الأصحاح الخامس
"احفظ قَدَمَكَ حِينَ تَذْهَبُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ فَالاِسْتِمَاعُ أَقْرَبُ مِنْ تَقْدِيمِ ذَبِيحَةِ الْجُهَّالِ لأَنَّهُمْ لاَ يُبَالُونَ بِفَعْلِ الشَّرّ" (ع 1).
رأينا في نهاية الفصل السابق المفتاح الجميل للخروج من دوامة النفس وغرقها فيما هو تحت الشمس, وذلك في إقرار ذلك الحكيم العظيم أنه أصبح في مستوى الجهال بسبب جريه وراء نفسه وما تريده تحت الشمس, وما أروع وصفه لنفسه: ملك شيخ جاهل. هنا يبدأ النور يسطع والظلمات والغيوم تنقشع وها هو يتجه إلى فوق إلى الله الذي هو فوق كل شيء. وهي لمحة حلوة تعبّر عن التوبة وهي الإقرار بالوضع المحزن الذي أوجدت نفسي فيه بسبب انحرافي عن الرب ثم أُبغض هذا الوضع وأُبغض نفسي التي هي السبب الأول والأخير وأتجه بكل قلبي إلى فوق "أخطأت إلى السماء وقدامك" (لو 15: 18).
وسليمان هنا يرسم الطريقة العملية للتقابل مع الله الذي هو فوق الشمس, كيف وأين أتقابل معه وأنا هنا على الأرض؟
كان في العهد القديم مكان واحد فقط ينبغي أن أذهب إليه لكي أقدم ذبيحة عن خطيتي وأقربها أمام الله وذلك عند مذبح النحاس عند باب الهيكل. لكن بظهور الله في الجسد وإكمال الفداء وصعوده إلى السماء وإرسال الروح القدس تغير الموقف تماماً من جهة تقابل النفس فردياً شخصياً مع الرب " أدخل إلى مخدعك وأغلق بابك" (مت 6: 6) ومن جهة الاجتماع إلى اسم الرب "حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك. أكون في وسطهم" (مت 18: 20).
وما ينّبر عليه سليمان هنا هو الاستماع أولاً إلى صوت الرب أي كلمته لئلا أقدم ذبيحة الجهال. ولا نستطيع أن نحصي الشواهد التي تنبّر على خطورة هذا الأمر. على سبيل المثال "هَلْ مَسَرَّةُ الرَّبِّ بِالْمُحْرَقَاتِ وَالذَّبَائِحِ كَمَا بِاسْتِمَاعِ صَوْتِ الرَّبِّ؟ هُوَذَا الاِسْتِمَاعُ أَفْضَلُ مِنَ الذَّبِيحَةِ وَالْإِصْغَاءُ أَفْضَلُ مِنْ شَحْمِ الْكِبَاشِ. لأَنَّ التَّمَرُّدَ كَخَطِيَّةِ الْعِرَافَةِ, وَالْعِنَادُ كَالْوَثَنِ وَالتَّرَافِيمِ" (1صم 15: 22) وأيضاً "مَنْ يُحَوِّلُ أُذْنَهُ عَنْ سَمَاعِ الشَّرِيعَةِ فَصَلاَتُهُ أَيْضاً مَكْرَهَةٌ" (أم 28: 9).
- "فالاستماع أقرب" قُرئت في أدق المخطوطات "اقترب لتسمع لئلا تقدم ذبيحة الجهال". ما أجمل النتائج التي يرددها الكتاب للاقتراب القلبي الصادق للرب:
أولاً- كما رأينا هنا الانتشال من فريق الجهال عن طريق سماع صوت الرب.
ثانياً- النجاة من الهلاك الأبدي والزمني "هوذا البعداء عنك يبيدون تهلك كل من يزني عنك أما أنا فالاقتراب على الله حسن لي" (مز 73: 27, 28)
ثالثاً- نقاوة الحياة وطهارة القلب والفكر من العرج بين الفريقين "اقْتَرِبُوا إِلَى اللَّهِ فَيَقْتَرِبَ إِلَيْكُمْ. نَقُّوا أَيْدِيَكُمْ أَيُّهَا الْخُطَاةُ، وَطَهِّرُوا قُلُوبَكُمْ يَا ذَوِي الرَّأْيَيْنِ" (يع 4: 8).
