Skip to main content

الإصحاح الخامس والثلاثون: امتحان الله للإنسان - عظمة الله التي لا تدانى

الصفحة 2 من 5: عظمة الله التي لا تدانى

(ع 1- 8) عظمة الله التي لا تدانى.

ومرة أخرى نلاحظ ما يتسم به أليهو من نغمة الإشفاق في خطابه. ذلك بأنه لجأ في أيوب إلى عقله وضميره، رغبة منه في كسبه وإبعاده عن أفكاره القاسية الخاطئة ضد الله. حتى يثق في بساطة بذاك الذي وإن كان يستتر بالظلام إلا أنه لابد أن يكون صالحاً في كل ما يفعل. لقد رأينا قبل ومضات من هذا في أيوب. غير أنه لابد له من الحكم على كل ما يتعارض مع الأقوال السامية النبيلة التي نطق بها في البداية. يوم قال: "الرب أعطى والرب أخذ فليكن اسم الرب مباركاً".

وإذ يُدرج أليهو في الجزء الذي أمامنا على عادة الاقتباس من أفكار أيوب ولو بغير النص الحرفي، واستخلاص النتائج منها، فإنه ينتهي إلى هذا الاستنتاج الخطير"أنا أبرّ من الله" أوليس أيوب نفسه هو الذي قاد نفسه إلى هذا الاستنتاج؟ وذلك لسان حاله "لم أخطئ بحيث أستحق هذه المعاملة. حياتي بغير ملامة قدام الناس والله، وليس من سبب يدعو الله للتأديب والإذلال سوى التعديات الخطيرة. إذاً فهو ظالم" إنه لخير لنا أن نواجه استنتاجاتنا ونتعلم غباء حججنا.

يبدو أن العددين (3،2) تكرار لما جاء في (ص 34: 9). مع شيء من التوسع. فقد أعلن أيوب أن دعواه أبر من دعوى الله (ع 3) لأن الله لم يكن يبالي بما يفعل أيوب. ولا فائدة من البر كما لا جدوى من الخطيئة. تصور يا أخي إنساناً مستقيماً يخشى الله، يقود نفسه إلى مثل هذا الاستنتاج وهو استنتاج ينتهي بالضرورة إلى التعلل القديم "لنأكل ونشرب لأننا غداً أموات".

على أن رد أليهو ليس هو الرد الذي كنا نتوقعه. ذلك لأنه لا يتصدى لاستنتاج أيوب معارضاً إياه في وضوح، بل الواقع أنه يأخذ منه فكرته ويستخدمها لتبرير سجايا الله والدفاع عنها. وكأنه يقول له: "أنت تقول يا أيوب، وأصحابك لم يقنعوك فيما أبدوه من حجج – أن المسلك الذي تسلكه هو بلا جدوى سواء الخير أو الشر. لأن الله غير مبال بأيهما. نعم فالله فوقكم جميعاً. ولن تتدخل تصرفاتكم ومسالككم معه تعالى بطريقة مباشرة. فلماذا تتهمه يا أيوب بعدم الإنصاف والأنانية المستبدة في إذلالك وتأديبك؟" نعم. فإن الله – تماشياً مع رأي أيوب – لم يكن ليتأثر بما يفعله الإنسان. إذ يضار بخطيئته، ولا هو كان ليفيد من بره. ولذلك يتساءل أليهو: "كيف بك تقول أنه ينتبه إلى الإنسان حتى أنه يؤدبك ظالماً؟". هذا من الواضح تناقض من جانب أيوب.

إن أليهو، كعادته، يتناول جانب الله. على أنه لا يتكلم الآن عن علاقاته تعالى بالإنسان، أو اهتمامه الوثيق الإلهي بمسلك الإنسان. وإنما كان يرجو لأيوب أن يتطلع إلى تلك السموات بالذات التي كان يزعم أنها ضده، ويفكر في سجايا ذلك الكامل كمالاً مطلقاً الذي لا يتأثر بنشاط الناس التافه على الأرض، الناس الذين هم في نظره تعالى كالجندب فكيف لمثل هذا القدوس قداسة مطلقة، الذي فيه لنفسه كل الكفاية، كيف له أن يتصرف بعدم إنصاف نحو من قد تؤثر فيه وفي رفاقه أخلاقه ومناهج تصرفاته، غير أنها لن تخترق تلك الأعالي الصاخبة؟ هذا ليس إلا جانباً من الحق، جانباً رأيناه من قبل، وبدرجة ما، سواء في أقوال أيوب (ص 7: 20) أو أقوال أليفاز (ص 22: 2.. الخ).

فأجاب أليهو وقال: "أتحسب هذا حقاً. قلت أنا أبر من الله؟" فهو لم يتكلم فقط ضد الله، بل حسب نفسه أبر من الله. هكذا كان فكر أيوب عن نفسه حتى حسب أن بره الذاتي أكثر من بر الله. هذا ما كان يقصده فعلاً وإن لم يقله صراحة. ولكن أليهو يضع إصبعه على الداء قائلاً لأيوب: "لأنك قلت ماذا يفيدك؟ بماذا أنتفع أكثر من خطيئتي (أو ماذا لو طهرت من خطيئتي). أنا أرد عليك كلاماً، وعلى أصحابك معك. لاحظ الغمام أنها أعلى منك". أتستطيع في مواجهة هذا كله أن تتكلم ضد ذاك الذي هو فوقها جميعاً؟ إن الإنسان لا يستطيع أن يتطلع إلى الشمس، وجهاً لوجه، فمن هو إذاً حتى يواجه الله؟ "إن أخطأت فماذا فعلت به؟.. لرجل مثلك شرّك ولابن آدم برّك".

صراخ المظلومين لماذا لا يُجاب
الصفحة
  • عدد الزيارات: 12275