الفصل الخامس: عقيدة الثالوث الأقدس
يُقرّ المسيحيون بأنّ للذّات الإلهية أسرارها، كما يسلّمون بعجز عقولهم عن إدراك إعلانات الله عن ذاته وثالوثه إدراكا كاملاً، لأنه إن جاز لهم ذلك يكون الخالق الغير محدود قد حدّ بالعقل المحدود. لذا فهم يحنون تلك العقول خضوعاً "لسرّ الله الآب والمسيح المذّخر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم" (كولوسي 2: 2و3).
خلافاً لذلك يعتقد شهود يهوه أن كلّ أمور الله تُفهم بالعقل والمنطق، وما يتعارض معهما ليس من الله. فلا موضع للأسرار الإلهية في تعاليمهم وفكرهم على الإطلاق؛ وإن وجد في الماضي أسرار، كما يقولون، فإن "الله في وقته المعيّن أوضح معنى هذه الأسرار المقدسة لعباده الأمناء، شهود يهوه، ليتمكّنوا من إعلانها وجعلها معروفة." [72]
مصدر العقيدة
قالوا: "في القرن الرابع تبنّى العالم المسيحي عقيدة الثالوث، التي علّمها البابليون والمصريون والهندوس والبوذيون من قبل، فمَن هو وراء ذلك؟ إله هذا الدهر، الشيطان، إبليس. ففي السنة 325 ب م أسّس الإمبراطور الروماني غير المعتمد، قسطنطين، الكيان المسيحي ونظامه، فحرّف العقيدة المسيحية وخلطها بكثير من الأسرار الملهمة من الشيطان." [73]
الردّ: اعتراضهم المتواصل، على أن الكيان المسيحي اخترع عقيدة الثالوث وتبنّاها في مجمع نيقية بأمر من قسطنطين لا أساس له من الصحة. لقد نصّ المجمع على العقيدة، إلاّ أنه لم يخترعها، والغرض من انعقاده كان مجابهة الذين انزلقوا إلى هوة الكفر والهرطقة. فالعقيدة ليست وليدة الفكر البشري،بل هي إعلان من الله في كلمته، بدلالة آيات كثيرة في غاية الصراحة، وقد كانت من المعتقدات الأساسية المسلّم بها لدى رسل المسيح وآباء الكنيسة قبل نيقية، أمثال اريناؤس و ترتليانوس من القرن الثاني. فاتهام نيقية عكاز مرضوض وحائط مهزوز لا يصح الاتكاء عليه.
ثم إنّ العقيدة لا تمتُّ بصلة إلى التعاليم الوثنية. فكل عاقل يقارن بين عقيدة الثالوث المسيحية والعقائد الوثنية الباطلة يدرك حالاً مدى الخلاف القائم بينهما، ومقدار سمو عقيدة المسيحيين على الخُرافات المصطنعة. فالبابليون اعتقدوا بثالوثٍ وُسِمت طبيعته بالنجاسة، فآمنوا بوجود إلهين هما "نمرود" وأمه "سميراميس" وقد تزوّج نمرود بأمه فأنجبت إلهاً ثالثاً. والمصريون آمنوا بتسعة آلهة، "التاسوع المصري العظيم". ثم قسموا التسعة إلى ثلاث مجموعات وجعلوا عليها الإله "رع" رئيساً، أمّا الأساطير الهندية فتتحدّث عن ثلاثة آلهة فُضّلوا عن غيرهم، "براهما" و"فشنو" و"سيفا". آلهة الخلق والعطاء والتدمير.
خلافاً لهذه الخرافات، يؤمن المسيحيون بإله واحد خالق السماء والأرض وكلّ ما فيهما. إلاّ أنّهم يؤمنون بأنّ وحدانية الله هي وحدانية جامعة على أساس الإعلانات الإلهية في الكتاب المقدس، كما سنرى لاحقاً. إذاً ثمّة احتمالان يفسّران سبب نسبة شهود يهوه عقيدة الثالوث إلى الوثنية: فإمّا أن يكونوا على جهل تام بما يعلّمه الفريقان، المسيحي والوثني، وإمّا أنّهم تجاهلوا الفرق عمداً ليفسحوا لأنفسهم في المجال للنقد اللاذع ويفتروا بهذا شرّ افتراء على الحق المسيحي المختص بذات الله، والمختلف كلّ الاختلاف عن اعتقادات الوثنيين في آلهتهم.
