الأصحاح 25
يتجلى أمامنا هنا مشهد جديد فبعد أن كنا على ذروة الفسجة ورأينا إسرائيل في مقامه لكننا الآن نراه في سهول موآب حيث حالته المليئة بالمساوئ والعيوب. تكرار المحاولة لاستحضار لعنة على شعب الرب باءت بالفشل ولذلك غير العدو أسلوبه. فإذا كان بلعام غير قادر أن يلعن فقد كان قادراً أن يفسد ويتلف (ص 31: 8، 16)، وكان قتله برهاناً على أن نصح بنات موآب لكي يصبحن شركاً لبني إسرائيل ليذبحوا لآلهتهن ويزنوا معهن.
إن صداقة العالم ودعوته لنا أخطر من لعنته. والمعرضون للخطر ليسوا فقط المؤمنين الصغار بل الكبار أيضاً لأن ما حدث كان في نهاية رحلتهم في البرية حيث كان الصغار قد كبروا وأصبحوا رجالاً وهم رمز للمتقدمين روحياً. وسواء المؤمنين الصغار أو الكبار فهم هدف للشيطان ويحاول دائماً أن يضلهم. ومن المحزن أن هؤلاء الذين انتصروا على الشيطان وهو يواجههم كأسد مزمجر مفترس يسقطون أمامه حين جاء إليهم كالحية عاملاً في شهوات الجسد ونزل بهم من سموهم. ويقول الرسول يوحنا للأحداث "وكلمة الله ثابتة فيكم وقد غلبتم الشرير" وتحذيره لهم "لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم" (1 يو 2: 14، 15).
"وَتَعَلَّقَ إِسْرَائِيلُ بِبَعْلِ فَغُورَ" (ع 3).
يستخدم الشيطان شهوات الجسد لكي يسقطنا ولكن غرضه الأساسي أن يستحضر شيئاً من نفسه إلى المكان الذي أخذه الله في قلوب شعبه، يستحضرنا بذلك تحت التأثيرات الوثنية. وبدء عدم الأمانة يمكن رصده حين نتبين أن علاقة نفوسنا بالله قد تأثرت. ورحمة الله توجد لدينا التحذير من ذلك. ويحاول الشيطان إقناعنا بعدم وجود ضرر في بعض الأشياء، وينبغي عندئذ أن نسأل أنفسنا بأمانة هل هذه الأشياء تساعدنا على الصلاة بحرية وتزيد محبتنا للمكتوب ورفقتنا للقديسين. وإلا فينبغي أن نبتعد عن الأوثان قبل أن يكمل عملها فينا.
ويجب أن نلاحظ أن المديانيين يرجع أصلهم إلى إبراهيم (تك 25: 2) ولذلك فهم يمثلون تأثيرات القرابة الجسدية التي كثيراً ما تجنبنا إلى الارتباطات العالمية. ونرى هنا الفتيات المديانيات تدعين الشعب إلى ذبائح آلهتهن. ويقول الرسول بولس "إن كان أحد من غير المؤمنين يدعوكم وتريدوا أن تذهبوا" (1 كو 10: 27). ولقد ترك الرسول أمر ذهابهم إلى حريتهم المسيحية، إذا كانوا في حالتهم الجسدية مهيأين أن يذهبوا فليذهبوا. لكن في رسالته الثانية حين وجد من جانبهم حكماً على الذات فيقول لهم "اخرجوا من وسطهم واعتزلوا.. ولا تمسوا نجساً فأقبلكم" (2 كو 6: 17)، لأن القداسة لا يمكن الحصول عليها بدون انفصال.
وهناك ارتباط بين الأمور العالمية والأوثان، الأمر الذي يثير غيرة الرب "أم نغير الرب. ألعنا أقوى منه" (1 كو 10: 22).
وقال يهوه لموسى "خُذْ جَمِيعَ رُؤُوسِ الشَّعْبِ وَعَلِّقْهُمْ لِلرَّبِّ مُقَابِلَ الشَّمْسِ فَيَرْتَدَّ حُمُوُّ غَضَبِ الرَّبِّ عَنْ إِسْرَائِيلَ. فَقَالَ مُوسَى لِقُضَاةِ إِسْرَائِيلَ اقْتُلُوا كُلُّ وَاحِدٍ قَوْمَهُ الْمُتَعَلِّقِينَ بِبَعْلِ فَغُور" (ع 4، 5).
ويقدم الرب نفسه إلى كنيسة برغامس قائلاً "هذا يقوله الذي له السيف الماضي ذو الحدين" (رؤ 2: 12). ويقول عن هذه الكنيسة "أن عندك هناك قوماً متمسكين بتعاليم بلعام الذي كان يعلم بالاق أن يلقي معثرة أمام بني إسرائيل أن يأكلوا ما ذبح للأوثان ويزنوا" (رؤ 2: 14). ويضيف "فتب وإلا فإني آتيك سريعاً وأحاربهم بسيف فمي". وهذا يرينا أن ما حدث لإسرائيل في شطيم له تطبيقه في دائرة الاعتراف المسيحي، وإشارة بطرس ويهوذا إلى بلعام تؤكد ذلك. وتأخذ الوثنية صورة محببة وشيطانية في دائرة الاعتراف المسيحي أكثر منها في العالم الوثني، ولكنها ليست أقل شراً أمام الله. إنه لشيء خطير أن يكون هناك معترفون بالمسيح ومتمسكون بتعاليم بلعام، ليس فقط إنهم عالميون عالمياً لكن تعاليمهم أيضاً لها صفة التأثير على شعب الرب. وهؤلاء الأشخاص يستخدم الرب معهم السيف الماضي ذا الحدين.
