Skip to main content

النشيد 4

إستعادة المحبة

العروس

"2أَنَا نَائِمَةٌ وَقَلْبِي مُسْتَيْقِظٌ. صَوْتُ حَبِيبِي قَارِعاً".

لقد انتهت وليمة العرس. وذهب الملك إلى جبال الْمُرِّ، وَإِلَى تلال اللُّبَانِ، إِلَى أَنْ يَفِيحَ النَّهَارُ وَتَنْهَزِمَ الظِّلاَلُ. في ليل غياب العريس تضاءل حب العروس، وها هي تنشد الراحةَ في منـزلها. سرعان ما انتقلت من حالة الاحتفاء في حضوره إلى النوم في غيابه. في وقتٍ مضى، كان حبها قد ضَعُفَ، ولكن الآن حالة الحب لديها أشد انحداراً. فقبلاً كانت تستريح في بيتها، أما الآن فنجدها تنام. وحتى لو نامت، فإن هذا النوم ليس مستقراً أو عميقاً- فنجدها تقول: "أَنَا نَائِمَةٌ وَقَلْبِي مُسْتَيْقِظٌ".

للأسف، فإن محبتنا، مراراً وتكراراً، قد يصيبها البرود رغم أننا نكون قد عرفنا واستمتعنا بمحبة المسيح. كم تتبدل قلوبُنا سريعاً، مثل ذينك التلميذين، اللذان انتقلا من تناول الوليمة مع الرب في العلّية إلى النوم في بستان الزيتون. إلا أن هذا الرقاد ما هو سوى نومٍ قلق، لأن القلب الذي تذوق محبة المسيح لن يستقرّ أبداً إن تنحى جانباً وسعى وراء الراحة في هذا العالم الفاني. فالمسيح يود أن يستمتع العالم بمحبته. وحكذا حالةٍ يقع فيها الإنسان إنما هي نوم غير مستقر.

إلا أن محبة العريس لا تتغيّر. قد تنام العروس، ولكن لا يهدأ باله ولا يرتاح إلى أن يوقظها من حالة العواطف المتكاسلة. كم هي صحيحة كلمات ذاك الذي قال: "إن قلب المسيح لا يسأم أبداً، إن عواطفه نضرةٌ دائماً نحو عروسه كما عندما اختارنا الله فيه من قبلِ تأسيس العالم".

العريس

"2«اِفْتَحِي لِي يَا أُخْتِي يَا حَبِيبَتِي يَا حَمَامَتِي يَا كَامِلَتِي، لأَنَّ رَأْسِي امْتَلَأَ مِنَ الطَّلِّ، وَقُصَصِي مِنْ نَدَى اللَّيْلِ»."

قد تنشد العروس الراحة، ولكن ليس العريس هكذا. ها هو يقرع على بابها يستأذنها الدخول. بالحب يستميل ويناشد عواطفها ساعياً لاستعادة القلب الذي فتر. إن كلماته المؤثرة: "اِفْتَحِي لِي"، تعبّر عن توق قلبه ليملأ قلبَها. إنه يغدق عليها كل وسائل التحبّب، "يَا أُخْتِي يَا حَبِيبَتِي يَا حَمَامَتِي يَا كَامِلَتِي". كان يمكنه أن يقول لها "ملكك، صديقك، حبيبك"، ولكن الحبيب يأخذ مساراً آخر مدروساً أكثر ليصل إلى قلبها. فيذكّرها بكل ما يراه فيها. إن حبها الآخذ في الاضمحلال لم يغيّر أفكاره نحوها. والآن، وفي محاولة أخيرة يناشد بها قلبها، فإنه يتحدث عن معاناته من أجلها. فقد واجه الليلَ والبرْدَ والظلام والندى، كي يُوقظ حبيبته.

في كل هذا المشهد الأسراري، ألا نلاحظ الطريق التي يتبعها المسيح ليسترد عواطفنا المتكاسلة المتبلدة لمسرة محبته؟ ففي ليل غيابه قد نسعى إلى الراحة في هذا العالم البائس، ولكن محبته لنا كبيرة لا يريد معها أن يتركنا نستريح بعيداً عنه. من المهيب حقاً أن يقول لنا الرب: "ناموا واستريحوا". ولكن إن ضللنا سواء السبيل إليه، فإنه يتبعنا بنعمة التجديد، ويقرع على بابنا. للأسف كلما جاء وجد أبواب قلبنا مغلقة وموصدة بالمزلاج دونه واضطر ليقول بإزاء فتورنا أن: "افتح لي". كم هي مؤثرة هذه الكلمات! وكم تُظهرُ وبأسفٍ قلوبَنا الفارغة غير المشبعة؛ ومع ذلك، وفوق ذلك، كم أنها ببركة تتحدث عن محبته التي لا تتبدل، وعن توقه ليملأ قلوبنا بذاته. إن الأمر كما لو أنه يقول لنا: "لقد تحولتم إلى أهداف أخرى ولم تجدوا راحةً؛ إن نفوسكم تنام ولكن لا ترتاح؛ ويستيقظ قلبكم ولكن لا يجد رضاه، فافتحوا لي الآن".