قالوا: "الكتاب المقدس لا يتحدّث مطلقاً عن ذلك السر (سر الثالوث) لأنّه غير موجود - أنّ الكلمة "ثالوث" غير موجودة في الكتاب المقدس". "لماذا طوال آلاف السنين لم يعلم أحد أنبياء الله شعبه عن الثالوث؟- لم تكن العقيدة معروفة عند الأنبياء العبرانيين والرسل المسيحيين". "ألم يكن يسوع ليستخدم مقدرته بصفته المعلم الكبير لجعل الثالوث واضحا لأتباعه؟"[74]
الرد: قولهم لا يبيّن من الحق إلا نصفه، لأن عدم ذكر الشيء لا ينفي مطلقاً وجوده، وغياب الدليل على الثالوث ليس دليلا على غياب الثالوث، الذي رغم كونه غريبا على الكتاب المقدس لفظا، إنّما ينبع منه معنوياً. فالكتاب يعلنه، سواء بالإشارة والتلميح أو بالأدلة الروحية والمعنوية، فيرسم لنا ثلاثة شخصيات تشاركت في الأعمال والصفات والأمجاد، ويبقى أمام هذه الإعلانات، إما أن نقول بتعدد الآلهة أو بإله واحد مثلث الأقانيم *. وقد استعان آبائنا بإرشاد الروح القدس، وقبلوا بالخيار الأخير رافضين كل محاولة لتأويل النصوص بعيدا عن هذا الفكر. فأتى من خالف هذا الفكر فوقع في شرك المشاكل اللاهوتية.
ويجب أن لا يغفلوا، أن إعلانات الله عن ذاته جاءت متدرجة بقدر ما رأى الله ذلك في حكمته وعلمه. فلكل إعلان وقت، والعهد الجديد هو الوقت المعين لإعلانٍ أسمى عن ذات الله، العهد الذي فيه صرنا نرى جوهر الحقائق لا خيالها. لقد أشار الأنبياء قديما إلى الابن لكننا لم نعرفه تماما إلا بالتجسد، وتحدثوا عن روح الله لكننا لم نعرفه كما هو إلا بحلوله علينا وفي وسطنا، ومع أنهم لمـحوا إلى عقيدة الثالوث لكنهم لم يدركوها كما هي في العهد الجديد، كما ولم توكل إليهم مهمة كشف الحقائق الكاملة عن ذات الله لأنها من مهام الابن، "الله لم يره احد قط. الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبر"( يوحنا 1 : 18)، وما أوضحه الابن لتلاميذه فاق كل ما أعلنه لأنبيائه قديما، ليصل الإعلان بعد ذلك قمته بواسطة ما أعلنه الروح القدس للرسل. وإلينا من كتاب الله ما يشير فيه إلى الثالوث:
الثالوث في العهد القديم
1 - ( تكوين 1 : 1 ) "في البدء خلق الله (ايلوهيم) السماوات والأَرض... وروح الله يرف على وجه المياه". ففي أول آيات الكتاب نرى اشتراك الله وروحه في الخلق، ولنا في الاسم "ايلوهيم" خير إعلان كتابي على حقيقة التعداد في وحدانية الله. فالاسم هو لفظ جمع، ومفرده بالعبرية "ايلوه"، أي إله. وفي نور إعلانات العهد الجديد نرى في "ايلوهيم" أقانيم الله الثلاثة وحقيقة اشتراكهم في عملية الخلق:فالآب هو الخالق الذي منه كلّ شيء (رومية 11: 36)؛ والابن هو الخالق الذي به كل
----------------------------
* أقانيم: جمع أقنوم، وهي سريانية الأصل تفيد الشخصية المميّزة غير المستقلّة أو غير المنفصلة.
شيء (يوحنا 1: 3؛ كولوسي 1: 16) والروح القدس هو الخالق الذي جدّد وجه الأرض وصنع الإنسان (مزمور 104: 30؛ أيوب 33: 4). وهؤلاء لا يمكن أن يكونوا ثلاثة آلهة، بل ثلاثة أقانيم مميّزين لكن غير منفصلين في الإله الواحد.
