الأصحاح الأول
"كَلاَمُ الْجَامِعَةِ ابْنِ دَاوُدَ الْمَلِكِ فِي أُورُشَلِيمَ" (ع 1).
في أسفار الوحي المقدس كثيراً ما يكون مفتاح السفر معلقاً فوق الباب, بمعنى أن أول عباراته تتضمن ملخص الكل, وهذا واضح في سفرنا هنا, فالعدد يعرِّفنا بالكاتب والعدد الثاني يحدثنا عما انتهى إليه في كل بحثه وفيهما نرى مفتاح السفر كله أو عنوان السفر, وغرض الروح القدس هو إعداد ذهن القارئ لشما هو متضمن في السفر.
فالكاتب هو الجامعة ابن داود الرجل الذي رفعه الرب إلى أسمى مجد أرضى. فمن خلال الرفض والهروب ومن خلال المعارك والصراع سار الرب بداود حتى أوصله إلى هذا السمو من المجد والقوة. ولكن ابنه سليمان وجد نفسه في هذا كله, على أتم وأكمل صورة بدون أدنى تعب أو عناء.
والجامعة بمعنى الكارز أو الواعظ تعبير عن ما أُعطي لسليمان أن يجمع محفلاً (راجع المقدمة) وهو في هذا رمز ضئيل جداً لسليمان الحقيقي ربنا يسوع المسيح الذي حوله وحده تجتمع ألوف وربوات الخطاة ليوصل إلى قلوبهم بشارة نعمته المخلصة وذلك في عمله الكريم وحبه العظيم في الصليب في كل العصور والأجيال. وهو أيضاً مركز ومحور كل اجتماعات القديسين المخلصين، بدمه الكريم ليقدموا له السجود والعبادة وتسكن في قلوبهم كلمته بغنى فينموا في النعمة وفي معرفة شخصه المحبوب المعبود.
والجامعة لا يُرِد إلا في هذا السفر وهو يرِد سبع مرات- ص 1: 1, 2: 12, 7: 27, 12: 8, 9, 10 وهو بذلك يكون أحد سباعيات كلمة الله. "الملك في أورشليم" المدينة التي وقع عليها اختيار الله "مدينة الملك العظيم فَرَحُ كُلِّ الأَرْضِ" (مز 48: 2)- المدينة التي لها الاعتبار الأول في كلمة الله بالمقارنة مع كل مدن العالم, وذلك واضح لأن فيها تمم الله مقاصده الأزلية الكريمة في صنع الفداء والكفارة وقد وطأتها قدما السيد العظيم يهوه الأزلي المعبود في مجيئه الأول ليصنع لنا الخلاص. وسوف تكون الموضع الذي فيه يجلس له كل المجد على كرسي مجده في المُلك أللفي السعيد القادم, هذا هو سر العظمة الحقيقية, الارتباط بالمسيا, مسيح الله المعبود الذي إليه وحده تتجه كل مشورات ألله.
"بَاطِلُ الأَبَاطِيلِ قَالَ الْجَامِعَةُ. بَاطِلُ الأَبَاطِيلِ الْكُلُّ بَاطِلٌ" (ع 2).
باطل الأباطيل تعبير مألوف مثل عبد العبيد (تك 9: 25) وقدس الأقداس (خر 26: 34) وسماء السماوات (1 مل 8: 7) ونشيد الأنشاد (نش 1: 1), ولذلك فهو تعبير عن الإمعان في البُطل أو تمامه. أي أن كل ما في العالم نتصور أن فيه سعادة, ليس إلا سراب خادع وكل كأس يقدمه العالم فيه لذة أو متعة إنما في آخره "يلسع كالحية ويلدغ كالأفعوان" (أم 23: 32). واختبار سليمان المرير هنا, هو ذات اختبار لوط الذي جرى وراء مكاسب العالم"إِذْ كَانَ الْبَارُّ بِالنَّظَرِ وَالسَّمْعِ وَهُوَ سَاكِنٌ بَيْنَهُمْ يُعَذِّبُ يَوْماً فَيَوْماً نَفْسَهُ الْبَارَّةَ (بأفعاله) الأَثِيمَةِ" (2 بط 2: 8).
