Skip to main content

خَلَصْتُ وأنا أُجري القُدّاس

شهادة شخصيَّة من الكاهن المولود ثانيةً

"فرانكو ماغيوتُّو"

لمّا كُنتُ دون العشرين من العمر، كنتُ في الكنيسة الكاثوليكيَّة. وكنتُ متوجهاً إلى الجامعة لحيازةِ إجازة في الفلسفة، وناشطاً في منظمَّة تُدعى "العمل الكاثوليكيّ". وقد كنتُ نشيطاً جدّاً في الكنيسة الكاثوليكيَّة، ولكنَّ ذلك لم يُضْفِ على حياتي معنىً ما، إذ لم يكن في وسع ذلك كلِّه أن يخنق الشعور بالخطيَّة في أعماق قلبي. فقد ترسَّخ في نفسي عدمُ نفع أيِّ شيء، حتّى أخذ اليأس منّي كلَّ مأخذ.

كان لي كلُّ ما يتمنَّى الشابُّ حيازته. فقد كانت أُسرتي راسخة القدم في الأرض، كما نقول في إيطاليا، إذ كانت تملك المال، وتيسَّر لي كلُّ ما أردْتُ. لقد حصلتُ على كلِّ ما يخوِّلك إيّاه النفوذُ البشريّ، ولكن لم يكن لديَّ ما ينبغي للإنسان أن يمتلكه حتّى يعيش حقاً. فربَّما كان لك كلُّ ما تريده، ولكنَّك تكون مجرَّد كائنٍ حيٍّ ولا تحيا فعلاً. إنّك لا تستطيع أن تحيا بغير معنىً للحياة: ذلك الإحساسُ بالحياة الذي لا يؤتيك إيّاه إلاَّ الحياةُ الآتية من فوق.

وهكذا قصدتُ إلى مطراني وأفضيتُ إليه بدخيلة نفسي. فقال لي المطران إنَّ كلَّ ذلك نافع، وإنِّي كنتُ شابّاً طيِّباً جدّاً، ولكن لا ينبغي أنْ تشغل فكري هذه الحماقة. وذلك لأنًَّ يسوع المسيح، قبل صعوده إلى السماء، وضع سلطانه الشخصيَّ كُلَّه في يد بطرس، وفي يد البابا، وفي أيدي الرُّسل. ففي الكنيسة أجِدُ ملكوت الله، وأجد كلَّ ما يتعلَّق بخطيَّتي. إذ إنَّ الكنيسة تملك في أسرارها المقدَّسة كلَّ ما يؤول إلى تطهير النفوس، ونفسي من جملتها، وما يؤهِّلني لإقامة علاقةٍ بالله وثيقة. ففي وسعي استخدام الأسرار المقدَّسة لتطهير نفسي بأن أبلغ، عبر الأسرار، طريقاً مأموناً لملاقاة الله. وهكذا اخترتُ في الحال، كما يختارُ الشبّان بحماسةٍ مراراً كثيرة، أصعبَ ما تمتلكه الكنيسة الكاثوليكيَّة، فصرتُ ناسكاً، وانضَممتُ إلى صومعةٍ للنُّساك على تلٍّ بالقرب من روما. وكنتُ أستطيع أن أرى روما من هناك. وقد أخذتُ أحلق مرَّتين في الأُسبوع فقط. وكنّا نحلق شعرنا كُلَّه. ورحتُ أرتدي فقط ثوباً كبيراً مصنوعاً من الصوف، إيّاه ألبس صيفاً وشتاءً. ففي الصيف كان الحَرُّ رهيباً، وفي الشتاء كان البرد قارصاً، والريح العاتية تهبُّ حيثما ذهبت. وقد كنتُ أقوم بهذا كلِّه من صميم قلبي لعلِّي أُميتُ خطيَّتي بالقوّة الأرضيَّة، وبالإرادة البشريَّة. كان عليَّ أن أصِل إلى الله، وكدتُ أقتلُ نفسي.

وما كدتُ أُنهي السنة الأولى، حتّى قال لي الطبيب إنَّ عليَّ مغادرة المنسك. ففعلتُ وفي نيَّتي أن أعود إليه عندما أكبر. ثمَّ ذهبت للعمل في معهد اكليريكيّ لدراسة اللاهوت. وصرتُ كاهناً، فأُرسِلت إلى أبرشيَّة كبيرة كان فيها كاهنٌ آخر جاوز الثمانين، فكان عليَّ أن أقوم بكلِّ شيء.

