Skip to main content

الأصحاح العاشر

عند طلوع الفجر دعا صموئيل شاول عن السطح وقال له "قف الأن فأسمعك كلام الله" وها نحن نرى صوت الله يتفتح يوماً جديداً لإسرائيل، ولكن هل هو يوم أفضل؟ كان الرب قد قال لصموئيل في يوم سابق "فامسحه رئيساً لشعبي إسرائيل فيُخلّص شعبي من يد الفلسطينيين لأني نظرت إلى شعبي لأن صراخهم قد جاء إليّ" وهنا تتجلى شفقة وحنان قلب الله، فمهما يكن ضلال شعبه، ومهما تكن مقابلتهم لصلاحه الكثير، فهو إنما يطلب بركتهم، ونحن نذكر ما قاله إسرائيل "اجعل لنا ملكاً يقضي لنا" بينما يقول الرب "امسحه رئيساً.. فيُخلّص شعبي".

مَسح صموئيل شاول، وتلك المِسحة المقدسة التي كانت تستدم قديماً كانت تشير إلى المسيّا العظيم الممسوح الملك ورئيس الكهنة العظيم ورسول اعترافنا الذي مُسح بزيت الروح، ليس بكيل محدود لكن مِسحته فاقت كل الكهنة والملوك في العهد القديم.

مَسح صموئيل شاول وقبّله أولى قبلات الوفاء ثم أرسله في مهمة ذات طابع تعليمي شبيهة بمهمة إيليا يوم إصعاده، وأخبره بأنه سوف يلاقي "آيات" فهل كان قادراً على قراءتها والإفادة منها؟ مرة قال الرب لتلاميذه "طوبى لعيونكم لأنها تبصر ولآذانكم لأنها تسمع" ذلك لأن المجموعة التي كانت تحيط بهم كانت غليظة القلب، ثقيلة السمع، عيونهم مغمضة، وقال مرة أخرى له المجد "من له أذنان للسمع فليسمع" فهل عيوننا وآذاننا يا ترى مفتوحة اليوم روحياً؟ هل تستطيع أن تدخل إلى فكر الرب وهكذا نسلك بفطنة في عالم مظلم؟

ويومذاك أبر صموئيل بمن هو عتيد أن يقابله ربما سوف يقع في صلصح وتابور... إلخ. ذلك درس ملائم وله قيمته، كان أمام الملك الجديد، وليته تعلم. ونحن نذكر أن امرنا مع إله لا يخفى عه شيء، وليس عنده أمس ولا غد. وإذ نحفظ هذه المعرفة ترتاح أفئدتنا إذ نتحقق إنه مهما تكن ظروف الحياة التي نحياها من حيث الحيرة والدهشة فإنها لن تكون محيرة لنا.

فعند صلصح وبجوار قبر راحيل، كان شاول عتيداً أن يصادف رجلين يقولان له "قد وُجدت الأتن التي ذهبت تفتش عليها وهوذا أبوك قد ترك أمر الأتن. واهتم بكما قائلاً ماذا أصنع لابني؟" فهوذا الرجل الذي يتعب عبثاً يعلم أن كل شيء قد تم بدونه وأن أباه يحن إليه، هذا كله في الموضع الذي يتحدث عن الموت والقيامة- فلما كانت راحيل تحتضر دعت ابنها "ابن أوني" أي ابن حزني إذ رأت جانب الموت بينما دعاه يعقوب "بنيامين" أي ابن يدي اليمين متحدثاً بذلك عن الحياة والقوة، وعلى من يريد أن يخدم الله خدمة صحيحة أن يدع أولاً هذه الدروس تتغلغل في نفسه فإن أعمالنا أشر من العقم- يدعوها الله "أعمالاً ميتة"- لكن موت المسيح وقيامته فيهما كل الكفاية لمواجهة أعمق أعوازنا! وقلب أبينا يحن إلى كل هالك كما يؤكد لنا لوقا 15، وتلك هي مبادئ المسيحية الأساسية العظيمة التي ترينا أن الآب يجذبنا إلى ابنه على أساس موت المسيح وقيامته وليس لأعمالنا دخل في ذلك على الإطلاق.

