الإصحاح الرابع والثلاثون: الدفاع عن صفات الله - تفنيد الاتهام
(ع 10- 30) تفنيد الاتهام.
يتقدم أليهو ليفند الاتهامات الموجهة ضد الله، سواء بطريقة مباشرة أو تضمينية. وإنه ليبرر، صفاته تعالى، إذ يخاطب الحكمة. فإنه لا يتكلم بغير وضوح "ليكن الله صادقاً وكل إنسان كاذباً" إنه يعالج القضية إلى التمام. ونستطيع أن نميز الأقسام التي ينقسم إليها تفنيد الاتهام أن الله بار، وعادل، كالآتي:
أ - (ع 10-12) لأنه الله.
ب- (ع 13-15) بسبب عنايته المحسنة.
ج- (ع 16-20) بسبب عظمته.
د- (ع 21-25) بسبب علمه الكلي.
هـ- (ع 26-30) بسبب أحكامه.
أ - (ع 10- 12) لأنه الله.
هنا يوجه أليهو كلامه لأيوب قائلاً: "حاشا لله من الشر وللقدير من الظلم.. من وكلّه بالأرض ومن صنع المسكونة كلها (أو جعله مدبراً للمسكونة كلها)".
من هو الإنسان الذي وكّله الله على شيء في الأرض أو جعله مدبراً للمسكونة كلها؟ من ذا الذي فعل ذلك لله؟.
إن حقيقة كونه الله، ينفي أنه ظالم. فالكامل كمالاً مطلقاً لا يمكن أن يفكر أو يفعل شراً. وهكذا يقرر يعقوب في رسالته "الله غير مجرب بالشرور". ولنفحص جيداً أسلوب النقاش هذا. إنه يتحول عن كل الأسباب الثانوية، عن المشكلات العويصة ومعميات الألغاز في العالم، ويتجه إلى الله الذي هو نور. إنه يجد راحته في الله، ويالها من راحة مباركة "حاشا لله من الشر"، "الله نور وليس فيه ظلمة البتة".
إن القدير الكلي القدرة، يستطيع أن يفعل كل شيء. ولكنه "لا يكذب". "لن يقدر أن ينكر نفسه" وفي هذا ضمان بعدالة كاملة في معاملاته مع الناس. وهو يجازي الإنسان على فعله، ويجعله يجد نتائج طرقه الخاصة. وليس يعني هذا أن أصحاب أيوب كانوا على حق في اتهامهم، بل أن الله كان يعامل أيوب في عدالة مطلقة، ليجعله يتعلم دروسه اللازمة. فكيف يفعل الله سوءاً أو يعوّج القضاء والحق؟ إنه لن يكون الله إذا كان هذا جائزاً. والجواب كما ترى غاية في الإقناع.
ب- (ع 13- 15) بسبب عنايته المحسنة.
"إن جعل عليه قلبه. إن جمع إلى نفسه روحه ونسمته" إن تخلى الله لحظة عن الإنسان فإنه يهلك لا محالة.
ومن هنا نرى أن أليهو لم يكن على الإطلاق ممن يشاطرون ذلك الرأي الذي يعتقد به كثيرون حتى من الرجال الأتقياء في الوقت الحاضر، وهو أن الكون بأجمعه يسير سيراً رتيباً بفعل قانون الجاذبية. لا شك أن الله هو المحرك لجميع الأجرام السماوية ومن بينها الأرض. فهو الذي أعطاها حركتها جميعاً، ولكنه هو أيضاً الحافظ لاستمرار هذه الحركة. إن الناس ينسبون استمرار الحركة لعلل أو مسببات ثانوية، ولكن ليس من طبيعة الحركة الاستمرار من تلقاء نفسها. هذا خطأ كبير ولا وجود له إطلاقاً .
إن الله هو الذي يحفظ كل شيء سائراً متحركاً، وإذا سحب الله تأثير قوته المباشرة لحظة واحدة فإن كل شيء سينهار على الفور. هذا ما يعلنه أليهو هنا. إن جعل عليه (أي على الإنسان) قلبه.
"إن جمع إلى نفسه روحه ونسمته يسلّم الروح كل بشر جميعاً ويعود الإنسان إلى التراب".
ليتأمل أيوب في اهتمام عناية الله بخليقته. هي له، لم تسلم إليه من آخر. فلنفرض أنه عوض أن يذكر حاجة خليقته المعتمدة عليه، حوّل قلبه إلى ذاته فحسب، لكنه غ=في غنى عن غيره. كفايته الكلية عند ذاته. لا يعوزه شيء من الخارج. وطوال الأزل الساحق وجد الله. الآب والابن والروح القدس. المسرة الكاملة في الدائرة الإلهية.
