النشيد 3
شركة المحبة
بنات أورشليم
"6مَنْ هَذِهِ الطَّالِعَةُ مِنَ الْبَرِّيَّةِ، كَأَعْمِدَةٍ مِنْ دُخَانٍ، مُعَطَّرَةً بِالْمُرِّ وَاللُّبَانِ، وَبِكُلِّ أَذِرَّةِ التَّاجِرِ؟"
في هذا النشيد لا نرى بعدُ العروسَ مستريحة على سريرها، مناشدةً نعمة العريس أن ترفع همّتها الفاترة وتوقظ حبها الباهت. بل إنها تُصور وهي تستمتع بشركة الحب والخروج من البرية في طريقها إلى مشاركة الملك في الأمجاد. وتتساءل بنات أورشليم: "من هذه؟" أو "من تكون هي؟"
بالتأكيد يعرض المشهد صورةً جميلةً لإسرائيل، الذي قال الرب عنه: "وَجَدْتُ إِسْرَائِيلَ كَعِنَبٍ فِي الْبَرِّيَّةِ"، وأيضاً: "أَنَا عَرَفْتُكَ فِي الْبَرِّيَّةِ فِي أَرْضِ الْعَطَشِ" (هوشع 9: 10 و 13: 5). صحيح أن الرب قد "اجْتذَبَهُمْ بِحِبَالِ الْبَشَرِ" و"بِرُبُطِ الْمَحَبَّةِ" إلى أرض تفيض عسلاً ولبناً، إلا أنهم تحولوا عن الرب وتبعوا آلهة غريبةً. وهكذا فإن الله سيأتي بإسرائيل من جديد إلى البرية، وهناك "سيلاطفه"، ومن ثم يفتح له "باباً للرجاء" سيقود إلى أمجاد سليمان الحقيقي (هوشع 2: 14- 23).
والكنيسة، بدورها، ستقوم برحلةٍ إلى البرية- وذلك في رحلة حجها الأرضية- قبل أن تصل في النهاية إلى المجد السماوي. في هذا النشيد الجميل يمكننا أن نرى انكشافاً لهذه الرحلة، ليس في الضعف والإخفاق، بل حسب فكر الله، آخذين شركة الحب بالاعتبار. إذ أن للبرية امتيازاتها أيضاً إلى جانب سيئاتها، وهذا ما يصوره نشيد الأنشاد، ذلك أن الرحلة تُقام في محفّة الله. وبالإضافة إلى ذلك، فإن المفقودات نفسها تصبح مناسبةً لفوحان العطر الزكي، تماماً كما أن طريق العروس يرافقه عبق البخور المتصاعد، ويعطّره المر واللبان، وأذرة التاجر. هناك مغزى روحي في أن أذرة التاجر مركبةٌ من أعشاب تم جمعها من البرية. إن التجارب، والاختبارات، والحرمان التي نعاني منها في رحلتنا في البرية، عندما تكون من الله، تصبح مناسبة لاستمطار نعم المسيح، هذه التي تتصاعد كـ "نَسِيم رَائِحَةٍ طَيِّبَةٍ" حتى في الوقت الحاضر، وأيضاً ستتخلل التسبيح والتمجيد لدى ظهور الرب يسوع المسيح. هذا هو الجانب من الرحلة الذي يصوره نشيد الأنشاد، ليس البرية بعيوبنا وتدبير الله، كما في الرسالة إلى العبرانيين، بل البرية بمفقوداتها وامتيازاتها، كما في الرسالة إلى أهل فيلبي. لقد كان على بولس أن يذوق مرارة المفقودات في البرية، ولكنه أيضاً فرح كثيراً بالرب حتى أن تجاربه قد تحولت إلى فرص ينال فيها نعمة المسيح في القديسين "نَسِيمَ رَائِحَةٍ طَيِّبَةٍ، ذَبِيحَةً مَقْبُولَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ اللهِ". فيمكننا نحن أيضاً، مثل بولس، أن نحول ما يعوزنا إلى امتيازات إذا ما نظرنا إلى كل تجربة من التجارب على أنها فرصةٌ معطاة لنا من الله لننال بها نعمةً مسيحيةً ما. ولكن للأسف، كم أن التجارب التي نلاقيها في طريقنا تجعلنا نظهر طبيعة الجسد القبيح- بالتقلب، والعنف، والحسد، والكبرياء، ونفاد الصبر، والنميمة التي تميزها. إننا نفتح الباب أمام الجسد بجعل ظروف بريتنا تقف حائلاً بين أرواحنا والله. لنجعلنّ الله بين أنفسنا وظروفنا وعندها فإنها ستستجلب نِعَمَ المسيح. وسيفيض الإيمان، والرجاء، والمحبة، والحلم، والتواضع، وطول الأناة، والصبر من التجارب، وستكون رحلتنا عبر البرية عطرةً أمام الله بـ "المر واللبان" و "َبِكُلِّ أَذِرَّةِ التَّاجِرِ".
أصدقاء العريس
"7هُوَذَا تَخْتُ سُلَيْمَانَ، حَوْلَهُ سِتُّونَ جَبَّاراً، مِنْ جَبَابِرَةِ إِسْرَائِيلَ. 8كُلُّهُمْ قَابِضُونَ سُيُوفاً، وَمُتَعَلِّمُونَ الْحَرْبَ. كُلُّ رَجُلٍ سَيْفُهُ عَلَى فَخْذِهِ مِنْ هَوْلِ اللَّيْلِ."