وكان تخم بنيامين في "صلصح" ومعنى الاسم ظل البهاء حيث يصبح بهاء العالم مجرد ظل أو خيال في الصليب وينطبق القول "وَأَمَّا مِنْ جِهَتِي فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ الَّذِي بِهِ قَدْ صُلِبَ الْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَم" (غل 6: 14).

نأتي الآن إلى العلاقة الثانية والتي تأتي في وقتها المناسب وهي ترينا أن الذي يكون في دوائر الشركة ويعتمد على الله في مساعدته لا بد أن يتلقى المساعدة، ونجد هنا ثلاثة رجال بدلاص من اثنين وهم يمثلون الأقانيم الثلاثة وهو عاملون في توصيل المساعدة إلينا، ونرى هؤلاء الرجال الثلاثة صاعدين إلى بيت إيل- بيت الله حيث يعلن صوت الله، أن الله ليس إله يعقوب فقط بل إله بيت إيل أيضاً، وهناك يدركون فكره، وهناك عند بلوطة تابور التي يعني اسمها القوة الحية التي تظهر قصد الله حيث ينال الإنسان معرفة، قد يكون هناك المجتمعون قليلين ولكنهم يمثلون الشركة مع الله، وعطايا هؤلاء الرجال إنما تشير إلى المعونة- ثلاثة جداء- جدى لكل رجل ذبيحة خطية وتشير إلى المسيح الذي مات على الصليب كفارة لخطايانا، أما البز فيشير إلى المسيح موضوع شبع الله وشبعنا نحن أيضاً حين نتغذى بشصه كالإنسان الكامل، وزق خمر الذي ينبغي أن يسكب أمام الله والذي يرمز إلى المسيح الذي سكب نفسه لفرح الله وسروره وليس لسرور الله فقط بل مصدر سرورنا نحن وفرحنا.

والذين يجتمعون اثنان كانا أو ثلاثة وقصدهم الشبع من خيرات الله يجب أن يثقوا من أنهم سيشبعون. فنحن نتقاسم خيرات الله وإذ نتمسك بالرأس فمنه "كُلُّ الْجَسَدِ مُرَكَّباً مَعاً وَمُقْتَرِناً بِمُؤَازَرَةِ كُلِّ مَفْصِلٍ، حَسَبَ عَمَلٍ عَلَى قِيَاسِ كُلِّ جُزْءٍ، يُحَصِّلُ نُمُوَّ الْجَسَدِ لِبُنْيَانِهِ فِي الْمَحَبَّةِ" (أف 4: 16، 17).

واصل شاول طريقه فوجد نفسه أمام أخطر أعداء إسرائيل "بعد ذلك تأتي إلى جبعة الله حيث أنصاب الفلسطينيين" فقد عسكر العدو على "جبعة الله"، على تل الله، ونحن بدورنا لا بد أن نلتقي بقوة العدو وحركاته ليس في الخارج فقط بل في وسط الذين يعترفون أنهم مسيحيون. غير ان شاول كان سيصادف فريقاً من الأنبياء نازلين من المرتفعة، ونلاحظ انه وجد اثنين عند صلصح وثلاثة عند تابور والآن زمرة معهم آلات موسيقية- "رباب ودف وناي وعود" عجيب هذا! موسيقى وترنيم والعدو أمامنا! ولِمَ لا؟ صحيح أن قوة العدو خطيرة، ولكنها لا تزعجنا. وكان الأنبياء يتنبأون، ولما صادفهم شاول حلّ عليه روح الرب فتبأ معهم وهذا كان حركة مضادة لإبليس، كانت هناك قوة الروح القدس، ويوحنا يذكرنا بهذا حينما كان يحذرنا من الأنبياء الكذبة والأرواح الشريرة إذ قال "الَّذِي فِيكُمْ أَعْظَمُ مِنَ الَّذِي فِي الْعَالَمِ" (1 يو 4: 4) فالنصرة إذن في جانب الله وخاصته، لكن لزام علينا في الوقت نفسه ان نسلك معتمدين بتواضع على سكنى الروح القدس، وبهذا وحده نستطيع أن نرنم وسط المخاطر، وبهذا وحده حفظنا وصيانتنا.