إلا أن المسيح لن يفرض نفسَهُ على النفس. سوف لن يكون ضيفاً غير مدعو. إنه يحب أن يتمسك به المؤمنون؛ ومن هنا كانت الكلمة للعروس أن "افتحي". إن العريس يقف منتظراً وهو راغبٌ في الدخول، لكن على العروس أن "تفتح" باب قلبها. هل نشكو من قلة محبتنا للمسيح؟ لنتذكَّرْ أنه راغب في ملء قلوبنا بمجرد أن "نفتح" الباب وندعه يدخل. إن المزلاج هو من جهتنا من الباب.

هل من أشياء تُحسب لغاية إيقاظ عواطفنا المتكاسلة الناعسة أكثر من إدراكنا لذلك، فهو لا يزال يحبنا رغم كل اعوجاجاتنا، ولا يزال مستعداً لأن يقول لنا: "أنت لي"، "يا أختي، يا حبيبتي، يا حمامتي، يا كاملتي".

إضافة إلى ذلك، كم سيحرك القلبَ الذي فتر أن يسمع من جديد عن الآلام التي احتملها المسيح من أجلنا. يا لها من رحلة مر بها عريس روحنا ليربح قلوبنا! يا لها من ليلة مليئة بالكرب والعذاب قد اجتازها! وفي تلك الليلة كم من قطرات ندى تساقطت من جبينه لكي يفوز بمحبتنا. لقد سَحَقَ فؤادَه ليربح قلوبنا.

إن تحولت قلوبنا إلى وجهة أخرى، إن فترت محبتنا، فقد نحصل على نظرة متجددة إلى ذاك الذي يقف على بابنا ويقرع، ولعلنا نصغي إلى صوته يقول لنا:

أريد محبة قلوبكم: "افتحوا لي".

أحبكم: "يا أختي، يا حبيبتي، يا حمامتي، يا كاملتي".

لقد تألمتُ لأجلكم: "رَأْسِي امْتَلَأَ مِنَ الطَّلِّ وَقُصَصِي مِنْ نَدَى اللَّيْلِ".

"3قَدْ خَلَعْتُ ثَوْبِي فَكَيْفَ أَلْبِسُهُ؟ قَدْ غَسَلْتُ رِجْلَيَّ فَكَيْفَ أُوَسِّخُهُمَا؟"

إن العروس، ورغم أنها غير مبالية بهذه المناشدة المؤثرة، فإنها لا تعرف كيف تنفض عنها غبار الكسل والنعاس. فتجد أنه من الأيسر لها أن تخلع الثوب بدل أن ترتديه، من الأيسر لها أن تكشف عن عورتها بدل أن تستر نفسها. إن الاستجابة لهذا النداء يتطلب طاقة وتضحية. الاسترخاء الأناني أضعف العروس، وتسأل مرتين: "كيف لي؟" عليها أن تتعلم بالفعل، وقد تركت مع نفسها، أنه ليس في مقدورها أن أن تطرح عنها النعاس والنوم المتكاسل بسهولة. وهكذا أيضاً عندما تفتر المشاعر نحو المسيح، ونستريح منشغلين في أمورنا مثل العروس، قد يوجه إلينا نداءٌ مؤثر لليقظة ، ولا نعرف كيف نتخلى عن كسلنا وتراخينا. وإن كنا عاجزين عن تجديد نفوسنا أو استعادتها، فهو يستطيع ذلك، وهو يفعل ذلك. "يردُّ نفسي" هو التعبير الذي يقوله ناظم المزامير من خبرته. وفي المشهد الذي يلي ذلك، نلاحظ كيف يعمل الحب على استعادة عواطفنا المتبلدة، بطريقة قد تكون مؤلمة بالفعل ولكنها تقود إلى نهاية مباركة.

"4حَبِيبِي مَدَّ يَدَهُ مِنَ الْكُوَّةِ، فَأَنَّتْ عَلَيْهِ أَحْشَائِي."