وقد عبّر أولاد الله في كل العصور عن تقديرهم لحياة الإنسان هنا على الأرض إن لم تكن تُقضى لواهبها فما أتفهها وليس لها أقل اعتبار. فيقول يعقوب أبو السباط "أَيَّامُ سِنِي غُرْبَتِي مِئَةٌ وَثَلاَثُونَ سَنَةً. قَلِيلَةً وَرَدِيَّةً" (تك 47: 9).
ويقول داود: "إِنَّمَا كَخَيَالٍ يَتَمَشَّى الإِنْسَانُ. إِنَّمَا بَاطِلاً يَضِجُّونَ. يَذْخَرُ ذَخَائِرَ وَلاَ يَدْرِي مَنْ يَضُمُّهَا" (مز 39: 6). ويقول موسى: "بِالْغَدَاةِ كَعُشْبٍ يَزُولُ. بِالْغَدَاةِ يُزْهِرُ فَيَزُولُ. عِنْدَ الْمَسَاءِ يُجَزُّ فَيَيْبَسُ. أَيَّامُ سِنِينَا هِيَ سَبْعُونَ سَنَةً وَإِنْ كَانَتْ مَعَ الْقُوَّةِ فَثَمَانُونَ سَنَةً وَأَفْخَرُهَا تَعَبٌ وَبَلِيَّةٌ" (مز 90: 5، 6، 10).
"مَا الْفَائِدَةُ لِلإِنْسَانِ مِنْ كُلِّ تَعَبِهِ الَّذِي يَتْعَبُهُ تَحْتَ الشَّمس" (ع 3)
إن الحكيم لا يقلل من قيمة العمل لأنه يقرر بالروح القدس "في كل تعب منفعة" (أم 14: 23). فالعمل باجتهاد لابد أن يأتي بنتيجة ويعود على صاحبه بمنفعة في أي من وجوه الحياة, على سبيل المثال"نأكل تعب أيدينا" (مز 128: 2). ولكن ما يقصده الحكيم هو أنه ليس تعب في الأرض يستطيع أن يشبع قلب الإنسان ليكون نصيباً أبدياً باقياً له أي لنفسه الخالدة وهنا يأتي سؤال رب سليمان وسيده الفاحص لكل شيء "لأَنَّهُ مَاذَا ينتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟ أَوْ مَاذَا يُعْطِي الإِنْسَانُ فِدَاءً عَنْ نَفْسِهِ" (مت 16: 26).
"دَوْرٌ يَمْضِي وَدَوْرٌ يَجِيءُ وَالأَرْضُ قَائِمَةٌ إِلَى الأَبَدِ. وَالشَّمْسُ تُشْرِقُ وَالشَّمْسُ تَغْرُبُ وَتُسْرِعُ إِلَى مَوْضِعِهَا حَيْثُ تُشْرِقُ. اَلرِّيحُ تَذْهَبُ إِلَى الْجَنُوبِ وَتَدُورُ إِلَى الشِّمَالِ. تَذْهَبُ دَائِرَةً دَوَرَاناً وَإِلَى مَدَارَاتِهَا تَرْجِعُ الرِّيحُ. كُلُّ الأَنْهَارِ تَجْرِي إِلَى الْبَحْرِ وَالْبَحْرُ لَيْسَ بِمَلآنَ. إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي جَرَتْ مِنْهُ الأَنْهَارُ إِلَى هُنَاكَ تَذْهَبُ رَاجِعَةً. كُلُّ الْكَلاَمِ يَقْصُرُ. لاَ يَسْتَطِيعُ الإِنْسَانُ أَنْ يُخْبِرَ بِالْكُلِّ. الْعَيْنُ لاَ تَشْبَعُ مِنَ النَّظَرِ وَالأُذُنُ لاَ تَمْتَلِئُ مِنَ السَّمْعِ" (ع 4- 8).
يقدم الحكيم خلاصة ما هو تحت الشمس. وفي الواقع هو يقدم في هذه الأعداد الخمسة خلاصة السفر كله أي خلاصة بحثه وتعبه في كل ما يمكن أن يخطر على بال إنسان تحت الشمس لكي يوفرّ علينا تعب الفكر والسعي الباطل.
