Skip to main content

الإصحاح الثالث والثلاثون: هدف الله في التأديب

في مرتين طلب أيوب تدخل مصالح أو وسيط (ص 9: 33، 16: 21). وقد أجيب هذا الطلب بواسطة أليهو الذي كان مفسراً لأفكار الله بالنسبة لأيوب. وقد فهم أيوب ذلك ولم يكن ممكناً أن يفهم أيوب أن يقوم بهذه الخدمة رجل مثله (ص 9: 32). "هاأنذا حسب قولك عوضاً عن الله أنا أيضاً من الطين تقرّصت" (ع 6).

والكتاب يعلمنا أنه يوجد "وسيط واحد بين الله والناس الإنسان يسوع المسيح.." (1 تيموثاوس 2: 5). أنه سر عميق لتجسد الرب بدونه ما كان ممكناً أن يكون وسيطاً بين الله والناس. في (ع 14) نقرأ القول "لكن الله يتكلم مرة وباثنتين..". "الله بعدما كلم الآباء بالأنبياء... كلمنا.. في ابنه" (عبرانيين 1:1). كم كان يجب أن يكون هذا الكلام موضع اعتبار بالنسبة للعالم (عبرانيين 2: 1). لماذا يتكلم الله مرة واثنتين ولا يلاحظ الإنسان؟ ما أقسى قلب الإنسان وعدم مبالاته! لذلك نقرأ التحذير "انظروا أن لا تستعفوا من المتكلم.. من السماء" (عبرانيين 12: 25). وأليهو بكلام قليل يضع جانباً كل الحجج "الله أعظم من الإنسان" (ع 12) "وكل أموره لا يجاوب عنها" (ع 13).

إن (ع 23، 24) من إصحاح (33) يوجهان أفكارنا إلى الرب يسوع الوسيط الأعظم رسول المحبة الإلهية. لقد جاء ليري الإنسان الخاطئ طريق الاستقامة، أي ليقوده إلى معرفة حالته وأن يدين نفسه في النور الإلهي.

إن حياة المسيح على الأرض لها هذا الهدف من الأهداف. أن تكون مباينة مع حالة الإنسان الحقيقية. ولكن لكي ينعم الله كان لابد من كفارة وهبت وقد وجدت وهي موت المسيح. بهذه الكفارة خلصنا من جب الهلاك وليس ذلك فقط فعددي (25، 26) يرياننا الحياة الجديدة والشركة والفرح والبر التي أصبحت نصيبنا. ونفس النتائج لقيامة المسيح وسيطنا ولوجوده الآن في المجد. وأخيراً في (ع 27، 28) نجد الشهادة التي نحن مدعوون لتأديتها أمام الناس عما فعله الله لنا.

الإصحاح من ملامحه البارزة ينقسم إلى خمسة أقسام:

(ع 1- 7) المصالح.

(ع 8- 13) تفنيد اتهام أيوب لعدالة الله.

(ع 14- 22) معاملة الله المزدوجة، وأطرافها.

(ع 23- 30) إعلان بره وشقاء الإنسان.

(ع 31- 33) هذه الأقوال امتحان لأيوب.


(ع 1- 7) المصالح.

تقسيم الإصحاح غير مناسب هنا. فأعداد الافتتاحية تخص الإصحاح السابق إلى حد بعيد. يا له من اختلاف في كلام أليهو هادئ ومهذب وطيب ويؤكد بأن قوله يأتي من القدير والآن أيوب إذا لم يستطع أن يجيبه يرتب كلامه "هاأنذا حسب قولك وعوضاً عن الله" نؤمن بهذا أن أليهو يشير إلى رغبة أيوب للمصالح، الآن أتى في شخص أليهو يشجع أيوب ألا يخلف "أنا أيضاً من الطين" كم يكون استخدام كل هذه للمصالح الحقيقي ربنا يسوع المسيح.

يتجه أليهو إلى يعقوب ليس في غضب بل في هدوء وعطف وهو يرجو أيوب أن يصغي إليه لأنه سيكون عادلاً. فإن حكمته لم تصدر من المعرفة البشرية أو الاختبار بل من القدير. ولأيوب الحرية في مجاوبته إذا لم يقبل كلامه، لأن له كما لأليهو صلة بالله. وهذه على ما يبدو فكرة الجزء الأول من العدد السادس. فهذا القول يذكر أيوب بأن الله قد أوضح فكرة بطريقة لطيفة حتى يتسنى لأيوب أن يتعلم ذلك الفكر. على أن يذكرنا بالسلطان الإلهي الذي عرف لماذا تكلم هكذا. ثم أن أليهو إنسان، فلا داعي يحمل أيوب على الرهبة. وكان في مقدوره أن يقول، كما قال بطرس: "أنا أيضاً إنسان" (أعمال 10: 26).

نلاحظ أن الإصحاح السابق (ص32) لم يكن إلا مقدمة، فيها تحدث أليهو عن قصوره، كما تحدث في الوقت نفسه عن يقينه الكامل بأنه كان يرى حقاً ما لم يره أيوب ولا أصحابه الثلاثة. وهذا ما لابد أن يتقدم ليعبر عنه.