لقد كلمها العريس لتوه، ولكنه مد يده الآن للعروس، وهذا النداء الصامت ملأ قلبها بالتوق والشوق للعريس. هكذا كانت خبرة إخفاق بطرس، إذ في نفس اللحظة التي أنكر فيها المسيح، فإن الرب "استدار ونظر إليه". لقد كانت تلك النظرة معبرة أكثر من الكلمات. فبدا وكأن الرب يقول له: "لقد أنكرتني، ولكني أحبك". وتلك النظرة، كمثل مد العريس ليده في نشيد الأنشاد، فعلت فعلها في استرداد بطرس، إذ أن بطرس "خرج وبكى بكاءً مراً". أفلا تضطرم قلوبنا فينا عندما يمد الرب يده نحونا في إخفاقاتنا، تلك اليد التي تحمل علامات الجراح والتي تخبرنا عن مدى محبة المسيح التي لا تتبدل نحونا؟

"5قُمْتُ لأَفْتَحَ لِحَبِيبِي، وَيَدَايَ تَقْطُرَانِ مُرّاً، وَأَصَابِعِي مُرٌّ قَاطِرٌ، عَلَى مَقْبَضِ الْقُفْلِ. 6 فَتَحْتُ لِحَبِيبِي، لَكِنَّ حَبِيبِي تَحَوَّلَ وَعَبَرَ. نَفْسِي خَرَجَتْ عِنْدَمَا أَدْبَرَ. طَلَبْتُهُ فَمَا وَجَدْتُهُ. دَعَوْتُهُ فَمَا أَجَابَنِي."

هذا النداء تغلب على نعاس العروس. فتنهض لتفتح الباب لحبيبها. الباب الذي كان يقف عنده كان مدخلاً معبقاً بأريج حضور العريس، بعد أن غادر المكان. هكذا أيقظ الحب عواطفها. لو لم تتجاوب العروس مع ندائه لما غادرها الآن. فغاب عنها الآن لكي يوقظ عواطفها ويدب النشاط فيها. وكان ناجحاً في ذلك. فقد تنشطت العروس بالكلية: "قُمْتُ لأَفْتَحَ لِحَبِيبِي"، "فَتَحْتُ لِحَبِيبِي"، "طَلَبْتُهُ"، هذه بعض العبارات التي نطقت بها والنابعة من قلبها. إن كل عبارة تقولها إنما تعكس طاقة عواطفها المتجددة. ولكن حتى الآن كل شيء لا جدوى منه. لقد ذهب العريس، دون أن يجيبها. كان العريس هو من طلبها أولاً، ولما لم يجد استجابة من العروس، فإن حبه اتخذ منحىً آخر جعل العروس هي التي تسعى طالبةً إياه الآن، دون أن تلقى استجابةً منه. هل تغير حب العريس لها؟ هل تخلى عن عروسه؟ لا. لم يكن حبه هو الذي تغير بل طريقة تعبيره عن هذا الحب هي التي تغيرت. على العروس أن تتعلم أن شركة الحب يمكن فقدانها بسهولة ولا يمكن استعادتها إلا بخبرات التواضع.

وعلى نفس المنوال فإن الحب يعالج "القلوب البطيئة" للتلميذين على طريق عمواس. فقد كانا يسيران، إلا أن الرب تبعهما، وهكذا عالج، بنعمة تجديد، عواطفهما، وهكذا أحال "قلبيهما البطيئان" إلى "قلبين متقدين". وإذ أيقظ عواطفهما، فإنه "اختفى أمام ناظريهما". ذاك الذي سعى وراءهما، انسحب من أمامهما تاركاً خلفه ساعيين يلتمسانه بدلاً من تائهين عنه. وفي تلك الساعة ذاتها من الليل قاما ورجعا إلى أورشليم. وراحا يطلبان الرب، ووجداه وسط خاصته.

إن الرب يرغب أن يسعى المؤمنون طالبين إياه. وأولئك لن يخيبوا، حتى ولو عبروا خبرات ألم وكرب قبل أن تتجدد قلوبهم المعوجة لتصل إلى فرح التمتع بمحبة المسيح. هكذا كانت خبرة العروس في بحثها بعد ذلك عن العريس.

"7وَجَدَنِي الْحَرَسُ الطَّائِفُ فِي الْمَدِينَةِ. ضَرَبُونِي. جَرَحُونِي. حَفَظَةُ الأَسْوَارِ رَفَعُوا إِزَارِي عَنِّي."

إن فقدان المشاعر يعني خسران رفقة العريس. إضافة إلى ذلك، فإنه يعرّض العروس للتعامل مع حراس المدينة وحفظة الأسوار.