حاولتُ أن أُعامل الناس بمنتهي اللطف. كنتُ حزيناً، ولكنِّي عاملتهُم بالحُسنى؛ وشعرتُ بأنَّ الناس حواليَّ من كل جهة، فابتهجْتُ بكوني كاهناً، ولكنِّي لم أكن سعيداً في قرارة نفسي وأعماق قلبي. وعلى الرُّغم من كلِّ ما فعلتُه، لم يكُن لديَّ ما يُمكِّنني من ملاقاة الله. لم يكُن عندي أيُّ شعورٍ باليقين والأمان، فخطيَّتي ماثلةٌ أمامي. وحينما كنتُ أذهب لأسأل، كانوا يُشيرون عليَّ دائماً بقراءة بعضِ ما جاء في إنجيل لوقا، وقد شكّلت إحدى الآياتِ في الواقع حجر عثرةٍ أمامي.

كانت تلك الآية شعاراً يتمسَّك به دُعاةُ السلطان الدينيّ، ويرضى به العقلُ البشريُّ، وهي العبارة التي قالها المسيح لتلاميذه: "الذي يسمع منكم، يسمع منِّي؛ والذي يرذلكم يرذلني؛ والذي يرذلني يرذل الذي أرسلني" (لوقا 16:10). وقد قال لي مطراني إنَّ يسوع المسيح، قبل صعوده إلى السماء، ترك لنا كامل سلطانه. وعليه، فإنْ كنتَ لا تُصغي إلينا، فإنّك لا تُصغي إلى المسيح. وإنِ احتقرْتَ المسيح، تحتقرُ الله. وهكذا خفتُ حتّى التفكيرَ، ولم يكُن عليَّ أن أُفكِّر، بل أن أثق بمطراني وحسْب.

ولكنْ ذاتَ يوم، وفي حالٍ من اليأس شِبه الكُلِّي، شرعْتُ وبعضَ الشُّبان بترجمة العهد الجديد من اليونانيّ. كان الأمر مُمتِعاً في البدء، ولكنْ كُلَّما تقدَّمْنا كُنّا نرى الهوّة تلو الهوّة. وأكبر هوّة رأيتُها كانت دائماً أن المسيح يُحاول كلَّ حين أن يدفع الناس نحو الله كي يُقابلوه، فيما كانت الكنيسة دائماً تحاول أن تجذب الناس إليها.

حتَّى إذا فرغْنا من ترجمة إنجيل متَّى أولاً، انـزعج كاهنُ أبرشيَّتي كثيراً. وسببُ انـزعاجه أنَّني شرعتُ في تعليم الناس الكتابَ المقدَّس! وقد قال لي: "إن عرف الناس ما نعرفه لا يرجعون إلينا أبداً ولا يأتون إلى الكنيسة البتَّة". ولكنْ لمّا وصلْنا إلى نهاية إنجيل متَّى، توضَّح لنا أمرٌ ما: لقد قال المسيح لتلاميذه: فاذهبوا وتلمذوا جميع الأُمم، وعمِّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس؛ وعلِّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به، وها أنا معكم كلَّ الأيام إلى انقضـاء الدهـر" (متّى 19:28و20).

بَلى، قال المسيح لتلاميذه: "الذي يسمع منكم، يسمع منّي؛ والذي يرذلكم يرذلني". ولكنَّه لم يقُل لتلاميذه قطّ: "اِذهبوا وعلِّموا ما تريدون. اِذهبوا وعلِّموا أيَّ شيء يجعل كلاًّ منكم رجلاً مهمّاً. اِذهبوا وعلِّموا ما يجعلكم كنيسةً أرضيَّة ذات نفوذٍ عظيم. اِذهبوا وعلِّموا أيَّ شيءٍ يُسعِد الناس. وإنِ احتقروكم، يحتقرونني أنا". بل لقد قال الربُّ يسوع: "اذهبوا... وعلِّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به،" أي كُلَّ ما قد قلتُه لكم. وبطبيعة الحال، إذا ذهبتُم وقلتُم كلَّ ما أوصيتكم به، لا أكثر ولا أقلّ، فعندئذٍ إنِ احتقروكم احتقروني. وهكذا بدأتُ أفكِّر أنّه ما دامت الهوَّة موجودة فسأرى مزيداً من صُوَرها.

ومن ثَمَّ عكفتُ على قراءة كلمة الله بأكثرِ اجتهاد. وكلَّما قرأتُ توسَّعتِ الهوّة، وتبيَّن لي أنِّي كنتُ أكرز بأمور مُناقضةٍ لي. ولم أعُد استخدم عظتي صباحَ الأحد لتعزيز سلطتي، بل كنتُ أستخدمُها ضدّاً لي.