"ولكن اسمع الآن يا أيوب أقوالي... هاأنذا قد فتحت فمي" وقد كان متباطئاً جداً قبل أن يفعل ذلك. "لساني نطق في حنكي... استقامة قلبي كلامي". كلمات كلها إخلاص وحق مهما قال أولئك الأدعياء من أصحاب النقد العالي. "ومعرفة هما تنطقان بها خالصة". وهكذا فعلت شفتاه "روح الله صنعني. ونسمة القدير أحيتني... هاأنذا حسب قولك عوضاً عن الله" لقد تمنى أيوب أن يسمع الله متكلماً إليه. ومع أنه في شوقه هذا كان قلبه يتجه نحو الله، إلا أنه كان يخشى أن تكون المواجهة أرهب من أن يتحملها. ومع ذلك فقد اشتاق أن يجد الله.

غير أن الخوف كان لازال يملأ جوانحه فاشتاق وتمنى أن يجد شخصاً يستطيع أن يتكلم إليه بلسان بشري وفي الوقت نفسه يتكلم عوضاً عن الله تماماً. وهذا ما يفعله أليهو بحسب مقياسه: إن أليهو وسيط، واحد من ألف، ولذلك هو يتكلم عوض الله. وهذا عين ما كان يطلبه أيوب ويتمناه، مع الفارق الهائل بين هذا الوسيط الرمزي والوسيط الحقيقي العظيم – رئيس الأنبياء، الرب إله الأنبياء، الذي هو في الوقت نفسه نبي، نعم. فرق هائل بين أليهو والمسيح. ومع ذلك فإن وجود أليهو شهادة عظيمة للنعمة المطلقة. أنه من أندر الأشياء في الدنيا أن نجد إنساناً عرف عن الله ما عرف أليهو. وقد كان المقصود به كسر كبرياء الرجال الأكبر منه سناً. وقد عرف أليهو ذلك وشعر به، ومع ذلك، فهو يتقدم إليهم باعتذاراته لأنه في الحقيقة لم يكن راغباً أبداً في الظهور كمن يريد أن يردهم عن خطئهم أو أن يصحح الحماقة التي خرجت من أفواههم وإنما كانت مشغوليته الكبرى هي في أيوب أكثر من أي شيء آخر. وذلك جميل منه للغاية، فلم يتعرض لأليفاز أو بلدد أو صوفر ليبين كم كانوا مخطئين. ولكن بقيت النقطة المهمة التي تتطلب توضيحاً.

إن اللغز لم يحل بعد. وقد أسهم أليهو في الحل لأول مرة، ولكنه لم يحل اللغز حلاً كاملاً. كان الأمر يتطلب الله ليفعل ذلك. وقد ظهر الله فعلاً. ولسنا نقول كيف ظهر، هل اتخذ صورة إنسان كما فعل مراراً في العهد القديم. نحن لا نقرأ شيئاً عن ذلك هنا. لربما اقتصر الأمر على مجرد صوت في هذا الموضوع، ولكننا سنرى عندما نأتي إلى ذلك الجزء من السفر إنه كان صوتاً إلهياً، فليس هناك من شك في ذلك. أما هنا فالذي أمامنا إنسان كما يقول عن نفسه، وإنسان شاب. "أنا أيضاً من الطين تقرصت هوذا هيبتي لا ترهبك وجلالي لا يثقل عليك".

لقد اشتكى أيوب من ثقل يد الله عليه، وكانت هناك غلطتان كبيرتان فيما قاله أيوب. ظن في نفسه حسناً أكثر من اللازم واستغلظ الله. وهذا ما يبينه هنا أليهو بصورة واضحة.


(ع 8- 13) تفنيد اتهام أيوب لعدالة الله.

إن مهمة أليهو الرئيسية هي تبرير صفات وأخلاق الله من الاتهامات التي وجهها أيوب. وهو ليس يعنيه في كثير، ما هدف أيوب أو ما كانه أيوب – ولو أنه لا يحتضن أي شكوك غير لائقة، لكن أيوب كان قد تفوه في مسامعه بما لا يصح، إن أليهو يتركه يمضي دون توبيخ. وهذا ما يجب أن يكون فينبغي أن يكون الله أولاً وجلال مجده المهمة الرئيسية لكل الذين يعرفونه وفي هذا الميدان تجلت خيبة أيوب في صورة محزنة.

يشير أليهو إلى كثير من أقوال أيوب للتدليل على ما لحق بالله من هوان. ويقتبس بعضاً منها بالتمام ويقدم كثيراً مما قاله أيوب. فيقتبس قوله: "أنا بريء بلا ذنب، زكيٌّ أنا ولا إثم لي" (ع 9) بالمقارنة مع هذه الأقوال: "في علمك أني لست مذنباً" (ص 10: 7).

"مع أنه لا ظلم في يدي وصلاتي خالصة" (ص 16: 17). "حتى أسلم الروح لا أعزل كمالي عني. تمسكت ببري ولا أرخيه. قلبي لا يعيّر يوماً من أيامي" (ص 27: 5-6).

قد يقال إن أيوب إنما كان يفند اتهامات الشر التي حاول أن يلصقها به أصحابه. لكنه كان أيضاً يتهم الله بمعاملته الظالمة إياه، إذ يعاقب إنساناً بريئاً.

وهذا واضح من الاقتباس التالي: "هوذا يطلب عليّ علل عداوة يحسبني عدواً له" (ص 33: 10). وهكذا كان قد أعلن: "لكنك كتمت هذه في قلبك... تصطادني كأسد... نوب وجيش ضدي" (ص 10: 13-17). "لماذا تحجب وجهك وتحسبني عدواً لك" (ص 13: 42). هكذا تنجلي إهانته للجلال الإلهي فأيوب بريء، زكيٌّ، لكن الله عامله كمتهم: "وضع رجلي في المقطرة يراقب كل طرقي" (ص 33:11). وهذا اقتباس حرفي من قول أيوب: "فجعلت رجلي في المقطرة ولاحظت جميع مسالكي" (ص 13: 27).

