الفصل 3: الآيات والمعجزات
الآيات ليست هي نفسها المعجزات. فالآية هي دائماً معجزة، ولكن ليست المعجزة دائماً آية. أليست ولادة إنسان معجزة؟ أليس الجسم الإنساني بكل أعضائه معجزة؟ أليست الطبيعة بكل ما يجري فيها معجزة؟ وأليست الولادة الجديدة للإنسان أعظم معجزة؟
كل هذه المعجزات تحدث دائماً حتى أننا اعتدنا عليها فلا نفكر فيها كمعجزات، ونعتبر أنه أمراً معجزياً فقط يحدث نادراً وخارقاً لنظام الله العادي المألوف.
فمنذ أن وُجد الإنسان، هناك معجزات يراها وسيظل يراها إلى الأبد، لأن الله له السلطان المطلق أن يغير النواميس التي بها يسيّر الطبيعة إذا أراد ذلك.
أما الآيات فإنها تفترض وجود الخطية، وهي موجهة لغير المؤمنين الذين لا يصدقون أقوال الله أو الذين لا يؤمنون به. فالآية هي معجزة يصنعها الله لكي يعرّف الإنسان أن الله كائن وأنه فوق كل شيء. ولذلك فإنه في الأبدية لن تكون هناك آيات لأنه لن يكون هناك عدم إيمان.
وهنا سوف نحصر تأملنا في الآيات والمعجزات التي صنعها الله بواسطة الناس:
في الألفين والخمسمائة سنة الأولى بعد الخليقة لا نجد آية واحدة صنعها الله بواسطة إنسان. ألم يكن هناك مؤمنون أو خدام لله في تلك الآيات؟ بالتأكيد كان هناك كثيرون أمثال أخنوخ الذي يقول عنه الكتاب أنه سار مع الله ولم يوجد لأن الله نقله، وأيضاً نوح الذي سار مع الله ويوصف بأنه كارز للبر. وكذلك ابراهيم أبو المؤمنين. وهل يوجد في العهد القديم من هو أعظم من ابراهيم أو أكثر أمانة منه؟ وكثيرون آخرون غيرهم، ومع ذلك لا نجد آية واحدة صنعها الله بواسطة إنسان في هذه الأيام الغابرة.
وأول الآيات التي ذكرت هي التي صنعها الله بواسطة موسى والمذكورة في أول سفر الخروج عندما أرسله الرب ليخلص إسرائيل وعرف أن فرعون لن يسمع لموسى ولذلك قال الله "إني سأضرب مصر بكل عجائبي التي أصنع فيها" (خر3: 20). وكذلك لما خاف موسى من أنه حتى شيوخ إسرائيل قد لا يصدقونه أعطاه الله آيات لأجل هذا الغرض لكي يقتنعوا أن الرب حقاً قد أرسل موسى (خر4: 1- 9).
من ذلك نرى أن الغرض من إعطاء الآيات هو:
1-كحكم يصدر على عدم الإيمان.
2-كعلامة على أن الشخص الذي أجرى الآية عنده إرسالية خاصة مكلف بها من الله. فيؤمنون به كمرسل من الله لهم.
والآن ما الذي يميز موسى عن ابراهيم ونوح... الخ حتى أن موسى عمل آيات في حين أن الآخرين لم يصنعوا مثله؟ هل كان لموسى إيمان أعظم من نوح وابراهيم. بالعكس عندما نقرأ (خر4) نجد أن موسى رفض إرساليته أولاً وتلكأ في الذهاب إلى مصر، إذن فإيمان نوح وابراهيم كان أعظم من إيمان موسى وليس موسى فقط بل نوح أيضاً كرز عن الدينونة القادمة وطريق النجاة بواسطة الفلك، وليس موسى فقط بل في ابراهيم أيضاً نجد بداية تدبير جديد في طرق معاملات الله مع الأرض.
إذن ما هو الشيء الخاص الذي ميّز موسى عن الآخرين؟ ليس هو مجرد حصوله على إعلان عن أشياء جديدة أو اختياره من الله كبداءة جديدة لتدبير جديد كابراهيم ونوح، ولكن لأنه حصل على إرسالية خاصة من الله ليعلن هذا الشيء الجديد لأولئك الذين لم يكونوا يعرفون أن هذه الشهادة هي من الله.
ونرى أيضاً أن هذه الآيات صنعت وانتهت في فترة قصيرة جداً في أول إرساليته، وبينما لا نجد آيات صنعها موسى بعد الأسابيع الأولى من خروج الشعب من أرض مصر إلا في حادثة ضرب الصخرة. أما المعجزات فكانت كثيرة: ألم يكن بقاء موسى على الجبل أربعين يوماً بدون أكل أو شرب معجزة؟ (خر34) ويمكن أن تذكر معجزات أخرى ولكنها ليست آيات قد صنعها.
