الأمان والتقديس
أول شيء عمله الله، لما دعا شعبه الأرضي من مصر، كان هو تأمين سلامتهم من الدينونة بأن جعلهم تحت حماية دم الخروف المذبوح. والشيء الثاني هو تقديس البكر الذي سلم من الدينونة تحت حماية الدم. والأمر الأول مفصّل في (خر12)، والأمر الثاني يفتتح به (خر13) حيث يقول الرب لموسى "قدس لي كل بكر".
هذا هو الرمز في العهد القديم. وفي العهد الجديد- عهد الحقيقة- نجد الأمان والتقديس مرتبطين أيضاً، فمثلاُ نقرأ في (يو17) قول الرب الخاص بضمان سلامة خاصته عن الماضي "الذين أعطيتني حفظتهم" (عدد12)، وعن مستقبلهم "أيها الآب القدوس احفظهم في اسمك الذي أعطيتني" (عدد11). وبعد ذلك مباشرة صلي من أجل تقديسهم "قدسهم في حقك... ولأجلهم أقدس أنا ذاتي ليكونوا هم أيضاً مقدسين في الحق" (عددي 17و19).
من هذه النصوص الكتابية سوف نرى أن رغبة الله هي أن يحفظ المؤمن وأن يتقدس. ولكن على أية حال، لا نربط بين أمان المؤمن وبين نموه في النعمة، كما لا نفصل بينهما إلى الدرجة التي يظن فيها البعض أنه لابد من مرور سنوات مشحونة بالتجارب والاختبارات. ولكي نفهم العلاقة الصحيحة بين الأمان والتقديس، نحتاج لأن نعرف المعنى الكتابي لكل من هذين التعبيرين. وعلى أي شيء يبنى كل منهما.
طبعاً، لن يجد القارئ أية صعوبة في إدراك المعنى المقصود بالأمان، لكن ربما وجدت صعوبة من جهة معنى التقديس، تلك الكلمة التي يساء فهمها بدرجة كبيرة.
فعند البعض، التقديس يعني عملية تنقية وتحصين لكن في الحقيقة لا تعني الكلمة شيئاً من هذا على الإطلاق، ولا هي تعني أن الإنسان يصير على درجة كبيرة من القداسة- إلا أن يكون هذا المعنى ذا صفة ثانوية. أما المعنى الأولي البسيط لهذه الكلمة فهو الفرز والتخصيص لله الحيّ ولمسرته، خذ مثلاً القول: "وتقدس المذبح... وتمسح المرحضة وتقدسها، وتقدم هرون... وتمسحه وتقدسه ليكهن لي" (خر40: 10و11) وأيضاً "لأجلهم أقدس أنا (يسوع) ذاتي" وأيضاً "قدسوا الرب الإله في قلوبكم" (1بط3: 15).
فبأي معنى يمكن أن شيئاً مصنوعاً من خشب أو نحاس يقال عنه إنه تقدس؟ إنه لا يمكن أن يصير مقدساً بالمعنى الدارج لهذه الكلمة، ولكن هذه الجمادات يمكن أن تخصص للاستعمال الإلهي. هكذا فعل موسى بالمذبح وبالمرحضة حين فرزهما وخصصهما وبذلك تقدسا بالمعنى الكتابي.
وأيضاً ماذا نفهم من أن الله نفسه أو الرب يسوع مقدس ذاته لأجلنا وهو الذي في حضرته تغطي الملائكة وجوهها وهي تنادي "قدوس. قدوس. قدوس رب الجنود". إنه بهذا المعنى فقط (معنى التخصيص) يكرس الرب يسوع ويخصص نفسه في السماء لصالحنا. ونحن نستطيع أن نخصص الرب الإله لقلوبنا معطين إياه مكان السيادة والإكرام الذي له بحق.
هكذا أيضاً عندما نتكلم عن تقديسنا نحن المؤمنين فإن التقديس هنا له هذا المعنى البسيط الأولي. والعبارة المقتبسة آنفاً "قدس لي كل بكر" (خر13: 2) ترينا أن التقديس معناه أن الله يطلب لنفسه أولئك الذين حماهم وظلل عليهم بدم خروف الفصح. وبهذا التخصيص أفرزنا الله جانباً لخدمته ولمسرة قلبه.
