التقديس العملي
على أننا نرجو أن لا يتهمنا أحد بأننا نقصد أن نحط من قياس القداسة الشخصية أو نُضعف رغبة النفس وميلها إلى النمو في التقديس العملي الذي يشتاق إليه كل مؤمن حقيقي- حاشا لله من فكر كهذا! لأن جل رغبتنا سواء كان فيما يخصنا أو فيما يخص أولاد الله عموماً إنما هو التقدم في القداسة والانفصال العملي الأدبي عن كل شر مهما كانت صورته ومهما كان شكله. هذا ما نتوق إليه ونصلي من أجله ونرغب في الوصول إليه من كل قلوبنا يومياً بل في كل ساعة.
ولكننا واثقون ومقتنعون أننا إذا أردنا أن نبني بناء صحيحاً من القداسة العملية فلا يمكن أن نشيده على أساس ناموسي, وهذا ما دعانا إلى توجيه التفات القراء إلى (1كو1: 30) ونحن نخشى أن يكون كثيرون من الذين رفضوا البناء على الأعمال من جهة البر يُرون ساعين للبناء على هذا الأساس من جهة التقديس. وفي اعتقادنا أن هذه الغلطة واقع فيها ألوف. وجلّ مقصودنا إصلاح هذا الخطأ والذي يقبل معنى هذه الجملة التي نحن بصددها في قلبه بالإيمان بكل بساطة فلا بد له أن يصحح فكره.
لا يوجد مسيحي مستنير إلا وهو موافق على أن " البر بدون أعمال" حقيقة أساسية مهمة وهو يعلم جيداً أننا لا نستطيع أن نُنشئ لنا براً بمساعينا الذاتية نقف به أمام الله ولكن الذين يفهمون أن البر والقداسة موضوعان في كلمة الله على أساس واحد, قلائل جداً إذ كما أننا لا نستطيع أن نصنع لأنفسنا براً كذلك ليس في طاقتنا أن نصنع لذواتنا قداسة. ولو أجهدنا نفوسنا فالتعب باطل وربما صممنا العزم وأغلظنا الإيمان وبذلنا الجهد وتعبنا ورجونا أن يكون حالنا في الغد أصلح من حالنا اليوم ولكننا نضطر أخيراً بأن نشعر ونرى ونُسلِّم بأننا "ضعفاء" من جهة القداسة كما كنا "ضعفاء من جهة البر".
يا لها من راحة للنفس التي تخبطت في طريق القداسة فوجدت بعد الجهاد المستطيل أن ما كانت تسعى لإدراكه قد تَذخر لها في المسيح الذي صار لها من الله "قداسة" وفي إمكاننا أن نتمتع به بالإيمان. كذلك الآن قد يكون ذلك الشخص من الذين جاهدوا ضد عاداتهم الرديئة وشهواتهم وطباعهم ساعياً أن يُقمع جسده وينمو في القداسة العملية بدون جدوى ومما كان يزيد همه عندما يقرأ أنه "بدون القداسة لن يرى أحد الرب" (عب12) ولكنه لم يلاحظ أن الرسول هنا لا يتكلم عن مقدار أو درجة من القداسة يبلغها الإنسان هنا بل عن القداسة نفسها التي ينالها كل مؤمن عند الإيمان سواء فهم أم لم يفهم لأن الخلاص يتضمن "القداسة" كما يتضمن "البر والحكمة والفداء" وهو لم يحصل على المسيح بالسعي بل بالإيمان. ومتى قَبل المسيح فقد قبل كل ما فيه. إذن ما عليه إلا النظر إلى يسوع بالإيمان فيُقمع جسده ويُخضِع شهواته وطباعه وعاداته وظروفه, ومتى نظر إلى يسوع نال كل شيء. وكما أنه ليس في طاقاته أن يمحو خطية واحدة من جدول خطاياه أو يقيم الميت من قبره كذلك لا يسعه أن يُخضع شهوة واحدة بنفسه ( فالمسيح هو الكل في الكل) والخلاص أشبه بسلسلة حلقات تمتد من الأزل إلى الأبد والمسيح هو تلك الحلقات جميعها . فهو الأول والآخر.
- عدد الزيارات: 2843