فأليه إذاً لا يتجنى على أيوب ولا يتصيًّد أقواله. والواقع أن الحزن الغالب الذي كان يسيطر على أيوب هو أنه يبدو وكأنه قد خسر ذلك الإله المحسن الذي مرة وجد فيه مسرته. وليس يكفي أن نقول أنه برغم هذه الشكوك فإن أيوب كان يعرف ويسلم بقوة الله ومعرفته. وأنه كذلك كان يفصح عن ثقته بالله وعن رغبة جامحة في نفسه في أن يدافع قدامه عن دعواه. ولكن كيف ينسجم هذا مع مثل الأقوال التي كان يقتبسها أليهو؟ مثل هذه الاتهامات يجب مواجهتها، وأيوب لابد من إقناعه ببطلانها. وإلا فإنه لن يتمتع بالسلام في نفسه، وإلا فإن وصمة قائمة تستقر على كرامة الله.

فكيف إذاً يرد أليهو؟ هل يقلد الأصحاب في الدخول في بيانات معقدة؟ هل يعتذر عن التناقض الواضح في طرق الله ويحاول تفصيل كلامه، وفي عبارة واحدة موجزة يلغي كل حجة بشرية: "الله أعظم من الإنسان وبعبارة أخرى: الله هو الله. وإذا شئنا أن نجادل فلا نبدأ من الأدنى إلى الأعظم، بل من الأعظم إلى الأدنى. فنقول: كيف يتأتى للإله القدير، الكلي الكمال، أن يجري عملاً ظالماً؟ "أديان كل الأرض لا يصنع عدلاً" وهكذا أجاب بولس على من أراد أن يناقش بر الله أو يجادل في أمره.

"من أنت أيها الإنسان الذي تجاوب الله؟" بل والأعظم من بولس وجد راحته في عصمة الله المطلقة "نعم أيها الآب لأن هكذا صارت المسرة أمامك".

وطالما ارتاب الإنسان في صفات الله، فإنه لا يكون في الحالة التي يجد فيها تسوية لمشكلاته. لتتخاصم كل شقفات الأرض معاً ولينازع أحدها الآخر، فإن الله لن يتنازل لمثل هذا الصراع. "لماذا تخاصمه؟ لأن كل أموره لا يجاوب عنها" (ع 13). هذا هو مفهوم الفقرة العام الواضح. هناك تغيرات هينة في ترجمة العددين (12،13). فإحدى التراجم تقول: "الله مترفع جداً إزاء الإنسان"، هو أرفع بكثير من أن يدخل في مخاصمة مع الإنسان (أنوس، أي الإنسان الزائل). ثم تقول عن (ع 13): "لماذا تخاصمه لأنه لا يجاوب عن كل أموره؟" أي لماذا يشكو أيوب من أنه لا يحصل على ردود كاملة للحجج التي يدلي بها؟ لكن يجب أن تجد النفس راحتها في الله. لا فيما لدينا من مناقشات وبراهين. "ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء؟"           (رومية 11: 33).

لقد قصر أيوب في تقدير الوقار اللائق بالله، ونسي كلية المسافة اللانهائية التي بين الله والإنسان. نسي جلال الله. ولذلك فبدلاً من تخطئة نفسه ولومها على هذا التقصير فإنه استخطأ الله. لم يفهم طرق الله تماماً، وكان الواجب عليه الآن أن يخضع لها ويثق بها وإن لم يفهمها.


(ع 14- 22) معاملة الله المزدوجة وأطرافها.

مع أن الله أسمى من الإنسان بهذا القدر، ومع أنه بعيداً عن متناول إحاطته، فإنه ليس غير مبال بمخلوقاته الضعيفة الواهنة، وليس مستبداً في معاملاته معها. وإذا ما تعلمت النفس مرة أن تخضع لله، وتأخذ مكانها الصحيح الخليق بها، فإنه تعالى يعلن لها طرقه. وسرعان ما تسلم بأن لله غرضاً حكيماً، فإنه له المجد يريها أن الضيق والمشقة ليس إلا إحدى وسائل معاملات الله مع الناس، إن للضيق أو المشقة هدفاً معيناً. وأليهو يتقدم ليشرح ذلك. إن أيوب طالما ينطق بالاتهام فلن يحصل على جواب، وإنما ليسلم ويخضع، والله سيوضح كل شيء.

إن أليهو يتكلم عن اثنين من أساليب المعاملات الإلهية: الأول إن الله يعلم بالأحلام، والآخر، بالضيق. والأسلوبان مرتبطان معاً ارتباطاً وثيقاً، لهذا فلنتكلم عنهما معاً.

نستطيع أن نقول أنه لم يكن في أيام الآباء إعلان من الله سوى ما كان يبلغ للأفراد. وعلى هذه الصورة أعلن الله فكره لنوح وإبراهيم، وحتى لأولئك الذين كانوا يجهلونه كثيراً مثل أبيمالك ولابان                    (تكوين 20: 3، 31: 24).

وكثيراً ما كان يستخدم الحلم أو الرؤيا. لكن هذا الاستخدام هو بمثابة إعلان إلهي. وأليفاز يومئ إلى مثل هذه الوسيلة التبليغية بأسلوب جميل، ولكن ليس بالتحديد كما يفعل أليهو في إصحاحنا.