إن السرير، أو المحفة التي تسافر عليها العروس خلال رحلتها عبر البرية قد قدّمها الملك لها. على نفس المنوال، فإن المسيحي لا يرتحل على نفقته الخاصة أو بحسب رغبته، بل بالطريقة التي يريدها الله. وعلى هذا لا بد من الجهاد (الروحي) في حياة المسيحي تحت ظل النعمة. ومن هنا تأتي الحاجة إلى أن يكون المسيحيون "جبابرةً". ونجد بولس الرسول يحثّ تيموثاوس، ليس فقط أن "تَقَوَّ أَنْتَ يَا ابْنِي بِالنِّعْمَةِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ"، بل أيضاً يقول له: "اشْتَرِكْ أَنْتَ فِي احْتِمَالِ الْمَشَقَّاتِ كَجُنْدِيٍّ صَالِحٍ لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ" (2 تيموثاوس 2: 1- 3).
إن الجنود الذين يرافقون التخت مسلحون جيداً. "كُلُّهُمْ قَابِضُونَ سُيُوفاً"، وهم "خبراء" في استخدام السيوف، وهم على أهبة الاستعداد لاستخدامها، إذ "كُلُّ رَجُلٍ سَيْفُهُ عَلَى فَخْذِهِ مِنْ هَوْلِ اللَّيْلِ".
وهكذا أيضاً "الجندي الصالح" للمسيح يكون متسلّحاً بـ "سَيْفِ الرُّوحِ الَّذِي هُوَ كَلِمَةُ اللهِ" (أفسس 6: 17). فنجد بولس يُذكّر تيماوس قائلاً له: "كُلُّ الْكِتَابِ هُوَ مُوحىً بِهِ مِنَ اللهِ، وَنَافِعٌ لِلتَّعْلِيمِ وَالتَّوْبِيخِ، لِلتَّقْوِيمِ وَالتَّأْدِيبِ الَّذِي فِي الْبِرِّ، لِكَيْ يَكُونَ إِنْسَانُ اللهِ كَامِلاً، مُتَأَهِّباً لِكُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ".
ولكن لا يكفي الحصول على الكتاب (المقدس) وحسب. بل علينا أن نكون خبراء في استخدامه، ومن هنا فإن بولس يحضّ تيموثاوس أن "يتَمَسَّكْ بِصُورَةِ الْكَلاَمِ الصَّحِيحِ"، "مُفَصِّلاً كَلِمَةَ الْحَقِّ بِالاِسْتِقَامَةِ" (2 تيموثاوس 1: 13؛ 2: 15).
إضافةً إلى ذلك، علينا أن نكون، ليس فقط متسلحين (بالكلمة) و"خبراء"، بل أيضاً مستعدين- "كُلُّ رَجُلٍ سَيْفُهُ عَلَى فَخْذِهِ". هكذا كان الحال أيضاً في أيام نحميا: "كَانَ الْبَانُونَ يَبْنُونَ وَسَيْفُ كُلُّ وَاحِدٍ مَرْبُوطٌ عَلَى جَنْبِهِ" (نحميا 4: 18). عندما تتعرض للهجوم، لن يكون لديك متسع من الوقت لتقبض سيفك حتى. علينا أن نكون مستعدين "للكرازة بالكلمة" بمناسبة وبدون مناسبة.
"9اَلْمَلِكُ سُلَيْمَانُ عَمِلَ لِنَفْسِهِ، تَخْتاً مِنْ خَشَبِ لُبْنَانَ. 10عَمِلَ أَعْمِدَتَهُ فِضَّةً، وَرَوَافِدَهُ ذَهَباً وَمَقْعَدَهُ أُرْجُواناً، وَوَسَطَهُ مَرْصُوفاً مَحَبَّةً، مِنْ بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ."
إن دخول الجبابرة يليه وصفٌ للتخت (أو المحفة) التي أُنيطت بهم مهمة حمايتها. ألا نرى في سرد تفاصيل التخت ما فيه بعض الرمز إلى شخص المسيح- عزاء نفوسنا وأساس إيماننا؟ إن خشب الأرز يرمز إلى ناسوته الكامل، العطر والذي لا عيبَ فيه؛ وأعمدة الفضة ترمز إلى قدرته على الفداء؛ والذهب يرمز إلى برّه الإلهي؛ والأرجوان إلى ملوكيته، والرصف إلى محبته، محبته الإلهية، التي هي أساس كل شيء. إن المحبة تأتي آخراً، على حدِّ قول أحدهم: "ثمة شيء وراء الذهب، ولكن ما من شيء وراء المحبة".
هذه هي الحقائق الأساسية التي يقاومها المناوئ والتي يهجرها العالمَ ُالمسيحي، إلا أن على الجندي الصالح ليسوع المسيح أن يدافع عنها.
"11اُخْرُجْنَ يَا بَنَاتِ صِهْيَوْنَ، وَانْظُرْنَ الْمَلِكَ سُلَيْمَانَ، بِالتَّاجِ الَّذِي تَوَّجَتْهُ بِهِ أُمُّهُ، فِي يَوْمِ عُرْسِهِ، وَفِي يَوْمِ فَرَحِ قَلْبِهِ."
