Skip to main content

الأصحاح الرابع

"ثُمَّ رَجَعْتُ وَرَأَيْتُ كُلَّ الْمَظَالِمِ الَّتِي تُجْرَى تَحْتَ الشَّمْسِ فَهُوَذَا دُمُوعُ الْمَظْلُومِينَ وَلاَ مُعَزٍّ لَهُمْ وَمِنْ يَدِ ظَالِمِيهِمْ قَهْرٌ أَمَّا هُمْ فَلاَ مُعَزٍّ لَهُمْ" (ع 1)

العناوين الكبيرة التي تصف الإنسان كابن آدم, بدون نعمة الله, نراها واضحة في نبوة يعقوب في تك 49 فنسمع عن رأوبين أنه مندفع في شهوته كالماء الفائر بلا ضابط  وهكذا دنس مضجع ابيه, ثم عن سمعون ولاوي بدورهما اندفعا إلى الظلم والقسوة والقتل, أي أن الإنسان بالطبيعة تحت رايتين كبيرتين: الفساد والظلم, وواضح جداً أن هذه هي مدرسة العدو, كما قال الرب يسوع بفمه الكريم لليهود "أَنْتُمْ مِنْ أَبٍ هُوَ إِبْلِيسُ وَشَهَوَاتِ أَبِيكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَعْمَلُوا" (يو 8: 44).

ما أبعد الفارق بين المدرستين: مدرسة الله التي أظهرها ابن محبته ربنا يسوع المسيح هنا على الأرض ومدرسة  العدو التي تظهر منذ السقوط في حياة البشر في كل مكان, إلى أن يتقابل الإنسان مع الله في صليب ابنه فيُعطى من الله طبيعة جديدة مقدسة طاهرة باذلة مضحية لأنها ذات طبيعة المسيح "إذا إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة" (2 كو 5: 17). فكل ما رآه سليمان في مشهد ظلم الطبيعة البشرية الأنانية الساقطة هو دموع المظلومين بكاءً على أنفسهم، لكن هلم بنا إلى رب سليمان عندما كان هنا على الأرض فنرى ما هو أعظم وأروع فنرى دموعه هو له المجد بكاءً على الظالمين أنفسهم. كم ظُلم هو له المجد من شعب أورشليم وكان يعلم تماماً ما كُتب عنه "ظُلم أما هو فتذلل ولم يفتح فاه" لكنه ما أعجبه وهو ينظر إلى أورشليم ويبكي عليها ويرثى مصيرها المُحزن (لو 19). وشكراً له من كل القلب لأنه استطاع أن يوجد هنا على الأرض دموعاً أخرى مجيدة، وهي دموع الامتنان والشكر القلبي العميق، دموع الولاء والتعبد له في أولئك الذين انفتحت بصيرتهم فرأوا فيه الفادي المحب الغافر الوحيد لكل خطاياهم (لو 7).

الأمر الثاني أن سليمان لم يرَ المُعزي لدموع المظلومين، لكن والده داود تدرب أكثر عند قدمي الرب، رأى المعزي العظيم لدموع المظلومين. اسمعه وهو يقرر "اِجعل أنت دموعي في زقك. أما هي في سفرك؟" (مز 56: 8). لكن هناك الرجاء المبارك لأولاد الله إذ لهم هذا الوعد "ويمسح السيد الرب الدموع عن كل الوجوه" (أش 25: 8، رؤيا 7: 17، 21: 4).

"فَغَبَطْتُ أَنَا الأَمْوَاتَ الَّذِينَ قَدْ مَاتُوا مُنْذُ زَمَانٍ أَكْثَرَ مِنَ الأَحْيَاءِ الَّذِينَ هُمْ عَائِشُونَ بَعْدُ" (ع 2).

ما أتعس انحصار النظر في الأمور التي تجري تحت الشمس، وهذه النظرة السطحية جعلت سليمان يسقط في أمرين رهيبين:

الأول: نهاية الحياة بالموت خير من الحياة مع الظلم! يا لها من هزيمة وفيها رائحة الذات الكريهة. لكن ما أسمى موازين بولس " لست أحتسب لشيء (ظلم، ضرب، سجن، لكم) ولا نفسي ثمينة عندي حتى أتمم بفرح سعيي والخدمة التي أخذتها من الرب يسوع" (أع 20: 24).

