Skip to main content

الإصحاح الثالث والثلاثون: هدف الله في التأديب - معاملة الله المزدوجة وأطرافها

الصفحة 4 من 7: معاملة الله المزدوجة وأطرافها

(ع 14- 22) معاملة الله المزدوجة وأطرافها.

مع أن الله أسمى من الإنسان بهذا القدر، ومع أنه بعيداً عن متناول إحاطته، فإنه ليس غير مبال بمخلوقاته الضعيفة الواهنة، وليس مستبداً في معاملاته معها. وإذا ما تعلمت النفس مرة أن تخضع لله، وتأخذ مكانها الصحيح الخليق بها، فإنه تعالى يعلن لها طرقه. وسرعان ما تسلم بأن لله غرضاً حكيماً، فإنه له المجد يريها أن الضيق والمشقة ليس إلا إحدى وسائل معاملات الله مع الناس، إن للضيق أو المشقة هدفاً معيناً. وأليهو يتقدم ليشرح ذلك. إن أيوب طالما ينطق بالاتهام فلن يحصل على جواب، وإنما ليسلم ويخضع، والله سيوضح كل شيء.

إن أليهو يتكلم عن اثنين من أساليب المعاملات الإلهية: الأول إن الله يعلم بالأحلام، والآخر، بالضيق. والأسلوبان مرتبطان معاً ارتباطاً وثيقاً، لهذا فلنتكلم عنهما معاً.

نستطيع أن نقول أنه لم يكن في أيام الآباء إعلان من الله سوى ما كان يبلغ للأفراد. وعلى هذه الصورة أعلن الله فكره لنوح وإبراهيم، وحتى لأولئك الذين كانوا يجهلونه كثيراً مثل أبيمالك ولابان                    (تكوين 20: 3، 31: 24).

وكثيراً ما كان يستخدم الحلم أو الرؤيا. لكن هذا الاستخدام هو بمثابة إعلان إلهي. وأليفاز يومئ إلى مثل هذه الوسيلة التبليغية بأسلوب جميل، ولكن ليس بالتحديد كما يفعل أليهو في إصحاحنا.

ذلك بأن أليهو يوضح أن الله يكلم الإنسان هكذا. فحينما ينسحب نور الطبيعة، ويرين الصمت على كل الخليقة. فإنه تعالى يتكلم في "صوت منخفض خفيف" ويعلن فكره: ويختم هذا التأديب، أي التعليم. على قلب الإنسان. وغايته تعالى أن يصحح أفكاراً وتصرفات مغلوطة، ويحول الإنسان عن غرضه، ويمنع أو يخفي الكبرياء عن الرجل (واللفظ في العبرية معناه الجبار، البطل، القوي) والكبرياء هذه تعني أكثر من تصرف أو عمل، لأن الكبرياء تقبع في القلب والله يود أن يكتسحها ويخفيها عن الإنسان – ليبطل سيطرتها عليه. "أيضاً من المتكبرين (أي الخطايا المتكبرة، أو خطايا الكبرياء) احفظ عبدك.

وهكذا يكون الإنسان بمنجاة من الهلاك. هو يخضع لفعل تصحيح أو تقويم حق الله، وبذلك يعفى من ضربة العصا.

وفي عهدنا المسيحي لنا الحق نفسه لكن بقوة أكمل، إذ لسنا بحاجة إلى الإعلان بالأحلام والرؤى. فهو بين أيدينا في كلمة الله المكتوبة. فذاك الذي تكلم بطرق كثيرة (من أحلام وغيرها) قد أعطانا الإعلان الكامل عن نفسه في ابنه، وهذا الإعلان - أي كلمة الله كلها – قد حصلنا عليه في الكتب المقدسة. ومكتوب "كل الكتاب هو موحى به من الله (أي معطى لنا عن طريق وحي الله) ونافع للتعليم والتوبيخ والتقويم والتأديب (أي التهذيب) الذي في البر" (2 تيموثاوس 3: 16).

وبهذه الكلمة يتحدث الله اليوم إلى الناس ليحولهم عن أغراضهم وينقذهم من شراك الكبرياء. وعلى هذه الصورة كان يريد سيدنا له المجد أن يقف بطرس عن مسلكه الذاتي. ولو أنه أصغى إلى الكلمة لأعفى نفسه من اختبار فشله، اختبار الفضيحة والعار (لوقا 22: 31-34).