في أول الأمر عيَّنوا قُدّاس السادسة صباحاً، حيث يكون المُصَلُّون قليلين، ومعظمُهم نساءٌ يُصلِّين على سُبحاتِهنّ، وحيثُ يمكنني أن أصرخ وأصيح ما شئت. ولكن بعد بضعة أسابيع أُلغي قُدّاس السادسة صباحاً. فقد علموا أنَّ أمراً ما سيحدث، واستدعاني المطران والغضبُ بادٍ عليه. ثُمَّ أعلمني أنَّه نوى أن يُرسِلني إلى أبرشيَّة أُخرى. وهكذا رُقِّيتُ إلى أبرشيَّة كبيرة قوامها 55 ألف نسمة في مدينة "إمبيريا"، فيها كنيسةٌ جديدةٌ وكاهنٌ يُعاوِنني، وما إلى ذلك.

هُنالك ألفَيتُ نفسي في مركزٍ جيِّد بالنسبة إلى شابٍّ مثلي. فأنا كاهن متقدِّم، ويروقُني أن يُحيط بي لفيفٌ من الكهنة، وأسمع الناس يقولون عنّي: "إنَّه صغير السنّ، وقد أُسنِدَت إليه وظيفة كبيرة. يا له من شابٍّ جميل!" ولكنَّني أخجل الآنَ إذ أتذكَّر ذلك. على أنَّني لم أكُن سعيداً في قرارة نفسي. ومِن ثَمَّ حاولتُ أن أُقدِّم بعض الدُّروس التفسيريَّة النقديَّة، ساعياً إلى استنتاجِ تعليمي من الأسفار المقدَّسة. وكلمَّا فعلتُ ذلك اجتذبتُ الناس. وقد كانوا أحياناً يأتون راكبين الباصّات. إلاَّ أنَّني جلبتُ عليَّ غضب رؤسائي أيضاً. وقال لي الكاردينال إنَّ الحقَّ غير موجود خارج الكنيسة، كما قال لي إنَّ المسيح لمّا صعد إلى السماء وضع سلطانه في أيدي الرسل، لذلك يجب على المسيحي أن يلتمس من الرسول، الذي هو البابا، الإرشاد والتعليم والوعظ والتوبيخ، وهلمّ جرّاً. وهكذا عُدتُ إلى أبرشيَّتي، إلاًَّ أنَّ الرعيَّة دفعتني، والشباب دفعوني. فقلتُ لهم إنَّني عندما نجتمع معاً سأفتح الكتاب المقدَّس لأرى ما يفعله الربّ. ومن ثَمَّ رُحنا نجتمع مع الشباب. وأذكر الآن كيف فتحْنا الكُتب إلى رسالة غلاطية، وبدأتُ أقرأ الأصحاح الأول. ولمَّا قرأتُ الآية الثامنة عَجَزتُ عن المتابعة: "ولكن إن بشّرناكم نحن، أو ملاك من السماء، بغير ما بشّرناكم، فليكن أناثيما (ملعوناً ومحروماً)". فقد صُعِقتُ، بكلِّ معنى الكلمة. ها هو الرسول بولس الذي عاني كثيراً لبُنيان مخدوميه وترسيخهم في الحقّ، والذي أحبّهم أكثر من ذاته وحياته، يقول لهم: "إن أنا بشّرتكم بأيِّ إنجيل مختلف، فارفضوني وأرذِلوني". إن بشَّركم أيُّ رسولٍ آخر بأيِّ إنجيل مختلف، فصُدُّوه وانبذوه لأنْ لا خلاصَ في الرسل.

ولا خلاصَ أيضاً في ملاكٍ يأتي من السماء

بل إنَّ لنا الخلاص في كلمة الله المُبارك. وهكذا قلتُ لنفسي: الآنَ علمتُ أين أبدأ، وأين أجد الحقّ. ومضيتُ مع رعيَّتي في هذا السبيل. وكان مِطراني ذكيّاً، فعرف كيف يوقفني. فقد قال لي: "أنت متكبِّر مكابر، مَن تظنُّ نفسك؟ أتعتقد أنّك تستطيع أن تفهم الكتاب المقدَّس أفضلَ ممّا أفهمُه أنا أو يفهمه البابا؟" وحين قال المطران إنَّني متكبِّر، علمتُ أنِّي متكبِّر. علمتُ أنِّي أُحِبُّ منصبي، ولكنَّني آنذاك علمتُ إلى أين أتوّجَّه لأعرف الحلّ- إلى الحقّ. علمتُ أنِّي مُستعطٍ، و أنَّي خاطئٌ مسكين، و أنَّ الخطيَّة ما تزال حاضرةً لتدميري.