لقد انشغلت بنات أورشليم بالعروس وبالموكب الزفافي، إلا أنهم يُدعَون الآن لينظرن إلى الملك. إن رحلة البرية بالنسبة لنا بتجاربها ونـزاعاتها ستنتهي بنا إلى أمجاد الملكوت. لقد عرفنا الملك في عالم البرية هذا بإكليل الشوك، ولكننا سنعاينه في يوم الزفاف بإكليل المجد. وسرعان ما تنقضي رحلة البرية. وها هو يوم الزفاف سيأتي حين يُقدَّمُ له شعبُهُ "كَنِيسَةً مَجِيدَةً، لاَ دَنَسَ فِيهَا وَلاَ غَضْنَ أَوْ شَيْءٌ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ". وذاك اليوم سيكون فعلاً "يَوْمَ فَرَحِ قَلْبِهِ" حيث "مِنْ تَعَبِ نَفْسِهِ يَرَى وَيَشْبَعُ" (أشعياء 53: 11).
العريس
"1هَا أَنْتِ جَمِيلَةٌ يَا حَبِيبَتِي، هَا أَنْتِ جَمِيلَةٌ! عَيْنَاكِ حَمَامَتَانِ مِنْ تَحْتِ نَقَابِكِ. شَعْرُكِ كَقَطِيعِ مِعْزٍ رَابِضٍ عَلَى جَبَلِ جِلْعَادَ. 2أَسْنَانُكِ كَقَطِيعِ الْجَزَائِز،ِ الصَّادِرَةِ مِنَ الْغَسْلِ، اللَّوَاتِي كُلُّ وَاحِدَةٍ مُتْئِمٌ، وَلَيْسَ فِيهِنَّ عَقِيمٌ. 3شَفَتَاكِ كَسِلْكَةٍ مِنَ الْقِرْمِزِ. وَفَمُكِ حُلْوٌ. خَدُّكِ كَفِلْقَةِ رُمَّانَةٍ، تَحْتَ نَقَابِكِ. 4عُنُقُكِ كَبُرْجِ دَاوُدَ، الْمَبْنِيِّ لِلأَسْلِحَةِ. أَلْفُ مِجَنٍّ عُلِّقَ عَلَيْهِ، كُلُّهَا أَتْرَاسُ الْجَبَابِرَةِ. 5ثَدْيَاكِ كَخِشْفَتَيْ ظَبْيَةٍ تَوْأَمَيْنِ، يَرْعَيَانِ بَيْنَ السَّوْسَنِ."
إن كان الآخرون مشغولين بأمجاد الملك، إلا أنه نفسه يستمتع بالتمعن في جمال وكمال عروسه. إنه ليبهجُ العروسَ أن تتحدث إلى الآخرين عن أمجاد الملك، أما هو فيسر بأن يفصح لها عما يختلجه من عواطف وأفكار نحوها. إنه لبركة أن تشهد للآخرين عن أمجاد المسيح، ولكن لإرساء السلام والفرح الراسخين في القلب، من الضروري أن تسمع من شفتي المسيح عن أفكاره المتعلقة بشعبه. وهذا ما يعطي للصلاة في (يوحنا 17) تلك الأهمية الفائقة، إذ أعطتنا فرصةً لنسمع ما يفكر به حيال خاصته.
إن الملك يكرر مرتين القولَ "هَا أَنْتِ جَمِيلَةٌ"، ولكنه لا يكتفي بوصف جمالها وتقديره لها بتعبير عام، بل يُسهب في وصف ملامحها المتعددة. ما من شك، بالنسبة لنا، في أن هذه الملامح المختلفة ترمز إلى المزايا الأخلاقية التي يراها المسيح في شعبه المؤمن.
- العينان هما نافذتا الروح اللتان تدلان على الشخصية والحالة الأخلاقية. إذ يشبّههما إلى حمامةٍ فإنما يوحي باللطف والدّعة والطهارة والمشاعر المخلصة، الممتزجة بالتواضع، إذ أن العينين هما وراء النقاب.
- والشَّعْرُ يُشبّه بَقَطِيعِ مِعْزٍ رَابِضٍ عَلَى جَبَلِ جِلْعَادَ. إن الشعر يُستخدم في الكتاب المقدس كرمز لـ "الخضوع" (1 كو 11)، والانفصال عن العالم، والتكرّس لله.
- والأسنان تشبه َقَطِيعَ الْجَزَائِزِ الصَّادِرَةَ مِنَ الْغَسْلِ وهذا الغسل سيوحي بالنقاوة والطهارة؛ في هذا القطيع كُلُّ وَاحِدَةٍ مُتْئِمٌ، دلالة التماثُل، وَلَيْسَ فِيهِنَّ عَقِيمٌ، كنايةً عن الكمال والاكتمال، وهذه هي جُلُّ الصفات التي يبتغيها المسيح في شعبه.
- إن الشفاه هي كَسِلْكَةٍ مِنَ الْقِرْمِزِ دلالة الجسم السليم المعافى، وبالتالي على الكلام الحكيم والحصيف للعروس. ذلك أن الشفاه هي رمز يدل على حالة القلب، لأنه "مِنْ فَضْلَةِ الْقَلْبِ يَتَكَلَّمُ الْفَمُ". لقد كان الرب يسوع ممتلئاً نعمةً وحقاً ولهذا نقرأ عنه أن "انْسَكَبَتِ النِّعْمَةُ عَلَى شَفَتَيْكَ"؛ ويمكن لعروس الملك أن تقول "فَمُكِ حُلْوٌ". إن كانت محبة المسيح في قلوبنا، فإن مديح الرب سيكون على شفاهنا، والنعمة التي انسكبت على شفتيه ستعبّر عنها شفاهنا.