اعتراض: "كلمة "إيلوهيم" لا تعني "أقانيم" بل "آلهة". لذلك فبحجة كهذه يجعل الثالوثيّون أنفسهم عابدي آلهة كثيرة... فمن الواضح إذاً أنّ اللقب "إيلوهيم" الذي له صيغة الجمع، هو جمع العظمة أو الجلالة".[75]
نقول: لا اعتراض البتة، الاسم هو جمع "إله" ويترجم "آلهة"، ولا يوجد من نقله إلى أقانيم. لكن وروده بصيغة الجمع هو ليس للتعظيم والإجلال، لأن هذه الحالة اللغوية غير معروفة في العبرية، كما ولا يجوز أنّ يكون الاسم جمع العظمة والجلالة ولا في حالة من الحالات التالية:
أ - لا يجوز استعماله للتعظيم في حالة التكلّم مع الله، لأنّه لا يقال للسيد أسياد وللإله آلهة وللملك ملوك وللرئيس رؤساء، وذلك لتعظيمهم، لأن هذا يدلّ على وجود أكثر من شخص واحد.
ب - لا يجوز استعماله للتعظيم في حالة تكلّم الله، لأنّ اسمه عظيم في ذاته ولا يحتاج لأن يعظّمه، ثم لا يعقل أن الله يعظّم نفسه تارة ولا يعظّمها تارة أخرى.
فإن كان الاسم "ايلوهيم" لا يشير إلى تعدد الآلهة، ولا يعني التعظيم فهو بالتالي يفيد التعداد في وحدانية الله.
ولسنا عباد آلهة كثيرة كما يتهموننا، فقد عبّر آباءنا في مطلع دستور الإيمان عن إيمانهم بالإله الواحد الجامع في وحدانيته، وهم لم يعبدوا يوماً سوى الإله الوحيد خالق السموات والأرض. بينما معشر شهود يهوه هم ممّن يؤمنون بتعدّد الآلهة، وذلك بجعلهم يسوع إلهاً آخر إلى جانب يهوه. وفي الحقيقة أن تعاليمهم هي أقرب إلى الوثنية من غيرها.
2 - ( تكوين 1 : 26 ) "وقال الله: "نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا"، إلى من يتحدث الرب هنا، إن لم يكن للابن والروح القدس؟
اعتراض: "في التكوين 1: 26 ... يقول الثالوثيون، إنّ الله كان يكلّم نفسه...لأنه ليس أقنوماً واحداً وإنّما ثلاثة أقانيم، ثالوث...ولكن من الواضح أنّه كان يكلّم الصانع...كان ايلوهيم يكلّم ابنه الوحيد".[76]
الرد: الله كان يكلّم ابنه بصفته أحد أقانيم الذّات الإلهية المميّزة وليس كشخصية منفصلة أو مستقلة عن ذات الله وجوهره. والآية أعلاه تعلن وحدانية الله مع تميّز أقانيمه، أ- في الفعل "قال" الذي يدل على الوحدانية . ب- في الفعل "نعمل" الوارد في صيغة الجمع، ممّا يدلّ على التعداد في الوحدانية. ج- في الكلمة "صورتنا" التي تدلّ على الوحدة المميّزة غير المنفصلة، إذ لم يقل "صُورَنا" لأن في هذا دلالة على وجود أكثر من شخصية منفردة.
3 - ( تكوين 11 : 6 – 7 ) "وقال الرب...هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض"، وهنا أيضا يتحدث الرب إلى أقانيمه، إذ يستخدمالله الضمير الشخصي الجمع.
4 - (أشعياء 6: 8) "مَن اُرسل ومن يذهب من أجلنا"، وهذه العبارة كسابقاتها لا يمكن أن تدلّ على أنّ الله كان يكلّم نفسه أو يعظّمها، لأنّ الاعتقاد بهذا هو شطط بالغ. كما لا يجوز القول، أنّ الله كان يستشير ابنه بصفته رئيس الملائكة ميخائيل، "لأن من عرف فكر الرب أو من صار له مشيراً" (رومية 11: 34). فلا يبقى لدينا إلاّ التسليم بأنّ الله الآب كان يكلّم أقنومي الابن والروح القدس اللذين هما واحد معه في الجوهر والإرادة. فالابن قال بحق: "أنا الحكمة... لي المشورة والرأي. أنا الفهم لي القدرة" (أمثال 8: 12-14)؛ وعن الروح القدس قيل: "روح الحكمة والفهم روح المشورة والقوة" (أشعياء 11: 2).