ثمَّ توجَّهتُ إلى كتاب العهد القديم لعلِّي أجد أين قال الله للأنبياء، أو للآباء؛ اِذهبوا وفسِّروا كلمتي. ومضيت أبحث عن الموضع الذي يُشير إلى تخلِّي الله عن سلطانه في تفسير كلمته، لكنَّني لم أجِد كلاماً من هذا النوع. ومن ثَمّ تحوَّلت إلى كتاب العهد الجديد، وهُنا أيضاً لم أعثر على أيَّة آيةٍ، ولا على أدنى فكرةٍ، توحي أنَّ الربَّ يسوع تخلَّى عن سلطانه في تفسير الكلمة المقدَّسة. فهو لم يقُل للرسل قط: اِذهبوا وفسِّروا كلمتي المقدَّسة. ثمَّ رأيت أمراً بمنتهي الوضوح. لستُ أدري هل هو واضحٌ عندك. ولكنَّه اتَّضح لي يومذاك بكلِّ جلاء من خلال يوحنّا 26:14، حيث يقول يسوع المسيح للرسل قبل صعوده إلى السماء: "وأمّا المُعزِّي، الروح القدس، الذي سيُرسله الآبُ باسمي، فهو يعلِّمكم كلَّ شيء، ويُذكِّركم بكلِّ ما قلتُه لكم". ليس "بِاسم البابا" أو "بِاسم المطران" أو "باسم بطرس الكاثوليكيّ"، ولا باسم القسِّيس"، بل "باسمي". "هو يعلِّمكم"، فهو المفسِّر. إذاً، لم يتخلَّ الله قطُّ عن سلطانه في تفسير كلمته المقدَّسة.

ومن ثّمَّ آتاني ذلك كثيراً من الشجاعة. طبعاً، واجهتْني مشاكل. فقد أُبعِدتُ إلى كنيسة أُخرى، بل إلى أبرشيَّة قديمة تضمُّ تسع كنائس. إذ خُيِّل إليهم أنِّي أُبدِّد طاقتي بكثرة التجوال، واستنفد طاقتي الفكريَّة فأكفّ عن درس الكتاب. غير أنَّني ذهبت وتدبَّرتُ أمر الوعظ. ولكنَّني لم أكن سعيداً في معظم الأوقات، بسببٍ من خطيَّتي. لقد بتُّ أعلَم أين أجد الحقّ، ولكنْ ماذا أفعل بشأن خطيَّتي؟ وما هي حالُ نفسي؟ كنتُ أقضي لياليَّ جاثياً أمام المذبح، وكان وكيل الوقْف يساعدني في الصباح، إذ كنتُ أجثو هنالك أحياناً حتَّى الصباح. إلاَّ أنَّ الربَّ تحنَّنن عليَّ، فرحِمَني حتَّى وأنا أُجدِّف.