أولا:ً لإثبات أن الخليقة كلها تحمل طابع عدم الاستقرار المطلق لكي يرتفع القلب إلى ذاك الذي هو فوق الخليقة كلها وفوق الشمس"الذي ليس عنده تغيير ولا ظل دوران" يسوع المسيح هو أمساً واليوم وإلى الأبد" وهو ما قصد أن يعلن به عن ذاته في قوله المبارك "أهيه الذي أهيه" و"أنا هو" الكائن بذاته غير المتغير, راجع يع 1: 17 عب 13:8, خر 3: 24, إش 43: 10, يو 8: 24 وهو المعبر عن ثباته بأنه هو الصخر الثابت منذ الأزل وإلى الأبد- الثابت في ذاته وفي صفاته وفي تحقيق كل مشاوراته.
ثانياً: يقرر الحكيم هنا 6 وجوه مختلفة للأمور التي تحت الشمس يمكن أن يخدع بها الإنسان نفسه فيضع رجاءه عليها ليكون فيها شبع القلب.
الأول: دور يمضي ويجيء, بمعنى جيل يمضي وهكذا يفسح المجال لجيل آخر, هل جيلنا الحاضر كان أفضل من الجيل الماضي؟ لا ننكر أن هناك اكتشافات رهيبة فائقة التصور قدمت الكثير جداً من اختصار المجهود والوقت, ووفرت على الإنسان الكثير جداً من العناء. فهناك الاتصال الآلي أي الإنسان في بيته يمكن أن يتصل بأي مكان في العالم تليفونياً وكذلك السفر السريع المريح وقِس على ذلك في كل مجالات الحياة, لكن ما هي الحالة الأدبية والاجتماعية لجيلنا الحاضر بالنسبة للجيل الماضي؟ يقول الباحثون الاجتماعيون على مستوى العالم, أنه لو قُدر لآبائنا الذين سبقونا في الجيل الماضي أن يستفيقوا من قبورهم ساعة, لأسرعوا في الحال وواروا أنفسهم تحت التراب من هول المناظر, حالات الطلاق وتشريد الأطفال أمام المحاكم بلا حصر ولا عدد والاندفاع الإجرامي في أقدس الارتباطات- أمر مذهل: أم تقتل زوجها وابنها, قِس على ذلك الحوادث التي هزت العالم: خطف الطيارات بما فيها من ركاب آمنين وخطف السفن.
وواضح سر الخراب والتدهور المعلن عنه في الإنجيل من ألفي عام أنهم سيتقدمون إلى أردأ (2 تي 4) والسر هو رفض راية محبة الله المعلنة في إنجيل نعمته "ها قد رفضوا كلمة الرب فأية حكمة لهم" (إر 8: 7) "وكما لم يستحسنوا أن يبقوا الله في معرفتهم أسلمهم الله إلى ذهن مرفوض ليفعلوا ما لا يليق مملوءين.. مشحونين.." (رو 1: 26), "إن لم تؤمنوا إني أنا هو" هنا سر كل ضياع العالم, يهوه الخالق أتى إلى العلم ورفضه العالم لكن نشكر الله لأجل كل الذين قبلوه.
الثاني: الشمس تشرق والشمس تغرب.. الشمس في إشراقها تعلن عن مولد يوم جديد وهو يشير إلى الغد! الكلمة التي تداعب ذهن الإنسان باستمرار "غداً"- هذه إحدى الرايات التي في يد عدو النفوس التي يستخدمها كمخدر ليبعد النفس عن التفكير في إمكانية نهاية الحياة اليوم حيث تذهب إلى أبدية لا نهاية لها.
وهنا تبدو المباينة الشاسعة بين محطتي الإذاعة اللتين في العالم! هناك المحطة الخادعة العالية الصوت التي تقول للإنسان باق وقت طويل لك هنا, غداً يمكنك أن تعمل المستحيل, ما عجزت عنه أمس واليوم فالحل هو غداً وهكذا يحلق بالذهن في مخططات غداً "ويكون الغد كهذا اليوم عظيماً بل أزيد جداً" (أش 56: 12).
وهناك المحطة الأخرى الصادقة, كلمة الله الأمينة التي توجه النفوس إلى الأبدية وحسم الموقف هو اليوم, فالأبدية قد تبدأ اليوم بكل رهبتها وخطورتها وهذا هو اتجاه كل رجال الله الأفاضل الذين أُعطوا أن يكونوا معلمين لنا في كلمة الله.