لكن لا ننسى الأساس والقاعدة الوحيدة التي يمكن لله أن يقبلنا عليها وهي دم الحمل- الدم المطهر من كل خطية "إذ الناموس لم يكمل شيئاً. ولكن يصير إدخال رجاء أفضل به نقترب إلى الله" (عب 7: 19). كم من ملايين يتجاهلون ذبيحة ربنا يسوع المسيح ويقتربون الله في مدرسة قايين- مدرسة الأعمال, لكن "ويل لهم لأنهم سلكوا طريق قايين" (يه 11)
"لاَ تَسْتَعْجِلْ فَمَكَ وَلاَ يُسْرِعْ قَلْبُكَ إِلَى نُطْقِ كَلاَمٍ قُدَّامَ اللَّهِ لأَنَّ اللَّهَ فِي السَّمَاوَاتِ وَأَنْتَ عَلَى الأَرْضِ فَلِذَلِكَ لِتَكُنْ كَلِمَاتُكَ قَلِيلَةً" (ع 2)
التحريض الجوهري هنا هو الهدوء والتأني في محضر الرب وبكل وقار يليق به, نراجع الإحسانات التي غمرنا بها, فيفيض القلب أولاً بالشكر له ثم بكل إخلاص واتضاع أمامه نراجع أنفسنا أمامه لكي نحكم على كل أمر لا يمجده في سلوكنا. ثم في بساطة الأطفال نسكب قلوبنا من جهة ما نحتاجه وما يزعجنا به العدو "وَبِهَذَا نَعْرِفُ أَنَّنَا مِنَ الْحَقِّ وَنُسَكِّنُ قُلُوبَنَا قُدَّامَهُ" (1 يو 3: 20). لأن الله في السماوات من فوق"- تعبير يفيد جلال وعظمة إلهنا كالخالق العظيم القادر على كل شيء "ساكنا في نور لا يدنى منه، الذي لم يره أحد من الناس ولا يقدر أن يراه" (1 تي 6: 16) وليس من الحق أو بحسب المكتوب أن الفرح في محضر الرب يجعلنا ننسى الوقار الحتمي الملازم لهذه الحضرة, وليس من الحق أن تجسده له المجد يجعلنا ننسى جلال ووقار عظمته فنخاطبه باسمه مجرداً "يا يسوع". وكل قديسيه في كل العصور هذه هي لغتهم "أيها الرب يسوع" (أع 7: 59) أو "يا ربنا يسوع المسيح" (أف 5: 20و كو 3: 17). وإن كان هذا الإعلان يفيد ضرورة الخشوع والورع امام جلال وعظمة إلهنا, لكن في ذات الوقت فهم القديسون في كل العصور أنه قريب جداً منهم, لذلك كانت حياتهم حياة التصاق قلبي به كما هتف داود في مز 145: 18 "الرَّبُّ قَرِيبٌ لِكُلِّ الَّذِينَ يَدْعُونَهُ الَّذِينَ يَدْعُونَهُ بِالْحَقِّ. يَعْمَلُ رِضَى خَائِفِيهِ وَيَسْمَعُ تَضَرُّعَهُمْ فَيُخَلِّصُهُمْ.
"لتكن كلماتك قليلة"- المقصود هنا عدم تكرار الكلام باطلاً كما عبّر له المجد عن ذلك في مت 6: 7 لأنَّهُمْ (الأمم الوثنية) يَظُنُّونَ أَنَّهُ بِكَثْرَةِ كَلاَمِهِمْ يُسْتَجَابُ لَهُمْ". فما هو إذاً معنى اللجاجة؟ هي الصراخ من أعماق القلب في إلحاح الإيمان والكلمات خارجة وصاعدة للرب كقرعات شديدة على باب محبة الرب ونعمته في ثقة كاملة أن قلبه المحب يريد أن يعطي. ما أروع تقرير الكتاب عن رئيس الإيمان نفسه وهو "يصلي بأشد لجاجة" في جثسيماني, وما أجمل تقرير الكتاب "وسُمع له من أجل تقواه" راجع لو 22: 44, عب 5: 7 ثم ما جاء عن حنة أم صموئيل "إذ أكثرت الصلات أمام الرب وعالي يلاحظ فاها" (1 صم 1: 12).