ذلك بأن أليهو يوضح أن الله يكلم الإنسان هكذا. فحينما ينسحب نور الطبيعة، ويرين الصمت على كل الخليقة. فإنه تعالى يتكلم في "صوت منخفض خفيف" ويعلن فكره: ويختم هذا التأديب، أي التعليم. على قلب الإنسان. وغايته تعالى أن يصحح أفكاراً وتصرفات مغلوطة، ويحول الإنسان عن غرضه، ويمنع أو يخفي الكبرياء عن الرجل (واللفظ في العبرية معناه الجبار، البطل، القوي) والكبرياء هذه تعني أكثر من تصرف أو عمل، لأن الكبرياء تقبع في القلب والله يود أن يكتسحها ويخفيها عن الإنسان – ليبطل سيطرتها عليه. "أيضاً من المتكبرين (أي الخطايا المتكبرة، أو خطايا الكبرياء) احفظ عبدك.

وهكذا يكون الإنسان بمنجاة من الهلاك. هو يخضع لفعل تصحيح أو تقويم حق الله، وبذلك يعفى من ضربة العصا.

وفي عهدنا المسيحي لنا الحق نفسه لكن بقوة أكمل، إذ لسنا بحاجة إلى الإعلان بالأحلام والرؤى. فهو بين أيدينا في كلمة الله المكتوبة. فذاك الذي تكلم بطرق كثيرة (من أحلام وغيرها) قد أعطانا الإعلان الكامل عن نفسه في ابنه، وهذا الإعلان - أي كلمة الله كلها – قد حصلنا عليه في الكتب المقدسة. ومكتوب "كل الكتاب هو موحى به من الله (أي معطى لنا عن طريق وحي الله) ونافع للتعليم والتوبيخ والتقويم والتأديب (أي التهذيب) الذي في البر" (2 تيموثاوس 3: 16).

وبهذه الكلمة يتحدث الله اليوم إلى الناس ليحولهم عن أغراضهم وينقذهم من شراك الكبرياء. وعلى هذه الصورة كان يريد سيدنا له المجد أن يقف بطرس عن مسلكه الذاتي. ولو أنه أصغى إلى الكلمة لأعفى نفسه من اختبار فشله، اختبار الفضيحة والعار (لوقا 22: 31-34).

ومع أن الله يتكلم هكذا مرة، بل ومرتين، لكن الإنسان بكل أسف "لا يلاحظ". على أن عند الله وسيلة أخرى للتحدث إلى الناس، فإذا هم لم يستمعوا إلى كلمته، فقد يرسل إليهم عصاه. وإذ يتوسع أليهو في هذه النقطة، فهو عملياً يصف حالة أيوب. فقد حاقت به أوجاع تأديبية. وعظامه تبدو في طريق الذبول في خصام مميت "عظامي تنخر فيّ وأعصابي لا تهجع" (ص 30: 17). لقد وضع حتى أنه كره ذات الطعام الذي يقيم حياته. "ما عافت نفسي أن تمسها هذه صارت مثل خبزي الكريه" "قد كرهت نفسي حياتي". بلي لحمه، وعظامه تحملق فيه "عظمي قد لصق بجلدي ولحمي". هو على الطرف الأخير من الحياة، على مشارف القبر، أو "جب الهلاك" المخيف "لأني أعلم أنك إلى الموت تعيدني وإلى البيت المعين لكل حي".

غير أن أليهو لا يقرر في أقوال كثيرة أن أيوب قد أبى أن يصغي إلى إنذار الله، ولا يقرر أن يصف حالته بالدقة. وإنما هو يتكلم عن أسلوب معاملة الله مع الناس. ولكن أليس في هذا صوت لأيوب؟ أليس أنه - في القليل – يرى أن الله يتكلم في الضيق وأن له ما يريد أن يقوله.

"لأن الله يتكلم مرة وباثنتين لا يلاحظ الإنسان" والآن يطالعهم أليهو بالحقيقة الرائعة وهي أن الله تبارك اسمه ينفذ طريقته رغم كل شيء في علام قد أخربته الخطيئة، عالم فيه كل شيء قد فسد واختل، ويبدو فيه الشيطان منتصراً، بل عالم يسوده الشيطان، لأنه في الواقع رئيس هذا العالم وإله هذا الدهر كما يسميه الكتاب، في العهد الجديد على الأقل، ولو أنهم كانوا يجهلون هذه الحقيقة حتى ذلك الوقت. أما في الوقت الحاضر فنحن نعرفها جيداً، أو يجب أن نعرفها. نعم، إن الله ينفذ سياسته العجيبة وسط هذه الأمور كلها. وقد كان له المجد يفعل ذلك حتى قبل ظهور الكتاب المقدس. فنحن يجب أن نتذكر أن وقت وقوع حوادث أيوب لم يكن هناك إعلان مكتوب، فإن سفري التكوين وأيوب كتبا على الأرجح في وقت متقارب، ولعلهما كتبا في نفس التوقيت. فلا إشارة في أي منهما إلى الناموس. ولا إشارة إلى خلاص الشعب القديم من مصر في أيوب. ومع أن بلاد أيوب كانت بعيدة عن مصر إلا أن السفر يدل على أن أيوب كان يعلم الكثير عن مصر وكان ملماً بمعالمها ومميزاتها الكبرى. فكان يعلم الشيء الكثير مثلاً عن التمساح الذي نجد له وصفاً رائعاً في هذا السفر (ص 41) وأشياء أخرى كثيرة تدل على أن أيوب كان ملماً إلماماً تاماً بمصر وشعبها. لقد كان أيوب يعيش على حدود الصحراء إلى الشرق قليلاً من الأرض المقدسة أو ذلك الجزء المشار إليه بالمشرق. أما أليهو فكان من مكان آخر. كان أبوه برخئيل البوزي من عشيرة رام. فكلمة "رام" هي نفسها "أرام" (مع اختلاف بسيط في الشكل) أي سوريا وهي الجزء من آسيا الواقع شمال الأرض المقدسة، ومن ذلك يتضح أنه ينحدر من جنس يمت بصلة النسب والقرابة للأرض المقدسة ولكنه ليس فيها، على وجه الدقة، وهذا ما يجعل لسفر أيوب صفته الفريدة وأهميته العظمى إذ نجد أن موضوعه هو الله والإنسان. ليس إسرائيل أو الشعب القديم على الإطلاق ولكن الله متعاملاً مع نفس الإنسان. والواقع أن الشيء الذي يزيد في الأهمية عن كل شيء آخر في الوجود هو أن تكون النفس في وضعها الصحيح أمام الله، وهذا ما نراه مبيناً بأدق صورة في هذا السفر العظيم حتى أن أيوب وصل إلى أجلّ وأحسن بركة عرفها في حياته حينما كان لايزال تحت تأثير التجربة وقبل أن توافيه البركة الخارجية المادية. على أن البركة المادية لم تتوان بل جاءته مسرعة في أعقاب البركة الروحية أو بعبارة أخرى حالما أصبح في حالة يستطيع معها احتمالها.