اسمع ما يقوله موسى في صلاته المؤثرة في مز 90: 12 "إحصاء أيامنا هكذا علمنا فنؤتى قلب حكمة". وماذا يقول داود أيضاً في صلاته مز 39: 4 "عرفني يا رب نهايتي ومقدار أيامي كم هي فأعلم كيف أنا زائل هو ذا جعلت أيامي أشباراً وعمري كلا شيء قدامك إنما نفخة كل إنسان قد جُعل إنما كخيال يتمشى الإنسان".
واستمع أيضاً إلى إنذار الرسول يعقوب بخصوص آمال الغد ومشروعاته "هلم الآن أيها القائلون نذهب اليوم أو غداً إلى هذه المدينة أو تلك وهناك نصرف سنة واحدة ونتجر ونربح أنتم الذين لا تعرفون أمر الغد لأنه ما هي حياتكم إنها بخار يظهر قليلاً ثم يضمحل" (يع 4: 13) وهي ذات تحذير الحكيم نفسه في أم 27: 1 "لا تفتخر بالغد لأنك لا تعلم ماذا يلده اليوم".
إلى أن أتى التعليم الكامل على فم السيد نفسه في قوله الكريم "اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وهذه كلها تُزاد لكم فلا تهتموا للغد لأن الغد يهتم بما لنفسه يكفي اليوم شره. لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه أو ماذا يعطي الإنسان فداءً عن نفسه" (مت 6: 33, 16: 26).
وقد أوضح له المجد كيف يداعب العدو ذهن البشر بآمال خادعة في ذلك الغني الذي قال "أهدم مخازني وأبني أعظم.. وأقول..... فإذا بالصوت الرهيب: يا غبي هذه الليلة تطلب نفسك منك وهذه التي أعددتها لمن تكون"(لو 12: 18).
الثالث: الريح تذهب إلى الجنوب وتدور إلى الشمال تذهب دائرة دوراناً وإلى مداراتها ترجع الريح.
هنا نرى وجهاً آخر من خداع القلب ألا وهو التجوال لرؤية شعوب العالم ودراسة طباعها وعاداتها. لو أمكن لرحالة له إمكانيات أن يزور كل الشعوب في كل القارات, ما هي الخلاصة التي سيخرج بها؟ الإنسان أناني محب لذاته لذلك هو متصلف وقاسٍ. لن يرى دولة واحدة مهما كان مستواها المادي, إلا وسجونها مملوءة ومصحاتها العقلية والنفسية مكتظة بمن فيها بسبب انعدام الحنان والرفق. وهكذا يعود إلى وطنه بخيبة أمل ويعلم أن العلاج ليس في التجوال بين الشعوب لكن في ذاك الذي هو وحده مخلص العالم "وليس بأحد غيره الخلاص, واسمه يسوع لأنه يخلص شعبه من خطاياهم" (أع 4: 12, مت 1: 21).
الرابع: كل الأنهار تجري إلى البحر والبحر ليس بملآن- النهر في الكتاب يشير إلى ما يمكن أن يروي النفس البشرية المملوءة بالعطش لذلك ليس لشعب الرب في كل العصور إلا نهر واحد فيه الارتواء الكامل الثابت الذي هو المسيا موضوع في نبوات العهد القديم, كما نراه بكل وضوح في العهد الجديد مخلصنا المحبوب المعبود ربنا يسوع المسيح. فنرى في جنة عدن نهراً واحدا ً يسقي كل الجنة ثم في سفر المزامير نسمع "نهر سواقيه تفرح مدينة الله مقدس مساكن العلى" (مز 46: 4) لذلك يهتف داود عن ارتواء شعب الرب منه "يروون من دسم بيتك ومن نهر نعمك (مسراتك) تسقيهم" (مز 36: 8).
