شوكة في الجسد (2 كو 12)
كان الرسول بولس رجلا عظيما قد استخدمه الرب بشكل معجزي. وقد كتب تقريبا نصف العهد الجديد في اربع عشر رسالة رعوية ومائة اصحاح. وكان كفؤا ومؤهلا لتأسيس المسيحية وانجاحها في العالم. وقد بشّر بولس سبعة دول واسّس آلاف الكنائس المحلية. ومع كل ذلك، كان فيه شيء أعاقه وسبّب له التعب والاذلال.
في الرسالة الثانية لاهل كورنثوس، الفصل الثاني عشر، تحدث بولس العظيم عن شوكة في الجسد سبّبت له المعاناة. ربما كان ذلك ضعفا جسديا ما او نقصا جسمانيا ما في جسمه او نظره. لم يحدّد الكتاب المقدس ماهيتها، ويبدو انه ليس من الاهم معرفة ما هي. لكن من الواضح ان الشوكة هي امر في كل واحد منا، كلما ينجح في انجاز معين، يتذكّر ذلك الامر الذي في حياته، فيشعر بالاذلال والاهانة مما يمنعه من الافتخار بالانجاز.
حصل بولس على الكثير من الاعلانات الالهية. وصنع الرب من خلاله معجزات خارقة، لكن الرب ابقى في جسد بولس امرا ما جعله يشعر بالاهانة والاذلال. استغرب الرسول واغتاظ وتساءل في نفسه مفكرا :"كل ما فيّ عظيم ورائع، لكن اتمنى لو ان الرب يزيل هذه الشوكة من حياتي، اكون عندها من اسعد البشر". صلّى الى الرب ولم يحصل على اية استجابة. صلى ثانية وثالثة، لكن السماء بقية صامتة ومغلقة.
شعر بولس مذلولا ومحتقرا، وظن ان على الرب ان يزيل هذه العلامة المذلة التي كانت في حياته. ولم يفهم لماذا سمح الرب بهذه الشوكة، التي كانت سيفا مؤلما في يد الذين سمعوه او التقوا به. استغرب بولس ان الرب القدير الذي يصنع العجائب، لم يعطه راحة، ولم ينقذه من هذه الشوكة المذلّة.
وفجأة فتح الرب ذهن بولس واكتشف ما يجول في ذهن الخالق بخصوص هذه الشوكة الاليمة. ادرك بولس ان للرب قصدا عظيما حتى من سماح تلك الشوكة في حياته. واعلن له الله ان الشوكة وُجدت لتحفظ بولس في التواضع والانكسار، الذين يجعلون الرسول نافعا لاعلانات اكثر. اكتشف بولس انه كلما زاد الاذلال بسبب الشوكة، كلما فاض الرب عليه بالبركات والنعم والانتصارات. ذات الشوكة التي أذلّت بولس وحطمت كبرياءه ومنعته من الافتخار، هي ذاتها قادته الى انتصارات جديدة وحفظته من الكبرياء لكي تعطي مجالا اكبر للرب ليصنع عظائم اكثر من خلاله. كان قول الرب له :" تكفيك نعمتي، لان قوتي في الضعف تُكمَل". كلما كنت اكثر ضعفا امام الناس، كلما كنت اقوى، وانفع لعمل الرب.
وموسى ايضا، طلب الله منه ان يذهب الى فرعون، ويخلّص الشعب من العبودية. نظر موسى الى نفسه ورأى عائقا عظيما في ذاته يمنعه من ان يكون نافعا لمهمة الهية كهذه. كان يعاني من مشكلة في لسانه، لم يستطيع ان يتحدث بطلاقة وسيولة. عندها التجأ موسى الى تقديم وابل من الذرائع والاعذار، عل الرب يعفيه من تلك المهمة. لكن الغريب ان الرب فكّر بشكل مختلف تماما. فبالنسبة لله، كان اختياره لموسى بسبب تلك العاهة بالتحديد. ما رآه موسى عائقا، رآه الرب القدير مؤهَّلا، وما رآه موسى نقصا، رآه الرب ميزة. وما ظنه موسى سبب فشل، رآى الله الحكيم سبب نجاح. بحث الرب دائما عن آنية متواضعة ومذلولة ومنكسرة ومنسحقة لاظهار مجده وانجاز انتصارات الايمان. كان موسى اناءا ممتازا، عكس ما يمكن ان يعتقده البشر. لم ير الله الشوكة عائقا او معطلا بل سببا للنصرة والمجد.
صنعت الشوكة المؤلمة من بولس(2 كو 12) رسولا عظيما ورابحا للنفوس للمسيح. وصنعت من بطرس (مت 26: 70)مسيحيا شجاعا وجريئا، وقام امام خمسة آلاف رجل، ووعظ بقوة فاستخدمه الرب للخلاص والحياة الابدية. وصنعت ايضا الشوكة من داود (1 صم 16: 11) شاعرا وكاتبا للمزامير التي كانت سببا لتعزية وتشجيع الملايين في كل مكان وزمان الذين اجتازوا الالم والضيق. والشوكة صنعت من موسى جريئا لمواجهة فرعون، فخلّص شعب الله. والشوكة جعلت من ابراهيم ابا للمؤمنين وخليلا للقدير. والشوكة ايضا جعلت من جدعون (قض 6) بطلا للايمان. وجعلت من مفيبوشت (2 صم 9) ان يجلس على مائدة الملك. ومن يوسف (تك 37) حاكم مصر. وشوكة هابيل جعلته يقدّم تقدمة مقبولة لله اكثر من قايين. والشوكة المؤلمة صنعت من استير ملكة على اكثر من مائة شعب. والشوكة في مردخاي جعلته ينتصر على هامان عدو شعب الله. وشوكة النبي يونان جعلته يربح شعب نينوى. وشوكة يشوع اتت يالانتصارات المتتالية. ونعمي جعلتها تستعيد البركات لشعب الرب. والمرأة السامرية (يو4) صنعت منها اناءا نافعا لربح المدينة بأكملها. وشوكة نحميا جعلته يصرّ على بناء سور المدينة رغم المقاومة الشديدة. وجعلت الشوكة من ارميا نبيا ورجل ايمان.