الثاني: رأى موت البشر كفريق واحد! ما أغبى هذه النظرة! ألا يعلن الكتاب من البداءة أن البشر عائلتان منفصلتان؟ والذي فصل بينهما هو الإيمان بدم الحمل.

"وَخَيْرٌ مِنْ كِلَيْهِمَا الَّذِي لَمْ يُولَدْ بَعْدُ الَّذِي لَمْ يَرَ الْعَمَلَ الرَّدِيءَ الَّذِي عُمِلَ تَحْتَ الشَّمْسِ!" (ع 3).

أي أن الذي لم يولد بعد خير من الذي ولد ولا زال على قيد الحياة في دائرة ظلم الناس. كما سبقت الإشارة، إن الحياة هنا على الأرض إذا لم يملأها المسيح ليكون هو الغرض الوحيد لها، حينئذ فعلاً الذي لم يولد خير من الذي ولد، ليس فقط لمرارة الحياة نفسها لكن ما هو أتعس- المصير الأبدي الرهيب للإنسان بدون المسيح.

"وَرَأَيْتُ كُلَّ التَّعَبِ وَكُلَّ فَلاَحِ عَمَلٍ أَنَّهُ حَسَدُ الإِنْسَانِ مِنْ قَرِيبِهِ! وَهَذَا أَيْضاً بَاطِلٌ وَقَبْضُ الرِّيحِ" (ع 4).

هذا هو تقرير سليمان بالروح القدس عن أحد عناصر اجتهاد الإنسان العالمي واحتماله كل مشقة وكل تعب، لكي بنجاحه في هذه الحياة يتفوق على الآخرين الذين سبقوه في النجاح والتفوق، وهذا هو الحسد أو الغيرة الرديئة. وهنا نسمع تحذير الكتاب في مز 37: 1- 5 "لداود لا تغر من الأشرار ولا تحسد عمال الإثم  فإنهم مثل الحشيش سريعا يقطعون ومثل العشب الأخضر يذبلون. اتكل على الرب وافعل الخير. اسكن الأرض وارع الأمانة. وتلذذ بالرب فيعطيك سؤل قلبك. سلم للرب طريقك واتكل عليه وهو يجري".

"اَلْكَسْلاَنُ يَأْكُلُ لَحْمَهُ وَهُوَ طَاوٍ يَدَيْهِ" (ع5).

هنا يتأمل في  الجانب العكسي، أي البطالة- هل هي أفضل من العمل المضنى الناجح؟ كلا. لأن الكسلان المتعطل إنسان جاهل يأكل لحمه بمعنى أنه لابد أن يجلب الخراب لنفسه وهكذا تتجه الحكمة البشرية إلى المتوسط المعتدل وذلك في القول:

"حفْنَةُ رَاحَةٍ خَيْرٌ مِنْ حُفْنَتَيْ تَعَبٍ وَقَبْضُ الرِّيحِ" (ع 6).

أي حفنة رزق براحة خير من حفنتي رزق بتعب باطل، وهذه قضية لا غبار عليها، أن الجمع والتكويم لا يجلب معه سوى خيبة الأمل والهم الناتج من إنفاق صحة الإنسان التي لا تعوض لكن ما أسمى حكمة الإنسان المتعلم من الكتاب المقدس "التقوى مع القناعة فهي تجارة عظيمة" (1 تي 6: 6). وأيضاً "القليل الذي للصديق خير من ثروة أشرار كثيرين" (مز 37: 16).

"ثُمَّ عُدْتُ وَرَأَيْتُ بَاطِلاً تَحْتَ الشَّمْسِ يُوجَدُ وَاحِدٌ وَلاَ ثَانِيَ لَهُ وَلَيْسَ لَهُ ابْنٌ وَلاَ أَخٌ وَلاَ نِهَايَةَ لِكُلِّ تَعَبِهِ وَلاَ تَشْبَعُ عَيْنُهُ مِنَ الْغِنَى. فَلِمَنْ أَتْعَبُ أَنَا وَأُحَرِّمُ نَفْسِي الْخَيْرَ؟ هَذَا أَيْضاً بَاطِلٌ وَأَمْرٌ رَدِيءٌ هُوَ" (ع 7، 8).

