الأصحاح السابع
أصعد أهل قرية يعاريم تابوت الرب ولم يخافوا منه، وإن كان قد ضُرب الفلسطينيون وأهل بيتشمس بسببه فذالك لأنهم قصدوا إصعاده بدون الإحترام اللائق به، أما أهل قرية يعاريم فقد كان لديهم الاحترام اللائق بالتابوت، وآمنوا أن وجوده سوف يكون سبب بركة لهم، ووضعوا التابوت في الأكمة في بيت أبيناداب. ولعلهم قصدوا أن يضعوه في مكان مرتفع احتراماً له. وظل التابوت في قرية يعاريم عشرين سنة، وهي محسوبة من يوم وصول التابوت عندهم إلى يوم الاجتماع في المصفاة. لكن التابوت ظل في قرية يعاريم بعد ذلك إلى أن أصعده داود (2 صم 6: 1- 4).
والأصحاح السابع من سفر صموئيل الأول يرينا المكانة الفذة التي كان يشغلها صموئيل بالنسبة لشعب الله، وهي تقاس بالنهضة الروحية والخلاص القومي الموصوف في هذا الأصحاح. إذ بوجود التابوت في قرية يعاريم أخذ الشعب يحس شيئاً فشيئاً بالكارثة التي حلّت بهم وكيف أن روابطهم بالله قد أصابتها الفوضى. وناح كل بيت إسرائيل وراء الرب (ع 3) وهو أمر مبهج وذلك بعد أن أحسوا باحتياجهم لله، أحسوا بمسافة بينهم وبينه تعالى.
كانت العشرون سنة المُشار إليها هنا هي فترة العمل الإلهي الذي انتهى برجوع كامل إلى الرب الذي أصبح الآن مطلبهم وليس مجرد الرمز، إذ لا يُشار مطلقاً إلى التابوت في إجراءات يوم المصفاة. كان إسرائيل وقتئذ يسمو روحياً على جماهير المسيحية الاسمية في اعتمادها على مجرد العناصر المادية للفرائض المسيحية إن لم نقل على الصور والتماثيل وغيرها من الجهالات.
كان الرب قد أنقذ تابوته من يد الفلسطينيين لكنه لم يكن قد أنقذ شعبه بعد، وقد حان الوقت لذلك الأمر. ونلاحظ المفارقة المحزنة بين هذا الموقف وبين يوم يشوع إذ استطاعوا يومئذ أن يتقدموا غالبين ولكي يغلبوا. ولم يكن الأعداء أقوى منهم. أما هنا فإن أقصى ما كانت ترنو إليه قلوبهم هو أن يتقدموا حتى يطرحوا نيراً واحداً هو نير الفلسطينيين وهو شعب واحد من الشعوب الكثيرة المحيطة بهم.
والآن نسمع صوت صموئيل "إن كنتم بكل قلوبكم راجعين إلى الرب فانزعوا الآلهة الغريبة والعشتاروث من وسطكم وأعدوا قلوبكم للرب واعبدوه وحده فينقذكم من يد الفلسطينيين" ونلاحظ القول "بكل قلوبكم" و"أعدوا قلوبكم" وكذلك نلاحظ كلمة "وحده" "اعبدوه وحده" لأن الله لا يمكن أن يقبل شيئاً آخر معه في عبادتنا له. ينبغي أن يخرج كل شيء من القلب حيث يستطيع الرب أن يرى كل ما في زواياه بعينيه اللتين تخرقان أستار الظلام.
ولنتوقف هنا قليلاً لنسأل أنفسنا هل عواطفنا كلها بتمامها لله؟ هل نعبده وحده؟ لنذكر جواب سيدنا المبارك للمجرِّب في البرية "مكتوب للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد" (مت 4: 10) نعم وحده. هل للعالم مكان عندنا؟ وأيضاً الذات هل لها مكاناً لدينا؟ هل شاهدنا القضاء على الكل في موت المسيح؟ لقد استطاع بولس أن يقول في غيرة مقدسة "أفعل شيئاً واحداً".