ومع أن الله يتكلم هكذا مرة، بل ومرتين، لكن الإنسان بكل أسف "لا يلاحظ". على أن عند الله وسيلة أخرى للتحدث إلى الناس، فإذا هم لم يستمعوا إلى كلمته، فقد يرسل إليهم عصاه. وإذ يتوسع أليهو في هذه النقطة، فهو عملياً يصف حالة أيوب. فقد حاقت به أوجاع تأديبية. وعظامه تبدو في طريق الذبول في خصام مميت "عظامي تنخر فيّ وأعصابي لا تهجع" (ص 30: 17). لقد وضع حتى أنه كره ذات الطعام الذي يقيم حياته. "ما عافت نفسي أن تمسها هذه صارت مثل خبزي الكريه" "قد كرهت نفسي حياتي". بلي لحمه، وعظامه تحملق فيه "عظمي قد لصق بجلدي ولحمي". هو على الطرف الأخير من الحياة، على مشارف القبر، أو "جب الهلاك" المخيف "لأني أعلم أنك إلى الموت تعيدني وإلى البيت المعين لكل حي".

غير أن أليهو لا يقرر في أقوال كثيرة أن أيوب قد أبى أن يصغي إلى إنذار الله، ولا يقرر أن يصف حالته بالدقة. وإنما هو يتكلم عن أسلوب معاملة الله مع الناس. ولكن أليس في هذا صوت لأيوب؟ أليس أنه - في القليل – يرى أن الله يتكلم في الضيق وأن له ما يريد أن يقوله.

"لأن الله يتكلم مرة وباثنتين لا يلاحظ الإنسان" والآن يطالعهم أليهو بالحقيقة الرائعة وهي أن الله تبارك اسمه ينفذ طريقته رغم كل شيء في علام قد أخربته الخطيئة، عالم فيه كل شيء قد فسد واختل، ويبدو فيه الشيطان منتصراً، بل عالم يسوده الشيطان، لأنه في الواقع رئيس هذا العالم وإله هذا الدهر كما يسميه الكتاب، في العهد الجديد على الأقل، ولو أنهم كانوا يجهلون هذه الحقيقة حتى ذلك الوقت. أما في الوقت الحاضر فنحن نعرفها جيداً، أو يجب أن نعرفها. نعم، إن الله ينفذ سياسته العجيبة وسط هذه الأمور كلها. وقد كان له المجد يفعل ذلك حتى قبل ظهور الكتاب المقدس. فنحن يجب أن نتذكر أن وقت وقوع حوادث أيوب لم يكن هناك إعلان مكتوب، فإن سفري التكوين وأيوب كتبا على الأرجح في وقت متقارب، ولعلهما كتبا في نفس التوقيت. فلا إشارة في أي منهما إلى الناموس. ولا إشارة إلى خلاص الشعب القديم من مصر في أيوب. ومع أن بلاد أيوب كانت بعيدة عن مصر إلا أن السفر يدل على أن أيوب كان يعلم الكثير عن مصر وكان ملماً بمعالمها ومميزاتها الكبرى. فكان يعلم الشيء الكثير مثلاً عن التمساح الذي نجد له وصفاً رائعاً في هذا السفر (ص 41) وأشياء أخرى كثيرة تدل على أن أيوب كان ملماً إلماماً تاماً بمصر وشعبها. لقد كان أيوب يعيش على حدود الصحراء إلى الشرق قليلاً من الأرض المقدسة أو ذلك الجزء المشار إليه بالمشرق. أما أليهو فكان من مكان آخر. كان أبوه برخئيل البوزي من عشيرة رام. فكلمة "رام" هي نفسها "أرام" (مع اختلاف بسيط في الشكل) أي سوريا وهي الجزء من آسيا الواقع شمال الأرض المقدسة، ومن ذلك يتضح أنه ينحدر من جنس يمت بصلة النسب والقرابة للأرض المقدسة ولكنه ليس فيها، على وجه الدقة، وهذا ما يجعل لسفر أيوب صفته الفريدة وأهميته العظمى إذ نجد أن موضوعه هو الله والإنسان. ليس إسرائيل أو الشعب القديم على الإطلاق ولكن الله متعاملاً مع نفس الإنسان. والواقع أن الشيء الذي يزيد في الأهمية عن كل شيء آخر في الوجود هو أن تكون النفس في وضعها الصحيح أمام الله، وهذا ما نراه مبيناً بأدق صورة في هذا السفر العظيم حتى أن أيوب وصل إلى أجلّ وأحسن بركة عرفها في حياته حينما كان لايزال تحت تأثير التجربة وقبل أن توافيه البركة الخارجية المادية. على أن البركة المادية لم تتوان بل جاءته مسرعة في أعقاب البركة الروحية أو بعبارة أخرى حالما أصبح في حالة يستطيع معها احتمالها.