وينبغي أن نراعي بتدقيق أن التقديس بالنسبة لنا له وجهان: الوجه الأول هو التقديس الشرعي المطلق أي تقديس بالمركز الرسمي أمام الله، وهذا عمل الله الذي به نبدأ حياتنا كمسيحيين، والوجه الثاني هو التقديس العملي المستمر الذي يتعمق ويتسع وينمو على مدى طريقنا هنا على الأرض.
والفصول الكتابية التي تتكلم عن المؤمن باعتبار أنه قد تقدس تندرج طبعاً تحت الوجه الأول، فمثلاً يخاطب بولس الكورنثيين في رسالته الأولى بوصفهم "المقدسين في المسيح يسوع" (ص1: 2) وأيضاً يقول لهم في (ص6: 11) "اغتسلتم بل تقدستم بل تبررتم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا". وهذه أقوال تثير الدهشة لأن المسيحيين الكورنثيين كانت لهم أخطاء كثيرة. إنهم لم يتقدموا كثيراً على طريق القداسة العملية، ومع ذلك فإن الرسول لا يتحرج إذ يذكرهم بأنهم باسم الرب يسوع وبالروح القدس قد تقدسوا تماماً كما قد تبرروا تماماً كما قد اغتسلوا. إنهم قد أفرزوا جانباً لله.
أيضاً في (عب10) نقرأ "لأنه بقربان واحد قد أكمل إلى الأبد المقدسين" فمن هم أولئك المقدسون؟ هل هم مؤمنون وصلوا إلى درجات خاصة في القداسة؟ كلا. إنهم كل المؤمنين بلا تمييز وبلا تفريق، افترزوا لله بفضل الذبيحة الواحدة- ذبيحة ربنا يسوع المسيح.
لكن هناك فصولاً كتابية ترينا القداسة (العملية) كهدف علينا أن نصل إليه وأن نبتغيه فنقرأ مثلاً في (1تس4: 3) "لأن هذه هي إرادة الله قداستكم "كذلك" أحب المسيح أيضاً الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها لكي يقدسها مطهراً إياها" (أف5: 25و26). كذلك "إن طهر أحد نفسه من هذه (أي من آنية الهوان) يكون إناء للكرامة مقدساً نافعاً للسيد" (2تي2: 21).
من هذه الفصول، رغم أن كلمة القداسة تظل تحمل المعنى الأساسي أي الافتراز أو التخصيص، لكن من الواضح أنه يراد بها شيئان في قصد الله لمصلحة شعبه- شيء يجربه المسيح الآن للكنيسة، والشيء الآخر علينا نحن الأفراد الآن أن نسعى إليه. ففضلاً عن التقديس الذي حصلنا عليه شرعاً بالنعمة، فإنه يصير فعلاً لنا متى تجاوبت قلوبنا مع وصايا الله. وبالاختصار هذا الشيء الآخر هو تقديس له صفة عملية مستمرة متدرجة.
والآن نسأل على أي شيء يرتكز هذان الأمران، الأمان والتقديس؟ إن أمن المؤمن أي ثبات مركزه يرتبط دائماً وأبداً بالقيمة غير المحدودة لعمل المسيح الكفاري، وبقدرته غير المحدودة أيضاً على الحفظ. ونمونا وتقدمنا في القداسة العملية بعد تجديدنا، (مع أهمية هذا التقدم والنمو ولزومهما) لا دخل لهما في ضمان سلامة وثبات المؤمن على الإطلاق. تصور رجلاً من العبرانيين في تلك الليلة الحاسمة في مصر، ليلة الفصح، بدلاً من أن يضع علامة الدم على العتبة العليا والقائمتين، راح يعلق بياناً على ورقة طويلة وعريضة عن صفات بكره وجمال أخلاقه وحميد سلوكه وتقدمه في الطهارة والقداسة العملية، فهل كان هذا يضمن له السلامة؟ إن سلامة كل بكر بُنيت أولاً وأخيراً على الدم المرشوش وليس على شيء سواه. وهكذا الحال معنا، فإن سلامتنا وغفران خطايانا وتبريرنا تنبني بالتمام على دم المسيح الثمين. باسمه نلنا غفران الخطايا (أع10: 43) وبدمه تبررنا (رو5: 9).