إن عمل الحراس هو حفظ النظام في المدينة. فكيف يحدث أن يجدوا العروس تتجول في المدينة ليلاً دون أن يكون العريس معها؟ هذا خلاف للنظام، وكان لهم الحق، بالتالي، بتوبيخها. لقد "جرحوها"، ولكن "أَمِينَةٌ هِيَ جُرُوحُ الْمُحِبِّ". ومن جديد، على حفظة الأسوار أن يحموا المدينة من هجمات العدو والدخلاء. وأن يقفوا بالمرصاد أمام كل داخل ويتأكدوا من هويته فيما إذا كان صديقاً أم عدواً. إنهم مخلصون لعملهم من خلال تعاملهم مع العروس. عليهم أن يتأكدوا مما إذا كانت هي حقاً من تدّعي، ولذلك جردوها من إزارها. عندما تتعرج مسالكنا، ألا نعرض أنفسنا للتوبيخ من قبل أولئك المنوط بهم أن يراقبوا ويحرسوا أنفسنا؟ إن الله غالباً ما يقوم بعمل التجديد من خلال آخرين. ألا نستطيع القول أن بولس كان يقوم بدور الحارس عندما نشب خلاف حاد بينه وبين بطرس حين وقف في وجهه وكشف رياءه كمن ينـزع الإزار عن الوجه؟ ولكن هذه الخبرات، رغم أنها تكون مؤلمة، إلا أنها تعمل على تجديد النفوس الصادقة. وهكذا كان الحال مع العروس؛ فتصرفات "الحراس" و"حفظة الأسوار" أيقظت في العروس توق قلبها إلى العريس- هذه المشاعر التي لم تستطع أن تخفيها عن الآخرين.

"8أُحَلِّفُكُنَّ يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ، إِنْ وَجَدْتُنَّ حَبِيبِي، أَنْ تُخْبِرْنَهُ بِأَنِّي مَرِيضَةٌ حُبّاً."

إذ أنها عاجزة عن تمالك عواطف الشوق التي يطفح بها قلبها، فإن العروس تناشد الآخرين، إذا ما وجدوا حبيبها، أن يخبروه بأنها مريضة من الحب. إنها تفترض أن يعرف الآخرون عمن تتكلم. ولكن بالنسبة لهؤلاء، هذا الشخص غير معروف.

بنات أورشليم

"9مَا حَبِيبُكِ مِنْ حَبِيبٍ، أَيَّتُهَا الْجَمِيلَةُ بَيْنَ النِّسَاءِ! مَا حَبِيبُكِ مِنْ حَبِيبٍ، حَتَّى تُحَلِّفِينَا هَكَذَا!"

لم يعرف هؤلاء حميمية الحب الذي يجمعها بالعريس، ولا يستطيعون فهم المشاعر التي تملأ قلب العروس. فيسألونها: "مَا حَبِيبُكِ مِنْ حَبِيبٍ؟" ولكن ما هذه إلا خطوة أخرى في سبيل استعادة العروس. يجب أن تشبع دوافعها نحو العريس. هل حبيبها مهمٌ بالنسبة لها أكثر من أي حبيب آخر بالنسبة لأي حبيبة؟ لا يبدو هذا واضحاً كثيراً بالنسبة للآخرين. لقد رقدت تستريح لوحدها دون العريس، وعندما قرع بابها لم تستطع أن تحمل نفسها لتدعه يدخل.

أقرّ بطرس بمحبته الكبيرة للرب عندما قال: "«وَإِنْ شَكَّ الْجَمِيعُ فَأَنَا لاَ أَشُكُّ!»". ولكن بطرس أبدى محبة ضعيفة للرب عندما أغفى في بستان الزيتون، ولم يبد أي محبة عندما أنكر الرب في البلاط. ومن هنا نفهم تكرار الرب يسوع السؤال لبطرس: "أتحبني؟" وذلك بغاية استرجاع بطرس.

إن العروس، وإزاء هذا السعي، تبرهن حقيقة مشاعرها التي تعتمل في قلبها، فتبوح بكل ما في نفسها نحو العريس.

العروس

"10حَبِيبِي أَبْيَضُ وَأَحْمَرُ. مُعْلَمٌ بَيْنَ رَبْوَةٍ. 11رَأْسُهُ ذَهَبٌ إِبْرِيزٌ. قُصَصُهُ مُسْتَرْسِلَةٌ حَالِكَةٌ كَالْغُرَابِ. 12عَيْنَاهُ كَالْحَمَامِ عَلَى مَجَارِي الْمِيَاهِ، مَغْسُولَتَانِ بِاللَّبَنِ جَالِسَتَانِ فِي وَقْبَيْهِمَا. 13خَدَّاهُ كَخَمِيلَةِ الطِّيبِ وَأَتْلاَمِ رَيَاحِينَ ذَكِيَّةٍ. شَفَتَاهُ سَوْسَنٌ تَقْطُرَانِ مُرّاً مَائِعاً. 14يَدَاهُ حَلْقَتَانِ مِنْ ذَهَبٍ مُرَصَّعَتَانِ بِالزَّبَرْجَدِ. بَطْنُهُ عَاجٌ أَبْيَضُ مُغَلَّفٌ بِالْيَاقُوتِ الأَزْرَقِ. 15سَاقَاهُ عَمُودَا رُخَامٍ مُؤَسَّسَتَانِ عَلَى قَاعِدَتَيْنِ مِنْ إِبْرِيزٍ. طَلْعَتُهُ كَلُبْنَانَ. فَتًى كَالأَرْزِ. 16حَلْقُهُ حَلاَوَةٌ وَكُلُّهُ مُشْتَهَيَاتٌ. هَذَا حَبِيبِي وَهَذَا خَلِيلِي يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ."