أذكُر ذات يومٍ أنِّي كُنت أترأّس قداس الترتيل عند الساعة الثانية عشرة ظُهرَ يومِ أحد. كان يرافقني كاهِنان، وقد وقفت جوقة الترنيم باللباس الأبيض، خمسةٌ وعشرون من هُنا وخمسة وعشرون من هناك، وقد عَلَتِ الأصوات بأجملِ ترنُّم. وكنتُ عند قاعدة المذبح، أُصلِّي: "أنتَ إلهٌ قاسٍ، لماذا لا تقتلُني هنا؟ لماذا لا تُهلِكُني؟" وبينما أنا أغسل يديَّ على المذبح، قرأ أحدُ الشبّان عبرانيين 10:10، فهزَّني ذلك حتّى الأعماق، وصعق عقلي. وإذ كنتُ أخوض في قلبي صراعاً مريراً، رنَّت في مِسمعيَّ كلماتُ القارئ. "فبهذه المشيئة نحن مقدَّسون، بتقديم جسد يسوع المسيح مرَّةً واحدة". فتضاعفت صعقتي حالاً. "أيُّها الإنسان الغبيُّ التافه، أتعتقد أنِّي قدَّمتُ حياتي عبثاً؟ أتظنُّ أنَّني كنتُ أُخلِّصك بلا شيءٍ ولو قال الجميعُ خلاف هذا؟ أيُّها الإنسان الغبيُّ، مَن تحسب نفسك؟ لقد خلَّصتك لأنِّي أردتُ أن أُخلِّصك، لأنِّي أُحبُّك!" وعندئذٍ تردَّدت في ذهني كلماتٌ كأنَّها طَرقاتُ مِطرقة: "وكلُّ كاهنٍ يقوم كلَّ يوم ويقدِّم مراراً كثيرة تلك الذبائح عينها التي لا تستطيع البتَّة أن تنـزع الخطيَّة". إذ ذاك خاطبتُ الكاهِنَين المرافِقَين لي قائلاً: "هل تسمعانِ صوت الربّ؟ هل سمِعتُماه؟" ثُمَّ رُحتُ أُحدِّق إليهما كما راحا يُحدِّقان إليَّ مُحَملِقَين، فأضفتُ: "انظرا ما هو مكتوبٌ هنا. لقد أكمل الربُّ يسوع العمل، ونحنُ عديمو النَّفع!" ثُمَّ أجلتُ نظري في أرجاء تلك الكنيسة الكبيرة، فإذا الناس هنالك يتنهَّدون ويبكون، فقُلت لهم: "لقد أكمل الربُّ العمل، وهو يقول: لن أعود أذكُر خطاياهم بعد. هو أكملَ العمل، ونحن عديمو النَّفع". ثمَّ تنبَّهتُ إلى أنِّي كنت أبكي وأضحك معاً. أخيراً توضَّح في ذهني أمرٌ: لقد صُرِفتُ من خدمتي، ولكنْ لم يكُن أحدٌ أسعدَ منِّي حينذاك. ما مِن أحدٍ يُصرَف من خدمته ويفرحُ مثلَ فرحي إذ يتأكَّد له صرفُه من الخدمة. فمرّةً واحدة، مرّةً وإلى الأبد، أكملَ الربُّ عمل الخلاص.

قالوا إنِّي مريض، وإنَّ تلك المسؤوليّات أثقلُ من أن يتحمَّلها شابٌّ في سنِّي. ولكنِّي على كلِّ حال كنتُ في غاية السرور والسعادة. وإذا بي أُحاول أن أُخبر مطراني الخبرَ عينه حينما جاء لرؤيتي. ومع أنَّ رؤسائي لم يريدوا أن أستعفي، فلم يعد باستطاعتي أن أُجري القُدّاس لأنِّي قد صُرِفت من الخدمة. وهكذا أسندوا إليَّ إدارة كليَّة كبيرة فيها ثماني مئة شابٍّ وشابّة، معلِّمونَ وطلاّب وما إلى ذلك. وذهبتُ إليها، إلاّّ أنِّي لم أكن أرغب في حضور القُدّاس. حتّى إنِّي حاولتُ تعليم الآخرين والراهبات، فأصغَوا إليَّ جيداً. وفي مساء يوم سبت، جاء الناسُ للاعتراف. فجعلتُ أُحادثُهم: "لماذا أنت هُنا؟" "لأعترفَ بخطاياي". "هل تحبُّ المسيح؟" "نعم!" "لِماذا تحبُّه؟" "لأنَّه مات من أجل خطاياي". "ما دام قد مات من أجل خطاياك، فاذهب واحمَدْه. لماذا تأتي إليَّ لتُطلِعَني على خطاياك؟ ما شأني بخطيّتك؟" وهكذا مضى الاعتراف بسرعة بالغة. ولكنَّ الراهبات ذهبن إلى المطران. وأخيراً تبيَّن لي أنَّ الجميع لم يستطيعوا أن يفهموا ما جرى. وهكذا تركتُ الكنيسة الكاثوليكيَّة إلى الأبد، وتبعني كثيرون من ابناء رعيَّتي.

لقد درستُ في جامعة روما، وفي انكلترا، وفي هولندا. واعتقدتُ أنَّ كثيرين من البروتستانت قد طرحوا الكتاب المقدَّس جانباً. غير أنَّني التقيتُ عدداً كبيراً من المسيحيِّين المولودين ثانيةً، مِمَّن استطعتُ أن أقول لهم: "إلهكُم إلهي، وشعبكم شعبي". وهكذا يتوافر لي الآنَ مقدارٌ كبير من الشركة المسيحيَّة، وأنا على اتِّصالٍ بكثيرٍ من الكهنة. فمنذ سنتين وعظتُ ثلاثةَ آلاف كاهن في روما. وتتنامى في أماكن مختلفة من إيطاليا جماعاتٌ مسيحيَّة كثيرة. حقاً إنَّ رغبتي هي أن أَهدي الكاثوليك إلى المسيح، ساعياً لهداية البابا بالذات إن أمكن!

(الكاهن المولود ثانيةً: فرانكو ماغيوتُّو)

  • عدد الزيارات: 3023