Skip to main content

الإصحاح الثالث والثلاثون: هدف الله في التأديب - إعلان برّه وشقاء الإنسان

الصفحة 5 من 7: إعلان برّه وشقاء الإنسان

(ع 23- 30) إعلان برّه وشقاء الإنسان.

"إن وجد عنده مرسل". ذلك بالضبط ما كان أليهو "وسيط واحد من ألف ليعلن للإنسان استقامته" أي يليق به. وماذا يليق بالإنسان إلا الحكم على الذات. إنه إنسان ساقط خاطئ. قد يكون إنساناً مؤمناً ومع ذلك فهو إنسان فيه الجسد، وذلك الجسد قد يكون عاملاً بقوة كما كان في أيوب وللآخرين، عندئذٍ: "يتراءف عليه" عندما يتواضع الإنسان وعندما يخضع لله: هذه هي استقامة الإنسان. التواضع أمام الله وهذا هو عين ما يحدث عند تجديد الإنسان الخاطئ يخضع لله. وكذلك عندما يضل الإنسان المؤمن ويبتعد، كبطرس، يقال له أيضاً "وأنت متى رجعت" فإن رد نفس المؤمن هو عملية كثيرة الشبه من تجديد الإنسان الخاطئ. فهو رجوع إلى الله في الحالتين على حد تعبير الرسول "كيف رجعتم إلى الله من الأوثان لتعبدوا الله الحي الحقيقي" (1 تس 1: 9) فالإنسان في الحالتين يكون تاركاً ناسياً الله ثم يرجع إليه ويذكره. ذلك كان الحال مع الرسول بطرس. وذلك ما نجده نحن أيضاً أحياناً. عندئذ: "يترأف عليه ويقول أطلقه عن الهبوط إلى الحفرة. قد وجدت فدية" (ع 24).

وهنا نقول أن أحداً لا يستطيع، على ما نعتقد، أن يجد في كل أجزاء العهد القديم الأخرى وصفاً كهذا الذي نجده أمامنا الآن لمعاملة الله مع النفس الخاطئة أو التي ضلت الطريق. ولا يوجد وصفٌ كاملٌ شاملٌ لهذا الوصف، أو وصفٌ أكثر انطباقاً على الحالات الفردية من هذا الوصف العجيب الرائع ليس في العهد القديم فقط، بل وفي العهد الجديد أيضاً، ما عدا مثل الابن الضال الذي يعطيه لنا السيد، هناك حقاً نجد صورة كاملة تامة. وبطبيعة الحال لم يكن ممكناً قط أن يعطينا الوحي في سفر أيوب كل ما يعطينا إياه الرب في مثل الابن الضال ولكننا مع ذلك نجد هنا شيئاً عجيباً غالياً ثميناً في تلك الأيام الخوالي. وهو لا يعني أن الفدية قدمت فعلاً. ولكنها كانت هناك أمام الله. الأمر الذي يعبر عنه في رسالة رومية بكلمة "الصفح" عن الخطايا السالفة. أو التجاوز. وليس الغفران الذي هو من خصائص العهد الجديد والذي ما كان ممكناً أن ينطبق على قديسي العهد القديم حيث كان "الصفح" أو التجاوز "بإمهال الله". فكان الأمر في ذلك الوقت يشبه ديناً مستحيل السداد فيأتي الدائن ويقول "لا فائدة لابد لي من التجاوز. فمن المستحيل أن أنتظر شيئاً" وهذا هو ما فعله الله في ذلك الوقت حيث كان "بإمهال الله" أما الآن فليس هو إمهال الله على الإطلاق ولا هو "الصفح" ولكنه "الغفران". إنه بر الله معلناً وظاهراً بكل وضوح، فالمسيح قد حمل خطايانا ولذلك قد أصبح من البر والعدل محو هذه الخطايا. ليس الأمر فيما بعد مجرد قول الدائن "مسكين هذا الإنسان. إنه لا يستطيع أن يدفع" بل ها هو شخص كريم يتقدم فيدفع الدين فعلاً وفي أمجد وأعظم صورة – أمجد بكثير وبما لا يقاس مما لو لم تكن خطيئته على الإطلاق – أمجد بكثير لله وأبرك بكثير للإنسان لأنه في وقت "الإمهال" و"الصفح" كان حالنا حال المفلسين الذين لا يرجى منهم شيء. أما الآن فحالنا حال الغالبين المنتصرين بانتصار سيدهم وربهم.