هذا الوصف الجميل ما هو إلا خطوة أخرى من يقظة الحب، ففي حين تُظهر العروس كمالات العريس للآخرين، فإن قلبها المنشغل به وبأمجاده، ينتعش من جديد ومن كل الأعماق. لكي نشهد للآخرين عن أمجاد وكمالات المسيح علينا الامتلاء بالمحبة المتجددة نحوه.

هذا التصوير المجازي المجيد يليق بالمسيح فقط. فكمالاته هي التي تُصوّر لنا هنا. فهو وحده "أَبْيَضُ وَأَحْمَرُ. مُعْلَمٌ بَيْنَ رَبْوَةٍ". ومهما كان الآخرون، فهو "مُعْلَمٌ": وأياً كان الآخرون فهو "مُعْلَمٌ بَيْنَ رَبْوَةٍ".

إن صورة عظمة جلاله الإلهي تعبر أمام ذهننا كذهب نقي خالص.

إن قُصصه مسترسلة وداكنة، وتدل على ناسوته. فليس لديه شعر أشيب أو علائم تقدم في السن. وهو دون الجميع لا يطعن في السن. وسنوه لن تخزى.

إن عينيه اللتين تشبهان الحمام تدلان على مدى حنوّه وتحنانه. و"مَغْسُولَتَانِ بِاللَّبَنِ" تشير إلى نقائه. "عَيْنَاكَ أَطْهَرُ مِنْ أَنْ تَنْظُرَا الشَّرَّ وَلاَ تَسْتَطِيعُ النَّظَرَ إِلَى الْجَوْرِ". و"جَالِسَتَانِ فِي وَقْبَيْهِمَا" تشير إلى كمال صورته في نظر أولئك الذين "كل الأشياء منكشفة وظاهرة أمامهم".

الوجنتان تدلان على الجمال والجاذبية. لم يرَ العالم جمالاً في المسيح، ولطموه على خده. ويهوذا أقرّ بانجذاب نحو المسيح ولكنه خانه بقبلة على وجنته. من جهة أخرى، إن المؤمن قد يستمتع بجمال وجاذبية المسيح كسرير من الأعشاب العطرية الطيبة العرف تسترعي إعجاب العابرين.

شفتاه تُشبّهان بسَوْسَن تَقْطُرَانِ مُرّاً مَائِعاً. والسوسن يدل على النقاء والمر المائع يدل على النعمة. اعترف أشعياء بأن شفتيه ليستا نقيتين، أما المسيح فقد كان كان نقياً، ولم يكن في فمه غش. وأمكن القول عن المسيح أن "انسكبت النعمة على شفتيك". وخلال حياته في هذا العالم لم تنفصل كلمات النعمة عن شفتيه كمثل المر الزكي الرائحة.

يَدَاهُ حَلْقَتَانِ مِنْ ذَهَبٍ مُرَصَّعَتَانِ بِالزَّبَرْجَدِ. إن الحلقة (أو الخاتم) هي رمز السلطة (تك 41: 42؛ است 3: 10)، و علامة على الحب (لو 15: 22). لقد عبّر العالم عن بغضه للمسيح بتسميره إياه على الصليب، إلا أن المؤمن يُسر بأن يدرك أن كل القوة هي في يدي المسيح، ولكن هذه اليد التي تمتلك القوة يحركها الحب.

إن البطن، أو الجسد، يُشَبَّهُ بعَاج أَبْيَض مُغَلَّف بِالْيَاقُوتِ الأَزْرَقِ. إن بياض ولمعان العاج يُشير إلى كمال المسيح الذي كان بلا عيب أو دنس، والياقوت يدل على نفاسة المسيح. يصور بطرس هذه النظرة المزدوجة إلى المسيح عندما يتحدث عنه أولاً واصفاً إياه بأنه "بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ"، وفي موضع آخر يكتب قائلاً: "فَلَكُمْ أَنْتُمُ الَّذِينَ تُؤْمِنُونَ الْكَرَامَةُ" (1 بطرس 1: 19؛ 2: 7).