والدرس الذي كان أمام شاول هو "الله معك" (ع 7) أي ملك يا ترى استمتع بمثل هذا الاستهلال لحياته، بالروح القدس ليس بوصفه ساكناً فيه بل حالاً عليه. كان في عونه لو أنه قدر ذلك، ولكن ما أشقى الجسد وما أبرز عجزه! ولذلك فكل المعلنات الإلهية لا تفيد بل "ينبغي ان تولدوا من فوق".

وحلول روح الله على شاول كما كان أيضاً في حالة القضاة لا يجب أن يُنظر إليه على انه سكنى الروح القدس بما له من تأثيرات مباركة على النحو الذي يحدث مع المؤمنين في تدبير النعمة إذ يجعل منهم هيكلاً مقدساً، لأن الروح القدس عطية الآب والابن، ولقد أعطى فقط للكنيسة بعد قيامة الرب المبارك.

انتهت رحلة شاول عند الجلجال، المكان الذي حلّ فيه إسرائيل لأول مرة، يوم استدم يشوع سكاكين الصوان الحادة للختان، هذا هو درس إماتة الذات، ولا يستطيع أن يخدم الله من لم يتعلم هذا الدرس الأولى العظيم سواء كان شاول أو غيره. فلنقرا جيداً كولوسي 3 بروح الصلاة ولنسأل أنفسنا بتواضع في حضرة الله- إلى أي حد دربنا نفوسنا على تنفيذ تعليماته وإرشاداته الخطيرة.

لقد حلّ روح الله على شاول، وعند حلول روح الله عليه تحول إلى رجل آخر وتنبأ وابتدأ يشغل المكان الذي أراده الله فيه لبركة شعبه وعندئذ كان ينبغي أن يعمل ما هو متاح له بيده.

عدد 17- 27:

دعا صموئيل باجتماع للشعب في المصفاة حيث كان يجب ان تلقى القرعة لكي يعرف الجميع عندما تقع القرعة على شاول الرجل الذي اختاره الرب لهم "الْقُرْعَةُ تُلْقَى فِي الْحِضْنِ وَمِنَ الرَّبِّ كُلُّ حُكْمِهَا" (أم 16: 33). ونحن مؤمني تدبير النعمة لا نستخدم القرعى في معرفة مشيئة الله بل كلمة الله المكتوب عنها "سراج لرجلي كلامك ونور لسبيلي". كما أنه يسكن فينا الروح القدس الذي يقود قلوبنا إلى الراحة على التصرف طبقاً لمشيئة الله.

لكن قبل إلقاء القرعة عاد صموئيل وذكّرهم بكلام الرب وبفداحة خطيتهم إذ طلبوا لأنفسهم مَلكاً غير الرب. وإن لم يستجيبوا لهذا التحذير من قبل فعليهم الآن أن يقبلوا ما سبق أن طلبوه بإرادتهم.