ولذلك فإن الله - كما يقول أليهو – يتعامل مع الإنسان في كثير من الأحيان في حلم في رؤيا الليل (ع 15). أن الكثيرين منا ولاشك قد عرفوا واختبروا مثل هذه الانتقادات. أحياناً يهمس إلينا بأشياء صغيرة في حياتنا ناصحاً ومنذراً بل مرغماً إيانا أن يدين كل منا نفسه بطريقة لم يعهدها من قبل. وقد يكون هذا هو المقصود في هذه الحالة فليس في الأمر شيء معجزي على الإطلاق، وكل ما في الموضوع هو أننا قد نحسب أننا غير مهمين عند الله إلى الحد الذي يجعله يتعامل معنا أفراداً وبهذه الصورة ولكن هنا بالذات موضع الخطأ إذ أننا لا نعطي الأهمية الكافية لمثل هذا التعامل الإلهي معنا.

لاشك أننا نؤمن كل الإيمان أن لكلمة الله مكانها الأول في حياتنا وهي دستورنا الأوحد. هذا أمر مفروغ منه ولا جدال فيه ولكن الله مع ذلك إله حي وهو يتعامل مع كل واحد منا بهذه الطريقة أو بغيرها. ولا يمكن أن يكون هناك أقل شك في أن أليهو كان يتكلم عن هذه الطريقة باعتبارها شيئاً مألوفاً ومؤكداً في تلك الأيام فلماذا لا تكون أيضاً في أيامنا الحاضرة؟ إنه من الخطأ الظن أنها غير جائزة الحدوث وإنما المهم في الموضوع هو أن هذه الطريقة أو غيرها خاضعة كل الخضوع لكلمة الله، وإن للكلمة السيادة المطلقة والسلطان الأعلى الذي لا يدانيه أي سلطان. فهذا هو امتيازنا الأعظم الذي نعتز به، وهو وجود الكتاب المقدس بين أيدينا، الأمر الذي لم يكن من نصيب جميع أولئك الأفاضل الذين يرد ذكرهم أمامنا في هذا السفر. نعم، وبكل تأكيد، إن للكتاب قيمته العظمى التي لا تقدر. ونحن لنا المسيح الذي ليس مجرد وسيط "واحد من ألف" بل الوسيط الأوحد الفريد، الذي هو فوق الجميع – موسى وإيليا وغيرهما – "يسوع وحده".

ولكن أليهو يقول: "في حلم في رؤيا الليل عند سقوط سبات على الناس" إنه مجرد حلم وليس رؤيا روح كما رأى أليفاز (ص 4: 15) ولكن هنا شيء آخر. إنه في النوم حلم. حقيقة واضحة بسيطة مؤكدة، ولكنها حقيقة تمثل الله متنازلاً لمساعدتنا، وهو يجب أن يفعل ذلك بطرق وأساليب لا تخطر دائماً على بالنا، ولكنه باستمرار يفعل ذلك بطريقة أو بأخرى، إلا عندما يكون أفرايم موثقاً بالأصنام فعندئذ يقال "اتركوه" (هوشع 4: 17). ويا لها من كلمة مريعة ورهيبة!.

"حينئذ يكشف أذان الناس" (ع 16) أي يفتح أذانهم وهذا نراه جارياً في هذا الإصحاح. ونلاحظ أنه لا يقول "الناس المؤمنين" بل الناس إطلاقاً، أعني أي إنسان لعله يؤمن. ومع ذلك، عندما لا نتصرف نحن المؤمنين كقديسين فقد تأتينا كلمة صغيرة ترينا أين نحن وإننا نسلك بحسب البشر كما يقول الرسول بولس           (1 كورنثوس 3: 3). "ليحول الإنسان عن عمله ويكتم الكبرياء عن الرجل". من هذا نرى أنه إنسان مازال واثقاً بذاته ولم تنكسر إرادته بعد.

"ليمنع نفسه عن الحفرة. وحياته من الزوال بحربة الموت". لقد كان في الطريق المؤدي إلى الحفرة مباشرة.