سَاقَاهُ عَمُودَا رُخَامٍ مُؤَسَّسَتَانِ عَلَى قَاعِدَتَيْنِ مِنْ إِبْرِيزٍ، دلالة على رسوخ وثبات الهدف الذي كان يسعى الرب يسوع لتحقيقه. القاعدة هي ذهب خالص، بمعنى أن ثبات المسيح وقوته لهما أساس راسخ في البر الإلهي.

إن طلعته أو سيماءه لا تدل فقط على الوجه بل على كل مظهره. إنه يشبه لبنان، وهذا يذكّرنا بروعة وقداسة وجلال المسيح.

وفمه هو الأكثر حلاوة. في اللغة التصويرية للنشيد نجد أن القبلة مرتبطة بـ "الفم" أكثر من الكلام. ومن هنا نفهم أن كلام العروس في وصفها الحار لحبيبها، إنما يرمز إلى حلاوة وعذوبة محبة المسيح.

"كُلُّهُ مُشْتَهَيَاتٌ". في يسوع المسيح نجد كل حلاوة نشتهيها. وهنا يستقر القلب راضياً. في الصورة التي يرسمها دانيال نجد الرأس من ذهب أما الْقَدَمَيْنِ وَالأَصَابِعَ فبَعْضُهَا مِنْ خَزَفٍ وَالْبَعْضُ مِنْ حَدِيدٍ. هنا نجد تشبيه رأس العريس بالذهب الصافي، أما سَاقَاهُ فمثل عَمُودَي رُخَامٍ مُؤَسَّسَتَانِ عَلَى قَاعِدَتَيْنِ مِنْ إِبْرِيزٍ. العريس ليس فيه تلفٌ أو فساد. وطلعته كلها مهيبة. إنه محبب كلياً.

وفي ختام وصفها يمكن للعروس أن تقول: "هَذَا حَبِيبِي وَهَذَا خَلِيلِي". وهكذا يمكن للمفتُدى أن يقول عن المسيح: "هَذَا حَبِيبِي وَهَذَا خَلِيلِي"، حتى وهم يجتمعون في الصلاة مرنمين:

"إن الأسماء المجيدة مجتمعةً، للحكمة، والمحبة، والقوة، التي عرفها البشر، أو حملتها الملائكة، كلها تعجز عن إيفاء حقه، وتقصر عن وصف المخلص".

بنات أورشليم

"1أَيْنَ ذَهَبَ حَبِيبُكِ، أَيَّتُهَا الْجَمِيلَةُ بَيْنَ النِّسَاءِ؟ أَيْنَ تَوَجَّهَ حَبِيبُكِ، فَنَطْلُبَهُ مَعَكِ؟"

إن الوصف الجميل للعريس يطرح سؤالاً جديداً في ذهن بنات أورشليم. كانوا قد سألوا العروس: "بم يختلف حبيبك عن غيره؟" والآن يسألونها: "أَيْنَ ذَهَبَ حَبِيبُكِ أَيَّتُهَا الْجَمِيلَةُ بَيْنَ النِّسَاءِ؟" إن انتعاش عواطف العروس يتوقف على جواب هذين السؤالين. إذا فترت محبتنا للمسيح، فما علينا سوى الإجابة على هذين السؤالين: "من هو؟" و "أين هو؟" ومن جديد، وإذ تمتلئ قلوبنا به، فإنها تتقد بمحبته.

العروس

2"حَبِيبِي نـزلَ إِلَى جَنَّتِهِ إِلَى خَمَائِلِ الطِّيبِ، لِيَرْعَى فِي الْجَنَّاتِ وَيَجْمَعَ السَّوْسَنَ. 3أَنَا لِحَبِيبِي وَحَبِيبِي لِي. الرَّاعِي بَيْنَ السَّوْسَنِ."

لقد أظهرت العروس أسر العريس لها بكمالاته، وإن انشغالها الدائم به يجعلها تظن أنها ستعرف وجهة سيره أينما ذهب. لقد طلبتْه في المدينة ولكنه لم يكن هناك.

وتقول: "حَبِيبِي نـزلَ إِلَى جَنَّتِهِ"، وهي بقعة عطرة حيث يستطيع أن يرعى ويجمع السوسن. ما من شيء يُسر قلب المسيح في العالم أكثر من "خاصته الذين هم في العالم". فبهم كل مسرته. وهناك فقط يجد خَمَائِل الطِّيبِ. إن جنة الرب هي عبارة عن محبيه، وإن الروح المفتداة تعرف جيداً أن المسيح يمكن أن يُوجد مع شعبه. كانت هذه هي حال تلميذي عمواس. عندما تجددا قاما في الحال وعادا إلى أورشليم (أورشليم 24).