ولذلك فإن الله - كما يقول أليهو – يتعامل مع الإنسان في كثير من الأحيان في حلم في رؤيا الليل (ع 15). أن الكثيرين منا ولاشك قد عرفوا واختبروا مثل هذه الانتقادات. أحياناً يهمس إلينا بأشياء صغيرة في حياتنا ناصحاً ومنذراً بل مرغماً إيانا أن يدين كل منا نفسه بطريقة لم يعهدها من قبل. وقد يكون هذا هو المقصود في هذه الحالة فليس في الأمر شيء معجزي على الإطلاق، وكل ما في الموضوع هو أننا قد نحسب أننا غير مهمين عند الله إلى الحد الذي يجعله يتعامل معنا أفراداً وبهذه الصورة ولكن هنا بالذات موضع الخطأ إذ أننا لا نعطي الأهمية الكافية لمثل هذا التعامل الإلهي معنا.

لاشك أننا نؤمن كل الإيمان أن لكلمة الله مكانها الأول في حياتنا وهي دستورنا الأوحد. هذا أمر مفروغ منه ولا جدال فيه ولكن الله مع ذلك إله حي وهو يتعامل مع كل واحد منا بهذه الطريقة أو بغيرها. ولا يمكن أن يكون هناك أقل شك في أن أليهو كان يتكلم عن هذه الطريقة باعتبارها شيئاً مألوفاً ومؤكداً في تلك الأيام فلماذا لا تكون أيضاً في أيامنا الحاضرة؟ إنه من الخطأ الظن أنها غير جائزة الحدوث وإنما المهم في الموضوع هو أن هذه الطريقة أو غيرها خاضعة كل الخضوع لكلمة الله، وإن للكلمة السيادة المطلقة والسلطان الأعلى الذي لا يدانيه أي سلطان. فهذا هو امتيازنا الأعظم الذي نعتز به، وهو وجود الكتاب المقدس بين أيدينا، الأمر الذي لم يكن من نصيب جميع أولئك الأفاضل الذين يرد ذكرهم أمامنا في هذا السفر. نعم، وبكل تأكيد، إن للكتاب قيمته العظمى التي لا تقدر. ونحن لنا المسيح الذي ليس مجرد وسيط "واحد من ألف" بل الوسيط الأوحد الفريد، الذي هو فوق الجميع – موسى وإيليا وغيرهما – "يسوع وحده".

ولكن أليهو يقول: "في حلم في رؤيا الليل عند سقوط سبات على الناس" إنه مجرد حلم وليس رؤيا روح كما رأى أليفاز (ص 4: 15) ولكن هنا شيء آخر. إنه في النوم حلم. حقيقة واضحة بسيطة مؤكدة، ولكنها حقيقة تمثل الله متنازلاً لمساعدتنا، وهو يجب أن يفعل ذلك بطرق وأساليب لا تخطر دائماً على بالنا، ولكنه باستمرار يفعل ذلك بطريقة أو بأخرى، إلا عندما يكون أفرايم موثقاً بالأصنام فعندئذ يقال "اتركوه" (هوشع 4: 17). ويا لها من كلمة مريعة ورهيبة!.

"حينئذ يكشف أذان الناس" (ع 16) أي يفتح أذانهم وهذا نراه جارياً في هذا الإصحاح. ونلاحظ أنه لا يقول "الناس المؤمنين" بل الناس إطلاقاً، أعني أي إنسان لعله يؤمن. ومع ذلك، عندما لا نتصرف نحن المؤمنين كقديسين فقد تأتينا كلمة صغيرة ترينا أين نحن وإننا نسلك بحسب البشر كما يقول الرسول بولس           (1 كورنثوس 3: 3). "ليحول الإنسان عن عمله ويكتم الكبرياء عن الرجل". من هذا نرى أنه إنسان مازال واثقاً بذاته ولم تنكسر إرادته بعد.

"ليمنع نفسه عن الحفرة. وحياته من الزوال بحربة الموت". لقد كان في الطريق المؤدي إلى الحفرة مباشرة.

"أيضاً يؤدب بالوجع على مضجعه" فليس الأمر قاصراً على هذه المعاملات مع النفس بل إنها تتناول الجسد أيضاً. وهنا يمس أليهو قضية أيوب بالذات.

"ومخاصمة عظامه دائمة فتكره حياته خبزاً ونفسه الطعام الشهي فيبلى لحمه". وكم كان ذلك صحيحاً في حالة أيوب المسكين. "فيبلى لحمه عن العيان فتنبري عظامه فلا ترى، وتقرب نفسه إلى القبر وحياته إلى الميتين".

إعلان برّه وشقاء الإنسان
الصفحة
  • عدد الزيارات: 15298