إن إسرائيل لم يفز بالخلاص حتى نزعوا البعليم والعشتاروث. ومعنى كلمة "بعل" سيد. وكان البعل إله الفلسطينيين والكنعانيين الأعظم وسجدوا له في صورة الشمس لأنها أعظم ما في الطبيعة واستعملوا في العبادة تماثيل من خشب أو حجر عليها صور الشمس. ومعنى كلمة "عشتاروث" قرينة أي زوجة البعل. وسجد لها الفلسطينيون في صورة القمر أو كوكب الزهرة. وأقاموا لها سواري أي تماثيل من خشب, "وعشتاروث" هو لفظ الجمع لكي يعظموها. وكان بنو إسرائيل عرضة لخطية السجود لهذه الأصنام من زمان إقامتهم في البرية إلى زمان السبي وحيث أن هذه الآلهة كانت آلهة الفلسطينيين فكان نزعها علامة رفضهم لسلطان الفلسطينيين عليهم. واقتضى عملهم إعداد قلوبهم للرب والاتكال عليه في حمايته لهم.
استدعي صموئيل الأمة إلى المصفاة. وإذا كنا نر أن نعرف معنى كلمة "المصفاة" لنرجع إلى أول ذكر لها في الكتاب في تكوين 31: 49 "الْمِصْفَاةَ. لأَنَّهُ قَالَ (أي لابان ليعقوب) لِيُرَاقِبِ الرَّبُّ بَيْنِي وَبَيْنَكَ حِينَمَا نَتَوَارَى بَعْضُنَا عَنْ بَعْضٍ". ومن هذا نفهم ان كلمة المصفاة تعني برج المراقبة. وكان قصد صموئيل من استدعائهم إلى المصفاة أن يصلي لأجلهم إلى الرب, وهكذا نجد إنساناً مستقيماً مع الله طوال سنوات انحراف إسرائيل المؤسف. لم يسمح لنفسه أن يجرفه التيار السائد. من هنا كان مُهيَأ لخدمة الشعب يوم حان الوقت. وهذا يدعونا في وقت الخراب السائد أن يكون كا منا "إناء للكرامة مقدساً نافعاً للسيد مستعداً لكل عمل صالح" (2 تي 2: 21).
كانت إجراءات يوم المصفاة عجيبة إذ اجتمعوا هناك واستقوا ماء وسكبوه أمام الرب وصاموا في ذلك اليوم وقالوا هناك قد أخطأنا إلى الرب أي اعترفوا بضعفهم لأن الماء المسكوب يرينا الضعف المطلق, ولأنه مسكوب بلا فائدة منه بعد سكبه. وهذا الرمز استخدمته المرأة التقوعية في محاجتها مع داود "ونكون كالماء المهراق على الأرض الذي لا يُجمع أيضاً" (2 صم 14: 14). أدرك إسرائيل ما هو ملائم أدبياً لظروف الحال. ومثل هذا الاعتراف بالضعف لن يفشل في استجلاب البركة من الله. وفي المجال الروحي نتعلم أن الإحساس بالضعف قوة كما جاء في 2 كورنثوس 12: 10 "لأني حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوي". وكما قالت حنة "الضعفاء تمنطقوا بالبأس" (1 صم 2: 4). وحين يتجه الضعف إلى الله لكي يستدعيه عندئذ تكون هناك القوة.
وصموئيل عند المصفاة يذكرنا بصورة عجيبة بذاك الذي هو الكل في الكل لنا بوصفه نبياً وعظ الشعب, وبوصفه كاهناً قدم من أجلهم ذبائح, وقضى كما لو كان ملكاً. هو بكل يقين رجل الله.
حجر المعونة:-
عندما يبدأ الرب في أن يعمل عملاً وسط الشعب يتحفز الشيطان ليعمل عملاً مضاداً. والنهضة الروحية تثير عداوته القاتلة. فلا شيء يبغضه أكثر من أن يرى الشعب يصلح أموره مع إلهه ويأخذ المكان الذي يستطيع أن يباركهم فيه. وخطة الشيطان التي لا يستطيع أن يغيرها هي أن يسعى أولاً لكي ينقض أعمال الله. وإذ يتضح له ان عمله فاشل فهو يعمل ثانية على إفساد عمل الله. وقد استخدم هذا الأسلوب مع شعب الله القديم ومع الكنيسة.