والتقديس، على أي شيء يستند؟ من وجهة النظر الشرعية يتأسس على عمل المسيح لأنه بذبيحة المسيح الواحدة قد تقدسنا. وأيضاً يرتبط التقديس بعمل الروح القدس، لأننا نحن "مختارون... بتقديس الروح" (1بط1: 1و2). فبالروح القدس على أساس تصديق الحق نولد ثانية، ونختم بالروح القدس ونتقدس (أو نتخصص) لله.
فالتقديس من وجهة النظر العملية المتدرجة يستند على الحق. "قدسهم في حقك. كلامك هو حق". ومن هنا يسهل علينا أن نرى الصحو والمثابرة وتوحيد غرض القلب للانفصال عن الشر كلها لازمة في هذا الخصوص. إن كنا نسلك بالروح (غل5: 16) فلن نكمل شهوة الجسد ويكون المسيح أمامنا غرضاً للقلب، ونستحضر إلى دائرة تأثير حق الكلمة ونتكرس لله عملياً بالفكر والعواطف. هذا التقديس العملي يستمر ويتصل طوال مدة غربتنا هنا.
لكن إن كنا نفصل بين أمان المؤمن وثبات مركزه من ناحية وبين التقديس العملي من ناحية أخرى، أما يكون هذا داعياً لأن يفكر البعض أنه يمكن أن يخلص الإنسان ثم يعيش كما يحلو له؟
والجواب هو إننا لا نفصل بين هذين الحقين لأن الكتاب يقرر بوضوح كامل أن أولئك الذين يحميهم الله من الدينونة، فهؤلاء يخصصهم لنفسه. أما أن شخصاً يحتمي في دم المسيح، ومع ذلك يترك تحت سلطان الخطية فهذا لا يمكن أن يخطر ببال المؤمن إطلاقاً، وإنما غير المولودين من الله هم الذين يروجون لمثل هذه الأفكار.
لكن إذا كنا لا نفصل بين هذين الحقين، فإننا نميز بينهما، لأن الكتاب يفعل ذلك. على أن البعض يخلطون بين هذين الحقين، ورغبة منهم في أن يحفظوا المؤمن في السلوك المستقيم (بحسب فكرهم)، يقولون إن درجة القداسة العملية التي نصل إليها هي التي تحدد درجة أماننا وسلامتنا. فهل هذا الفكر الصحيح؟ هل مركزنا أمام الله له هذه الصفة غير اليقينية، حتى أنه يلزمنا أن نبقى دائماً متشككين؟ خذوا هذا التشبيه، هل يلزم أن نرهب الأطفال الصغار لكي نقوم من سلوكهم؟ وهل هذه الطريقة التي تتبعها أحياناً بعض الأمهات عن جهل، هي الطريقة المثلى لتقويم الأطفال؟ ولماذا نفتكر أن الله يتعامل مع أولاده على مثل هذه الأسس؟ الحق أن كل سلوك صحيح ومستقيم إنما هو نابع من معرفتنا معرفة يقينية أننا قد احتمينا فعلاً من الدينونة وأننا ندرك صفات الله الذي تخصصنا وتقدسنا له.
لنسأل سؤالاً آخر: (هل التقدم في القداسة العملية له شأن في مركز المؤمن في السماء؟)
والجواب: لا بكل تأكيد، مع أنه بدون القداسة لا يقدر أحد أن يرى الرب. لقد كتب الرسول بولس في ختام حياته التعبة المطبوعة بطابع القداسة والخدمة المتفانية- كتب يقول "أن أنطلق وأكون مع المسيح ذاك أفضل جداً" (في1: 23). وقال الرب يسوع للص على شفا نهاية حياته ولم يكن قد قضى في الإيمان غير ساعات قليلة "اليوم تكون معي في الفردوس" (لو23: 43) فأي هذين الاثنين له توقعات أفضل في الوجود مع المسيح؟
لا شك أن حظ الاثنين في المسيح واحد وأكيد وثابت كثبات العمل الذي عمل فوق الصليب. وكثبات كلمة الله. إن أهلية الوجود في السماء ليست من عمل المؤمن. إنه يبدأ طريقه للسماء وهو حاصل على هذه الأهلية. ومن قلوبنا ينطلق الشكر لله "الآب الذي أهلنا لشركة ميراث القديسين في النور" (كو1: 12).