ليتنا نتعلم درس اللجاجة "أَقُولُ لَكُمْ: وَإِنْ كَانَ لاَ يَقُومُ وَيُعْطِيهِ لِكَوْنِهِ صَدِيقَهُ فَإِنَّهُ مِنْ أَجْلِ لَجَاجَتِهِ يَقُومُ وَيُعْطِيهِ قَدْرَ مَا يَحْتَاجُ" (لو 11: 8)
"لأَنَّ الْحُلْمَ يَأْتِي مِنْ كَثْرَةِ الشُّغْلِ وَقَوْلَ الْجَهْلِ مِنْ كَثْرَةِ الْكَلاَمِ" (ع 3)
الحلم يكشف عن حقيقة الحالم أنه كان مرهقاً في ساعات اليقظة, إذ أن ارتباكات الحياة في ساعات النهار تتحول أثناء النوم إلى خيالات وأوهام بلا تفكير أو ترتيب, هكذا أيضاً كثرة الكلام بلا فهم ولا وعي لا بد أن تقود الإنسان إلى كلمات جهل كثيرة. ليتنا نتعلم التأني والتفكير في كل كلمة قبل أن ننطق بها أمام إلهنا وأمام الناس.
"إِذَا نَذَرْتَ نَذْراً لِلَّهِ فَلاَ تَتَأَخَّرْ عَنِ الْوَفَاءِ بِهِ لأَنَّهُ لاَ يُسَرُّ بِالْجُهَّالِ فَأَوْفِ بِمَا نَذَرْتَهُ. أَنْ لاَ تَنْذُرُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَنْذُرَ وَلاَ تَفِيَ" (ع 4, 5).
النذر في تدبير الناموس وهو يتعارض مع روح التدبير المسيحي الذي تملك فيه النعمة.
أولاً: تحت الناموس كان الإنسان مسئولاً أن يعمل جميع ما هو مكتوب في الناموس لئلا يقع تحت لعنة, لكن النعمة كشفت عجز الإنسان المطلق, وهكذا تملك النعمة على القلب بالبر في ربنا يسوع المسيح حينئذ يتم القول "الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا من أجل المسرة" (في 2: 13), "لأَنَّكُمْ بِدُونِي لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْعَلُوا شَيْئاً.. كما أن الغصن لا يقدر أن يأتي بثمر من ذاته" (يو 15: 4, 6).
ثانياً: تحت الناموس كان الإنسان مسئولاً أن يقدم ما يُرضي الله من ذبائح وتقدمات لكن النعمة كشفت ما هو القربان الوحيد المقبول أمام الله والمُشبع لقلبه والذي به فقط ينبغي أن نتقدم إلى الله الذي هو ربنا يسوع المسيح في ذبيحته على الصليب. وكل عمل يمجد الله يقودنا فيه الروح القدس, نعمله ونقدمه لله في استحقاقات ربنا يسوع المسيح.
أما النذر الذي كان على أكليلا فقد أُبطل في كنخريا (أع 18: 18) وهنا نرى كم ينبغي أن يستجيب المولود من الله لإعلان النور الإلهي. فهذا اليهودي المتمسك بالناموس, أُعطيت له الفرصة أن يرافق الرسول بولس, لذلك استنار وأنهى النذر في كنخريا.
"لاَ تَدَعْ فَمَكَ يَجْعَلُ جَسَدَكَ يُخْطِئُ وَلاَ تَقُلْ قُدَّامَ الْمَلاَكِ إِنَّهُ سَهْوٌ لِمَاذَا يَغْضَبُ اللَّهُ عَلَى قَوْلِكَ وَيُفْسِدُ عَمَلَ يَدَيْكَ لأَنَّ ذَلِكَ مِنْ كَثْرَةِ الأَحْلاَمِ وَالأَبَاطِيلِ وَكَثْرَةِ الْكَلاَمِ. وَلَكِنِ اخش اللَّهَ" (ع 6, 7).
المقصود بالخطأ هنا هو تسرع الفم بالنذر والرجوع فيه والقول أنه سهو. وقد توضح موقف المؤمن من النذر في تدبير النعمة الآن لكن ذات المبدأ وهو الحرص على أعضائنا لكي نتحرك في أي اتجاه يجعل كياني كله في وضع المخطئ في حق الله. وأهم عضو هو اللسان, وما أكثر تحذيرات الكتاب عن أهمية ضبط اللسان حتى لا تخرج كلمة واحدة غير مضبوطة (أف 4: 30). ومن يتدرب على ضبط لسانه فذاك رجل كامل قادر أن يُلجم (يضبط) كل الجسد أيضاً (يع 3: 2).
لكن في كلام الرب في مت 5, 18 توضيحاً كاملاً أنه إذا لم نسهر على كل أعضائنا فقد يستخدمها العدو ضد مشيئة الرب وهكذا تأتي العثرات, فيقول له المجد "فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ الْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَاقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ لأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلاَ يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّم" (مت 5: 29, 18: 6) والمقصود هنا بقطع اليد أو قلع العين هو إماتة الشهوة الفاسدة في القلب ونافذتها هي العين, وإماتة التصرفات غير الأمينة للرب ومفتاحها هو اليد- وهذه الإماتة لا تأتي إلا بقوة الروح القدس (رو 8: 13).