وسمع الفلسطينيون أن بني إسرائيل قد اجتمعوا في المصفاة فصعد أقطاب الفلسطينيين إلى إسرائيل" وهنا نرى جيش العدو في طريقه يستحثه الشيطان الذي كان أكثر منهم إدراكاً لدلالة الأحداث الواقعة في محلة إسرائيل "فلما سمع بنو إسرائيل خافوا من الفلسطينيين" وهنا نلمح تغيراً مغبوطاً عما وجدناه في مطلع الأصحاح الرابع حيث أثاروا معركة مع العدو في حالة عدم الوعي بظروفهم السيئة. بل إن كلامهم أدعى لغبطة أكثر وهم يواجهون الخطر. فبعد هزيمتهم الأولى في يوم عالي قالوا "لنأخذ لأنفسنا من شيلوه تابوت عهد الرب يدخل في وسطنا ويخلصنا من يد أعدائنا" (1 صم 4: 3). أما الآن فيلتمسون من صموئيل "لا تكف عن الصراخ من أجلنا إلى الرب إلهنا فيخلصنا من يد الفلسطينيين" هناك فارق عظيم بين ضميري الغائب في الحالتين: فيما يتعلق بالتابوت "فيخلصنا" في الحالة الأولى, ثم في الحالة الثانية فيما يتعلق بالرب "يخلصنا". وفضلاً عن ذلك فإنهم يقولون الآن "الرب إلهنا" إذاً فقد استردوا إحساسهم بعلاقتهم بالرب. والويل للعدو إن حاول أن يزعج قوماً ألقوا بأنفسهم على الله! فهوذا يهوشافط المُصلِّي قد كفّل النصرة على الموآبيين وحلفائهم؛ نصرة أكثر مما كان يحصلها جنود مسلحون يقاربون المليون ويستخدمون الأساليب العسكرية المألوفة. وكان حزقيال أكثر خطورة على الآشوري وهو الابس المسوح منه وهو مسلح بدرع النحاس فقد أصابت العدو المتكبر كارثة رهيبة (إش 37). وبالمثل كان اعتماد إسرائيل الحقيق على الله عند المصفاة سبباً في خلاص إلهي عجيب. وفي هذه الحالة تصدق الكلمة الواردة في سفر إشعياء والخاصة بيوم البركة الألفي "قبلما يدعون أنا أجيب وفيما هم يتكلمون بعد أنا أسمع" (إش 65: 24).
أصبح صموئيل الآن الوسيط بين الرب وشعبه "فأخذ صموئيل حملاً رضيعاً وأصعده محرقة بتمامه للرب". وصرخ صموئيل إلى الرب من أجل شعبه. كان سكبهم للماء اعترافاً بإحساسهم بضعفهم المطلق. وكان صومهم إحساساً وشعوراً بمذلتهم لأن الصوم يشير إلى أن الشخص الصائم لا يستحق أن يأكل. وها هو الحمل الرضيع يحدث يهوه عن المسيح الآتي الذي به وفيه يخلص الناس ويتباركون. وهذه هي المرة الوحيدة التي يذكر فيها أمر تقديم حمل رضيع كذبيحة للرب. وهو يرمز إلى المسيح كمن كان مطيعاً لله مكرساً له منذ حداثته مقدماً نفسه رائحة طيبة لحساب الناس العصاة المتمردين.
تقدم الفلسطينيون لمحاربة إسرائيل بينما كان صموئيل يُصعد المحرقة فأرعد الرب عليهم بصوت عظيم فأزعجتهم فانكسروا أمام إسرائيل. وفي الموضع ذاته الذي لقي فيه إسرائيل الهزيمة وضياع التابوت انتصروا هذا الانتصار العظيم عند حجر المعونة. وعندئذ قالوا: "إلى هنا أعاننا الرب". ونحن نستطيع أن نقول ذلك عند كل نقطة نصل إليها سالمين، وبالإيمان نتكلم هكذا عن المستقبل قائلين إن الله سوف يعيننا. وأقام صموئيل حجر المعونة بين المصفاة والسن. المصفاة تشير إلى رقابتنا على أنفسنا، والسن تشير إلى ضرورة قطع كل ما لا يتوافق مع الله في سلوكنا.
