Skip to main content

مدخل

نَشِيدُ الأَنَاشِيدِ الَّذِي لِسُلَيْمَانَ.

المسيح هو محور كل الكتاب المقدس، وفي أقسامه المتعددة، يُسر الروح القدس بإظهار جوانب خاصة من شخص المسيح وأمجاده. وهنا، في نشيد الأناشيد، الهدف الأكبر والأهم هو أن يبين محبة المسيح لشعبه.

لكي يُظهر هذا الحب، استخدم روحُ قدس الله صورةَ علاقة الزفاف على سبيل الاستعارة. فمن خلال سلسلة من الأناشيد، تتكشف لنا محبة عريس راقٍ رفيع المستوى لعروس وضيعة متدنية المستوى، إضافة إلى خبراته المتكررة التي أعادها بها إلى علاقةٍ كاملةٍ معه، وإلى الاستمتاع بمحبته.

العريس هو ملكٌ يُدعى سليمان. والعروس هي راعية غنم تُدعى شُولَمِّيثُ (سليمانة)- وهي الاسم المؤنث من سليمان.

لقد نُظم النشيد على شكل سلسلة من المحاورات بين العريس والعروس. وهناك شخصيات أخرى تظهر خلال النشيد، مثل بنات أورشليم اللواتي تشتركن في الحديث بين الفينة والأخرى، ولدينا أيضاً حُرّاس المدينة، وحَفَظَةُ الأَسْوَارِ، وأخت العروس الصغرى، ولكن هؤلاء الأشخاص يشاركون قليلاً في الحوار، إن شاركوا. في سياق هذه المحاورات نجد أولاً انكشافاً لمحبة هذا العريس اللامحدودة وغير المتغيرة للعروس، ثم نشوء وتطور الحب عند العروس، ونشوء علاقة بينها وبين العريس، هذه العلاقة التي تغمرها بالسعادة من جراء محبته، وترفعها من المستوى المتدني الذي كانت فيه لترتقي إلى مستوى المشاركة في العرش الملكي الذي يتربع عليه حبيبها الرفيع المستوى.

لا ريب أن هذا العريس يرمز إلى المسيح. ولكن البعض يجد صعوبةً في تفسير رمز العروس هنا. وعلى كل حال، يبدو أن هذه العروس ترمز إلى شعب الله الأرضي ألا وهو شعب إسرائيل (وبتحديد أكثر، ترمز إلى القلة التقية البقية من اليهود التي ستمثل شعب إسرائيل) وإلى الخبرات التي سيمر بها هذا الشعب إلى أن يؤسس علاقة راسخة مع المسيا.

لقد كان الأنبياء يستخدمون هذه الصورة الرمزية في العريس والعروس لتبيان هذه العلاقة. فيقول أشعياء النبي: "لأَنَّهُ كَمَا يَتَزَوَّجُ الشَّابُّ عَذْرَاءَ يَتَزَوَّجُكِ بَنُوكِ. وَكَفَرَحِ الْعَرِيسِ بِالْعَرُوسِ يَفْرَحُ بِكِ إِلَهُكِ" (أشعياء 62: 5). ويقول الرب، بلسان هوشع النبي، معبراً بشكل مؤثر عن رغبته في استعادة شعب إسرائيل: "هَئَنَذَا أَتَمَلَّقُهَا وَأَذْهَبُ بِهَا إِلَى الْبَرِّيَّةِ وَأُلاَطِفُهَا" (هوشع 2: 14). ومن ثم، وإذ تستيقظ مشاعرها، فإنه يقول: "وَأَخْطُبُكِ لِنَفْسِي إِلَى الأَبَدِ. وَأَخْطُبُكِ لِنَفْسِي بِالْعَدْلِ وَالْحَقِّ وَالإِحْسَانِ وَالْمَرَاحِمِ. أَخْطُبُكِ لِنَفْسِي بِالأَمَانَةِ فَتَعْرِفِينَ الرَّبَّ" (هوشع 2: 19، 20). وفي نشيد الأناشيد نجد خبرات البرية هذه، والتي يخاطب الله بها قلبَ شعبه على نحو رمزي.