"لماذا يغضب الله على قولك ويفسد عمل يديك"
ما أبعد الفارق بين نظرة المؤمن إلى معاملات الله في العهدين القديم والجديد, عموماً كانت النظرة الخاطئة إلى التأديب كغضب من الله القدوس, لكن الآن أُعلن عن الآب المحب العطوف الذي إذ يؤدب فهو برهان محبته لكي نشترك في قداسته (عب 12: 10) فيعطي الذين يتدربون بالتأديب ثمر بر للسلام كما قال أليهو لأيوب "يَتَرَأَّفُ عَلَيْهِ وَيَقُولُ أُطْلِقُهُ عَنِ الْهُبُوطِ إِلَى الْحُفْرَةِ قَدْ وَجَدْتُ فِدْيَةً.. يُصَلِّي إِلَى اللهِ فَيَرْضَى عَنْهُ وَيُعَايِنُ وَجْهَهُ بِهُتَافٍ" (أي 33: 24, 26).
ويفسد عمل يديه: هذا ما عمله الرب مع يهوشافاط ملك يهوذا الذي كان يعمل المستقيم في عيني الرب لمنه اتحد مع أخزيا ملك اسرائيل الشرير فأرسل الله إليه نبياً يقول له "لأَنَّكَ اتَّحَدْتَ مَعَ أَخَزْيَا قَدِ اقْتَحَمَ الرَّبُّ أَعْمَالَكَ فَتَكَسَّرَتِ السُّفُنُ وَلَمْ تَسْتَطِعِ السَّيْرَ إِلَى تَرْشِيشَ" (2 أخ 20: 37).
ليتنا نتأكد من كل عمل أنه فعلاً بحسب فكر الرب ولمجده وإلا ما أكثر المجهود الضائع والوقت المفقود. ما أجمل تقرير المرنم في المزمور "طُوبَى لِكُلِّ مَنْ يَتَّقِي الرَّبَّ وَيَسْلُكُ فِي طُرُقِهِ لأَنَّكَ تَأْكُلُ تَعَبَ يَدَيْكَ. طُوبَاكَ وَخَيْرٌ لك" (مز 128: 1, 2)
"إِنْ رَأَيْتَ ظُلْمَ الْفَقِيرِ وَنَزْعَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ فِي الْبِلاَدِ فَلاَ تَرْتَعْ مِنَ الأَمْرِ لأَنَّ فَوْقَ الْعَالِي عَالِياً يُلاَحِظُ وَالأَعْلَى فَوْقَهُمَا" (ع 8).
الظلم هو مدرسة العدو الذي غرس طبيعته الساقطة في أبوينا الأولين في لحظة السقوط, ومنذ بدء التاريخ نرى ظلم قايين لشقيقه هابيل البار, وظلم إخوة يوسف له وظلم آخاب لنابوت اليزرعيلي (تك 4, 37, 1 مل 21) لذلك فإن رفض الظلم عنصر أساسي في التوبة أي بغضة مطلقة للظلم "إِنْ رَجَعْتَ إِلَى الْقَدِيرِ تُبْنَى. إِنْ أَبْعَدْتَ ظُلْماً مِنْ خَيْمَتِكَ" (أي 22: 23). والطبيعة الجديدة التي تُخلق في الإنسان في لحظة التوبة- الولادة من فوق- لا تحتمل ظل الظلم, لذلك نرى زكا إذ تقابل مع الرب يسوع وأصبح في لحظة خليقة جديدة, في الحال لا يطيق الظلم فيصرخ "إِنْ كُنْتُ قَدْ وَشَيْتُ بِأَحَدٍ أَرُدُّ أَرْبَعَةَ أَضْعَافٍ" (لو 19: 8).
"ونزع الحق والعدل في البلاد":
هذا هو طابع العالم كله لأن الموازين كلها يقلبها رئيس هذا العالم ويسمم كل الينابيع, إنه يعمل الآن في أبناء المعصية, لكن شكراً لله سوف ينتهي يوم الإنسان ويأتي يوم يملك فيه الرب يسوع على كل المسكونة بالحق والعدل.
"فلا ترتع من الأمر لأن فوق العالي عالياً يلاحظ والأعلى فوقهما":
هذه هي سياسة الله جعل رتباً ورياسات حتى في الدائرة غير المنظورة, أي الملائكة القديسين الذين يخدمون العرش (أف 3: 10) والملائكة الذين سقطوا أيضاً لهم رتبهم (أف 6: 11).