- أما الخدود، فإن الجباه تُستخدم في الكتاب المقدس للتعبير إما عن الحياء والتواضع أو عن الجرأة. ومن هنا نجد أن النبي أشعياء قال لشعب إسرائيل: "إنَّكَ قَاسٍ ...... وَجِبْهَتُكَ نُحَاسٌ" (أشعياء 48: 4). ويسأل الرب: "هَلْ خَزُوا لأَنَّهُمْ عَمِلُوا رِجْساً؟" ويأتي الجواب: "بَلْ لَمْ يَخْزُوا خِزْياً وَلَمْ يَعْرِفُوا الْخَجَلَ" (أرميا 6: 15؛ 8: 12). على غرار ذلك، نجد العروس تمتاز بالاعتدال والخجل، فهي تحمرُّ خجلاً حتى تتورّد وجنتاها "كَفِلْقَةِ رُمَّانَةٍ"، ولكنها " تَحْتَ النَقَابِ". فوراء رمز خضوعها الظاهر يكمن تواضعٌ وحياءٌ حقيقي. وليس الحال عندها خضوع من الخارج وتمرّد من الداخل. إن الحياء مع الخضوع له أهمية كبيرة في نظر المسيح.
- العنق: يرى الملك عنقَ العروس مزينةً بالمجوهرات النفيسة ويُشَبِّهها ببرج داود وقد عُلِّقَ عَلَيْهِ أَلْفُ مِجَنٍّ، إشارةً إلى انتصارات وأمجاد داود. والمسيح أيضاً سيتمجّدُ في قديسيه وسيكون موضع إعجاب كل من يؤمن به.
- إن الثَدْيَين يرمزان إلى المشاعر والعواطف.ِ يُستخدم الظبي بنفس المغزى في (أمثال 5: 19) للإشارة إلى ما هو سارٌ بهيجٌ. إن "الظبيين" الفتيين يرمزان إلى ما هو نَضِرٌ. ففي عيني الرب، إن شعبه يتميز بالمحبة التي هي سارةٌ حقاً والتي لن تشيخ أبداً.
"6إِلَى أَنْ يَفِيحَ النَّهَارُ وَتَنْهَزِمَ الظِّلاَلُ، أَذْهَبُ إِلَى جَبَلِ الْمُرِّ، وَإِلَى تَلِّ اللُّبَانِ."
الليلُ قادمٌ وينبغي على الملك أن يغادر العروس إلى أن ينبلجَ الصبحُ. رغم أن التواصل بين الملك والعروس هو في غاية البهجة، إلا أن ملء غبطة العريس لا تزال أمراً في المستقبل. إن العروس هي في البرية لا تزال؛ ولم يأتِ يومُ الزفاف بعد. وإلى أن يُشرقَ ذلك الصبْحُ ستمضي العروس إلى موطنه، وهذا يُذكّرنا، بلغةٍ أسرارية، أن ذاك هو ليل غياب المسيح في رحلةِ برّيتنا. إنه قد يتحادث معنا بطريقةٍ حميمية خلال الطريق؛ وقد يمنحنا بركةَ أن نُدرك أنه حاضرٌ معنا بمعنى روحي، ولكنه ذهب شخصياً إلى جبال الْمُرِّ، وَإِلَى تلال اللُّبَانِ، إِلَى أَنْ يَفِيحَ النَّهَارُ وَتَنْهَزِمَ الظِّلاَلُ.
"7كُلُّكِ جَمِيلٌ يَا حَبِيبَتِي، لَيْسَ فِيكِ عَيْبَةٌ."
إذا حدث أن بقيت العروس متخلفةً عنه مرةً، فهذا ليس بسبب أي نقص فيها. ففي عيني الملك هي "كُلُّكِ جَمِيلٌ يَا حَبِيبَتِي لَيْسَ فِيكِ عَيْبَةٌ". وعلى هذا النحو يرى الله شعبَه على ضوء غايته بأنهم "قِدِّيسِينَ وَبِلاَ لَوْمٍ قُدَّامَهُ فِي الْمَحَبَّةِ".
"8هَلُمِّي مَعِي مِنْ لُبْنَانَ، يَا عَرُوسُ مَعِي مِنْ لُبْنَانَ! انْظُرِي مِنْ رَأْسِ أَمَانَةَ، مِنْ رَأْسِ شَنِيرَ وَحَرْمُونَ، مِنْ خُدُورِ الأُسُودِ، مِنْ جِبَالِ النُّمُورِ."
إن تُركَتْ العروس في البرية لمرةٍ، ومضى العريس إلى جبال الْمُرِّ ، فإنه على الأقل سيحمل معه مشاعر العروس. إنه يقول لها: "هَلُمِّي مَعِي،.. انْظُرِي مِنْ رَأْسِ أَمَانَةَ". على نفس المنوال، إننا مدعوون لأن نطلب "مَا فَوْقُ، حَيْثُ الْمَسِيحُ جَالِسٌ عَنْ يَمِينِ اللهِ". إن أجمل ما على الأرض هو المناظر الرائعة في لبنان وأَمَانَةَ وشَنِيرَ وَحَرْمُونَ. ولكن ثمة مخاطر جسيمة تكمن خلف أروع مناظر الأرض جمالاً. إذ هناك خُدُورِ الأُسُودِ مِنْ جِبَالِ النُّمُورِ. إن وادي الأردن المروي جيداً قد يبدو بجمال جنة الرب، ولكن هناك تقبع سدوم وعمورة. فلنحاذر ألا ننظر إلى الوراء، كمثل زوجة لوط، بل علينا أن "نرفع نظرنا" إلى ما وراء "أروع الخلائق" وأن نتعلق بالأمور التي هي فوق، وليس بالأرضيات.
