Skip to main content

النعمة والتتلمذ

جوهر نعمة الله هو أنها مجانية. وطريقة قبولها- أي التوبة والإيمان- مبينة بكل وضوح في كلمة الله. ومع أنه توجد شروط لقبولها إلا أن النعمة نفسها لا يعوقها شيء.

بعض الناس يجيدون أسلوب العطاء باليمين والأخذ بالشمال. يغدقون العطايا، ولكن بشروط وعقبات تبدد نفعها. هذه ليست طريقة الله.

إن عبارة "نعمة الله المجانية" عبارة مألوفة ومعروفة ومعظم المؤمنين يسلمون بها. ومع ذلك تأخذهم الدهشة عندما تقع عيونهم في صفحات الكتاب على كلمات مثل "إن" و"إذا" مثل القول: "إن أراد أحد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه كل يوم ويتبعني" (لو9: 23).

فما معنى هذه العبارة؟ هل الخلاص مجاناً كما نفتكر؟ أم هو (بموجب هذه العبارة) صفقة بيننا وبين الرب- يصبح فيها الحق مقابل التزام- نصبح نحن من خاصته بعد أن نقوم بالتزام معين هو أن ننكر أنفسنا ونحمل صليبنا. دعنا نجيب على هذه الأسئلة بالرجوع إلى (لو14: 25-35) إن كان أحد يأتي إليّ ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وإخوته وأخواته حتى نفسه أيضاً فلا يقدر أن يكون لي تلميذاً". وهذه العبارة الأخيرة "لا يقدر أن يكون لي تلميذاً "تكررت في هذا الفصل ثلاث مرات. ولاحظوا أن الرب لم يقل "لا يقدر أن يخلص" بل "لا يقدر أن يكون لي تلميذاً".

والآن نقول أن لوقا من بين البشيرين الأربعة هو الذي يؤكد نعمة الله أكثر من غيره. في هذا الإصحاح الرابع عشر نجد مثل العشاء العظيم في (عدد15-24) قبل العبارة التي أشرنا إليها مباشرة. وفي هذا المثل نجد نعمة الله موضحة بتفصيل رائع، وبعد هذا التوضيح مباشرة يقول الرب في مسامع الجمع تلك العبارة الشرطية كأنه يمتحن بها حقيقة حالتهم. وجدير بنا أن نحفظ في بالنا تسلسل الفقرات في الوقت الذي فيه نميز بينها، هكذا:

أولاً: إن النعمة هي صورة خاصة من صور محبة الله الفائقة حينما تنحني لتفيض على الذين لا يستحقون. إنها تتنازل لتتوافق مع أعوازهم العميقة بغناها الذي لا يستقصى.

ثانياً: التتلمذ للرب صاحب هذه النعمة العجيبة، هو صفة خاصة لهذه المحبة الإلهية حينما تعمل في قلب المؤمن المتجاوب معها. التتلمذ هو فيض محبة الله حين تتجه نحو مصدرها الإلهي. وأن تكون تلميذاً معناه أن تأخذ مكانك من بين من يريدون أن يتعلموا ويتبعوا الرب. وعندما تمتلك نعمة الله نفساً وتدب الحياة الجديدة فيها، فإنها تتجه تلقائياً إلى التعلم من الرب وإلى اقتفاء آثار خطواته.

معنى هذا أن النعمة هي منبع التتلمذ. وليس عجيباً أن ترتبط النعمة بالتتلمذ في (لو14)، لأننا نجد في مثل العشاء العظيم باب الخلاص مفتوحاً على مصراعيه، وأردأ الأردياء مدعوين للدخول. لم يُكلفوا بشيء ولم يوضع شرط في طريقهم بل النعمة الخالصة تفتح ذراعيها. غير أن الرب الذي نطق بهذا المثل كان يعرف أن كثيرين سوف يقولون إنهم قبلوا النعمة دون أن يكون هذا القول حقيقياً في القلب. ويعرف أيضاً أن الذين قبلوها بالحقيقة إنما قبلوا بذرة الحياة والمحبة التي تدفعهم بقوة نحو شخصه المبارك الذي هو مصدرها، فأوضح لهم ما يلزمهم أن يفعلوه إذا أرادوا أن يتبعوه.

من ثم أردف تصريحه عن النعمة بتعليمه عن التتلمذ، وأضاف مثلين قصيرين لبيان أهمية حساب النفقة.