وإلى نهاية الوحي حيث المشهد الأبدي ومشهد الملك الألفي ليس إلا نهر واحد ليروي العروس السماوية والعروس الأرضية (رؤ 23), بينما في الوحي نسمع عن نهري دمشق أبانة وفرفر ونهري أور الكلدانيين أنهار مصر, لأن العالم له ينابيع متنوعة متعددة لمحاولة الارتواء الكاذب الخادع وكلها أنهار مسممة, فنسمع عن نهر الملذات والشهوات (يو 4) "كل من يشرب من هذا الماء يعطش.." ونهر الثروة والمال "من يحب الفضة لا يشبع من الفضة ومن يحب الثروة لا يشبع من دخل" (جاه: 10), ونهر العظمة والسلطان كما ظهر في نبوخذ نصر (دا 4) ونهر الذات وكبريائها كما ظهرت في هامان ونهر التدين الكاذب كما ظهر في الفريسيين.
شكراً للرب لأجل النهر الواحد الذي فيه لذتنا نحن المفيدين وفيه عبادتنا وفيه الارتواء الأمين الكامل الثابت "كَمَا يَشْتَاقُ الأِيَّلُ إِلَى جَدَاوِلِ الْمِيَاهِ هَكَذَا تَشْتَاقُ نَفْسِي إِلَيْكَ يَا اللهُ" (مز 42: 1).
الخامس: كل الكلام يقصر لا يستطيع الإنسان أن يخبر بالكل.
العين لا تشبع من النظر! هنا نرى محاولة أخرى لإشباع القلب البشري وهي عن طريق ما يمكن أن تراه العين من مناظر جذابة زائفة.
كم من مناظر في الطبيعة بديعة جداً تعبر عن عظمة الخالق نفسه, لكن لن يجد القلب شبعه وارتواءه فيها, بحيث تمتنع العين عن التأمل في مناظر أخرى. وهناك المعارض المتنوعة الأغراض في العالم وروادها بالملايين ولن تجد واحداً منهم وجد كفايته فيها بل هناك السؤال الدائم هل من مزيد؟ لكن شكراً للرب لأجل المنظر الواحد الذي إذ تنفتح البصيرة الداخلية لكي تراه بالإيمان, فهناك الارتواء بفرح غامر لا يُنطق به ومجيد الذي قال عنه الرسول يوحنا في آخر أيامه "اَلَّذِي كَانَ مِنَ الْبَدْءِ، الَّذِي سَمِعْنَاهُ، الَّذِي رَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنَا، الَّذِي شَاهَدْنَاهُ" (1 يو 1: 1)- أي الذي أطلنا التأمل والتفرس فيه, وطوال الأبدية لن يكون للمفديين منظر يُشبع ويروي نفوسهم إلا وجهه الكريم "وهم سينظرون وجهه" (رؤ 22: 4).
كم من الرفعة والسمو الروحي الآن إذ ندرب أنفسنا ليكون لنا العين المركزة عليه بالإيمان "لكي أنظر إلى جمال الرب وأتفرس فيه" (مز 27: 4), "ونحن جميعاً ناظرين مجد الرب... نتغير إلى تلك الصورة عينها من مجد كما من الرب الروح" (2 كو 3:18).
كما أننا من الناحية الأخرى ليت لنا الحرص الشديد على نظراتنا حتى لا نلتفت إلى مناظر العالم التي يريد بها العدو إثارة شهواتنا فيعطل أفراحنا وهذا ما عبر عنه السيد بالقول "فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ الْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَاقْلَعْهَا وألقها عنك" (مت 5: 9).
والمقصود بالعين اليمنى واليد اليمنى إن أعظم الأشياء التي لها قيمة عظيمة ونافعة لنا لن تعيقنا عن إدانة ذواتنا إدانة كاملة إذا ما وجدنا في قلوبنا تحولاً عن الرب.
السادس: والأذن لا تمتلئ من السمع- كم من محطات إذاعة في العالم لها نشرات إخبارية متعددة طوال اليوم, بخلاف البرامج الأخرى من أحاديث وتمثيليات, وهكذا ينتهي اليوم وأذن المستمع لم تجد ما فيه كفايتها وشبعها بل هي أكثر فراغاً من بداية اليوم. لكن شكراً لذاك الذي في صوته الكريم كل الشبع لآذاننا لأنه لا يصل إلى الأذن الخارجية لكنه يصل إلى الأذن الخارجية لكنه يصل إلى الأذن الداخلية غير المنظورة- إلى القلب والأحشاء. وخزافه لها الحساسية المرهفة أن تميز صوته عن صوت الغريب (يو 10) لأن صوته كان هو مصدر الحياة الأبدية لها "اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ الآنَ حِينَ يَسْمَعُ الأَمْوَاتُ صَوْتَ ابْنِ اللَّهِ وَالسَّامِعُونَ يَحْيَوْنَ" (يو 5: 25), لذلك طول الطريق ليس لها شبع ولا راحة إلا في الجلوس عند قدميه حيث تمتلئ الأذن من أقواله الغالية "تحت ظله اشتهيت أن أجلس وثمرته حلوة لحلقي" (نش 2: 3) كما كانت مريم تجلس عند قدميه تسمع كلامه (لو 10).