"9قَدْ سَبَيْتِ قَلْبِي يَا أُخْتِي الْعَرُوسُ. قَدْ سَبَيْتِ قَلْبِي بِإِحْدَى عَيْنَيْكِ، بِقَلاَدَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ عُنُقِكِ. 10مَا أَحْسَنَ حُبَّكِ يَا أُخْتِي الْعَرُوسُ! كَمْ مَحَبَّتُكِ أَطْيَبُ مِنَ الْخَمْرِ، وَكَمْ رَائِحَةُ أَدْهَانِكِ أَطْيَبُ مِنْ كُلِّ الأَطْيَابِ! 11شَفَتَاكِ يَا عَرُوسُ تَقْطُرَانِ شَهْداً. تَحْتَ لِسَانِكِ عَسَلٌ وَلَبَنٌ، وَرَائِحَةُ ثِيَابِكِ كَرَائِحَةِ لُبْنَانَ."
إن العريس يرغب بأن يحمل معه عواطفه نحو العروس، ولذلك يقول لها بالفعل: "قَدْ سَبَيْتِ قَلْبِي". ويكرر هذا القول مرتين: "قَدْ سَبَيْتِ قَلْبِي". حسنٌ أن نتعلق بالمسيح، ولكن ما من شيء يبهج القلب ويملأه بالسرور مثل إدراك المؤمن للفرح الذي يجده المسيح في شعبه. قليلةٌ وضئيلةٌ هي أفكارنا حول المسيح، ولكن لعلنا نستطيع أن نقول مع صاحب المزامير: "كَثِيراً مَا جَعَلْتَ أَنْتَ أَيُّهَا الرَّبُّ إِلَهِي عَجَائِبَكَ وَأَفْكَارَكَ مِنْ جِهَتِنَا. لاَ تُقَوَّمُ لَدَيْكَ. لَأُخْبِرَنَّ وَأَتَكَلَّمَنَّ بِهَا. زَادَتْ عَنْ أَنْ تُعَدَّ". ليس عَجَباً إن سَلَبَ المسيحُ قلوبَنا، بقدر ما هو عجيبٌ بالنسبة للعالم مدى تعلق المسيح بشعبه.
وما الذي يمكن أن يراه الملك في عروسه فيستولي على مشاعره؟ إنه شيء بسيط. مجرد نظرة إلى عَيْنَيْها وإلى قَلاَدَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ عُنُقِها. إلا أن تلك النظرة كانت نظرة حب، وكانت القلادة تدل على مدى هيامه بها. وكما نقول: "نَحْنُ نُحِبُّهُ لأَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا أَوَّلاً". إن نظرة العين تدل على مدى المحبة في القلب، والقلادة على العنق تدل على أن محبة القلب هي نتيجة محبته هو نفسه لنا أولاً.
وعن محبة العريس كانت العروس قد قالت لتوها أنها أَطْيَبُ مِنَ الْخَمْرِ، وأن اسمه هو كرَائِحَة أَدْهَان طيبة، والآن يستخدم الملك نفس الصورة المجازية، ولكن على نحو أشد كثافةً. فيعبّر عن مدى سروره بحب العروس. فحبها ليس فقط أَطْيَب مِنَ الْخَمْرِ، بل أطيب منها بكثير، وعطر دهنها يفوق كل نوع آخر. وهكذا بالنسبة لقلب المسيح، فإن محبة شعبه تفوقُ كلَّ مسرات الأرض، ونعم شعبه لا يضاهيها مثيل. لعل وليمة سمعان التي أقامها للرب كانت عظيمة، إلا أن الوليمة التي أقامها الضيف غير المدعو- ألا وهو المرأة التي لا يُذكر اسمُها- هي أعظم بكثير منها بالنسبة للرب، ذلك "لأنها أحبّتْ كثيراً". وعلى حدّ قول أحدهم: "إن الرب يسوع يولي حالةَ القلب اهتماماً خاصاً؛ ولكنه يهتم بحياتنا أكثر من أعمالنا، لأن المحبة الحقيقية لا يمكن أن تكون بدون أعمال".
ولكن ليست النظرة في عين العروس وقلادة العنق وحدها تعبر عن الحب نحو العريس، بل أيضاً "الشفاه" و"اللسان"، و"الملابس" كلها تبهجُ قلبَ الملك. لقد كُتِبَ عن الأشرار أن "سمّ الأَصْلاَلِ تَحْتَ شِفَاهِهِمْ". ولكنه يقول عن خاصته أن "تَحْتَ لِسَانِكِ عَسَلٌ وَلَبَنٌ". فالكلمات التي تخرج من شفاههم عذبةٌ بالنسبة للرب، والبر العملي للقديسين- وهو ثيابهم- هو كرائحة لبنان، غابة الأرز التي ترمز إلى الكمال الإنساني.