العريس

"4أَنْتِ جَمِيلَةٌ يَا حَبِيبَتِي كَتِرْصَةَ، حَسَنَةٌ كَأُورُشَلِيمَ، مُرْهِبَةٌ كَجَيْشٍ بِأَلْوِيَةٍ."

شيئاً فشيئاً يُصار إلى إرشاد العروس حتى تجد نفسها في حضرة العريس، وتسمع صوته في نهاية الأمر. أول كلمات تسمعها وتثير ذهولها هي: "أَنْتِ جَمِيلَةٌ يَا حَبِيبَتِي". هل من كلمات أُخر يمكن أن تؤثر كمثل هذه على قلبٍ ما برح منذ زمن يبحث عن الحبيب وقد فتر الحب فيه؟ هل هناك أروع من العودة إلى قرب الحبيب بعد بعاد؟ ما أجمل أن نكتشف أنه، ورغم كل اعوجاجاتنا، لا يزال في مقدورنا أن نقول: "أنا لحبيبي، وهو لي"، وتسمع الروح المتجددة نفس الكلمات حافلة بالنعمة: "أنا لحبيبي، وهو لي". عندما يكون القلب على استعداد لتوبيخ الذات على اعوجاج سلوكها مبتعدةً عن هكذا مخلص، عند ذلك فقط، وإذ تتحسس النفس المتجددة لعدم أهليتها، كم سيكون عذباً أن نسمعه يقول: "أَنْتِ جَمِيلَةٌ يَا حَبِيبَتِي". عندما أشعر قلبياً كيف استوجبتُ التوبيخ فكم هو مؤثرٌ أن أشعر في نفس الآن بتقديره لي في هذا. ألا يذكرنا هذا بالمشهد عند قيامة الرب يسوع؟ فقد كان تلاميذه مجتمعين والأبواب مغلقةً "فوقف يسوع في وسطهم". كان بعضهم قد نام في ساعة كربه، وتخلى الجميع عنه في حضور أعدائه وهربوا تاركينه وحده في وقت الشدة. ولعلنا نتساءل: أليس من المفترض أن يكون مستاءاً منهم في يوم انتصاره ذاك؟ لا، بل إن أولى كلمات نطق بها هي: "السلام لكم".

ويتابع العريس وصف نقاط الجاذبية التي يجدها في عروسه التي كلفته كل ذلك العناء. فأروع المدن لا تضاهي جمال وبهاء عروسه.

 "5حَوِّلِي عَنِّي عَيْنَيْكِ،فَإِنَّهُمَا قَدْ غَلَبَتَانِي. شَعْرُكِ كَقَطِيعِ الْمَعْزِ، الرَّابِضِ فِي جِلْعَادَ. 6أَسْنَانُكِ كَقَطِيعِ نِعَاجٍ، صَادِرَةٍ مِنَ الْغَسْلِ، اللَّوَاتِي كُلُّ وَاحِدَةٍ مُتْئِمٌ، وَلَيْسَ فِيهَا عَقِيمٌ. 7كَفِلْقَةِ رُمَّانَةٍ خَدُّكِ تَحْتَ نَقَابِكِ."

رغم اعوجاجات العروس، فإن أفكار عريسها نحوها لم تتغير. ونجد نفس التشابيه الاستعارية التي سبق أن استخدمت في نشيد سابق (4: 1- 13). وهي على تلك الدرجة من الثقة بأن عواطف قلبه لا تزال على حالها تجاهها، ومن هنا تقول:

"8هُنَّ سِتُّونَ مَلِكَةً وَثَمَانُونَ سُرِّيَّةً، وَعَذَارَى بِلاَ عَدَدٍ. 9وَاحِدَةٌ هِيَ حَمَامَتِي كَامِلَتِي. الْوَحِيدَةُ لِأُمِّهَا هِيَ. عَقِيلَةُ وَالِدَتِهَا هِيَ. رَأَتْهَا الْبَنَاتُ فَطَوَّبْنَهَا. الْمَلِكَاتُ وَالسَّرَارِيُّ فَمَدَحْنَهَا."