ووقعت القرعة على شاول، ولكنهم لم يجدوه لأنه كان قد اختبأ. ولكن لماذا اختبأ؟ ربما كان ذلك تواضعاً منه أو خوفاً من المسئولية التي كانت عتيدة أن تُلقَى عليه. وكان تصرفه هذا يعني عدم الثقة في الله الذي كان على استعداد أن يعمل به. وكان ذلك مقدمة تدل على الفشل الذي سيصيب هذا المَلك الذي اختاره الشعب. وربما كان ذلك رياب الجسد، فهو يختبئ في الوقت الذي يجب أن يظهر فيه ويظهر حينما يجب أن يختفي عن النظر تماماً، وهذا نراه بصورة محزنة في اثنين من القديسين اللامعين في تاريخ الكتاب المقدس؛ موسى في العهد القديم وبطرس في العهد الجديد، فالأول تسرع يوم قتل المصري وأخفاه في الرمل بينما أبطأ وأحجب وأبدى رفضه حين دعاه الله للدخول إلى فرعون ليطلب منه أن يطلق شعبه، وكذلك أظهر بطرس نفسه شجاعاً وهو في البستان متنطقاً بسيفه غير أنه كان خائفاً مرتعداً وهو في وسط الدام في دار رئيس الكهنة فالجسد لن يُوثَق فيه أي ظرف للقيام بأي شيء متقن لله، ومن مميزات المسيحي أنه لا يتكل على الجسد (في 3: 3). ولما وُجد شاول أخيراً ووقف بين الشعب كان أطول من كل الشعب من كتفه فما فوق، وهذا كان موضع إعجاب الفكر الجسدي ومن ثم دوي الهتاف "ليحي الملك" وتحضرنا الذاكرة بنياميني آخر ومن عجب أنه يحمل اسم أول ملوك إسرائيل وكان شهيراً بين رفاقه- استمع إلى أقواله "إِنْ ظَنَّ وَاحِدٌ آخَرُ أَنْ يَتَّكِلَ عَلَى الْجَسَدِ فَأَنَا بِالأَوْلَى مِنْ جِهَةِ الْخِتَانِ مَخْتُونٌ فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ مِنْ جِنْسِ إِسْرَائِيلَ مِنْ سِبْطِ بِنْيَامِينَ.." (في 3) بل أكثر من هذا "كُنْتُ أَتَقَدَّمُ فِي الدِّيَانَةِ الْيَهُودِيَّةِ عَلَى كَثِيرِينَ مِنْ أَتْرَابِي فِي جِنْسِي إِذْ كُنْتُ أَوْفَرَ غَيْرَةً فِي تَقْلِيدَاتِ آبَائِي" (غل 1: 14) ولكن منظراً واحداً للمسيح أظهر له تفاهة كل شيء واقتنع بأن يضع كرامته في التراب. و
إذ تعلم أن لا شيء يجدي أمام الله سوى المسيح، من تلك اللحظة لم يكن سوى المسيح معتمده.

"فكلم صموئيل الشعب بقضاء المملكة وكتبه في السفر ووضعه أمام الرب. ثم أطلق صموئيل جميع الشعب كل واحد إلى بيته" فقد أصبح السفر هو السجل الدائم نافعاً في الواقع لما تجلت خيانة الشعب لمركزهم الجديد. وعلى القياس نفسه حفظ الله اليوم سفره الذي يسجل في كل ما يتصل بنا والذي سيفتح أمامنا عند كرسي المسيح.

بدأ شاول بداية حسنة، لم يعمل على إظهار ذاته بل مضى إلى بيته وإلى حقله وقليل من الجماعة التي مسّ الله قلبها ذهبوا معه، صحيح أن جانياً من بني بليعال تكلموا عنه باحتقار "أما هو فكان كأصم" أي لم يبال بهم. وهكذا نجد الناس ينقسمون تبعاً لموقفهم من الفادي المخلص، فيوجد بقية قد خضعت له وستظل تتبعه حيثما يمضي، وهؤلاء قد مسّ الله قلبهم، لكن هناك آخرون قد تحولوا عنه واحتقروه الذين مصيرهم الهلاك أما صموئيل فمن المحقق أنه مضى إلى بيته ليصلي. فقد يتصايح الشعب ويتهلل فرحاً غير أنه أحس في قلبه بالخطورة والحزن؛ ذلك أن مركزاً خطيراً قد نشأ! كان إسرائيل من الغباوة حيث لم يدرك خطورة طلبه ملكاً.

 

  • عدد الزيارات: 2346