وكل رتبة في هذا العالم مسئولة أمام الخالق العظيم, لذلك تحريض الرسول "لِتَخْضَعْ كُلُّ نَفْسٍ لِلسَّلاَطِين الْفَائِقَةِ لأَنَّهُ لَيْسَ سُلْطَانٌ إِلاَّ مِنَ اللهِ وَالسَّلاَطِينُ الْكَائِنَةُ هِيَ مُرَتَّبَةٌ مِنَ اللهِ حَتَّى إِنَّ مَنْ يُقَاوِمُ السُّلْطَانَ يُقَاوِمُ تَرْتِيبَ اللهِ" (رو 13: 1, 2) – هذا هو المقصود بفوق العالي عالياً يلاحظ. لكن شكراً لله لأنه هو الأعلى فوقهما أي فوق الجميع, وفي الأصل تأتي بصيغة الجمع "والعالون فوقهما"- وهنا روعة الإعلان عن الله الجمع في مفرد (يو 3: 11, دا 4: 13, 17).
والعلو الفائق مرتبط بالجلالة الإلهية كما نقرأ في أي 11: 7, 8 "أَإِلَى عُمْقِ اللهِ تَتَّصِلُ أَمْ إِلَى نِهَايَةِ الْقَدِيرِ تَنْتَهِي؟ هُوَ أَعْلَى مِنَ السَّمَاوَاتِ فَمَاذَا عَسَاكَ أَنْ تَفْعَلَ" وذات التعبير نراه في وصف الرب يسوع بعد أن تجسد وصنع الفداء وصعد "لأَنَّهُ كَانَ يَلِيقُ بِنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ مِثْلُ هَذَا، قُدُّوسٌ بِلاَ شَرٍّ وَلاَ دَنَسٍ، قَدِ انْفَصَلَ عَنِ الْخُطَاةِ وَصَارَ أَعْلَى مِنَ السَّمَاوَاتِ" (عب 7: 26).
"وَمَنْفَعَةُ الأَرْضِ لِلْكُلِّ. الْمَلِكُ مَخْدُومٌ مِنَ الْحَقْلِ" (أو يعتمد على الحقل) (ع 9).
إن كان الإنسان قد أفسد ترتيب الله في وضعه رياسات ورتب بين الناس لكي تتعاون في أعمال الحياة, وكل رتبة نافعة للأعلى منها والأقل منها. وإن كان المشهد قد تشوه لكن لا زالت ملامح القصد الإلهي ظاهرة وتوضح صلاح الله, وها هو أعلى رتبة في البلاد أي الملك يعتمد تماماً على خدمة الفلاح في الحقل. وهذه هي التعزية أن ننظر إلى صلاح الله في ترتيبه الأمور حتى وإن كان الإنسان قد أفسد المنظر تماماً بالظلم واستخدام الرتب استخداماً سيئاً. لكن نحن المفديين لنا تعزية أعظم إذ نتأمل في أبشع مشهد ظلم تم في تاريخ المسكونة في ذاك الذي "ظُلم فتذلل ولم يفتح فاه" (أش 53) لكن وراء هذا الظلم, العمل العظيم الذي عليه تقوم كل حياتنا أمام البشر وتستقر عليه كل أيدينا. وهنا نرى أمرين:
الأول- الله وحده الذي يستطيع ان يُخرج من الآكل أكلاً فمن مشهد ظلم ربنا يسوع المسيح كإنسان في يد البشر أخرج لنا الفداء من يد العادل الإلهي.
الثاني- الله وحده الذي يستطيع أن يكافئ كل احتمال للظلم من أجل اسمه "لِذَلِكَ رَفَّعَهُ اللهُ- كإنسان- أَيْضاً، وَأَعْطَاهُ اسْماً فَوْقَ كُلِّ اسْمٍ" (في 2: 9) وفي التعبير "الملك مخدوم من الحفل" لنا نحن المفديين تحريض جميل, إذ أن الملك الحقيقي يعتمد علينا في خدمة اسمه الكريم في فترة تغربنا وما أمجد الخدمة في هذا الحقل المبارك.
مَنْ يُحِبُّ الْفِضَّةَ لاَ يَشْبَعُ مِنَ الْفِضَّةِ وَمَنْ يُحِبُّ الثَّرْوَةَ لاَ يَشْبَعُ مِنْ دَخْلٍ. هَذَا أَيْضاً بَاطِلٌ" (ع 10).
