الأصحاح الحادي والثلاثون
وحارب الفلسطينيون إسرائيل، فهرب رجال إسرائيل من أمامه وسقط منهم الكثيرون قتلى في جبل جلبوع. فشد الفلسطينيون وراء شاول وبينه الثلاثة- يوناثان وأبيناداب وملكيشوع- واشتدت الحرب على شاول وأصابه الرماة رجال القسى- حاملو الأقواس فانجرح جداً، فقال لحامل سلاحه- استل سيفك واطعني، فلم يشأ، فأخذ شاول سيفه وسقط عليه ومات، وكذلك حامل سلاحه، لقد أنهى شاول حياته بيده، وهذه خدعة كبرى من الشيطان الذي يغري الخطاة تحت ضغط الظروف الصعبة أن يلجأوا إلى هذا العمل اليائس الأخير، وكان من الأفضل أن يحصنوا أنفسهم ضد هذه الأفكار بالتفكير في مدى خطورة الإقدام على هذا العمل الذي يعد خطية شنيعة في نظر الله. إننا لا نستطيع أن نجد الأمان في أنفسنا، بل يجب أن نطلب الاحتماء بالرب القادر أن يحفظنا في كل الظروف.
وورد في 2 صموئيل 1: 6- 10 أن رجلاً عماليقياً جاء إلى داود ثيابه ممزقة- وترابٌ على رأسه من موقع المعركة وقال له إنه نجا من هناك، فقال له داود- كيف كان الأمر- فقال له- إن الشعب قد هرب من القتال وسقط كثيرون قتلى ومات شاول ويوناثان ابنه فقال له كيف عرفت أن شاول قد مات ويوناثان ابنه؟ فقال له- اتفق أني كنت في جبل جلبوع وإذا شاول يتوكأ على رمحه فقال له شاول قف واقتلني، فوقفت عليه وقتلته لأني علمت أنه لن يعيش بعد وأخذت الإكليل الذي على رأسه السوار الذي على ذراعه وأتيت بهما إلى سيدي ههنا- وربما يظن القارئ أن هناك تناقضاً بين ما ورد في 1 صموئيل 31 و2 صموئيل 1 حيث لا يقال في 1 صموئيل 31 أنه مات منتحراً وفي 2 صموئيل 1 أن العماليقي قتله وتفسير ذلك أن الأحداث تعاقبت كما يلي: أولاً طلب شاول من حامل سلاحه أن يقتله فرفض، فأخذ شاول سيفه وسقط عليه لكي ينهي حياته لكنه لم ينجح تماماً في ذلك، وظل في شدة آلامه يتوكأ على رمحه حتى تصادف أن مر به هذا العماليقي فطلب منه شاول أن يقتله لأن نفسه كانت لم تزل فيه (2 صم 1: 9) وهكذا فعل العماليقي وقتله. هذه النهاية الأليمة تقدم درساً نافعاً: لقد أخطأ شاول إلى الرب في إبقاءه على عماليق الذي كان رمزاً للجسد، وهذا ما ذكره به صموئيل وهو ينبئه بقضائه، وقد تسبب عصيانه في خراب نفسه. هكذا تفعل الخطية، وهكذا تنتهي حياة شاول على يد عماليقي، فإذا تركنا الخطية فلا بد أن تكون لها نتائجها المدمرة، كما أبقى شاول على حياة عماليق فانتهت حياته على يد عماليق.
ولكن داود قتل العماليقي لأنه قتل مسيح الرب. وانتحار شاول هو أول حادثة انتحار تذكر في الكتاب ونجد في المكتوب ثلاثة رجال قتلوا أنفسهم حيث يُذكر في 2 صموئيل 17: 23 أخيتوفل، وكذلك في 1 ملوك 16: 18 أن زمرى قتل نفسه، وكذلك يهوذا الأسخريوطي في متى 27: 5، وفي خروج 20: 13 نجد وصية من الله أن لا يقتل الإنسان وهي وصية مطلقة تشمل نفسه أيضاً.