"أيضاً يؤدب بالوجع على مضجعه" فليس الأمر قاصراً على هذه المعاملات مع النفس بل إنها تتناول الجسد أيضاً. وهنا يمس أليهو قضية أيوب بالذات.

"ومخاصمة عظامه دائمة فتكره حياته خبزاً ونفسه الطعام الشهي فيبلى لحمه". وكم كان ذلك صحيحاً في حالة أيوب المسكين. "فيبلى لحمه عن العيان فتنبري عظامه فلا ترى، وتقرب نفسه إلى القبر وحياته إلى الميتين".


(ع 23- 30) إعلان برّه وشقاء الإنسان.

"إن وجد عنده مرسل". ذلك بالضبط ما كان أليهو "وسيط واحد من ألف ليعلن للإنسان استقامته" أي يليق به. وماذا يليق بالإنسان إلا الحكم على الذات. إنه إنسان ساقط خاطئ. قد يكون إنساناً مؤمناً ومع ذلك فهو إنسان فيه الجسد، وذلك الجسد قد يكون عاملاً بقوة كما كان في أيوب وللآخرين، عندئذٍ: "يتراءف عليه" عندما يتواضع الإنسان وعندما يخضع لله: هذه هي استقامة الإنسان. التواضع أمام الله وهذا هو عين ما يحدث عند تجديد الإنسان الخاطئ يخضع لله. وكذلك عندما يضل الإنسان المؤمن ويبتعد، كبطرس، يقال له أيضاً "وأنت متى رجعت" فإن رد نفس المؤمن هو عملية كثيرة الشبه من تجديد الإنسان الخاطئ. فهو رجوع إلى الله في الحالتين على حد تعبير الرسول "كيف رجعتم إلى الله من الأوثان لتعبدوا الله الحي الحقيقي" (1 تس 1: 9) فالإنسان في الحالتين يكون تاركاً ناسياً الله ثم يرجع إليه ويذكره. ذلك كان الحال مع الرسول بطرس. وذلك ما نجده نحن أيضاً أحياناً. عندئذ: "يترأف عليه ويقول أطلقه عن الهبوط إلى الحفرة. قد وجدت فدية" (ع 24).

وهنا نقول أن أحداً لا يستطيع، على ما نعتقد، أن يجد في كل أجزاء العهد القديم الأخرى وصفاً كهذا الذي نجده أمامنا الآن لمعاملة الله مع النفس الخاطئة أو التي ضلت الطريق. ولا يوجد وصفٌ كاملٌ شاملٌ لهذا الوصف، أو وصفٌ أكثر انطباقاً على الحالات الفردية من هذا الوصف العجيب الرائع ليس في العهد القديم فقط، بل وفي العهد الجديد أيضاً، ما عدا مثل الابن الضال الذي يعطيه لنا السيد، هناك حقاً نجد صورة كاملة تامة. وبطبيعة الحال لم يكن ممكناً قط أن يعطينا الوحي في سفر أيوب كل ما يعطينا إياه الرب في مثل الابن الضال ولكننا مع ذلك نجد هنا شيئاً عجيباً غالياً ثميناً في تلك الأيام الخوالي. وهو لا يعني أن الفدية قدمت فعلاً. ولكنها كانت هناك أمام الله. الأمر الذي يعبر عنه في رسالة رومية بكلمة "الصفح" عن الخطايا السالفة. أو التجاوز. وليس الغفران الذي هو من خصائص العهد الجديد والذي ما كان ممكناً أن ينطبق على قديسي العهد القديم حيث كان "الصفح" أو التجاوز "بإمهال الله". فكان الأمر في ذلك الوقت يشبه ديناً مستحيل السداد فيأتي الدائن ويقول "لا فائدة لابد لي من التجاوز. فمن المستحيل أن أنتظر شيئاً" وهذا هو ما فعله الله في ذلك الوقت حيث كان "بإمهال الله" أما الآن فليس هو إمهال الله على الإطلاق ولا هو "الصفح" ولكنه "الغفران". إنه بر الله معلناً وظاهراً بكل وضوح، فالمسيح قد حمل خطايانا ولذلك قد أصبح من البر والعدل محو هذه الخطايا. ليس الأمر فيما بعد مجرد قول الدائن "مسكين هذا الإنسان. إنه لا يستطيع أن يدفع" بل ها هو شخص كريم يتقدم فيدفع الدين فعلاً وفي أمجد وأعظم صورة – أمجد بكثير وبما لا يقاس مما لو لم تكن خطيئته على الإطلاق – أمجد بكثير لله وأبرك بكثير للإنسان لأنه في وقت "الإمهال" و"الصفح" كان حالنا حال المفلسين الذين لا يرجى منهم شيء. أما الآن فحالنا حال الغالبين المنتصرين بانتصار سيدهم وربهم.

لقد كانت هناك تلك الحقيقة الكبرى وهي أنه على الصليب لم يتم عمل عظيم جليل فحسب ولكن الرب يسوع قد ربط ذلك العمل بمجد الله معطياً إيانا ذلك اليقين الكامل العجيب بأنه لم يعد يعوزنا مجد الله (رومية 3: 23). أي إننا لم نقصر عن الوصول إليه. ذلك كان أمراً لم يكن ممكناً تحقيقه أو إدراكه في الأيام السابقة لمجيء المسيح. لم يكن ممكناً تحقيقه ليس فقط بدون غفران الخطايا بل بدون مجيء المسيح وتمجيده لله فيما يتعلق بالخطيئة وبالتالي صعوده إلى مجد الله باعتباره مخلصنا وفادينا. هذا هو الحال الآن. أما في الفصل الذي نحن بصدده فلا شيء من ذلك وإنما فقط "قد وجدت فدية".