المعنى المقصود واضح من اول السفر, لا يوجد شيء تحت الشمس يستطيع أن يشبع النفس لأنه من الله, لذلك الشبع الحقيقي لها كامن في ذاك الذي قال "أَنَا هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ. مَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ فلاَ يَجُوعُ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِي فلاَ يَعْطَشُ أَبَداً" (يو 6: 35). طوبى للنفس التي تستفيق وتُنتشل من الغرق في الفضة الفانية لكي تقتنى الفضة الحقيقية الباقية التي هي الفداء.
"من يحب الثروة لا يشبع من دخل": "اجْعَلُوا قَلْبَكُمْ عَلَى طُرُقِكُمْ. زَرَعْتُمْ كَثِيراً وَدَخَّلْتُمْ قَلِيلاً. تَأْكُلُونَ وَلَيْسَ إِلَى الشَّبَعِ. تَشْرَبُونَ وَلاَ تَرْوُونَ. تَكْتَسُونَ وَلاَ تَدْفَأُونَ. وَالآخِذُ أُجْرَةً يَأْخُذُ أُجْرَةً لِكِيسٍ مَنْقُوبٍ" (حجي 1: 5, 6).
ليتنا نصحو ونتعلم أولاً أن "القليل الذي للصديق خيرٌ من ثروة أشرار كثيرين" (مز 37: 16) وذلك "لأن بركة الرب هي تُغني ولا يزيد معها تعباً" (أم 10: 22)
ثانياً- "القليل مع مخافة الرب خيرٌ من كنز عظيم مع هم" (أم 15: 16) وذلك "لأن التقوى مع القناعة تجارة عظيمة" (1 تي 6).
ثالثاً- "القليل مع العدل خير من دخل جزيل بغير حق" (أم 16: 8) لأن سياسة الله لا بد أن تتدخل فينهار جزء كبير من هذا الدخل بغير الحق.
رابعاً- "الذين يريدون أن يكونوا أغنياء يسقطون في تجربة وفخ وشهوات كثيرة وغبية تغرّق الناس في العطب والهلاك" (1 تي 6).
ليتنا نستفيق إلى صوت ذاك الذي قال "عندي الغنى والكرامة قنية فاخرة وحظ" (أم 8).
"إِذَا كَثُرَتِ الْخَيْرَاتُ كَثُرَ الَّذِينَ يَأْكُلُونَهَا وَأَيُّ مَنْفَعَةٍ لِصَاحِبِهَا إِلاَّ رُؤْيَتَهَا بِعَيْنَيْهِ" (ع 11).
في ع 10 التقرير الذي يملأ كل الكتاب أن الفضة الكثيرة والثروة العظيمة والدخل الهائل, لا يمكن أن يشبع النفس, ويكتشف الإنسان أخيراً أن كل تعبه كان في الباطل.
لكن هنا ع 11 يتحدث عن نتيجة وخيمة أخرى, قد ينجح الإنسان في جريه وراء الفضة وتتكون يه ثروة ضخمة, هناك ما هو أكثر مرارة, سيكتشف ازدياد عدد الآكلين لهذه الثروة التي تعب فيها وما هو إلا متفرج عليها. والمقصود بالآكلين لهذه الثروة- المنافذ التي يفاجأ بها الإنسان فتفسدها.
وهنا يأتي السؤال: هل من حماية لكل مقتنى الإنسان؟ الإجابة الصحيحة هي أن يدخل الإنسان بجملته تحت جناحي القدير "مَا أَكْرَمَ رَحْمَتَكَ يَا اللهُ فَبَنُو الْبَشَرِ فِي ظِلِّ جَنَاحَيْكَ يَحْتَمُونَ" (مز 36: 8), "اَلسَّاكِنُ فِي سِتْرِ الْعَلِيِّ فِي ظِلِّ الْقَدِيرِ يَبِيتُ" (مز 91: 1) حينئذ تستقيم حياة الإنسان ويحترم أقداس الرب وهكذا يتم القول "هَاتُوا جَمِيعَ الْعُشُورِ إِلَى الْخَزْنَةِ لِيَكُونَ فِي بَيْتِي طَعَامٌ وَجَرِّبُونِي بِهَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ إِنْ كُنْتُ لاَ أَفْتَحُ لَكُمْ كُوى السَّمَاوَاتِ وَأُفِيضُ عَلَيْكُمْ بَرَكَةً حَتَّى لاَ تُوسَعَ. وَأَنْتَهِرُ مِنْ أَجْلِكُمْ الآكِلَ فَلاَ يُفْسِدُ لَكُمْ ثَمَرَ الأَرْضِ" (ملا 3: 10)
"نَوْمُ الْمُشْتَغِلِ حُلْوٌ إِنْ أَكَلَ قَلِيلاً أَوْ كَثِيراً وَوَفْرُ الْغَنِيِّ لاَ يُرِيحُهُ حَتَّى يَنَامَ" (ع 12).