ليت كل إنسان يتعقل ويفهم أن الأذن مسئولة أمام خالقها "لأن الأذن تمتحن الأقوال كما أن الحنك يذوق طعاماً. لنمتحن لأنفسنا الحق ونعرف بين أنفسنا ما هو طيب " (أي 34: 3, 4).
"ما كان فهو ما يكون والذي صنع فهو الذي يصنع فليس تحت الشمس جديد. إن وجد شيء يُقال عنه أنظر هذا جديد فهو منذ زمان كان في الدهور التي كانت قبلنا" (ع 9، 10).
المقصود بالشيء الجديد الذي يبحث عنه الجامعة, شيء جديد يمكن أن يشبع النفس ويملأها بالسلام والسعادة الحقيقية.
وهذا يحيى فينا الشعور بالحاجة إلى البركات الروحية السماوية الأبدية حيث نجد كل شيء جديداً. فبالإيمان بالفداء الذي بربنا يسوع المسيح, ينشىء الله فينا طبيعة جديدة مقدسة سماوية "إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة الأشياء العتيقة قد مضت هو ذا الكل قد صار جديداً" (2 كو 5: 17), وأيضاً يضع في أفواهنا ترنيمة جديدة (مز 40: 3, رؤ 5: 9) وسيعطي في الأبدية كل واحد منا اسماً جديداً (رؤ 2: 17, 3: 12) وسيصير كل شيء جديداً, سماوات جديدة وأرضاً جديدة (رؤ 21: 5).
"لَيْسَ ذِكْرٌ لِلأَوَّلِينَ. وَالآخِرُونَ أَيْضاً الَّذِينَ سَيَكُونُونَ لاَ يَكُونُ لَهُمْ ذِكْرٌ عِنْدَ الَّذِينَ يَكُونُونَ بَعْدَهُمْ" (ع 11).
"ليس ذكر" بمعنى ليس اعتبار لتحذيرات وإنذارات ودروس عبر الأجيال السابقة عند الأجيال التي أتت بعدها.
لقد تعثرت قدما رجل الله المبارك داود في خطية تعدد الزوجات لأنه لم يحكم على نفسه ويدرب نفسه على الضبط المقدس والقناعة, إلى أن سقط سقطته الرهيبة المُرة. هل اعتبر سليمان بما حدث لأبيه, هل دموع داود والذل الذي رآه وهو تحت عصا التأديب- هل كل ذلك كان له وزنه في حياة سليمان وتصرفه في هذا الأمر بالذات. كم زاد وزاد انحراف هذا الملك العظيم إلى أن انحنى لبعل زوجاته الوثنيات.
لم يعتبر داود بسقطة شمشون من جهة ضبط شهوة الجسد فكان سقوطه أعظم, ولم يعتبر سليمان بسقطة داود فكان الانحراف المُرّ الرهيب.
ليتنا نعي ونتعقل وقد حرص الروح القدس على تسجيل هذه الأمور في حياة هؤلاء الرجال مع أنها مشينة لهم, لكن لكي نعتبر نحن "وهذه الأمور حدثت لهم مثالاً وكُتبت لإنذارنا نحن الذين انتهت إلينا أواخر الدهور" (1 كو 10)
"أَنَا الْجَامِعَةُ كُنْتُ مَلِكاً عَلَى إِسْرَائِيلَ فِي أُورُشَلِيمَ. وَوَجَّهْتُ قَلْبِي لِلسُّؤَالِ وَالتَّفْتِيشِ بِالْحِكْمَةِ عَنْ كُلِّ مَا عُمِلَ تَحْتَ السَّمَاوَاتِ. هُوَ عَنَاءٌ رَدِيءٌ جَعَلَهُ اللَّهُ لِبَنِي الْبَشَرِ لِيَعْنُوا فِيهِ" (ع 12, 13).
