الدرس الثالث: شقاء الإنسان
رأينا سابقا أن كلمة الله تعلمنا أن غاية الإنسان العظمى وسعادته الحقيقية إنما تمجيد الله وفي العيش حسب إرادته السنيَّة.
نبدأ هذا القسم من دراستنا لتعاليم الكتاب بالكلام عن موضوع شقاء الإنسان. كيف يأتي الإنسان إلى معرفة حقيقة تعاسته وشقائه؟ وهنا نبدأ بمثل المريض الذي يشعر بوجود داء أو علة في جسده. إنه لا يكتفي بالتفكير بدائه ولا يسعى بأن يُشَّخص مرضه بنفسه بل يذهب إلى الطبيب ويثق به ويرجو أن يقف بواسطته على حقيقة حالته وعلى خطورة مرضه. والإنسان العاقل لا يكتفي أيضا بتعليل سبب شقائه بنفسه لأنه وإن كان يشعر بنقص أو خلل ويود أن تكون حياته أحسن مما هي على صورتها الحاضرة إلا إذا ذهب إلى ربه وخالقه وطلب منه أن يُشَّخص مرضه. ولقد أعطانا الله شريعته التي نجدها في كتابه المقدس والتي تخبرنا عن مقدار المرض الروحي المزمن المصابين به. شريعة الله هي إذن بمثابة الطبيب أو أشعة إكس التي تخترق حجاب النفس وتُظهر خُطورة المرض وكَبِر الشقاء الناتج عنه. وقد كتب الرسول في رسالته إلى أهل رومية: " إذ بالناموس تُعرف الخطية" (3: 20)وكلمة ناموس في الكتاب إنما تُسْتَعمل غالبا مرادفة لشريعة الله.
ولقد أعطانا الرب يسوع المسيح خلاصة للشريعة الإلهية بقوله: تُحب الرب إلهك بكل قلبك، وكل نفسك، وكل قدرتك وكل ذهنك، وقريبك مثل نفسك" (الإنجيل حسب لوقا 10: 27) وهذه الخلاصة للشريعة الأخلاقية كافية للقيام بدور الطبيب أو الأشعة النفسية الكاشفة. لأن كل إنسان متى سمح لنفسه بان تقع تحت نور أشعة شريعة المحبة يرى أن نفسه مليئة بالقوى المعادية و المضادة لهذه الشريعة. إن حياته تسير حسب مبادئ مُغايرة تماما لشريعة محبة الله فوق كل شيء ومحبة القريب كالذات. وقد قال الرسول بولس في رسالته إلى رومية مقتبسا من سفر المزامير:
" كما هو مكتوب: إنه ليس بار، ولا واحد، ليس من يفهم، ليس من يطلب الله، إنهم زاغوا جميعا وفسدوا معا، وليس من يعمل صلاحا، ليس ولا واحد" (3: 9- 12).
وكذلك كتب الرسول يوحنا عن موضوعنا قائلا في رسالته الأولى: " إن قلنا: إنه لا خطية لنا، نصل أنفسنا وليس الحق فينا. وإن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل فيغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم. وإن قلنا: إننا لم نخطئ، نكون كمن نكذبه وليست كلمته فينا" (1: 8- 10).
يعلِّمنا الكتاب أن الإنسان خُلق على صورة الله وشبهه لا بمعنى أن المخلوق صار مثل الخالق لأن الخالق عزَّ وجل يبقى دوما متعاليا وساميا وفوق جميع مخلوقاته حتى العاقلة منها. ولكن الله أوحى لموسى بهذا التعليم الوارد على صفحات سفر التكوين لكي نعلم أننا مختلفون عن سائر المخلوقات وأنه هناك شبه بين الله والإنسان. ولو لا وجود هذا الشبه لما قال الله بواسطة موسى أن الإنسان خُلِق على صورته تعالى. يصف الكتاب المقدس صفات الله ويُخبرنا بأنه تعالى هو إله قدوس وأن قداسته لا متناهية وإنها تفوق تصور عقولنا المحدودة. وعندما نتأمل في قداسة الله نرى أيضا بشكل واضح فداحة شرورنا وآثامنا وخطايانا. وهذا الأمر اختبره حتى أنبياء الله الذين كانوا يمتازون عن غيرهم في بني البشر بمزايا عديدة. لندع النبي العظيم أشعياء يصف لنا اختباره الروحي الفريد:
" في سنة وفاة عُزّيا الملك رأيت السيد جالسا على كرسي عال ومرتفع وأذياله تملأ الهيكل. السرافيم واقفون فوقه لكل واحد ستة أجنحة، باثنين يُغَطِّي وجهه، وباثنين يُغَطِّي رجليه، وباثنين يطير. وهذا نادى ذاك وقال: قدوس، قدوس، قدوس، رب الجنود مجده ملءُ كل الأرض. فاهتزت أساسات العتب من صوت الصاروخ وامتلأ البيت دخانا.
" فقلت: ويل لي، إني هَلَكْتُ، لأني إنسان نجس الشفتين لأن عيني قد رأتا الملك رب الجنود. فطار إلي واحد من السرافيم وبيده جمرة قد أخذها بملقط من على المذبح، ومس بها فمي وقال: إن هذه قد مسَّت شفتيك فانتزع إثمك وكَفِّر عن خطاياك" (6: 1- 7) وكذلك كتب النبي دانيال عن اختباره الفريد عندما شاهد الله في رؤيا قائلا:
" وفي اليوم الرابع والعشرين من الشهر الأول إذ كنت على جانب النهر العظيم (هو دجلة) رفعت عيني ونظرت فإذا برجل لابس كتانا وحقواه متنطقان بذهب أوفاز وجسمه كالزبرجد ووجهه كمنظر البرق وعيناه كمصباحي نار وذراعاه ورجلاه كعين النحاس المصقول وصوت كلامه كصوت جمهور. فرأيت أنا دانيال الرؤيا وحدي والرجال الذين كانوا معي لم يروا الرؤيا لكن وقع عليهم ارتعاد عظيم فهربوا ليختبئوا. فبقيت أنا وحدي ورأيت هذه الرؤيا العظيمة ولم تبق في قوة ونضارتي تحولت فيّ إلى فساد ولم أضبط قوة. وسمعت صوت كلامه ولما سمعت صوت كلامه كنت مسبّخا على وجهي ووجهي إلى الأرض. وإذا بيد لَمَسَتْني وأقامتني مرتجفا على ركبتي وعلى كفيّ يدي. وقال لي: يا دانيال أيها الرجل المحبوب أفهم الكلام الذي أكلمك به وقم على مقامك لأني الآن أُرسلت إليك، ولما تكلم معي بهذا الكلام قمت مرتعبا. فقال لي لا تخف يا دانيال لأنه من اليوم الأول الذي فيه جعلت قلبك للفهم ولإذلال نفسك قدام إلهك سُمع كلامك وأنا أتيت لأجل كلامك" (10: 4- 12)
إن كل من يتأمل في صفات الله الكاملة بواسطة الوحي المدون الآن في الكتاب لا بد له من أن يشترك مع أشعياء ودانيال في الارتعاد والخوف في حضرة الله القدوس ويطلب منه الرحمة والغفران.
- عدد الزيارات: 4417