ثم عندما قاد يشوع الشعب إلى الأرض نجد آيات يشوع في (يش10: 12- 14) ولكن بعد ذلك لا نجد آيات أخرى لمدة 700 سنة حتى تاريخ إيليا وأليشع اللذين صنعا آيات ومعجزات ثانية ولكن ليس في مملكة يهوذا حيث كانت شهادة الله موجودة في الهيكل وخدمة الناموس لكن فقط في مملكة إسرائيل التي كانت قد انفصلت عن يهوذا، وتحولت رسمياً عن عبادة الرب إلى العبادة الوثنية لذلك أعطى الله الشعب المرتد عنه شهادة خاصة عن طريق خادميه اللذين دعاهما خصيصاً لهذا العمل كما سوف يفعل أيضاً في الأيام الأخيرة (رؤ11: 3- 6).
ولما رفض إسرائيل هذه الشهادة أيضاً لا نعود نجد ذكراً لآيات مثل التي صنعها موسى وإيليا وأليشع حتى مرت 700 سنة أخرى وجاء الرب يسوع إلى أرض إسرائيل ونراه يصنع الآيات التي تبرهن على حضوره في وسطهم.
وجدير بالذكر أن يوحنا المعمدان لم يفعل آية واحدة (يو10: 41) مع أن الرب يشهد عن يوحنا المعمدان أنه أعظم من نبي ولم يكن موسى وإيليا أعظم منه فضلاً عن أنه كان ممتلئاً من الروح القدس من بطن أمه (لو1: 15). وكذلك الرب يسوع لم يصنع آيات إلا بعد أن بدأ خدمته الجهارية في سن الثلاثين (يو2: 11). وفي (مت11: 3- 5) نرى الغرض من هذه الآيات كدليل على أن الله قد أرسله. انظر أيضاً (يو2: 23، 4: 48، 5: 36، 6: 2، 30، أع2: 22... الخ)
لقد اختار الرب الاثني عشر رسولاً وأرسلهم بمهمة عاجلة ليكرزوا ببشارة الملكوت ويصنعوا الآيات التي تؤيد الكرازة (مت10) وبعد ذلك أرسل السبعين تلميذاً بنفس الإرسالية وهاتان الإرساليتان كانتا لإسرائيل فقط ولم يكن لهم أن يخرجوا خارج حدود أرض إسرائيل، لأن وقت النعمة النسبة للأمم لم يكن قد حان بعد.
ولما رُفض الرب من إسرائيل وكان عمل الفداء قد أكمل أرسل الرب المقام من الأموات، رسله مرة أخرى ليكرزوا بالإنجيل (مر16: 14- 20) ليس إنجيل الملكوت ولكن إنجيل النعمة للخليقة كلها، أي للأمم أيضاً الذين كانوا في تدبير الناموس بعيدين (أف2: 13). ولذلك أعطى الرب الآيات مرة أخرى بالارتباط مع هذه الشهادة (كما فعل قبلاً مع موسى) وكانت الآيات تحمل طابع تلك الأخبار التي تقدم. وما جاء في (مر16: 20) يفيدنا بأن الرسل تمموا فعلاً إرساليتهم إلى العالم، وأن الله تمم وعده الخاص بالآيات لتثبيت كلمة الله. والأقوال الواردة في عبرانيين2: 3، 4 تؤكد ذلك أيضاً.
وسفر الأعمال يوضح لنا كيف قام الرسل بهذه الإرسالية التي كلفهم بها الرب فكانوا يكرزون بالإنجيل ويعملون الآيات لتثبيت أقوالهم التي هي بالحقيقة أقوال الله (1تس2: 13). وجدير بالذكر أنه بالنسبة للأحد عشر رسولاً (وبينهم بطرس بصفة خاصة) يذكر السفر أنهم عملوا آيات سبع مرات (أع2: 43، 3: 7، 5: 5- 10، 12، 15، 16، 9: 33، 42) ثم بعد ذلك نقرأ عن آيات عملها بولس سبع مرات (أع3: 11، 14: 10، 16: 18، 19: 12، 20: 10، 28: 3-6، 8- 10) وثلاث مرات عن آيات عملها استفانوس وفيلبس (أع6: 8، 8: 6، 13).
وإذا قرأنا سفر بأكثر تدقيق فإننا نكتشف بهذا الخصوص بعض الملاحظات الهامة:
1-بجانب الرسل لا يوجد إلا استفانوس وفيلبس وهما الخادمان المدعوان من الله بصورة خاصة اللذان أجريا آيات. والتأكيد على هذه الحقيقة يتكرر بصورة ملفتة خلال السفر (أع2: 43، 5: 12، 15، 13: 7- 9... الخ). ولا يُذكر عن الخدام الآخرين أمثال برنابا أو يعقوب أو سيلا... الخ، أنهم أجروا آيات.
2-السبع آيات الأولى في سفر الأعمال أجريت في أورشليم. وبعد ذلك أجرى فيلبس آيات في السامرة، ثم بطرس أجرى آيتين في مناطق يهودية خارج أورشليم. وبعد ذلك أجرى بولس سبع آيات بين الأمم.