ما عاد العريس هنا يتحدث إلى عروسه بل عن عروسه. إنه لا يحاول أن يطمئن قلبها إلى مشاعره نحوها وانجذابه إليها، بل يمضي أبعد من ذلك، إذ سيعلن أمام الآخرين أنها له. فالعالم كله سيعرف أنه أحبها، وأن لها مكانة مرموقة في قلبه. لعل هناك ملكات ونساء أخريات، إلا أن عروسه لا مثيل لها بالنسبة إليه. لا مجال لمقارنتها مع أحد. وبكشفه عن مكنونات نفسه تجاهها، فإنه يضمن لعروسه أن تحظى بالمديح والإطراء من العالم. وهكذا سيكون الحال مع شعب الله المخلّص المتجدد في المستقبل. هكذا سيؤول إليه حال الكنيسة بعد أن تقوّم اعوجاجها، إذ يقول الرب: "هَئَنَذَا أُصَيِّرُهُمْ يَأْتُونَ وَيَسْجُدُونَ أَمَامَ رِجْلَيْكَ، وَيَعْرِفُونَ أَنِّي أَنَا أَحْبَبْتُكَ." أوليس الحال هكذا مع الروح المفتداة؟ إن بولس الخائب لم يستعد العلاقة مع الرب يسوع بشكل خفي من خلال تناول عشاء معه، بل كان ذلك علانيةً إذ قام بخدمة الرب وبشكل مشرّف.

بنات أورشليم

"10مَنْ هِيَ الْمُشْرِفَةُ مِثْلَ الصَّبَاحِ، جَمِيلَةٌ كَالْقَمَرِ طَاهِرَةٌ كَالشَّمْسِ، مُرْهِبَةٌ كَجَيْشٍ بِأَلْوِيَةٍ؟"

قال العريس أن بنات أورشليم سوف تطوّبْنَ العروس وأن الملكات سوف تمتدحنها. وها هن الآن قد تجمعن للإحتفاء بأمجادها. كان العريس قد استخدم صورة أجمل مدينة على الأرض لكي يصف جمال حبيبته، والآن ها إن بنات أورشليم يستخدمن أعظم العناصر مجداً في السموات ليعبرن عن إطرائهن للعروس المستعادة. إن كل آثار الإخفاق والترنح قد مضت وولت، وها هي تنبري متجددةً كالصباح، جميلة كضياء القمر، ومجيدةً كالشمس.

العريس

"11نـزلْتُ إِلَى جَنَّةِ الْجَوْزِ، لأَنْظُرَ إِلَى خُضَرِ الْوَادِي، وَلأَنْظُرَ: هَلْ أَقْعَلَ الْكَرْمُ؟ هَلْ نَوَّرَ الرُّمَّانُ؟"

يُختتم النشيد برضى العريس وهو يرى الثمار التي تمخضت عنها روحه. محبوبنا انحدر إلى وادي الموت ليضمن عروسه. نحن أيضاً، مثل العروس في نشيد الأنشاد، كنا، خلال رحلة بريتنا، قد نـزلنا إلى وادي الإذلال، ولكن المسيح في الختام سوف "يجمع ثمار الوادي". وسيتخذ مكانه في جنته، وسط خاصته، ويجد مذاق الثمر حلواً. لقد مرّ زمانٌ جاء فيه الرب إلى خاصته على الأرض سعياً وراء الثمر دون أن يجد شيئاً. فعندما سيأتي في يوم مجده، هل سيجد ثماراً؟ هل سيقعل الكرمُ وينوّر الرمان؟ سرعان ما نجد الجواب على هذا السؤال:

"12فَلَمْ أَشْعُرْ إِلاَّ وَقَدْ جَعَلَتْنِي نَفْسِي بَيْنَ مَرْكَبَاتِ قَوْمِ شَرِيفٍ."

فشعبه المرحب به في الحال يقدم له كرسي النصر والمجد. ويجلسونه على المركبات. ولعل في مقدورهم آنذاك أن يقولوا له بلسان صاحب المزامير أن: "بِجَلاَلِكَ اقْتَحِمِ. ارْكَبْ. مِنْ أَجْلِ الْحَقِّ وَالدَّعَةِ وَالْبِرِّ". تمرّدت العروس مرةً على العريس، ولكنه الآن يُستقبَلُ بالهتاف والتهليل. ولعله سيعمل على نحو مدهش عجيب يجعل العالم كله يستقبل شعبه بالمديح، ولكنه هو المنتصر الظافر أولاً وأخيراً. إنه من سيرفعه الشعب المؤمن إلى المركبات. والشعب المفتدى المتجدد سيقول: "لقد فعل الرب ذلك". (مز 22: 31). والكنيسة الممجدة ستضع تيجانها أمامه وتقول: "إنك مستحق يا رب". إن كل المفتدين، في الأرض وفي السماء، سوف يتجمهرون في الختام ويعلّون التسبيح والمجد للرب. وسيرفع الرب في أزمان مختلفة وبأشكال مختلفة إلى عربات شعبه الذي يرحّب به.

  • عدد الزيارات: 2053