"يصير لحمه أغض من لحم الصبي. ويعود إلى أيام شبابه. يصلي إلى الله فيرضى عنه. ويعاين وجهه بهتاف" (ع 25، 26).

هنا لا نجد شيئاً عن الطبيعتين في المؤمن. تلك حقيقة لم يكن يعرفها قديسو العهد القديم إطلاقاً. والواقع أننا لا نجد شيئاً عن إدراك هذا الحق العظيم في أي جزء من أجزاء العهد القديم – ذلك الحق الذي لا يستطيع إنسان الإفادة منه أو فهمه حتى يرى المسيح بالإيمان، أو بعبارة أخرى يرى الابن ويؤمن به، ولذلك فإننا نحن الآن لنا هذه الاستطاعة. نحن الآن مؤهلون لفهم هذا الحق فهماً بسيطاً كاملاً.

"فيرد على الإنسان برّه. يغني بين الناس فيقول قد أخطأت وعوجت المستقيم ولم أجاز عليه". هذا ما تقوله النفس التائبة ولو إننا لا نجد كلمة "التوبة" هنا. إننا نجدهم في إرميا حيث يعطينا إرميا النبي وصفاً جميلاً للتوبة في (إرميا 32: 25-30) وإنه لمن الأمور المعزية حقاً أن تعلم أن الله جل جلاله كان يفعل ذلك في تلك الأيام، وإنه كان معروفاً أنه يفعله، لأن الإنجيل لم يكن مكروزاً به عندئذ. كان هناك ولاشك الإعلان المجيد عن "نسل المرأة" الذي يسحق الشيطان، ولكن مهما كانت روعة وعظمة ذلك الإعلان. الذي لم يكن في تلك الأيام أقل روعة أو عظمة مما هو الآن. فإنه مع ذلك كان تقريباً الإعلان الوحيد الذي كان لديهم في تلك الأيام.

جاءت بعد ذلك إضافة صغيرة مع نوح باعتباره رمزاً. والطوفان ونجاة الإنسان منه بالفلك. ثم بعد ذلك إبراهيم كالشخص المختار. ونسله من بعده، لأنهم جميعاً كانوا يعرفون أن من ذلك النسل يأتي المسيّا. أي نعم، إن جميع اليهود المؤمنين كانوا يدركون إدراكاً كاملاً أن نسل إبراهيم الموعود. المرموز إليه بإسحق سيكون المسيّا. وكم كان جميلاً أن يتأيد ذلك بتقديم إسحق محرقة على المذبح كرمز ثم يؤخذ ثانية كما لو كان بالقيامة من الأموات، إذ منع الله إبراهيم من ذبحه، ولكنه كان تحت حكم الموت لمدة ثلاثة أيام إلى أن جاءت اللحظة الحاسمة التي فيها تدخل الله فأنقذه.

ولكن لم يكن هكذا مع ابن الله. ففي حال الصليب كان كل شيء كاملاً وفي الصليب نفّذ كل شيء في كل كماله وبركته، وهذا ما كان ممكناً أن يتم إلا في ربنا يسوع.

إن شاء للإنسان أن يستفيد من تأديب الله هذا، فلزاماً عليه أن يفهم الهدف من التأديب، ولهذا اقتضى الأمر أن واحداً يفسره. ولاحظ أن كلمة "مرسل" في (ع 23) معناها "ملاك" وهذا يشير إلى شخصية خارقة للطبيعة، شخصيته تعلن فكر الله. وذلك نراه كثيراً في العهد القديم بطوله حيث نفهم أن "ملاكاً" أعلن أو أوضح مشيئة الله (انظر قضاة 2: 1، 13: 3.. الخ) و"ملاك الرب" هو في الواقع ممثله تعالى، وبصورة تامة بحيث يشار إليه كالرب نفسه "ملاك حضرته" (إشعياء 63: 9) وهنا إشارة إلى الوسيط، مما تؤيده الكلمة التالية "وسيط" أو "المترجم" الترجمان (تكوين 42: 23، 2 أخبار الأيام 32: 21). شخص باعتباره سفيراً قد أرسله الله لإيضاح فكره تعالى. على أن رسولاً عادياً لا يكفي للقيام بهذه المهمة، فلابد أن يكون "واحداً من ألف". وهو تعبير أو اصطلاح يذكرنا بالقول "معلم بين ربوة (عشرة آلاف)".

إن أليهو لم يستطع أن يذهب إلى أبعد من ذلك فلابد أن يضع البرقع أو الحجاب حتى يأتي "الابن الوحيد" لكي يعلن الله إعلاناً كاملاً. ولكن هل نستطيع أن نرفض ما تنطوي عليه أقوال أليهو من دلالة رمزية .

إذاً من هو كفؤ لتوضيح طرق الله غير ذاك الذي "أنار الحياة والخلود"؟ به نعلم "أن كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله".