3-الآيات التي جرت خارج أورشليم كانت كلها في أماكن مختلفة فلا يذكر بالمرة عن أي مكان أجريت فيه آيات أكثر من مرة واحدة. وكان ذلك دائماً عند التبشير بالإنجيل لأول مرة في ذلك المكان. والاستثناءات الوحيدة هي:
أ-في أفسس: طبقاً لما جاء في أع18: 19- 20 حيث لم تكن لبولس آنذاك فرصة ليمكث فيها.
ب-في ترواس: طبقاً لما جاء في أع16: 8- 10، 2كو2: 12 حيث ذهب مرتين ولكن بدون أن تكون له فرصة للمناداة بالإنجيل.
4-في أول سفر الأعمال في بداية تأسيس الكنيسة نجد كمية كبيرة من الآيات. وكلما انتشرت الشهادة وأصبحت معلومة كلما طالت الفترات الزمنية بين الآيات.
5-الذين نالوا الشفاء عن طريق الآيات كانوا غير مؤمنين، ما عدا إقامة طابيثا من بين الأموات شهادة ليافا كلها أع9 وفي مرات كثيرة كان الذين يشفون من أمراض لهم إيمان في قوة الشفاء. وفي مرات أخرى كما في أع 3 فإن الرجل المقعد لم يكن يعرف بطرس ويوحنا ولم يكن يتوقع منهما سوى الصدقة. وفي ظروف أخرى كانت الآية قضاء ودينونة من الله.
وفي الرسائل نجد فقط في 1كو12 ذكراً لقوات معجزية ومواهب الشفاء حيث يخبرنا أن الله أعطى هذه المواهب للبعض ولم يذكر من هم أولئك البعض ولم يذكر شيئاً عن استخدام هذه المواهب (12: 28- 31). والرسالة الأولى لكورنثوس كتبت في زمن (أع19) انظر (1كو15: 32، 16: 5- 9). ولا يوجد في الرسائل المكتوبة بعد (أع28: 29) أي ذكر عن آيات أو شفاء أو تكلم بألسنة.
ولنلاحظ جيداً أن التكلم بألسنة وموهبة الشفاء يأتي ذكرها فقط في كورنثوس حيث كانت حالة المؤمنين الروحية هناك منحطة جداً، إذ كانوا جسديين ويقاضون بعضهم بعضاً والبعض طعنوا في صحة رسولية بولس الرسول وكان بينهم زنا غير مقضي عليه، والبعض كان يسكر في عشاء الرب، وكانت بينهم تعاليم كاذبة. وهذه المواهب لم تُذكر في الرسائل الأخرى التي كُتبت للكنائس التي كانت حالتها الروحية أسمى.
حقاً يذكر في (2تس2: 9) عن الآيات إذ يقول "الذي مجيئه بكل قوة وبآيات وعجائب...." لكن هذه الآيات سوف يعملها ضد المسيح ويعملها بقوة الشيطان. انظر أيضاً ما جاء في (رؤ13).
ويخبرنا أيضاً في (مت7: 22) عن أناس يتنبأون ويخرجون شياطين ويعملون قوات كثيرة باسم الرب يسوع لكن سوف يقول لهم الرب "إني لم أعرفكم قط، اذهبوا عني يا فاعلي الإثم" ألم يصنع يهوذا الاسخريوطي أيضاً آيات إذ كان واحداً من الاثني عشر الذين أرسلهم الرب يسوع (مت10)؟
ونجد أيضاً أن التأثيرات الشيطانية قد تعمل حتى بين المؤمنين وحتى بالارتباط مع الأمور التي يعملها الروح القدس ومثال ذلك بطرس في (مت16)، وكذلك الذين كانوا يكرزون بالمسيح عن حسد وخصام (في1: 15- 17).
الخلاصة
نستخلص مما سبق أنه في العهد القديم جرت الآيات فقط بواسطة أشخاص أرسلهم الله بإرسالية خاصة ليشهدوا لغير المؤمنين بشهادة جديدة. وبين هؤلاء عاش في تلك الأوقات آلاف غيرهم لم يصنعوا آيات. وفي الأناجيل لا نجد بخلاف الرب سوى الرسل الاثني عشر والسبعين تلميذاً صنعوا آيات. وفي باقي العهد الجديد ليس سوى الرسل، ومرة واحدة بواسطة استفانوس، ومرتين بواسطة فيلبس.
ووجدنا أيضاً في العهد القديم كما في العهد الجديد أن الغرض من الآيات كان تثبيت الكرازة التي كرز بها هؤلاء المرسلين. ولهذا فقد قلت الآيات ثم انتهت كلية بعد أن تثبتت تلك الشهادة.
ورأينا أيضاً أن غير المؤمنين يستطيعون أن يعملوا آيات باسم الرب يسوع، وأنه في بعض الأحوال تكون أعمالهم مكشوفة ومفضوحة. كما رأينا أيضاً أن المؤمنين قد يعملوا أشياء تحت تأثير الشيطان، وأنه قد تبدو هذه الأشياء ممدوحة في ظاهرها بسبب بعض الأمور الصحيحة أو الحسنة المرتبطة بها.
- عدد الزيارات: 5307