بينما كان الأنبياء يهتمون بخبرة الضمير التي ستجعل البقية التقية من اليهود يندمون على رفضهم وصلبهم للمسيا، نلاحظ أن هذا السفر- نشيد الأناشيد- يقدم لنا خبرةَ القلب، واستيقاظ مشاعرهم لقاء محبة المسيح الخالصة- هذه المحبة التي كانوا قد رفضوها بازدراء.

يتطلبُ فهمُ هذا التفسير بعضَ المعرفة بتاريخ وواقع شعب إسرائيل في نبوءات العهد القديم والجديد. فبسبب عدم إيمانهم تعرضوا للظلم والاضطهاد، وعانوا ضيقة لم يعرفوا لها مثيلاً مُذْ صاروا شعباً لله. وكما يقول سفر الرؤيا فإنهم سيخضعون للوحش الذي سيحاربهم (رؤيا 13: 4). ولأنهم رفضوا المسيح فسوف يقبلون حكم "المضاد للمسيح" الذي لم يُجِلّ إله آبائه ولم يعرفه. وبـ "أسى بغيض" في المقدس، سيقعون في العبادات الوثنية الفادحة، وتكون حالتهم الأخيرة أسوأ من حالتهم الأولى بكثير.

ولكن ضمن هذا الشعب المرتد العاصي تبقى قلةٌ تقيةٌ يعمل الروح القدس معها. وهؤلاء سيبتلون بالأحزان، وينبذهم العالم لاعترافهم باسم المسيح، وسيموت الكثيرون منهم لأجل ذلك. ويُضايَق البعضُ منهم وتتحجر قلوبُ آخرين. ولكن الله سيعمل لأجلهم، وسيُنقصُ فترة الضيقة العظيمة التي سيمرون بها.

هذه البقية التقية، نجدها رمزياً في شخص العروس، في نشيد الأناشيد، ونجد أن الله يخاطب قلوبهم وسط الأحزان ويوقظ مشاعر المحبة عندهم.

هذا التفسير لنشيد الأناشيد ينطبق على الكنيسة- العروس السماوية- وأيضاً على المؤمن الفرد. ففي تعامل الله مع شعبه المؤمن هناك عدة مبادئ. وفي الحديث عن الأناشيد في هذا السفر يقول أحدهم: "لقد أحب المسيح كنيسته وشعبه وكل نفسٍ اجتذبها إليه، ولذلك فإنه ينبغي أن ننكب عليه أخلاقياً فهذا أمر جليل للغاية" (ج. ن. دي). وهذا الانكباب التطبيقي العملي الأخلاقي هو ما نتناوله في تفسيرنا التالي.

يمكن تقسيم هذا السفر إلى ستة أناشيد، ويمكن تلخيص موضوع كل منها كما يلي:

  • النشيد 1: (1: 2- 2: 7): يقين المحبة.
  • النشيد 2: (2: 8- 3: 5): ايقاظ المحبة.
  • النشيد 3: (3: 6- 5: 1): شركة المحبة.
  • النشيد 4: (5: 2- 6: 12): إستعادة المحبة.
  • النشيد 5: (6: 13- 8: 4): شهادة المحبة.
  • النشيد 6: انتصار المحبة.

ولذلك، كما سنرى، إن المحبة هي الموضوع الأهم في نشيد الأناشيد- ألا وهي محبة المسيح. فعن طريق الصورة المجازية للعريس والعروس، يتحدث السفر عن كل تلك المشاعر الحانية الجميلة التي يُضرمها المسيح في قلوب خاصته. فما أعظمه فيض المحبة نحو المسيح! غالباً ما نشتكي من ضآلة المحبة بين المؤمنين بالرب، ولكن هذا يدلنا، وللأسف، على ضآلة المحبة تجاه الرب نفسه. وإن كان الحال هكذا، أفليس السبب هو فقر إدراكنا وتقديرنا لمحبة الرب لنا؟ ومن هنا تأتي الأهمية الكبرى لسفر نشيد الأناشيد. فهو يوقظ أو يثير محبتنا بكشفه لمحبته اللامتناهية لنا. هناك أناشيد كثيرة في الكتاب المقدس تمجد روعة الخليقة، وتحتفل بالغلبة والنصر، وترفع مديحاً وشكراناً لله، أما هذا السفر فيتغنى بالمحبة- محبة المسيح- ومن هنا جاءت تسميته بـ "نشيد الأناشيد".

  • عدد الزيارات: 2078