"12أُخْتِي الْعَرُوسُ، جَنَّةٌ مُغْلَقَةٌ عَيْنٌ مُقْفَلَةٌ يَنْبُوعٌ مَخْتُومٌ. 13أَغْرَاسُكِ فِرْدَوْسُ رُمَّانٍ، مَعَ أَثْمَارٍ نَفِيسَةٍ فَاغِيَةٍ وَنَارِدِينٍ. 14نَارِدِينٍ وَكُرْكُمٍ. قَصَبِ الذَّرِيرَةِ، وَقِرْفَةٍ مَعَ كُلِّ عُودِ اللُّبَانِ. مُرٌّ وَعُودٌ مَعَ كُلِّ أَنْفَسِ الأَطْيَابِ. 15يَنْبُوعُ جَنَّاتٍ، بِئْرُ مِيَاهٍ حَيَّةٍ، وَسُيُولٌ مِنْ لُبْنَانَ".
أما وقد عبّر عن سروره بالعروس، فإن الملك راح بشبهها بجنة مغلقة، وهذا يدل على تكرس العروس لبهجته. فوسط صحراء قاحلةٍ لدى الملك جنته المغلقة تلك بينابيع مياهها المقفلة مَعَ الأَثْمَار النَفِيسَة لمسرة الملك.
منذ الأزل كان هدف الله أن تكون له جنةٌ في هذا العالم لمسرته. وبناء على رغبته تلك، فقد غرس الله جنةً في شرقي عدن. وفي تلك الجنة كانت هناك كُلّ شَجَرَةٍ شَهِيَّةٍ لِلنَّظَرِ وَجَيِّدَةٍ لِلأكْلِ، وَكَانَ نَهْرٌ يَخْرُجُ مِنْ عَدْنٍ لِيَسْقِيَ كل العالم. ولكن الخطيئة دخلت إلى العالم وتشوهت الجنة وأنبتت شوكاً وحسكاً.
ومن جديد، ومع مرور الأيام عاد الله فغرس جنةً. واختار إسرائيل من بين الشعوب وشبّههم بكرمةٍ في تلة مخصبةٍ. وفرزهم وأحاط كرمه بسياجٍ، نَقَبَهُ وَنَقَّى حِجَارَتَهُ وَغَرَسَهُ كَرْمَ سَوْرَقَ وَانْتَظَرَ أَنْ يَصْنَعَ عِنَباً. ولكن خطيئتهم شوهت الجنة من جديد، وَصَنَعَ الكرمُ عِنَباً رَدِيئاً، واستحالت الأرضُ يباباً تطرح شوكاً وورداً برياً (أشعياء 5: 1- 7).
ولا يزال الرب اليوم يغرس جنته على الأرض، ومن هنا أمكن للرسول أن يقول عن المؤمنين: "أَنْتُمْ فَلاَحَةُ اللهِ". وفي هذه الجنة فإن أحدهم يغرس وآخرُ يسقي، ولكن الله هو الذي يُنمّي (1 كو 3: 6- 9). ولكن، للأسف، ومن جديد، تتشوه الجنة، إذ "َفِيمَا النَّاسُ نِيَامٌ جَاءَ عَدُّوُهُم وَزَرَعَ زَوَاناً فِي وَسَطِ الْحِنْطَةِ". وبنتيجة ذلك "طَلَعَ النَّبَاتُ وَصَنَعَ ثَمَراً وحِينَئِذٍ ظَهَرَ الزَّوَانُ أَيْضاً".
وإذ نتحول من شعب الله إلى كلمة الله، فإننا نجد في نشيد الأنشاد وصفاً كاملاً للجنة التي يريدها الله. فإذ نتسكع في أفياء هذه الجنة الجميلة ندرك، ليس فقط ما يلائم الرب، بل إلى أية درجة من الضآلة هو مقدار إجابتنا لرغبة قلبه.
دعونا نتذكر أولاً أن جنة الرب "جَنَّةٌ مُغْلَقَةٌ". وهذا يرمز إلى انفصالنا عن الخطيئة، وحفظنا لذاتنا، وتكرسّنا لله. ففي نظر الله، هذا العالم ما هو إلا "مكان قاحلٌ فيه مات يسوع"، ولكن في هذا اليباب يوجد أولئك الذين يمكن أن يُدعوا "خاصته". وإذ نصغي إلى رغبة الرب نحو خاصته التي عبّر عنها في صلاته العظيمة في (يوحنا 17) فإننا لا نلبث أن ندرك المعنى الروحي العميق للجَنَّة المُغْلَقَة التي نسمع عنها هنا. فإن كانت الجنة المغلقة تعني أن يفصل المؤمن ذاته عن البرية المحيطة، فمن هذا المنطلق نسمع الرب يقول للآب أن خاصته ليسوا من العالم. وإن كانت "الجَنَّة المُغْلَقَة" تعني الحفاظ على النباتات الحساسة سهلة المكسر، فإننا نفهم، إذاً، صلاة الرب لكي يحفظهم الله من الشرير. وأخيراً، وإن كانت "الجَنَّة المُغْلَقَة" تعني مكاناً مخصصاً لمتعة الملك، فإننا ندرك عندئذ أن الله يرغب في أن نكرس ذواتنا له.
هي ذي رغبة الرب: أن يكون له رفقةٌ في هذا العالم، وليسوا من هذا العالم، ومحفوظين من شرور العالم، ومكرسين لمرضاته، فيكونون له "جَنَّة مُغْلَقَة".