لا يريدنا أن ننسى أن اختباراته هذه التي يسجلها لنا, كان فيها أرفع حاكم على الأرض, وفي متناوله كل المصادر والينابيع التي من مقتضيات مركزه العالي, وهكذا يحملنا أن نصغي بأعمق احترام وانتباه.
أي وهو في كل مجده وحدّ أهدافه واتجه بكلياته "للسؤال والتفتيش" فما من طريق تصور أنها تؤدي إلى السعادة إلا وسلكها, ما من متعة تنكب عنها. ما من جهد رآه ينتهي إلى الشبع والراحة إلا وبذله.
ولم يكن سعيه سعى الإنسان السطحي لكنه دخل إلى أعماق الأمور وبحثها بحثاً دقيقاً شاملاً. ولم يكن سعيه سعى الرجل الجاهل لأنه وجه قلبه للسؤال والتفتيش بالحكمة, وماذا كانت النتيجة؟ وجد أن هذا كله عناء رديء أي عمل مضن مُنهِك للقوى جداً. "وأعطاه الله لبني البشر ليعنوا فيه"!!!! عجباً هل كان هذا قصد الله المحب؟ يقول الفاهمون في العبري "ليعنوا به" أي ليتدربوا به, وهكذا يقودهم إلى الاتضاع أمامه وهنا البركة العظمى, حيث يأتي بهم القدير إلى مصدر الشبح الحقيقي مسيا العهد القديم الذي هو ربنا يسوع المسيح.
"رَأَيْتُ كُلَّ الأَعْمَالِ الَّتِي عُمِلَتْ تَحْتَ الشَّمْسِ فَإِذَا الْكُلُّ بَاطِلٌ وَقَبْضُ الرِّيحِ" (ع 14).
في ع 2 يصرح الجامعة أن الكل باطل أي بدون قيمة, بلا نفع حقيقي أو فائدة باقية, أما هنا فيضيف كلمة "وقبض الريح" أو انقباض الروح وتأتي 7 مرات في هذا السفر ص 1: 14, 2: 11, 17, 26, 4: 5, 16؛ 6: 9- هذه هي الخلاصة التي ينبغي أن تستقر في أعماق قلوبنا, لا فائدة حقيقية باقية في كل ما أعمله لنفسي تحت الشمس بل سأخرج بما هو أتعس وهو انقباض الروح. لذلك ليتنا نصغي إلى صيحة الرسول العظيم "إِنْ كُنْتُمْ قَدْ قُمْتُمْ مَعَ الْمَسِيحِ فَاطْلُبُوا مَا فَوْقُ، حَيْثُ الْمَسِيحُ جَالِسٌ عَنْ يَمِينِ اللهِ. اهْتَمُّوا بِمَا فَوْقُ لاَ بِمَا عَلَى الأَرْضِ" (كو 3: 1,2) فالتعب الذي له منفعة حقيقية باقية ويملأ القلب بالفرح, هو التعب لأجل ذاك الذي هو فوق الشمس "مكثرين في عمل الرب كل حين عالمين أن تعبكم ليس باطلاً في الرب" (1 كو 5: 57).
"اَلأَعْوَجُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَوَّمَ وَالنَّقْصُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يُجْبَرَ" (ع 15).
فضلاً عما وجده الجامعة من خيبة أمل وقبض الروح في كل ما يُعمل تحت الشمس, لكنه وجد أيضاً كل شيء خاطئاً وناقصاً وأنه لا قوة له على تصحيح الأمور, لأنه لا توجد قوة تحت الشمس تستطيع أن تغير الطبيعة الساقطة التي في الإنسان التي هي نبع كل اعوجاج ونقص وتشويش "هل يغير الكوشي جلده أو النمر رقطه فأنتم أيضاً تقدرون أن تصنعوا خيراً أيها المتعلمون الشر" (ار 13: 23).
لكن شكراً لمن هو فوق الشمس وأتى إلى أرضنا وأعلن أنه هو الذي يعطي الولادة من فوق (يو 1, 3).