في الأعداد السابقة بحث الحكيم ضربة مُرّة ضُرب بها القلب البشري وهي العمل المضني لكي يتفوق على الذين سبقوه وتفوّقوا عليه وهذا هو الحسد. وبحث أيضاً ضربة الكسل التي تجلب الخراب على الإنسان. أما هنا موضوع تأمله ضربة أرهب وأقسى وهي متعة جمع المال في ذاك البخيل الذي ليس له أقارب يعتمدون عليه, أو يطلبون العون منه. ومع ذلك يكافح ويتعب ويحرم نفسه الخير والتمتع بالثروة التي يتوهم أن في جمعها متعة وغبطة لأنه يرى في المال إلهاً محركاً للعالم يفتح الأبواب المغلقة ويعوّج القضاء. لكن ما أرهب تقرير الكتاب "لأَنَّ مَحَبَّةَ الْمَالِ أَصْلٌ لِكُلِّ الشُّرُورِ، الَّذِي إِذِ ابْتَغَاهُ قَوْمٌ ضَلُّوا عَنِ الإِيمَانِ، وَطَعَنُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَوْجَاعٍ كَثِيرَةٍ" (1 تي 6: 10).

وواضح أن هذه المتعة لها هذه الجوانب المدمرة. طُوبَى لِكُلِّ مَنْ يَتَّقِي الرَّبَّ وَيَسْلُكُ فِي طُرُقِهِ

أولاً: يعبد هذا الصنم ويصير كل تفكيره عنه (مت 6: 24)

ثانياً: يحرم نفسه الخير الذي وضعه الله بين يديه! ما أسمى تعليم الكتاب "طُوبَى لِكُلِّ مَنْ يَتَّقِي الرَّبَّ وَيَسْلُكُ فِي طُرُقِهِ لأَنَّكَ تَأْكُلُ تَعَبَ يَدَيْكَ" (مز 128)

ثالثاً: يتدرب القلب على القسوة أكثر بالنسبة للمحتاجين بسبب البخل.

"اِثْنَانِ خَيْرٌ مِنْ وَاحِدٍ لأَنَّ لَهُمَا أُجْرَةً لِتَعَبِهِمَا صَالِحَةً. لأَنَّهُ إِنْ وَقَعَ أَحَدُهُمَا يُقِيمُهُ رَفِيقُهُ. وَوَيْلٌ لِمَنْ هُوَ وَحْدَهُ إِنْ وَقَعَ إِذْ لَيْسَ ثَانٍ لِيُقِيمَهُ" (9, 10).

يتناول الحكيم هنا ضربة أخرى للقلب البشري, وهي متعة الوحدة, أي أن الإنسان يعيش بمفرده ظناً منه إن شاركه أحد في حياته فسوف يكدّر تفكيره وتمتعه بما بين يديه, ونرى الحكيم يوضح غباوة هذا الفكر:

أولاً:- اثنان خير من واحد لأن هذا ما رسمه الرب منذ البداءة للإنسان, لأنه مخلوق ضعيف تحت الآلام, ومحتاج باستمرار إلى معونة, لذلك قال الرب "لَيْسَ جَيِّدا أن يَكُونَ آدَمُ وَحْدَهُ فَاصْنَعَ لَهُ مُعِيناً نَظِيرَهُ" (تك 2).

ثانياً- لهما أحرة صالحة لتعبهما أي أن المحصول الناتج من الخدمة يكون أوفر, ولهذا تكون الأجرة مضاعفة. لو كان إكليلاً بمفرده لمّا استطاع أن يستضيف الرسول العظيم بولس ويقدم له خدمة الضيافة الكاملة المريحة المباركة لمدة عام ونصف وهي فترة إقامة الرسول في مدينة كورنثوس حيث تأسست الكنيسة هناك.

ثالثاً- ع 10 ينبر الحكيم على أمر آخر وهو المعونة المتبادلة في كل ظروف الحياة ومفاجآتها المتنوعة التي بسبب ضعف الإنسان في ذاته قد يتعرض للسقوط, فيجد في الحال من يمسك بيده ليقيمه. ومغبوط هذا البيت الذي يوقرّ بحق اسم الرب, حتى إذا زلت قدم طرف, يبادر الطرف الآخر لعلاجه بمحبة ووداعة وتواضع.

"أَيْضاً إِنِ اضْطَجَعَ اثْنَانِ يَكُونُ لَهُمَا دِفْءٌ أَمَّا الْوَاحْدُ فَكَيْفَ يَدْفَأُ" (ع 11)

الدفء في الكتاب المقدس يشير إلى التعزية الناتجة من الأحشاء المملوءة بالرب في حنانه وعطفه. كم كانت سارة تحب تعزية لإبراهيم في تغربه في أرض كنعان وكم كانت رفقة سبب تعزية لإسحق بعد وفاة أمه المحبوبة سارة.