المجهود البدني من أعظم العوامل على جلب النوم الحلو المريح, والعجيب أن الأطعمة الكثيرة الثروة العظيمة كلها تفشل فيما يحققه نوم المشتغل. إن كان هذا ثمر التّعب في العمل الزمني, فكم هو أعظم ما نحصل عليه إن كنا نتعب أكثر لأجل اسم ربنا يسوع المسيح ولمجد الله. تأمَّلْه له المجد إذ لم يكن له فرصة لأكل خبز من كثرة الجماهير والخدمة الباذلة لأجل النفوس التي بلا عدد التي كانت ترتمي عليه بكل أسقامها لذلك عندما دخل السفينة كانت هناك وسادة فأعطاه الآب نوماً هادئاً جميلاً ليتنا نتعلمه ونختبر مكافآت الآب لنا طول الطريق "وَحَيْثُ أَكُونُ أَنَا هُنَاكَ أَيْضاً يَكُونُ خَادِمِي. وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ يَخْدِمُنِي يُكْرِمُهُ الآب" (يو 12: 26).
"يُوجَدُ شَرٌّ خَبِيثٌ رَأَيْتُهُ تَحْتَ الشَّمْسِ ثَرْوَةٌ مَصُونَةٌ لِصَاحِبِهَا لِضَرَرِهِ فَهَلَكَتْ تِلْكَ الثَّرْوَةُ بِأَمْرٍ سَيِّئٍ ثُمَّ وَلَدَ ابْناً وَمَا بِيَدِهِ شَيْءٌ كَمَا خَرَجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ عُرْيَاناً يَرْجِعُ ذَاهِباً كَمَا جَاءَ وَلاَ يَأْخُذُ شَيْئاً مِنْ تَعَبِهِ فَيَذْهَبُ بِهِ فِي يَدِهِ. وَهَذَا أَيْضاً مَصِيبَةٌ رَدِيئَةٌ. فِي كُلِّ شَيْءٍ كَمَا جَاءَ هَكَذَا يَذْهَبُ فَأَيَّةُ مَنْفَعَةٍ لَهُ لِلَّذِي تَعِبَ لِلرِّيحِ أَيْضاً يَأْكُلُ كُلَّ أَيَّامِهِ فِي الظَّلاَمِ وَيَغْتَمُّ كَثِيراً مَعَ حُزْنٍ وَغَيْظٍ" (ع 13- 17).
ع 13 في الأصل في صيغة الجمع "ثروات مصونة لأصحابها لضررهم"- ثروة ضارة! عجباً! هذا هو تقرير الحكيم:
أولاً: المال إذا كثر بين يدي الإنسان يصبح موضوع الاتكال, لذلك يقول الرب "دخول جمل من ثقب إبرة أيسر من دخول غني إلى ملكوت الله" (مت 19: 22) فكم هو ضرر رهيب للنفس البشرية الخالدة أن تنتهي بها الحياة بدون عطية الإيمان. ما أروع كلمة السيد له المجد "لأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ" (مت 16: 26).
ثانياً: في كثرة تحول القلب إليها كسيد مخدوم ومعبود "لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْن لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا اللَّهَ وَالْمَالَ" (مت 6: 24) .
ثالثاً: أما الضرر الثالث فهو أن طريق المال محفوف بالفخاخ "وَأَمَّا الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَكُونُوا أَغْنِيَاءَ فَيَسْقُطُونَ فِي تَجْرِبَةٍ وَفَخٍّ وَشَهَوَاتٍ كَثِيرَةٍ غَبِيَّةٍ وَمُضِرَّةٍ تُغَرِّقُ النَّاسَ فِي الْعَطَبِ وَالْهَلاَكِ، أَنَّ مَحَبَّةَ الْمَالِ أَصْلٌ لِكُلِّ الشُّرُورِ" (1 تي 6: 9) وهناك الأمثلة الرهيبة: بلعام- من قمة روئ القدير إلى مُفسد لشعب الله توقع عليه القضاء. عخان بن كرمي من وارث مع شعب الله إلى مرجوم بالحجارة مع كل بيته. جيحزى.. يهوذا.. طابع الناس في الأيام الأخيرة (2 تي 3: 2).