ومما يدعو إلى الأسى ما سجله الروح القدس عن نهاية يوناثان "وسقطوا قتلى في جبل جلبوع... فمات شاول وبنوه الثلاثة وحامل سلاحه.." فالنهاية طريقه لم تكن في توافق مع بدايته. لقد هجر المركز المقدس الذي شغله في مخماس فانهزم وقتل مع شاول وجيشه في معركة جلبوع الرهيبة. ذاك الذي عمل مع الله في بداية طريقه سقط مع شاول في نهاية الطريق. لماذا حدث هذا ليوناثان؟
لقد كانت التجارب والصعوبات التي أحاطت بيوناثان غير عادية. فمن جهة كان هناك ما هو واجب أن يؤديه لشاول كالممسوح من الرب والجالس على العرش. كانت له مطاليب وحقوق من الواجب على الرعية أن تؤديها. هذا علاوة على أنه كان أباه. ومن جهة أخرى كان ليوناثان الحياة الروحية التي تعطي لله المكان الأسمى والتي تجد سرورها في إتمام مشيئته وإعلان مقاصد نعمته. وكان يوناثان بالنعمة على نقيض أبيه، فقد اعترف بمشيئة الرب وأحب داود كثيراً. وكانت محبته لداود حقيقية وفي بعض الأحيان كانت مرتبطة بإنكار الذات لكنه لم يستطع أن يتبع داود. لقد تعلم من الله أن يحب لكنه فشل في تعلم الدرس الآخر وهو "لا تحبوا العالم" لقد غلب العدو ولكنه لم يغلب العالم (1 يو 2: 14- 17) فهو قد كسر جيوش الفلسطينيين لكي يُخلِّص الشعب- لقد قبّل داود وبكى لكنه افترق عنه. فبينما ذهب داود في طريقه الموحش كشخص منفى ومطرود رجع هو إلى المدينة (1 صم 20: 41، 42) وهذا ما حدث أيضاً مع الرب يسوع المسيح. فهو له المجد قد جُرِحَ في بيت أحبائه. والذين نظير يوناثان تحدثوا عن المستقبل- عن يوم مجده- وعن رغبتهم في الجلوس على جانبيه في ملكه "وَأَنْتَ تَمْلِكُ عَلَى إِسْرَائِيلَ وَأَنَا أَكُونُ لَكَ ثَانِياً" (1 صم 23: 17) لكن في يوم رفضه وجدوا للآسف مع أعداءه أكثر من وجودهم معه.
وقد خسر يوناثان كثيراً بمسلكه الذي سلكه، فقد حُرم من الشركة مع داود ومن فرص كثيرة لخدمته. وقد كان سلوكه هذا غير متناسب مع رجائه الذي كان ينتظره. وبوجوده مع شاول كان في خطر دائم من الوقوع ضحية خراب مملكة شاول. وقد كانت "جلبوع" هي الوسيلة لإظهار ما كان مقرراً من قبل، وهو وقوع الدينونة على مُلك شاول. وما أشد الضربة التي وقعت هناك... لكنها كانت ضرورية لحق الله ولمجد داود.
إن الارتباط مع المسيح في رفضه أمر متعب وشاق للجسد، فما أكثر الروابط التي يجب أن تُفصم.. وما أكثر الصداقات التي يجب التضحية بها.. وما أمر العداء الذي سنواجهه، لكن أليست دعوة الروح القدس تبدو متوافقة وضرورية لهذه الأيام التي نعيشها "فلنخرج إذاً إليه خارج المحلة حاملين عاره" (عب 13: 13). لقد كان أبطال إسرائيل برفقة داود في الكهوف والمغاير غير متمتعين بالحقول والكروم والامتيازات التي منحها شاول وهكذا يجب أن نكون نحن المؤمنين في هذه الأيام.