5 - ( إشعياء 11 : 2 ) "ويحل عليه روح الرب روح الحكمة والفهم روح المشورة والقوة روح المعرفة ومخافة الرب"، صورة للثلاثة معا، الروح القدس، روح الآب، يحل على الابن.
6 - (أشعياء 48: 16) "منذ وجوده أنا (الابن) هناك. والآن السيد الرب (الآب) أرسلني وروحه (الروح القدس)." هنا تتجلّى بصورة واضحة أقانيم الله الثلاثة، الآب والابن والروح القدس.
7 - ( إشعياء 63 : 9 ) "في كل ضيقهم تضايق(الآب) وملاك حضرته (الابن) خلصهم... ولكنهم تمردوا وأحزنوا روح قدسه ( الروح القدس) ". والتأكيد أن ملاك الرب هو الابن نراه في الآيات التالية:
8 - عند خروج بني إسرائيل من مصر، قيل: "وكان الرب يسير أمامهم" (خروج 13: 21)، ولمــّا اقترب فرعون بجيوشه منهم قيل: "فانتقل ملاك الله السائر أمام عسكر اسرائيل، وسار وراءهم" (خروج 14: 19 ). فملاك الله هو الرب الإله، اقنوم الابن.
9 - يصف يعقوب ظهور الرب له فيقول: "وقال لي ملاك الله في الحلم: يا يعقوب... أنا إله بيت إيل" (تكوين 31: 11-13). وبعد ثلاث عشرة سنة بنى يعقوب مذبحاً للرب، وقيل: "وبنى هناك مذبحا ودعا المكان إيل بيت إيل لأنه هناك ظهر له الله" (تكوين 35: 7). وإيل تعني الله. وفي هذا أيضا البرهان القاطع على أن ملاك الله هو الرب، الابن.
10 - وعندما أخذ إبراهيم ابنه إلى المكان المحدد لذبحه "ناداه ملاك الرب من السماء ...الآن علمت أنك خائفٌ الله، فلم تمسكْ ابنك وحيدك عني" (تكوين 22: 11-12)، فمن الواضح أن المتكلم ليس ملاك بل ابن الله.
11 - ومنوح يسجد لملاك الرب ويقدم له الذبائح، "ولم يعد ملاك الرب يتراءى لمنوح وامرأته. حينئذ عرف منوح أنه ملاك الرب فقال منوح لامرأته: نموت موتا لأننا قد رأينا الله"( قضاة 13: 21- 22)، يؤكد منوح أنه رأى الله، وأعلن النص أن اسمه عجيب كما جاء في الحديث عن المسيح ( اشعياء 9 : 6).
12 - (مزمور 110 : 1) "قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئا لقدميك"، ويمين القوة هي قوة الله، "يمينك يا رب معتزّة بالقدرة" ( خروج 15 : 6)، والنطق بهذه العبارة جلب على المسيح واستفانوس حكم الموت. فلا يعقل أن الله يجلس شخصا عن يمينه ليشاركه القوة والقدرة وهذا الشخص من خارج ذاته.
الثالوث في العهد الجديد
1 - (متى 3: 16و17) "فلمّا اعتمد يسوع...وإذا بالسماوات قد انفتحت له، فرأى روح الله نازلاً مثل حمامة وآتياً عليه وصوت من السماوات قائلاً: هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت". في هذا المشهد يتجلّى أمامنا الله بأقانيمه الثلاثة: صوت الآب من السماء والابن المتجسّد والروح القدس بهيئة حمامة.