من جهة اخرى، كان نقص وانعدام الشوكة في حياة سليمان سبب ابتعاده عن الحق، وعندما وُجدَت لاحقا وبعد سنين طويلة، رجع الى الرب مذلولا وكتب سفري الجامعة والامثال، فكان سببا لارشاد شعب الله واقناع البشر بتفاهة الحياة بدون الرب. وانعدام الشوكة من حياة آدم وحواء جعلتهم متكبرين، فسقطوا في الخطية وطُردوا من الجنة. وانعدام الشوكة في قايين جعلته يقتل اخاه البار بدم بارد. وانعدام الاستفادة من الشوكة في يفتاح جعلته يقدّم ابنته الوحيدة ذبيحة دون ان يطلب الرب منه ذلك. وانعدام الشوكة في شاول جعلته ينتحر يائسا.
هنالك خطٌ دقيق جدا بين النجاح والفشل، وبين العظمة والسقوط. يمكننا ان نستخدم ما لدينا اما للانتصار او للسقوط، اما للنجاح او للفشل. بعض الذين سمح الرب في حياتهم شوكة ما وبقصد الهي مجيد، اساؤا فهم الرب، فكانت الشوكة سبب تحطيمهم، وآخرون استفادوا من حكمة الرب فكانت الشوكة الاليمة في حياتهم سبب بركة وانتصار وقوة.
يمكننا ان نفكر بالامور الحسنة التي في حياتنا ونفتخر بها. وما نفتخر به يمكن ان يقودنا الى الكبرياء ومن ثم الى الدمار لنا ولعائلتنا. وكذلك يمكننا ان ننشغل بما ينقصنا وبكل ما نتمناه ولا نملكه، فنيأس ونحبط ونسير الى الدمار الذاتي.
لكن الرب يريد منا ابطالا منتصرين، نسير من نصرة الى أخرة. ويريدنا الرب ان نكون حكماء ومتواضعين خاصة بسبب الامور التي لا نحبها ولا نحتملها فينا. التي سمح الرب بها لتقودنا الى العظمة والانتصار.
هيا نفكر قليلا وبصدق امام الرب كاشف القلوب. ربما يكون في حياة كل منا امورا تسبّب لنا المذلة والمرارة. شيء ما حدث في الماضي، او ضرر انت فعلته للاخرين او آخر فعله لك وانت لا تستطيع ان تنساه او تغفر للاخرين. ربما يكون امر في جسدك او في نفسك او في عائلتك، كلما تفكر به، تشعر باليأس او الاذلال او الانكسار او الاحباط، وتظن انه لولا ذلك الامر، لكنت من اسعد البشر، وتتساءل لماذا لا يزيله الرب من حياتك وهو الذي يستطيع كل شيء!. ربما تصلي او تبكي امام الرب او تتساءل او تتذلل. ليت الرب يمنحنا الحكمة السماوية ويفتح اذهاننا من خلال روحه القدير ويعيننا لنكتشف المفتاح للعظمة والانتصار من خلال ما يذلّنا ويكسر كبرياءنا.
ان الطريق نحو الحل ليس ابدا الاتجاه الى فوق بل الى اسفل. كلما انكسرت اكثر، كلما كان الانتصار اقرب اليك. ذات الشوكة فيك التي ظننتها دائما سبب اذلالك واحباطك، هي ذاتها القوة والمركبة التي يمكن ان توصلك الى العظمة والانتصار.
ظنّ بطرس انه صالح ونافع للرب لكنه لم يكن كذلك. سقط وانكر الرب سيده. لم يستطع تقبل سقوطه، وظن ان ذلك كان نهايته. لكن عندها قال له الرب الان انت ممتاز لخدمتي!.. فاستخدمه الرب بشكل معجزي، اكثر من اي واحد من التلاميذ، ولم يذكر الكتاب سقوط اي واحد منهم. نفس الشيء الذي كان ممكن ان يحطم بطرس، كان سبب نجاحه وانتصاره وسبب استخدام الرب له. ذات الشيء!..
ليتنا نثق بالرب لانه حكيم وقدير. لا تفكر ابدا انه لا يسمع صلواتك وتضرعاتك. اصغ الى ما يريد هو ان يقول لك. هو يريد ان يستخدمك، لكن افكار الرب ليست كأفكارنا. لنثق في محبته وفي حكمته وقدرته. ان الصليب امر قاس وبشع، لكن بدون الصليب، لا يكون يسوع مخلّصا وفاديا وشفيعا. ذات الشيء المليء بالاذلال والهوان والاحتقار اي الصليب، هو ذاته جعل يسوع قادرا على مصالحتنا مع الله القدوس العادل واستطاع ان يغسلنا بدم نفسه.. ما أذلّ يسوع، جعله منتصرا الى ابد الابدين. ونحن ايضا "لا نفشل، ان كان انساننا الخارج يفنى، فالداخل يتجدد يوما فيوم. لان خفة ضيقتنا الوقتية تنشئ لنا ثقل مجد ابدي" (2 كو 4).
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
- عدد الزيارات: 5849