أما سكان يابيش جلعاد فقد أنزلوا جسد شاول وبنيه الثلاثة وأحرقوها ودفنوها اعترافاً بفضله في إنقاذهم من ناحاش العموني.
وهكذا نجد أن شاول عاش عاصياً ومات كذلك.
ونجد في تاريخه عدة أخطاء رئيسية:
1- في 1 صموئيل 13: 8- 14 قدّم محرقة مع أن الشريعة تمنع تقديم الذبائح إلا عن طريق الكهنة.
2- في 1 صموئيل 15: 17- 26 عصى أمر الرب حين عفا عن أجاج ملك عماليق وأيضاً عن خيار الغنم والبقر التي لعماليق.
3- لم يقبل حكم الرب برفضه من المُلك وإعلان أن داود هو ملك إسرائيل (1 صم 18: 8، 20: 31).
4- أراد أن يقتل يوناثان حين دافع عن داود (1 صم 20: 33).
5- أراد أن يقتل داود مرات كثيرة (ص 18: 11، 21: 5،...)
6- لم يفِ بوعده بترك داود حياً (ص 19: 6،...).
7- قتل كهنة الرب جميعاً بحد السيف (1 صم 22).
8- طلب من المرأة صاحبة الجان أن تستحضر له روح صموئيل (1 صم 28).
9- في 2 صموئيل 21 حين حدث جوع أيام داود وطلب داود وجه الرب- فقال له- هذا الجوع من أجل أن شاول قتل الجبعونيين مع أن يشوع قد أعطاهم الوعم بالحياة وقال الرب أيضاً أن الجوع لم يتوقف حتى ينفذ طلب الجبعونيين بصلب سبعة من نسل شاول، وتم صلبهم فعلاً- بني رصفة سرية شاول، وبني ميكال ابنة شاول من عدرئيل المحولي. وتوقف الجوع فعلاً بعد صلبهم طبقاً لكلمة الرب.
وانتهت حياة شاول الملك الذي اختاره الشعب نهاية أليمة وتبدو كل الآمال أنها قد تبدت، وتعلّق رجاء الشعب في مجيء الملك الذي حسب قلب الرب- داود بن يسى- وفيه نجد إشارة للملك الحقيقي ومملكته القادمة، وهذا ما نراه في السفر التالي.
"وَقَضَى صَمُوئِيلُ لإِسْرَائِيلَ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِهِ. وَكَانَ يَذْهَبُ مِنْ سَنَةٍ إِلَى سَنَةٍ وَيَدُورُ فِي بَيْتِ إِيلَ وَالْجِلْجَالِ وَالْمِصْفَاةِ وَيَقْضِي لإِسْرَائِيلَ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ. وَكَانَ رُجُوعُهُ إِلَى الرَّامَةِ لأَنَّ بَيْتَهُ هُنَاكَ. وَهُنَاكَ قَضَى لإِسْرَائِيلَ، وَبَنَى هُنَاكَ مَذْبَحاً لِلرَّبِّ" (1 صم 7: 15- 17).
"وَمَاذَا أَقُولُ أَيْضاً؟ لأَنَّهُ يُعْوِزُنِي الْوَقْتُ إِنْ أَخْبَرْتُ عَنْ جِدْعُونَ، وَبَارَاقَ، وَشَمْشُونَ، وَيَفْتَاحَ، وَدَاوُدَ، وَصَمُوئِيلَ، وَالأَنْبِيَاءِ... فَهَؤُلاَءِ كُلُّهُمْ، مَشْهُوداً لَهُمْ بِالإِيمَانِ، لَمْ يَنَالُوا الْمَوْعِدَ، إِذْ سَبَقَ اللهُ فَنَظَرَ لَنَا شَيْئاً أَفْضَلَ، لِكَيْ لاَ يُكْمَلُوا بِدُونِنَا" (عب 11: 32، 39، 40).
- عدد الزيارات: 2771