"ليعلن للإنسان استقامته". ولكن استقامة من؟ يظن البعض أنها استقامة الإنسان، بمعنى أن الترجمان يعلن للإنسان كيف يعمل لكي يرضي الله. والبعض الآخر يعرفها الإنسان ولئن كان من المحتم أن يوضع الإنسان إذا أردنا أن يترفع الله ويتمجد، ولكن ألا يعنى بالترجمان شخص يعلن الله؟ ألم تكن المشكلة التي واجهت أيوب أنه لم يكن يفهم استقامة الله في معاملاته معه؟ أولم يكن الغرض الذي يستهدفه أليهو أن يجلو حقيقة هذه الاستقامة. أن ينشئ في أيوب الحكم على الذات أن الثقة في استقامة الله هي أساس السلوك المستقيم. "قد علمت يا رب أن أحكامك مستقيمة وبالحق أذللتني" (مزمور 119: 75).

استقامة الله أو برّه هو إذاً المعلن. ومرة أخرى نجد أن نور العهد الجديد الكامل يزودنا بلغة ملائمة "لإظهار (أو إعلان) برّه في الزمان الحاضر ليكون باراً ويبرر من هو من الإيمان بيسوع" (رومية 3: 26) هذا في الواقع أعمق وأبعد مدى من إعلان لاستقامة الله في طرقه، وتبيان لصفات عدالة الله الجوهرية ظاهرة في صليب المسيح حيث وجدت العدالة الفدية الملائمة.

وفي أقوال أليهو تعبير جميل عن ملاك الله، أي المرسل الوسيط. "يتراءف عليه ويقول أطلقه عن الهبوط إلى الحفرة، قد وجدت فدية" أو – بحسب أسلوب العهد الجديد – "إذ وجد فداءاً أبدياً".

هكذا يفوز بجدّة أفضل من جدّة الشباب. كما نجد مثلاً كذلك في نعمان السرياني "فرجع لحمه كلحم صبي صغير وطهر" (2 ملوك 5).

هي الولادة الجديدة بزرع كلمة الله التي لا تفنى. ها نحن نرى الآثار المباركة لعمل الترجمان في الإنسان المفدى فهو يستطيع الآن أن يصلي بثقة ويبتهج برضى الله، ويعاين وجهه بهتاف. فقد وجد برّاً، ليس برّ صلاحه بل برّ شخص آخر. "البر الذي من الله بالإيمان". وهذا بلا ريب يشمل تمييز الأمانة في أولاد الله. كما في حالة أيوب، غير أن المبدأ يحملنا إلى أسمى من ذلك بكثير.

وكما أنه يستطيع الآن أن يتحدث إلى الله في الصلاة، وأن يعاين وجهه بهتاف، هكذا يستطيع الشخص المفدى أن يتحدث إلى رفقائه "يغني بين الناس" أو "للناس" فقد تعلم جزءاً من أغنية جديدة سوف يسمعها الكثيرون فيتحولون إلى الرب "قد أخطأت وعوجت المستقيم" وعما قريب سيعترف أيوب بخطيئته إذ عوّج – أي أساء فهم – صفات الله البارة. وهكذا يستطيع الخاطئ أن يسترجع في ذاكرته الوقت الذي كان فيه "مجدفاً ومفترياً". على أن هذا الإثم لم يكافأ عليه الشخص المذنب "فدى نفسي من العبور إلى الحفرة فترى حياتي النور".

هذا، كما يعلن أليهو، هو سر طرق الله. مرة رأيناه في قضية الخاطئ الذي اتضع في حضرة الله بفعل الاقتناع المقدس بكلمته، والإحساس بأن يده تعالى عليه، كما رأيناه في حالة القديس الذي يستطيع أن يقول "خير لي أني تذللت".


(ع 31- 33) هذه الأقوال امتحان لأيوب.

هنا أليهو يهيب بأيوب (ع 31) أن يصغي إلى هذا كله ويستمع وإذا كان عنده شيء يقوله فإنه يسره جداً سماعه لأنه يريد تبريره. وهنا نرى الفرق بين أليهو والآخرين. أليهو يريد تبريره في حين أراد الآخرين إدانته. كانوا متأكدين تماماً من وجود شيء رديء للغاية في أيوب وكان كل همهم اكتشاف هذا الشيء وإظهاره، ولذلك فإنهم بذلوا غاية الجهد في محاولاتهم اليائسة لرفع الستار عن هذا الشيء الدفين، حتى أنهم كانوا يزدادون حنقاً وغيظاً على أيوب لأنه بدلاً من الاعتراف بخطئه كان يواجههم بحقيقة حالهم فيخبرهم بأنهم نظريون سطحيون، وبدلاً من أن يكونوا أطباء نافعين لم يكونوا سوى مجادلين متعبين وأن كل ما قالوه لم يكن سوى خطأ في خطأ، ولاشك أن هذا أثار ثائرتهم وملئهم غضباً وغيظاً.

والآن. بم تجيب على هذا كله يا أيوب؟ لقد كان أليهو يود أن يكشف حالة أيوب على حقيقتها – لم يشأ أن يبرر خطأه بل أن يعامله بالعدالة. هو يتوقف ليسمع من أيوب رداً، لا داعي لإرغامه، ولكن ألا يقر بكل ما قيل؟ ألسنا نعلل شكوته بأنه اعتراف وتسليم بكل هذا الذي كنا نتأمل فيه؟.


معاني الكلمات الصعبة

للإصحاح الثالث والثلاثون

ص    ع          الكلمة          معناها

33: 3          خالصة      :     صافية.

33: 11        المقطرة      :     (ص 13: 27).

33: 24         فدية       :     ما يعطى عوض المفدي.

33: 25         أغض      :    الغصن الطري – ناضر – أكثر نعومة.

33: 26         هتاف      :    الصياح بصوت ممدود.

  • عدد الزيارات: 15300