ع 14 في الأصل "...وإذا كان له ابن ليس له شيء بيده" عجباً! بغتة تهلك تلك الثروة التي أنفق فيها صاحبها كل عمره, حتى إذا كان له ابن أو بنين يتركهم بلا شيء في يدهم. ربما كان الجهد كله لكي يوفر لهم ثروة فإذا بهذا الجهد ضاع مع الريح ولكن ما هو مؤلم أنه لم يترك لأولاده الطريق السليم- طريق الإيمان والاتكال على الرب. ما أروع إعلان الكتاب "فِي مَخَافَةِ الرَّبِّ ثِقَةٌ شَدِيدَةٌ وَيَكُونُ لِبَنِيهِ مَلْجَأ" (أم 14: 26)- راجع مز 37: 25, 2 من 4 بخصوص عناية الرب بأولاد المؤمنين.
ع 15, 16 الدرس الرهيب وهو دخول الإنسان إلى العالم عرياناً وخروجه عرياناً. في الدقيقة الواحدة 500 وفي الساعة 30000 وفي اليوم الواحد 720000 يرحلون إلى الأبدية ويرن الصوت المحب في أعماق القلب "ماذا يعطي الإنسان فداءً عن نفسه" (مت 16: 26). لكن إذا تقابل الإنسان مع الفادي المخلص وارتمى عند قدميه ففي الحال تُغفر كل خطاياه ويلبس الحُلة الأولى التي هي الرب يسوع "وإن كنا لابسين- المسيح- لا نوجد عراة" (2 كو 5: 3).
ع 17 بعدما هلكت الثروة التي كانت متكله ومعبوده يقضي الإنسان باقي أيام حياته في حزن وغيظ لدرجة أن طعامه يأكله في ظلام الحزن على الثروة الضائعة حتى تنتهي حياته. بينما المؤمنون "يتناولون الطعام بابتهاج وبساطة قلب" (أع 2: 46) لأنهم يقدمون الشكر للآب المحب المنعم الجواد قبل تناولهم الطعام. وما أروع المثال الذي تركه لنا الرب, يتسلم الخبز فيشكر الآب ثم يكسر ويوزع بالبركة, فإن الطعام "يقدس بكلمة الله والصلاة" (1 تي 4).
"هُوَذَا الَّذِي رَأَيْتُهُ أَنَا خَيْراً الَّذِي هُوَ حَسَنٌ أَنْ يَأْكُلَ الإِنْسَانُ وَيَشْرَبَ وَيَرَى خَيْراً مِنْ كُلِّ تَعَبِهِ الَّذِي يَتْعَبُ فِيهِ تَحْتَ الشَّمْسِ مُدَّةَ أَيَّامِ حَيَاتِهِ الَّتِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا لأَنَّهُ نَصِيبُهُ. أَيْضاً كُلُّ إِنْسَانٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ غِنًى وَمَالاً وَسَلَّطَهُ عَلَيْهِ حَتَّى يَأْكُلَ مِنْهُ وَيَأْخُذَ نَصِيبَهُ وَيَفْرَحَ بِتَعَبِهِ فَهَذَا هُوَ عَطِيَّةُ اللَّهِ. لأَنَّهُ لاَ يَذْكُرُ أَيَّامَ حَيَاتِهِ كَثِيراً لأَنَّ اللَّهَ مُلْهِيهِ بِفَرَحِ قَلْبِهِ" (ع 18- 20).
سليمان يقرر اختباراته من جهة المال والطعام الذي بين يدي الإنسان: أولاً هو عطية من الله وهذا حق جميل ينبغي أن يتقرر في القلب عن صلاح الله "وَهُوَ يَفْعَلُ خَيْراً يُعْطِينَا مِنَ السَّمَاءِ أَمْطَاراً وَأَزْمِنَةً مُثْمِرَةً وَيَمْلأُ قُلُوبَنَا طَعَاماً وَسُرُوراً" (أع 14: 17).
ثانياً- إذا تأمل الإنسان بتعقل وإخلاص أن كل ما بين يديه هو فعلاً عطية من الله له مجاناً فالنتيجة الحتمية أنه لن يذكر كثيراً أيام حياته أو تعبه الذي تعبه, وسيحسب الحساب الحقيقي أن التعب أمر حقيقي للإنسان هنا على الأرض "بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك" (تك 3: 17). إذا وصل الإنسان إلى هذه النتيجة في ع 20 God answers الله يجيبه بفرح في قلبه. وكم هو أعلى وأثبت, الفرح الناتج من امتلاك الخبز الحقيقي "الخبز النازل من السماء الواهب الحياة الأبدية للإنسان" (يو 6: 51).
- عدد الزيارات: 2030