدٍ مِمَّن يُدعَون بحقٍّ "مسيحيِّين كتابيِّين" تخلَّى عن الكتاب المقدَّس وتعاليم الإنجيل كي يقبل المعتقدات الكاثوليكيَّة ويعمل بوصايا الناس! بل إنَّما أولئك البروتستنتيُّون الذين ليست لهم "قوَّة الله للخلاص" هم الذين يقعون فريسةً سائغةً للإغراءات والإغواءات التي تُقدِّمها ديانةٌ مادِّيَّةٌ طقسيَّةٌ صُوَريَّة ذاتُ أُبَّهةٍ غرّارة. فعلى نقيض المعتقد السائد، لم تنشأ البروتستنتيَّة أصلاً كاحتجاجٍ على الضلالات والمفاسد المُستشرية في الكنيسة الموجودة آنذاك؛ بل كان الدافعَ الأساسيَّ الذي حدا بالمُصلحين على إطلاق عَجَلة الإصلاح هو محبَّةٌ للحقِّ المُكتشَفٍ من جديدٍ في الإنجيل. ونتيجةً لذلك رفعوا أصواتَهم احتجاجاً على الكنيسة لكونها قد كسفت نور الإنجيل أو أخمدته. فإنَّما وقفةُ المصلحينَ الثابتةُ إلى جانب كلمة الله الصافية غير المغشوشة، في وَجه السلطات الدينيَّة والمدنيَّة آنذاك، هي ما عجَّل تطوُّرَ الحركة البروتستنتيَّة المبنيَّة على الصخرة التي هي المسيح، وعلى أعمدة كلمته الصادقة.
تحدِّي الساعة
ماذا ينبغي أن نفعل لاستعادة حقيقتنا وإثباتها؟
1- علينا أن نتوب! ينبغي لنا أن نجثو على رُكَبِنا، وبقلوبٍ منسحقة نعترف بأنَّنا قدِ انحرَفْنا عن طريق آبائنا الأفاضل الذين جاهدوا ببطولة في سبيل "الإيمان المسلَّم مرةً للقدِّيسين"؛ وبأنَّنا قدِ انصرَفْنا عن كلمة الله إلى وصايا الناس؛ وقدِ ارتدَدْنا إلى النظام القديم القائم على الطقسيَّة والناموسيَّة والذي عليه ثار المصلِحون؛ وقد تركْنا "محبَّتنا الأولى"؛ وبأنَّ رؤيا تُراثِنا الثمين قد غامت وغابت.
نقرأ في سفر الرؤيا الرسالةَ التي حُمِّلها الملاك إلى كنيسة ساردس، وهي تمثِّل تاريخيّاً كنيسة الإصلاح، حيثُ هذه الكلماتُ الصريحةُ الواضحة: "أنا عارفٌ أعمالك، أنَّ لك اسماً أنّك حيٌّ، وأنت ميْت. كن ساهِراً، وشدِّد ما بقي، الذي هو عتيدٌ أن يموت … واحفظْ وتُب!" (رؤيا 1:3-3).
2- علينا أن نرجع إلى الكتاب المقدَّس! إنَّ المسيح نفسه هو الكلمة: "في البدء كان الكلمة، وكان الكلمة عند الله، وكان الكلمة الله… والكلمة صار جسداً وحلَّ بيننا" (يوحنّا 14،1:1).
فحينما نقرأ الكلمة، يكون المسيحُ معنا. وعندما نكرز بالكلمة، نُقدِّم للنّاٍسِ المسيحَ، المسيحَ عينه الذي مشى على الأرض ومات على الجلجثة وقام من بين الأموات. وبقوّة الكلمة وحدها يُمكِننا أن نتوقَّع إحياءَ مسيحيَّتنا، وبثَّ الروح في إنجيليَّتنا، وإنقاذ العالم من الفوضى والخراب.
3- علينا أن نشهد للمسيح! فلنكُن إنجيليِّين بحقّ. فالإنجيليُّ ليس مجرَّدَ محتجٍّ أو معترِض، بل هو شاهدٌ للمسيح وإنجيله؛ وليس هو من يكتفي بخوض غمارِ المجادلات العقائديَّة، مُناهِضاً هذه العقيدة أو ذلك الإنسان. فإنْ كان الكلمة قد صار جسداً، فعلى كُلِّ مُخلَّصٍ ذي جسد أن يحمل البشارة بالكلمة، مُعلِناً "غنى المسيح الذي لا يُستقصى". وإن كان المسيح يعني لنا شيئاً، فلنُذِعْ كلمةً صالحةً عنه ولأجله. وإن كُنّا قدِ اختبرنا قوَّته المخلِّصة، فلنُكرِّس حياتنا لخدمته. وكما يقولُ ناظم المزمور: "ليقُل مفديُّو الربِّ" كلمةَ شهادةٍ وبشارة لِمجده (راجع المزمور 2:107).
(الكاهن المولود ثانيةً: خوسيه آي فِرْناندِز)
- عدد الزيارات: 3510