اعتراض: "بطرس ويعقوب ويوحنا تذكر أسماؤهم معا، ولكن ذلك لا يجعلهم واحدا أيضا. وفضلا عن ذلك، نزل روح الله على يسوع عند معموديته، مظهرا أن يسوع لم يكن ممسوحا بالروح حتى ذلك الوقت. وإذ يكون الأمر كذلك، كيف يمكن أن يكون جزءا من ثالوث يكون فيه دائما واحدا مع الروح القدس؟"[77]
الرد: ظنوا، أن الكنيسة استندت على هذه الآية لمجرد ظهور الثلاثة في المشهد، وفي هذا جهل أو تجاهل للحق. فليس الأمر كذلك، ومشهد المعمودية له عند الكنيسة بُعد أعمق، ففيه ترى انتساب الأقانيم لبعضها البعض، ووحدتها التامة في إتمام المقاصد المتعلقة بتجسد الابن وابتداء خدمته العلنية. كما و وترى في المشهد إعلان واضح لثلاثة أقانيم تعمل في وحدة تامة. ففي المعمودية يكرس المسيح نفسه علانية للخدمة التي عُيّن من أجلها فينال التأييد والمصادقة من الآب، ويحصل على المسحة بواسطة الروح.
2 - (لوقا 35:1) "الروح القدس يحل عليك، وقوة العليَّ تظللك، فلذلك أيضاً القدوس المولود منك يُدعى ابن الله" وهنا الثلاثة، الآب العلي و ابن الله و الروح القدس.
3 - (يوحنا 15: 26) "ومتى جاء المعزّي (الروح القدس) الذي أرسله أنا (الابن) إليكم من عند الآب".
4 - (1كورنثوس 12: 4-6) "ولكن الروح واحد...ولكن الرب واحد...ولكن الله واحد".
5 - (2كورنثوس 13: 14) "نعمة ربنا يسوع المسيح ومحبة الله وشركة الروح القدس مع جميعكم. آمين".
6 - (أفسس 14:3-17) "بسبب هذا أحنى ركبتي لدى أبي ربنا يسوع المسيح…لكي يعطيكم…أن تتأيدوا بالقوة بروحه في الإنسان الباطن، ليحل المسيح بالإيمان في قلوبكم".
7 - (يهوذا 20 و21) "مصلين في الروح القدس، واحفظوا أنفسكم في محبة الله، منتظرين رحمة ربنا يسوع المسيح للحياة الأبدية".
8 - (رؤيا 1: 4 - 5 ) "نعمة لكم وسلام من الكائن والذي كان والذي يأتي، ومن السبعة الأرواح التي أمام عرشه، ومن يسوع المسيح الشاهد الأمين".
9 - ( أعمال 2 : 33) "وإذ ارتفع (الابن) بيمين الله واخذ موعد الروح القدس من الآب سكب هذا الذي انتم الآن تبصرونه وتسمعونه".
10 - (متى 28: 19) "فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس". ما يجدر بالانتباه هنا هو، واو العطف التي تضع الثلاثة في مرتبة واحدة متساوية، ثم كلمة "اسم" التي قيلت بالمفرد مما يدل على أنّ الثلاثة هم واحد.
اعتراض : "ولكن "اسم" لا تعني دائما اسما شخصيا. لا في اليونانية ولا في العربية. فعندما نقول "باسم القانون" لا نشير إلى شخص، إننا نعني ما يؤيده القانون... لذلك المعمودية باسم الروح القدس تعترف بسلطة الروح، انه من الله ويعمل بمشيئة الله ... هل تقول هذه الآية أن الله والمسيح والروح القدس يؤلفون ذاتا إلهية ثالوثية، متساوون في الجوهر، القدرة، والسرمدية؟ كلا، لا تقول ذلك، كما أن إدراج أسماء ثلاثة أشخاص مثل طوم ، دك ، وهاري لا يعني أنهم ثلاثة في واحد ". [78]
أقول: إنّ كلمة "اسم" تشير إلى الشخص وسلطانه، وتستخدم في وصف الابن والروح القدس بذات المعنى الذي لله. فإن أنكرنا أنها تفيد الشخص في حالة الروح القدس، لزم أيضا نفي معناها كشخص بالنسبة للآب والابن. فالآية تميز كل شخص بوجوده، وتشير إلى الروح القدس كشخصية مميزة وليس مجرد قوة منبثقة عن الآب.
والكلام في الآية عن أهم الممارسات المسيحية، الكرازة والتلمذة والمعمودية، وهذه لا تجوز إلا باسم الآب والابن والروح القدس، مما يجعلهم في مرتبة واحدة. ليس فقط في الهدف والفكر والإرادة، بل من حيث الجوهر واللاهوت أيضا. ولو ذكرنا طوم ودك وهاري، وتوقفنا عند ذلك فهذا لا يعني شيئا. لكن لو قلنا أن الحرب لا تقوم إلا باسم الثلاثة معا، فإننا نعطي الثلاثة ذات المركز والشأن ونضعهم في مرتبة واحدة. ثم لو كان الروح القدس مجرد قوة فعّالة لما استلزم ذكره بالمرة، لأن ذكر الآب يشمل ذكر جميع صفاته ومنها قوته.