"وَإِنْ غَلَبَ أَحَدٌ عَلَى الْوَاحِدِ يَقِفُ مُقَابِلَهُ الاِثْنَانِ وَالْخَيْطُ الْمَثْلُوثُ لاَ يَنْقَطِعُ سَرِيعاً" (ع 12)

ما أجمل المنظر في إتحاد قلبين معاً في المعركة مع العدو, هنا القوة والانتصار. لهذا كانت إرسالية الرب للسبعين في لوقا 10: 1 حيث أرسلهم اثنين اثنين أمام وجهه المبارك إلى كل مدينة وموضع حيث كان هو مزمعاً أن يأتي. ولهذا أيضاً لنا منه هذا الوعد "إِنِ اتَّفَقَ اثْنَانِ مِنْكُمْ عَلَى الأَرْضِ فِي أَيِّ شَيْءٍ يَطْلُبَانِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُمَا مِنْ قِبَلِ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ" (مت 18: 19) ولهذا نجد تحذير الرسول بطرس للرجال والنساء في كل بيت " لكي لا تُعاق صلواتكم" (1 بط 3: 8).

"وَلَدٌ فَقِيرٌ وَحَكِيمٌ خَيْرٌ مِنْ مَلِكٍ شَيْخٍ جَاهِلٍ الَّذِي لاَ يَعْرِفُ أَنْ يُحَذَّرَ بَعْدُ. لأَنَّهُ مِنَ السِّجْنِ خَرَجَ إِلَى الْمُلْكِ وَالْمَوْلُودُ مَلِكاً قَدْ يَفْتَقِرُ" (ع 13, 14).

في أسى عميق يقرر هذا الحكيم العظيم أنه لم يعرف ولم يتعلم كيف يتحذر بما بين لديه من حكمة. فهو الذي يكتب عن أهمية الاثنين والارتباط القلبي الصادق بينهما وأهمية هذا في المعركة مع العدو, لم يسلك هو فيه فلم يكن له زوجة أمينة واحدة تعرف الرب وتؤازره في سكب القلب أمام الرب ولهذا كانت له الهزيمة المُرّة وها هو يقرر عن نفسه أنه ملك شيخ جاهل. أما الولد الفقير الحكيم فهو يربعام الذي في حكمه عرف أنه ليس هو الوقت المناسب ليهز عرش سليمان فهرب إلى مصر, التي كانت له كسجن, وبقلم النبوة يكتب سليمان ما حدث تماماً بعد وفاته إذ خرج يربعام من مصر وأتى ليقود عشرة أسباط في ثورة ضد رحبعام ابن سليمان. وفعلاً تكوّنت المملكة الشمالية وجلس على عرشها يربعام. والمولود ملكاً وهو رحبعام فعلاً افتقر بسبب عدم مخافة الرب إذ فقد العشرة أسباط ولم يبق له إلا سبطا يهوذا وبنيامين, ولم تمض خمس سنوات حتى جاء شيشق ملك مصر وأخذ خزائن بيت الرب وخزائن بيت الملك وأخذ أتراس الذهب (2 أي 12: 9).

"رَأَيْتُ كُلَّ الأَحْيَاءِ السَّائِرِينَ تَحْتَ الشَّمْسِ مَعَ الْوَلَدِ الثَّانِي الَّذِي يَقُومُ عِوَضاً عَنْهُ لاَ نِهَايَةَ لِكُلِّ الشَّعْبِ لِكُلِّ الَّذِينَ كَانَ أَمَامَهُمْ أَيْضاً الْمُتَأَخِّرُونَ لاَ يَفْرَحُونَ بِهِ فَهَذَا أَيْضاً بَاطِلٌ وَقَبْضُ الرِّيحِ" (ع 15, 16).  

بقية القصة حيث كل الأحياء أي العشرة الأسباط جمهور شعب إسرائيل مع الولد يربعام عوضاً عن رحبعام. أيضاً المتأخرون لا يفرحون به, نبوة عن عدم ابتهاج العشرة أسباط بمُلك يربعام بعد أن ملكوه عليهم ملكاً. وسواء مملكة رحبعام أو يربعام فالكل باطل وقبض الريح لأن في كليهما لم توجد مخافة الرب.

  • عدد الزيارات: 2048