مرة قال واحد وهو عابس الوجه "إنك تتكلف ثمناً باهظاً لكي تكون مسيحياً"، فهل كان مُحقاً في كلامه؟ إن كان يقصد أنك تتكلف ثمناً باهظاً لكي تخلص- فهو على خطا بكل تأكيد، لأن الكلفة الباهظة للخلاص تَحَمّلها ذلك الشخص الكريم الذي استطاع أن يحملها، الذي جُعل خطية لأجلنا وحمل في جسده خطايانا (أي عقوبتها) على الخشبة. فالخلاص بالنسبة لنا لا يكلفنا شيئاً.

والرب استعمل كلمة (تلميذاً) أي (مسيحياً) بمعناها الأصلي الصحيح. ماذا نقرأ في (أع11: 26)؟ "ودُعي التلاميذ مسيحين في أنطاكية- أولاً". فذلك الرجل قصد أن يقول "أنك تتكلف ثمناً باهظاً لكي تكون تلميذاً". ولكنه مخطئ أيضاً لأن التتلمذ وإن كان يكلف حقيقة لكنه لا يكلف ثمناً باهظاً. إن ذلك الرجل العابس لم يذق طعم النعمة. وبناء على ذلك فليس له ما ينفقه. إذا ذهب شخص إلى السوق وليس معه مليم واحد فكل شيء في السوق بالنسبة له باهظ الثمن. هذا الرجل العابس وضع التتلمذ قبل النعمة. وضع المسئولية قبل الامتياز.

ماذا يكلفك التتلمذ؟ كثيراً على كل وجه. وفي غاية المناسبة أن نضع هنا المثلين القصيرين الواردين في (لو14: 28-32). إنه يكلف المؤمن كثيراً من الجهد لكي يبني نفسه ولكي يحارب- يلزمه الإيمان وتلزمه الصلاة، ويلزمه إنكار الذات، والشهادة للرب. لقد وصلت النعمة إلى بارتيماوس، وبالإيمان أخذ نور العينين، وفي الحال قام وتتلمذ للرب.

وهنا يبرز سؤال: هل كل مؤمن تلميذ للرب أم أن من بين المؤمنين بعضاً يتميزون بالتتلمذ؟

الجواب: في المسيحية الاسمية التي نراها في العالم نجد رتباً ودرجات، أما مسيحية الكتاب المقدس فبينما نجد فيها مواهب الروح القدس وخدمات المحبة فإننا لا نجد مراكز ولا مناصب. والمؤمنون الأوائل كانوا مؤمنين وقديسين وتلاميذ، جميعهم وكل واحد فيهم (أع1: 15، 6: 1، 9: 38، 19: 9، 20: 7). وأول الرسل كان مؤمناً وقديساً وتلميذاً مثل الباقين لا فرق رغم أنه أُعطي من الرب موهبة أو أكثر.

لكن الخطأ والخطر هو أن نتتلمذ ونتلفت إلى هنا وهناك. ويل لبارتيماوس إذا هو حصل على البصر والبصيرة وراح يتفرس في مناظر أريحا.

هذا الخطر هو الذي جعل الرب يقول "إن ثبتم في كلامي فبالحقيقة تكونون تلاميذي" (يو8: 31). إن التلمذة هي للجميع لكن القليلين هم "بالحقيقة تلاميذ".

ونضيف هنا بعض التفاصيل عن التتلمذ الحقيقي، وكلمة الله فيها الكفاية اقرأ (لو9: 23-26 و46-62 و14: 25-33) وجوهر الكلام في هذه الفصول إن الرب يسوع ينبغي أن يكون وحده أولاً وأخيراً.

إن شرط التتلمذ للرب هو أن يأخذ الرب المكان الأول قبل نفسك وقبل راحتك وقبل ضرورات الحياة. قبل الأب والأم والأهل والزوجة والأولاد والأموال. من أجل التتلمذ للرب نبغض هذه كلها بمعنى أن المحبة للرب تزيد وتفوق على كل محبة. ومن أجل التتلمذ للرب "نترك هذه كلها" بمعنى أن لا نجعل لعلاقاتنا الطبيعية سلطاناً علينا يعطل مسيرتنا مع الرب. بل نحن ومالنا ومن لنا وما نملك في خدمة الرب. هذه هي شروط التتلمذ وهي بالفعل مُرّة للجسد، ولكن المحبة للمسيح تُكسبها حلاوة.

  • عدد الزيارات: 4286