في الآيات السالفة ثالوث واضح لكل ذي عينين، وهي تزيل كلّ الشكوك حول صحة العقيدة. فالمسيحيون لم يؤسسوا إيمانهم على خرافات وأساطير وثنية، بل على كلمة الله الحق، دستور إيماننا ومنبع عقائدنا.
لماذا لم يعلّم المسيح عن الثالوث؟
هذا السؤال يطرح علينا في كل مناسبة بغرض التعجيز، وفيه يعلن شهود يهوه سطحية إيمانهم وضحالة فكرهم الروحي وشح معرفتهم في كتاب الله. و صدور هكذا سؤال عن جماعة تدعي المعرفة بأمور الله يثير فينا العجب والاستغراب. ردي أستهله باستخدام منطقهم، فأسأل: لماذا لم يقل المسيح بصريح العبارة "أنا ملاك متجسد"، فيحل جدلاً قام بشأن شخصه وينهي بذلك الإيمان بالثالوث الأقدس؟
أما جوابنا على سؤالهم، فأضعه في ثلاثة نقاط:
أ - لله أسراره، منها ما يتعلق بعالمنا ومنها ما يتعلق بذاته، وإن كانت معرفتنا عن عالمنا لا تشكل نقطة في بحر فكيف بنا نستوعب إعلاناً كاملاً عن أسرار الذات الإلهية؟ وإن كان البشر قد اختلفوا في اغلب ما عرفوه من أمور تتعلق بالكون والخلق والوجود فهم بالتأكيد لن يتفقوا إن عرفوا سر الله الكامل.
ب - البيئة التي كان المسيح يخاطبها هي بيئة توحيدية صرفة غير متهيئة روحيا لقبول إعلان إلهي مفاجئ يتعلق بثالوثه وأقانيمه، وكلمات مثل هذه كانت ستؤدي إلى التباس وتشويش، ومجرد ذكرها كفيل لجعل فرائص اليهودي ترتعش. إن كان تعبير "ابن الله"، المسلّم به عندهم أدى بهم إلى قتل المسيح، فكيف يكون تأثير كلام عن أقانيم وثالوث؟
ت - إننا نكتفي بما أعلنه لنا الله في كلمته عن ذاته وأقانيمه الثلاثة ولا نتجرّأ على الخوض في أعماقه إذ لنا صوت الروح مكلّماً: "أإلى عمق الله تتّصل أم إلى نهاية القدير تنتهي؟هو أعلى من السماوات فماذا عساك أن تفعل؟ أعمق من الهاوية فماذا تدري؟" (أيوب 11: 7)؟ وكلنا يقين بأن عقولنا المحدودة لن تستطيع أن تحد الله وتقبل بأسرار ذاته ووجوده، لكن رجاءنا الأعظم أن نراه لنعرفه كما عرفنا هو، "فأننا ننظر الآن في مرآة في لغز لكن حينئذ وجها لوجه.الآن اعرف بعض المعرفة لكن حينئذ سأعرف كما عُرفت" (1 كورنثوس 13: 12 ).
الوحدانية الجامعة
"هل الله واحد أم ثلاثة اقانيم في إله واحد؟" هذا السؤال يطرحونه في كتابهم "أمور لا يمكن أنّ الله يكذب فيها"، ثم يلجئون إلى العقل المجرّد للإجابة عنه، فيستنتجوا أنّ وحدانية الله هي وحدانية مجرّدة غير جامعة. وحجتهم التي يعترضون بها على إيمان الكنيسة تقول: "إن صدقت عقيدة الثالوث يكون: 1+1+1=1، وهذا يتعارض مع العقل والمنطق."