ولكن جنة الملك ليست "جَنَّة مُغْلَقَة" وحسب، بل جنة مروية أيضاً. لقد شبّه الله حالة شعب إسرائيل المتردّية بـ "جنةٍ لا ماء فيها"، ولكن لو رجعوا إليه لأصبحوا، على حد قول النبي، "كَجَنَّةٍ رَيَّا وَكَنَبْعِ مِيَاهٍ لاَ تَنْقَطِعُ مِيَاهُهُ" (أشعياء 1: 30، و 58: 11). فعلى هذا النحو لجنة الملك "عَيْنٌ مُقْفَلَةٌ ويَنْبُوعٌ مَخْتُومٌ". إنها لا تعتمد على الصحراء المحيطة لتزودها بالماء، بل إن ينبوع المياه في داخلها. وهكذا هو الحال مع شعب الله المؤمن، إذ أن له معينٌ لا ينضب، ألا وهو الروح القدس "الَّذِي لاَ يَسْتَطِيعُ الْعَالَمُ أَنْ يَقْبَلَهُ لأَنَّهُ لاَ يَرَاهُ وَلاَ يَعْرِفُهُ". إنه حقاً الـ "ينبوع". ولكن علينا ألا ننسى أن "النبع" يجب أن "يُغلق". من الممكن أن يحدث أن نحزن الروح حتى الصمت، ولكن كم ستكون نفوسنا ظمأى آنذاك، وكم سيكون شعب الله عقيماً حينئذ، إن أطفأنا الروح. علينا أن نحرص على إبقاء الباب "مغلقاً" أمام شهوات الجسد، لئلا نفسح مجالاً للأفكار الرديئة بأن تسيطر علينا، كما حدث في أيام ابراهيم عندما "جَمِيعُ الْآبَارِ... طَمَّهَا الْفَلَسْطِينِيُّونَ وَمَلَأوهَا تُرَاباً".
من جهة أخرى، إن "العَيْن المُقْفَلَة" هي "يَنْبُوعٌ مَخْتُومٌ". فالعين تقدم الماء دون أن تنضب، والينبوع يرفع سوية تغذيتها. إن الروح القدس، ليس فقط عين لا تنضب، ثابتةٌ فينا على الدوام، وتسد كل حاجاتنا عبر رحلة حجنا، بل أيضاً نبعٌ داخل المؤمن يفيض إلى الحياة الأبدية (يوحنا 4: 14). إضافة إلى ذلك، فإن النبع مخصص لمسرة الملك- فهو "مختوم". وكمثل العين، فإن الروح القدس منشغلٌ بنا وباحتياجاتنا، وكمثل النبع، فإنه منشغلٌ كلياً بالمسيح ويعمل جاهداً على أن يملأ قلوبنا به.
ثم أن جنة الملك جنةٌ مثمرةٌ. إن غراس هذه الجنة تشكل فِرْدَوْسَ رُمَّانٍ، "مَعَ أَثْمَارٍ نَفِيسَةٍ فَاغِيَةٍ وَنَارِدِينٍ"، و"مَعَ كُلِّ أَنْفَسِ الأَطْيَابِ". قد تختلف الغراس في الحجم ودرجة الجمال، في رائحتها وإثمارها، ولكنها جميعاً لمسرة الملك. وهكذا الحال أيضاً بالنسبة لجنة الرب؛ فما من مُؤْمِنَين متماثلين، إلا أن الجميع يعملون لأجل مرضاته.
وأخيراً، فإن جنة الملك لا تُفيد في إمتاعه وحسب، بل هي أيضاً مصدر بركة لكل ما يحيط بها. فهي مثل "بِئْر مِيَاهٍ حَيَّةٍ وَسُيُول مِنْ لُبْنَانَ". وهكذا، وحيث أن جنة الرب "مغلقة"، وحيث أن "العَيْن مُقْفَلَة وهي يَنْبُوعٌ مَخْتُومٌ"، وحيث أنها تقدم ثمارها النفيسة للرب، فإنها ستكون حقاً مصدر بركة للعالم المحيط، وممراً لـ "أنهار ماء حي"، يتدفق على أناس يحتضرون روحياً.
كم هو صالحٌ لأرواحنا أن تتريث في جنة الملك وتطلب معرفة المغزى الروحي للأسوار التي تجعل منها جنة "مغلقة"، وللعين التي تنعشها، والثمار والأنواع التي تنمو هناك، والينابيع التي تفيض مياهاً تتدفق إلى الأراضي المقفرة فيما وراءها.
إننا في حاجة إلى كل درس نتعلمه من الجنة، لأن خدمتنا فقيرة بائسة وجزئية في أغلب الأحيان. إننا عرضة لبذل مجهود كبير على جزء من الجنة على حساب جزء آخر. ففي تاريخ الذين عملوا في جنة الرب نجد أن البعض كان منشغلاً للغاية في "تسييج الجنة بسور وخنادق" لدرجة أنهم أهملوا الأزهار والثمار. لقد كان عملهم مقتصراً في معظمه على إبقاء جنة الرب في معزل عن العالم وفي منأى من الشر، وما كان لديهم، بالتالي، سوى بعض الوقت للاهتمام بالنفوس، فنتجت عن ذلك جنةٌ آمنةٌ منيعةٌ بالفعل، ولكن ليس فيها إلا بعض الإثمار للرب وبعض البركة للعالم المحيط.
وبعد ذلك، ومن جديد، نسي البعض أن يبقي العين "مغلقةً". فأُعطي المجال للجسد أن يعمل دون رادعٍ في جنة الرب، وبهذا أُحزِنَ الروح القدس وأُعِيْقَ عملُه، ومن هنا ما عادت الجنة تعطي ثمارها التي تسر الله.