"أَنَا نَاجَيْتُ قَلْبِي قَائِلاً: «هَا أَنَا قَدْ عَظُمْتُ وَازْدَدْتُ حِكْمَةً أَكْثَرَ مِنْ كُلِّ مَنْ كَانَ قَبْلِي عَلَى أُورُشَلِيمَ وَقَدْ رَأَى قَلْبِي كَثِيراً مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْمَعْرِفَةِ» (ع 16).
هنا نعثر على سر خيبة سليمان, فقد استصحب في داخله رفيقاً أو مشيراً لا يؤتمن وهو قلبه. أي أنه كان هو وقلبه وحدهما. إنه لمن الخطر والباطل أن يستشير الإنسان أو يناجي قلبه أي ميوله وعواطفه الشخصية بدون الاحتكام إلى نور الكلمة الفاحص الممحص والذي يحكم على كل شيء بحسب الموازين الإلهية.
إذا لا تأخذ لكَ يا صديقي مشيراً من قلبك ما دامت المحبة الإلهية قد وضعت الحكمة والمعرفة المطلقة تحت تصرف الإيمان المتواضع وذلك في الرب يسوع المسيح "الذي صار لنا حكمة من الله" (1 كو 1: 30). والذي يقول له المجد "أنا الحكمة.. لي المشورة والرأي أنا الفهم" (أم 8: 12, 14). ويقرر سليمان قائلاً "وازددت حكمة أكثر من كل مَنْ كان قبلي على أورشليم"- يقصد هنا إيثان وهيمان وكلكول ودردع (1مل 4: 31).
"وَوَجَّهْتُ قَلْبِي لِمَعْرِفَةِ الْحِكْمَةِ وَلِمَعْرِفَةِ الْحَمَاقَةِ وَالْجَهْلِ. فَعَرَفْتُ أَنَّ هَذَا أَيْضاً قَبْضُ الرِّيحِ" (ع 17).
اتجه الجامعة بكلياته لمعرفة الحكمة ودراسة مبادئها, لعله يجد في ذلك راحة, وما أعجب التقرير! قبض الريح أو جرى وراء الريح! فدراسة الحكمة بدون الشركة وفرح القلب بمن هو في ذاته الحكمة الأزلي, لم يحصل سليمان على ما كان يتوقعه. فتحول عنها إلى الحماقة والجهل أي الجنون والتهور, فلم يكن نصيبه من هذه أفضل من سابقتها.
"لأَنَّ فِي كَثْرَةِ الْحِكْمَةِ كَثْرَةُ الْغَمِّ وَالَّذِي يَزِيدُ عِلْماً يَزِيدُ حُزْناً" (ع 18).
كلما تعمق في دراسة مبادئ الحكمة, كلما رأى في نفسه عجزاً عن السلوك في هذه المبادئ, لأن نظره مثبت على ذاته وإمكانياته الشخصية. وهو ذات اختبار رومية 7 حيث نسمع "ويحي أنا الإنسان الشقي من ينقذني من جسد هذا الموت" وهنا ذات الاختبار- كثرة الغم, وهو ذات القاعدة في القول التالي "الذي يزيد علماً يزيد حزناً". كلما تعمق الإنسان في العلوم بكل فروعها كلما تكشفت له تفاهة الإنسان أمام الطبيعة وهنا الحزن الزائد, لكن لنسمع هتاف الرسول في رو 7 إذ يرفع قلب المؤمن من النظر إلى ذاك الذي فيه كل الكفاية وكل النصرة "أشكر الله بيسوع المسيح ربنا" (رو 7: 24, 25).
وكذلك في العلم الكثير بحسب الطبيعة الحزن الزائد كما قرر الحكيم, لكن هناك علماً آخر وهو علم الكتاب عند قدمي السيد نفسه خالق الكون كله وهو الذي في كلمته أعطى ما هو لازم من جهة أصول الأشياء وكيف تكونت وأخذت كيانها, وما هو غرضه من خلقها ولكن فوق الكل أعلن في كلمته عن قلبه من جهتي وما ذخره وهذا القلب الكريم لي. لذلك يهتف الرسول قائلاً أن سر انتصار سعيه المقدس هو "بل في كل شيء نُظهر أنفسنا كخدام الله في صبر كثير... في طهارة في علم في أناة في لطف في الروح القدس في محبة بلا رياء" (2 كو 6: 4, 6).
- عدد الزيارات: 3159