لقد "أهلنا"- فعل ماض تام- ولنا به أهلية تامة.
أما التقدم في القداسة العملية نحو الأفضل فهو بلا شك يخول لنا مركزاً أفضل في التمتع بالشركة مع الرب ويجعلنا أقدر على أداء شهادة ألمع وخدمة أفضل للمسيح في هذا العالم.
وسؤال آخر: متى يحصل هذا التقدم التدريجي في القداسة العملية؟
والجواب هو أنه يستحيل تحديد يوم بالذات أو ساعة معينة فيها نقول (أنا تقدست عملياً) لأنه كيف إذاً يكون التقدم تدريجياً؟ والإيمان بأننا قد أفرزنا لله هو من الله وليس من جهد الإنسان. صحيح للإيمان عمل، لكن الإيمان نفسه شيء ثابت ومستمر. فأنا (آمنت) و(أؤمن). والحق هو الذي يقدس، وكلمة الله هي الحق (يو17: 17) ونعلم أيضاً أن روح الله يقدس. هو القوة المقدسة، كما أنه المرشد إلى جميع الحق. إن الحق يقدم لنا المسيح ويكشف عن أمجاده لنفوسنا. وكما بالإيمان ونحن ناظرون مجده نتغير إلى صورته من مجد إلى مجد، هكذا القداسة التدريجية أيضاً.
إن كل مؤمن في المسيح هو مقدس في المسيح شرعاً لكن من الناحية العملية الاختبارية لا يستطيع أن يدعي أعظم مؤمن أنه تقدس بالتمام. أعظم مؤمن من الناحية العملية يقول "ليس إني قد نلت أو صرت كاملاً"، وأيضاً "أنا لست أحسب نفسي أني قد أدركت" (في3: 13).
ولما قال الرب عن الذي اغتسل إنه "طاهر كله"، لم يكن يعني أن طبيعته القديمة قد ذهبت أو اقتلعت. وكذلك عبارة الرسول في (1تس5: 23) "وإله السلام نفسه يقدسكم بالتمام" يقصد بها أن الرسول يتمنى أن المؤمن يعتزل عن الشر وشبه الشر ويتكرس لله بالتمام. وهذا ما ينبغي أن نطلبه ونصلي من أجله الآن. لكن "إن قلنا إنه ليس لنا خطية نضل أنفسنا وليس الحق فينا" (1يو: 8).
أخيراً نسأل لماذا ينبر الكتاب كثيراً على التقديس الشرعي التام الذي يشترك فيه جميع المؤمنين ويعطيه الأولوية في الكلام؟ وهل لنا في ذلك أية منفعة عملية؟
والجواب هو أن هذا الأمر على جانب كبير جداً من الأهمية. لأن الناموس يضع أمامنا المقياس الذي علينا أن نجتهد للوصول إليه. لكن في النعمة يرينا الله ما نحن عليه شرعاً بحسب اختياره المطلق لكي نجتهد عملياً أن نتوافق مع هذا المركز الشرعي. تأملوا طفلين يولدان في يوم واحد أولهما في قصر ملك ولياً للعهد والآخر في كوخ حقير. فلماذا يراعي دائماً أن يوجه نظر الأول إلى مركزه كأمير وكابن للملك؟ هل في هذا أية منفعة عملية له؟ طبعاً هناك فائدة كبرى. قد يسلك الطفلان في شارع واحد لكن تصرف كل منهما يختلف تماماً عن تصرف الآخر. فالطفل الأمير مبتعد ومتجنب تماماً عن عادات وألفاظ الطفل الآخر، لأنه بالمولد مخصص لمركز ملكي. هكذا الحال معنا فإنه بالفداء الذي بيسوع المسيح وبعمل الروح القدس وسكناه فينا قد انفصلنا وافترزنا لله. وليس ما يدفعنا ويوجب علينا السلوك الصحيح في القداسة مثل إدراكنا لهذا المركز.
- عدد الزيارات: 4684