وآخرون، أيضاً، أُخِذوا بالأزهار والثمار جداً حتى أغفلوا السياج، فتصدّعت الأسوار وصارت في حاجة إلى ترميم، ومن الصدوع تسلل الشر، فاختنقت جنة الرب بالأعشاب الضارة وصارت بغير ثمر.
وأخيراً نذكر أن آخرين قد استحوذت عليهم الينابيع التي تتدفق إلى العالم المحيط فغفلوا عن الأغراس التي تترعرع في داخل الجنة، وهكذا ما عادت الجنة تقدم ثماراً للرب.
علينا أن نتذكّر أن الجنة ليست لنا بل هي للرب، كما يقول الملك "جنتي" (الآية 16). إنها "مغلقة" للرب؛ فالعين تسقي جنته؛ والثمار النفيسة تسر قلبه؛ وإن كانت الينابيع تتدفق من جنته فهي لغاية إنماء غراس جنته وحسب. إذا وضعنا هذا الفكر نصب أعيننا، فكم نجد أنه من الضروري ألا نهمل جنة الرب لئلا تصير عقيمة بلا ثمر.
"16اِسْتَيْقِظِي يَا رِيحَ الشَّمَالِ وَتَعَالَيْ يَا رِيحَ الْجَنُوبِ! هَبِّي عَلَى جَنَّتِي فَتَقْطُرَ أَطْيَابُهَا."
يدعو الملكُ رياح الشمال الباردة ورياح الجنوب الحارقة لتهبا على جنته، وبذلك تنضج أطياب الثمار فيها. هذا ما يفعله الرب غالباً إذ ينادي رياح هذا العالم المتضاربة لتهب على شعبه لتُخرجَ منهم ثماراً نفيسة بنعمته. إن غراس جنته قد ازدادت وأزهرت أكثر ما يكون عندما كانت الاضطهادات على أشدّها.
العروس
"16 لِيَأْتِ حَبِيبِي إِلَى جَنَّتِهِ وَيَأْكُلْ ثَمَرَهُ النَّفِيسَ."
إن العروس تقول في شخص الملك: "إن كنتُ جنةًً، وإن كان الملك يرى في هذه الجنة فردوسَ ثمار نفيسة، فليَأْتِ حَبِيبِي إِلَى جَنَّتِهِ إذاً، ولَيَأْكُلْ ثَمَرَهُ النَّفِيسَ". إن الجنة، في نظر العروس، ستكون مكاناً بائساً بدون حضور الملك فيها. ولعله يمكننا القول "ما السماء بدون المسيح؟ وما الفردوس بدون الله؟ وما معنى اجتماع شعب الله على الأرض إن لم يكن الرب نفسه في الوسط؟" ما الذي أعطى للحدث كل تلك البركات عندما "كان التلاميذ مجتمعين" في العلية والأبواب مغلقة في اليوم الأول من الأسبوع خوفاً من اليهود؟ ألم يكن السبب هو أن "جاء يسوع ووقف في وسطهم"؟ أولا نقرأ أنه في تلك الزيارة إلى جنته أن أحد التلاميذ "كان غائباً عندما حضر يسوع؟" إن حضور المسيح وسط خاصته هو الذي أحال جنته إلى فردوس.
العريس
"1قَدْ دَخَلْتُ جَنَّتِي يَا أُخْتِي الْعَرُوسُ. قَطَفْتُ مُرِّي مَعَ طِيبِي. أَكَلْتُ شَهْدِي مَعَ عَسَلِي. شَرِبْتُ خَمْرِي مَعَ لَبَنِي. كُلُوا أَيُّهَا الأَصْحَابُ. اشْرَبُوا وَاسْكَرُوا أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ."
بسرور بالغٍ يستجيب العريس لدعوة العروس. أفلا نستطيع القول أن المسيح يُسر بملازمة شعبه المحب له؟ إن تلميذا عمواس "أَلْزَمَاهُ قَائِلَيْنِ: امْكُثْ مَعَنَا". ويستجيب الرب منعماً عليهما كما نقرأ "فَدَخَلَ لِيَمْكُثَ مَعَهُمَا". وإذ جاء إلى الجنة، فإن الملك لا يتناول من ثمار الجنة وحسب، بل يقيم وليمةً، ومن هنا يقول: "كُلُوا أَيُّهَا الأَصْحَابُ. اشْرَبُوا وَاسْكَرُوا أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ." قد نُولِمُ مأدبةً صغيرةً للرب كما حدث في بيت عنيا، ولكن كم تكون وليمته حافلةً لنا. إن وجد سروراً وسط خاصته، فإن حضوره هو الذي يملأ قلوبهم سروراً وحبوراً، ونقرأ أن "فَرِحَ التّلاَمِيذُ إِذْ رَأَوُا الرَّبَّ" عندئذ. وإذاً، أيضاً وأيضاً، خلال رحلتنا، نجده يُسر بالمجيء إلى جنته، وبعزلها عن هذه الأرض اليباب في البرية، ويتعشى معنا ونحنُ معه "إِلَى أَنْ يَفِيحَ النَّهَارُ وَتَنْهَزِمَ الظِّلاَلُ". فعندها في نهاية الأمر سنجلس إلى وليمة عرس الحمل في مسكنه السماوي المجيد، ولا نعود نخرج بعدها.
- عدد الزيارات: 1974