"وقضى صموئيل إسرائيل كل أيام حياته. وكان يذهب من سنة إلى سنة ويدور في بيت إيل والجلجال والمصفاة ويقضي إسرائيل في جميع هذه المواضع. وكان رجوعه إلى الرامة لأن بيته هناك. وهناك قضى لإسرائيل وبنى هناك مذبحاً للرب" (ع 15- 17).
من هذه الأعداد يتجلى أمامنا كسوف مطلق للنظام القديم الذي كان سائداً في إسرائيل. لقد كانت الخيمة في الأرض. ولا ريب في أن بعض من أعقبوا عالي مارسوا فيها الوظائف الكهنوتية، ومع ذلك فإن الأعداد المذكورة عالية تتجاهلها تماماً.
كان صموئيل يعيش في الرامة التي معناها مرتفعات. فهناك فوق العالم المضطرب من تحته بنى صموئيل مذبحاً للرب حيث يتمتع بالشركة المقدسة مع الرب كما لو كان يسترجع ظروف حياة الآباء (تك 12: 7، 26: 25) ومن الرامة كان صموئيل يخرج من وقت إلى آخر معلماً وقاضياً بين شعب الله عاملاً على وضع الأمور في مكانها الصحيح على قدر ما كانت تسنح له الفرصة.
لقد امتازت حياة صموئيل بالشفاعة. وهي خدمة يؤكد قدرها ما جاء في مزمور 99: 6 "مُوسَى وَهَارُونُ بَيْنَ كَهَنَتِهِ وَصَمُوئِيلُ بَيْنَ الَّذِينَ يَدْعُونَ بِاسْمِهِ. دَعُوا الرَّبَّ وَهُوَ اسْتَجَابَ لَهُمْ". وطالما أشار الوحي إلى قوة شفاعته قبل أن يُطرد الشعب من الأرض "ثُمَّ قَالَ الرَّبُّ لِي: وَإِنْ وَقَفَ مُوسَى وَصَمُوئِيلُ أَمَامِي لاَ تَكُونُ نَفْسِي نَحْوَ هَذَا الشَّعْبِ اطْرَحْهُمْ مِنْ أَمَامِي فَيَخْرُجُوا" (إر 15: 1).
يتحدث سفر الأعمال (3: 24) عن صموئيل بوصفه طليعة سلسلة الأنبياء في إسرائيل. ومع أنه لا توجد بين الأنبياء خلافة مرتبة كما هو الحال مع الملوك والكهنوت فإن التاريخ لم يخل من الأنبياء من زمان صموئيل فصاعداً، وحيث كان شر الشعب يزداد فإن الله كان يجد لنفسه دائماً رجل الله الذي عن طريقه يخاطب الضمائر. وهذا نراه بوضوح في 2 ملوك 19: 2، 22: 12- 14 ففي القرينة الأولى يرسل حزقيا اثنين مع قواده من شيوخ الكهنة وكلهم لابسون مسوحاً لكي يحدثوا إشعياء بكلمات الأشوري التجديفية. ونلاحظ جيداً هذا الأمر مع أن شيوخ الكهنة كانوا يكونون الجانب الأكبر من الوفد فإنهم لم يتجهوا إلى رئيس الكهنة ذلك اليوم، بل إلى واحد بعيد كل البعد عن نظامهم، وهو إشعياء ابن آموص. اما في القرينة الثانية فإن الملك يوشيا وقد انزعج بسبب محتويات سفر الشريعة الذي وجوده في الهيكل بعث برئيس الكهنة نفسه ليسأل امرأة هي خلدة النبية.
كل هذا يرينا أن الرسميات ليس لها قيمة عند الله بل التقوى، وليس من خلال الرؤساء الدينيين يسر الله أن يكلم قلوب وضمائر شعبه بل بواسطة أناس يشعرون بالضعف في أنفسهم، ويسلكون قدامه ويرتعدون من كلامه ويحاولون معرفة مشيئته.
- عدد الزيارات: 3402