لقد كانت هناك تلك الحقيقة الكبرى وهي أنه على الصليب لم يتم عمل عظيم جليل فحسب ولكن الرب يسوع قد ربط ذلك العمل بمجد الله معطياً إيانا ذلك اليقين الكامل العجيب بأنه لم يعد يعوزنا مجد الله (رومية 3: 23). أي إننا لم نقصر عن الوصول إليه. ذلك كان أمراً لم يكن ممكناً تحقيقه أو إدراكه في الأيام السابقة لمجيء المسيح. لم يكن ممكناً تحقيقه ليس فقط بدون غفران الخطايا بل بدون مجيء المسيح وتمجيده لله فيما يتعلق بالخطيئة وبالتالي صعوده إلى مجد الله باعتباره مخلصنا وفادينا. هذا هو الحال الآن. أما في الفصل الذي نحن بصدده فلا شيء من ذلك وإنما فقط "قد وجدت فدية".

"يصير لحمه أغض من لحم الصبي. ويعود إلى أيام شبابه. يصلي إلى الله فيرضى عنه. ويعاين وجهه بهتاف" (ع 25، 26).

هنا لا نجد شيئاً عن الطبيعتين في المؤمن. تلك حقيقة لم يكن يعرفها قديسو العهد القديم إطلاقاً. والواقع أننا لا نجد شيئاً عن إدراك هذا الحق العظيم في أي جزء من أجزاء العهد القديم – ذلك الحق الذي لا يستطيع إنسان الإفادة منه أو فهمه حتى يرى المسيح بالإيمان، أو بعبارة أخرى يرى الابن ويؤمن به، ولذلك فإننا نحن الآن لنا هذه الاستطاعة. نحن الآن مؤهلون لفهم هذا الحق فهماً بسيطاً كاملاً.

"فيرد على الإنسان برّه. يغني بين الناس فيقول قد أخطأت وعوجت المستقيم ولم أجاز عليه". هذا ما تقوله النفس التائبة ولو إننا لا نجد كلمة "التوبة" هنا. إننا نجدهم في إرميا حيث يعطينا إرميا النبي وصفاً جميلاً للتوبة في (إرميا 32: 25-30) وإنه لمن الأمور المعزية حقاً أن تعلم أن الله جل جلاله كان يفعل ذلك في تلك الأيام، وإنه كان معروفاً أنه يفعله، لأن الإنجيل لم يكن مكروزاً به عندئذ. كان هناك ولاشك الإعلان المجيد عن "نسل المرأة" الذي يسحق الشيطان، ولكن مهما كانت روعة وعظمة ذلك الإعلان. الذي لم يكن في تلك الأيام أقل روعة أو عظمة مما هو الآن. فإنه مع ذلك كان تقريباً الإعلان الوحيد الذي كان لديهم في تلك الأيام.

جاءت بعد ذلك إضافة صغيرة مع نوح باعتباره رمزاً. والطوفان ونجاة الإنسان منه بالفلك. ثم بعد ذلك إبراهيم كالشخص المختار. ونسله من بعده، لأنهم جميعاً كانوا يعرفون أن من ذلك النسل يأتي المسيّا. أي نعم، إن جميع اليهود المؤمنين كانوا يدركون إدراكاً كاملاً أن نسل إبراهيم الموعود. المرموز إليه بإسحق سيكون المسيّا. وكم كان جميلاً أن يتأيد ذلك بتقديم إسحق محرقة على المذبح كرمز ثم يؤخذ ثانية كما لو كان بالقيامة من الأموات، إذ منع الله إبراهيم من ذبحه، ولكنه كان تحت حكم الموت لمدة ثلاثة أيام إلى أن جاءت اللحظة الحاسمة التي فيها تدخل الله فأنقذه.

ولكن لم يكن هكذا مع ابن الله. ففي حال الصليب كان كل شيء كاملاً وفي الصليب نفّذ كل شيء في كل كماله وبركته، وهذا ما كان ممكناً أن يتم إلا في ربنا يسوع.

إن شاء للإنسان أن يستفيد من تأديب الله هذا، فلزاماً عليه أن يفهم الهدف من التأديب، ولهذا اقتضى الأمر أن واحداً يفسره. ولاحظ أن كلمة "مرسل" في (ع 23) معناها "ملاك" وهذا يشير إلى شخصية خارقة للطبيعة، شخصيته تعلن فكر الله. وذلك نراه كثيراً في العهد القديم بطوله حيث نفهم أن "ملاكاً" أعلن أو أوضح مشيئة الله (انظر قضاة 2: 1، 13: 3.. الخ) و"ملاك الرب" هو في الواقع ممثله تعالى، وبصورة تامة بحيث يشار إليه كالرب نفسه "ملاك حضرته" (إشعياء 63: 9) وهنا إشارة إلى الوسيط، مما تؤيده الكلمة التالية "وسيط" أو "المترجم" الترجمان (تكوين 42: 23، 2 أخبار الأيام 32: 21). شخص باعتباره سفيراً قد أرسله الله لإيضاح فكره تعالى. على أن رسولاً عادياً لا يكفي للقيام بهذه المهمة، فلابد أن يكون "واحداً من ألف". وهو تعبير أو اصطلاح يذكرنا بالقول "معلم بين ربوة (عشرة آلاف)".