نقول: إنّ الله هو الاثنان معاً، واحد في ثلاثة وثلاثة في واحد، وإنّ الأرقام والحسابات ليست المقياس الصحيح لمعرفة ذات الله. فالله روح بينما الأرقام هي من خصائص واستعمالات العالم الطبيعي المنظور. ولكن في سبيل تقريب حقيقة التعداد في وحدانية الله إلى ذهن شهود يهوه بحيث لا تتعارض بقوة مع منطقهم البشري، نشير إلى بعض مما خلقه الله وترك عليه طابعه، كالإنسان الواحد في المظهر لكنه ثلاثة في الجوهر، أي روح ونفس وجسد. والكون الذي هو برّ وبحر وجو، كما أن الشمس هي كوكب وحرارة ونور. والهواء أكسجين وهيدروجين ونيتروجين. والزمن ماضي وحاضر ومستقبل..الخ.
ليس الغرض من هذه الأمثلة تقديم البراهين على صحة عقيدتنا، ولا أن نأخذها تشبيهاً لذاته تعالى، الذي هو أسمى من تصوراتنا "فبمن تشبّهونني فأساويه يقول القدوس" (أشعياء 40: 25). إنّما نريد أن نوضح أنّ الإيمان بالتعداد في وحدانية الله أمر يسمو فوق العقل والمنطق لكنّه لا يتعارض معهما.
إنّ الله الذي تؤمن به الكنيسة هو كامل في ذاته وصفاته ولا يحتاج إلى معين أو مشير. وهذا الكمال يتطلّب أن يكون الله جامعاً في وحدانيته وله علاقة مع ذاته وأقانيمه في الأزل، أي أنّه كان متكلّماً وناظراً وسامعاً، وأنه مستغنٍ في ذاته الكاملة، الآب والابن والروح القدس، عن كل شيء في الوجود.
قالوا:"يلاحظ اللاهوتي الكاثوليكي هانز كيونغ في كتابه المسيحية واديان العالم أن الثالوث هو أحد أسباب عدم تمكن الكنائس من إحراز أيّ تقدم ذي مغزى مع الشعوب غير المسيحية... التمييزات التي تضعها عقيدة الثالوث بين الإله الواحد والأقانيم الثلاثة لا ترضي المسلمين الذين تشوشهم"، ثم يعقب القول استنتاج مفاده، أن "الإعلان الإلهي نفسه لا يسمح بهذه النظرة إلى الله:"الله ليس إله تشويش ".[79]
كعادتها تستخدم جمعية برج المراقبة أسلوب المراوغة والتمويه فتقتبس كلاماً مبتوراً من سياقه مع عدم ذكر المرجع كاملاً لتزيد البحث صعوبة وتعقيدا. عند الرجوع إلى كتابات هانز كيونغ لن نرى أثراً أو إشارةً أو تلميحاً يضر بعقيدة الثالوث. أما كتابه المشار إليه ففيه توجه نحو حوار مسيحي إسلامي كما في معظم كتبه. ويرى كونغ التشويش في المفهوم الإسلامي للعقيدة المسيحية فيقول: "نجد في القرآن مفهوما خاطئا للثالوث قد تكون مصادره كتب الابوكريفا، وهو ثالوث يتحدث عن الله الأب، وعن مريم، وعن يسوع الابن".* لكن لا حديث عن ثالوث مسيحي مشوش كما ينقل الشهود. وإن أسلمنا جدلا بما نقلوه عن هانز، فإن كلامه ليس ملزماً ولا يغير في الحق شيئاً، لأن عقيدة الثالوث لم تكن يوما عائقا في اعتناق المسيحية، التي ضمت أناس من جميع الملل والأديان، كما أن عدم رضى المسلمين على العقيدة لا يستدعي منا إلغاءها، وإلا فسنضطر إلى إلغاء كل عقيدة لا ترضي هذا الفريق أو ذاك، وفي المقدمة عقيدة الفداء. فالحجة سخيفة بمقدار ما هي فاسدة.
إنّ الثالوث يظهر مقدار ما لذات الله من عظمة كما يظهر استحالة أن نحد الله بعقل محدود، غير أن السبيل إلى إقناع شهود يهوه بصحته لا يعتمد على البراهين والأدلة، بل على روح الله القدوس القادر وحده على إنارة الذهن وإعطاء البصيرة لمعرفة الحق المختص بذات الله المجيدة، لأن "أمور الله لا يعرفها أحد إلاّ روح الله" (1كورنثوس 2: 11).
------------------------------
Christentum und Weltreligionen. Islam.S.178 *
- عدد الزيارات: 9050