فلنفرض، كما يقول أليهو، أنه يعود إلى الكفاية الإلهية ويجعل قلبه على ذاته (وهذا معنى العدد 14) فماذا يكون من أمر خليقته؟ الجواب: "يسلم الروح كل بشر جميعاً ويعود الإنسان إلى التراب" (ع 15). "تنزع أرواحها فتموت" (مزمور 104: 29). "الرب صالح للكل ومراحمه على كل أعماله". وهكذا نرى الرسول بطرس يوصي القديسين أن "يستودعوا أنفسهم" في وسط الألم "لديه في عمل الخير، كما لخالق أمين" فكم هو حسن إذاً، أن نذكر أن "حامل كل الأشياء بكلمة قدرته" هو أيضاً مخلصنا وسيدنا وحبيبنا.
ج- (ع 16- 20) بسبب عظمته.
"فإن كان لك فهم فاسمع هذا وأصغ إلى كلماتي.. ألعل من يبغض الحق يتسلط؟". بهذا يبين أليهو شناعة استذناب أيوب لله "أم البار الكبير نستذنب؟" ثم يتساءل: "أيقال للملك يا لئيم؟".
قد يكون للملك أخطاؤه ولكن مقامه ومركزه يستوجبان التوقير والاحترام من الناس. فنحن مطالبون لا أن نخاف الله فقط بل أن نكرم الملك (أي رئيس الدولة) أيضاً (أفسس 6: 9، كولوسي 3: 25، 1 بطرس 1: 17).
"أيقال.. للندباء يا أشرار؟"
قد يسمح الله أحياناً بمثل هذا التطاول والنتيجة ثورة ثم انقلاب وتغيير في صورة الحكم.
وفي هذا الجزء نرى أليهو يذكر أيوب بكرامة الله وعظمته. فإذا كان من الخطأ أن تناقش استقامة الملك داعياً إياه لئيماً أو بليعال، فمن ذا الذي يجسر أن يتهم بالشر ذلك الكلي البر؟ فهو ينظر إلى الرؤساء وعامة الشعب نظرة متعادلة، وجميعهم عمل يديه. حياتهم معلقة على مشيئته وفي لحظة يستطيع أن يقطعهم.ز فهل نتصوره إذاً متردداً أو غير منصف؟ الوثنيون يقولون هكذا عن آلهتهم أما نحن العارفون لله الحقيقي من المستحيل أن تكون لنا مثل هذه الأفكار.
د - (ع 21- 25) بسبب علمه الكلي.
وبالمثل، هو ديّان – هو يرى كل شيء، ولا يخفى عليه سر ما. يقول عنه المرنم "اختبرتني وعرفتني". عينه على كل خطوات الإنسان، والشر لا يمكن أن يختفي عنه. ليس بحاجة لأن يدرس طرق الإنسان، بل للوهلة الأولى يعرفه ويدخل معه في المحاكمة. كلا ولا هو بحاجة إلى الفحص ليقرر تحطيم الأشرار. فهو يتغلغل في أعمالهم ويجلب على رؤوسهم قضاءهم الساحق فكيف نظن في إله مثل هذا، عيناه اللتان تريان كل شيء تخترق أعمق مداخل القلب، أن يكون هو بحاجة إلى حكم وتدبير؟.
هـ- (ع 26- 30) بسبب أحكامه.
وأخيراً، وفي كلمات قليلة يذكّر أليهو سامعيه بأحكام الله الفعلية، فهو يصفق فاعلي الشر الذين ينصرفون عنه، يذكر دعوى المسكين والمعوز. كذلك إن هو منح الهدوء والسكينة. فمن ذا الذي يشجب أو يدين؟ "الله هو الذي يبرر، من هو الذي يدين؟". إذا حجب وجهه، من يتطلع إليه، سواء في تعامله مع الأفراد أم مع الجنس البشري بوجه عام. إنه يضع الأشرار حتى لا يكونوا شركاً للشعب.
هكذا استطاع أليهو بسرعة أن يملأ الميدان. فهو لا يلقي حكمه بحسب مرأى عينيه، إنما يستمد أفكاره من الله الذي يعرفه، وبذلك يجلو لكل ذهن مستقيم ويوضح له صحة استنتاجاته.
- عدد الزيارات: 13334