إن أليهو لم يستطع أن يذهب إلى أبعد من ذلك فلابد أن يضع البرقع أو الحجاب حتى يأتي "الابن الوحيد" لكي يعلن الله إعلاناً كاملاً. ولكن هل نستطيع أن نرفض ما تنطوي عليه أقوال أليهو من دلالة رمزية .

إذاً من هو كفؤ لتوضيح طرق الله غير ذاك الذي "أنار الحياة والخلود"؟ به نعلم "أن كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله".

"ليعلن للإنسان استقامته". ولكن استقامة من؟ يظن البعض أنها استقامة الإنسان، بمعنى أن الترجمان يعلن للإنسان كيف يعمل لكي يرضي الله. والبعض الآخر يعرفها الإنسان ولئن كان من المحتم أن يوضع الإنسان إذا أردنا أن يترفع الله ويتمجد، ولكن ألا يعنى بالترجمان شخص يعلن الله؟ ألم تكن المشكلة التي واجهت أيوب أنه لم يكن يفهم استقامة الله في معاملاته معه؟ أولم يكن الغرض الذي يستهدفه أليهو أن يجلو حقيقة هذه الاستقامة. أن ينشئ في أيوب الحكم على الذات أن الثقة في استقامة الله هي أساس السلوك المستقيم. "قد علمت يا رب أن أحكامك مستقيمة وبالحق أذللتني" (مزمور 119: 75).

استقامة الله أو برّه هو إذاً المعلن. ومرة أخرى نجد أن نور العهد الجديد الكامل يزودنا بلغة ملائمة "لإظهار (أو إعلان) برّه في الزمان الحاضر ليكون باراً ويبرر من هو من الإيمان بيسوع" (رومية 3: 26) هذا في الواقع أعمق وأبعد مدى من إعلان لاستقامة الله في طرقه، وتبيان لصفات عدالة الله الجوهرية ظاهرة في صليب المسيح حيث وجدت العدالة الفدية الملائمة.

وفي أقوال أليهو تعبير جميل عن ملاك الله، أي المرسل الوسيط. "يتراءف عليه ويقول أطلقه عن الهبوط إلى الحفرة، قد وجدت فدية" أو – بحسب أسلوب العهد الجديد – "إذ وجد فداءاً أبدياً".

هكذا يفوز بجدّة أفضل من جدّة الشباب. كما نجد مثلاً كذلك في نعمان السرياني "فرجع لحمه كلحم صبي صغير وطهر" (2 ملوك 5).

هي الولادة الجديدة بزرع كلمة الله التي لا تفنى. ها نحن نرى الآثار المباركة لعمل الترجمان في الإنسان المفدى فهو يستطيع الآن أن يصلي بثقة ويبتهج برضى الله، ويعاين وجهه بهتاف. فقد وجد برّاً، ليس برّ صلاحه بل برّ شخص آخر. "البر الذي من الله بالإيمان". وهذا بلا ريب يشمل تمييز الأمانة في أولاد الله. كما في حالة أيوب، غير أن المبدأ يحملنا إلى أسمى من ذلك بكثير.

وكما أنه يستطيع الآن أن يتحدث إلى الله في الصلاة، وأن يعاين وجهه بهتاف، هكذا يستطيع الشخص المفدى أن يتحدث إلى رفقائه "يغني بين الناس" أو "للناس" فقد تعلم جزءاً من أغنية جديدة سوف يسمعها الكثيرون فيتحولون إلى الرب "قد أخطأت وعوجت المستقيم" وعما قريب سيعترف أيوب بخطيئته إذ عوّج – أي أساء فهم – صفات الله البارة. وهكذا يستطيع الخاطئ أن يسترجع في ذاكرته الوقت الذي كان فيه "مجدفاً ومفترياً". على أن هذا الإثم لم يكافأ عليه الشخص المذنب "فدى نفسي من العبور إلى الحفرة فترى حياتي النور".

هذا، كما يعلن أليهو، هو سر طرق الله. مرة رأيناه في قضية الخاطئ الذي اتضع في حضرة الله بفعل الاقتناع المقدس بكلمته، والإحساس بأن يده تعالى عليه، كما رأيناه في حالة القديس الذي يستطيع أن يقول "خير لي أني تذللت".

هذه الأقوال امتحان لأيوب
الصفحة
  • عدد الزيارات: 14718