نستطيع أن نفهم في ضوء ذلك كم هو رهيب أن يأتي واحد من بني إسرائيل بإحدى المديانيات إلى إخوته تحت نظر موسى وكل الجماعة الذين كانوا يبكون لدى باب خيمة الاجتماع (ع 6). كانت كل الجماعة تبكي لشعورها أنها صارت تحت عدم المسرة الإلهية. وإحضار الرجل الإسرائيلي هذه المرأة إلى إخوته كما لو كان عمله يشملهم كلهم. وربما يتصور المؤمن المسيحي أنه بذهابه إلى الولائم العالمية واشتراكه في أحداثها أن ذلك يخصه وحده، ولكن في حقيقة الأمر فإن هذا يطبع كل الأخوة بهذا الطابع. ولقد حرك هذا المنظر فينحاس بغيرة إلهية فقام من بين الجماعة وأخذ رمحه بيده ودخل وراء الرجل الإسرائيلي إلى القبة (حجرة الخيمة) وطعن كليهما الرجل الإسرائيلي والمرأة في بطنها (ع 7، 8). وقال الرب عن فينحاس أنه "غَارَ غَيْرَتِي" أي كان غيوراً لإلهه (ع 11، 13). لم يكن الوقت ووقت فتور أو أنصاف القلوب، كان قد مات بالوباء في يوم واحد ثلاثة وعشرون ألفاً (1 كو 10: 8)، وكان يجب عمل الكفارة في ذلك اليوم أي تنفيذ قضاء مناسب. وتصرف فينحاس حسب الفكر الإلهي في بر كهنوتي، وما عمله صادق عليه الله تماماً كما لو كان كفارة عن إسرائيل. وسبقت الإشارة أن كثيرين تشملهم نتائج التعديات ولكن من المعزي أن نرى من الناحية الأخرى أن كثيرين يستفيدون من بر واحد مثلما حدث من آدم وكفارة الرب يسوع المسيح له المجد. إن الله يأخذ في حسابه بكل سرور لكل رفض مقدس لما هو غير مرضى أمامه. إن الأمانة لله في إدانة ما هو شر في المحبة الحقيقية لكل شعبه. لم يحتمل فينحاس هذا العمل الوثني، وتنفيذه القضاء استعداد الرضى الإلهي، وكان لفينحاس نفسه وعد بالسلام ووعد بكهنوت دائم حتى أننا نجد فيسفر حزقيال أن نسله سوف يمارس الكهنوت في الملك الألفي (حز 44).
لم يمارس فينحاس الخدمة الكهنوتية بالذبائح بل كان كاهناً محارباً. وحين أراد الله أن ينتقم شعبه من المديانيين أرسل موسى اثني عشر ألف محارب للحرب وفينحاس ابن ألعازار الكاهن ومعهم أمتعة القدس وأبواق الهتاف في يده (عد 31: 6). وعندما بنى السبطان والنصف مذبحاً عظيم المنظر شرق الأردن وبدا كما لو كان هذا الأمر عصياناً ضد يهوه يستحق الدينونة أرسل فينحاس مع عشرة رؤساء لدعوتهم إلى الالتزام بنظام العبادة في إسرائيل (يش 22)، وحين كان هناك شر في إسرائيل يستدعى الدينونة وسأل إسرائيل من الرب ماذا يفعلون نقرأ أن فينحاس وقف أمام التابوت في تلك الأيام (قض 20: 28). ولا بد أنه كان رجلاً مسناً في ذلك الوقت ولكنه كان لا يزال رجلاً محارباً ويتصرف بالأمانة لله، وحين يطمو الشر فإن الكهنوت المقدس ينبغي أن يأخذ صفة الرب.
يتكلم الناس أحياناً ن الكنيسة المحاربة، وينبغي أن نكون جنوداً لربنا يسوع المسيح له المجد. والجندي الصالح هو الذي له الوعد منه بالسلام. ولكل مؤمن وقت اختبار حيث يدعى لكي يأخذ موقفاً حاسماً ويكون محارباً شجاعاً. وإذا فشل في ذلك فإنه يكون في حالة عدم الرضى الإلهي.
وقد ملأ فينحاس وظيفة أخرى لم تذكر إلا بعد وقت طويل حين يذكر حراس أبواب الخيمة في 1 أخ 9 حيث يذكر هناك أن "فينحاس بن أليعازار كان رئيساً عليهم سابقاً والرب معه" (ع 20) ومن ذلك نستنتج أنه كان الأول في تحمل مسئولية حراسة باب خيمة الاجتماع. ولا شك أنها كانت ثقة مقدسة لحفظ أبواب بيت الرب. وهذا يعلمنا أن الانتباه والسهر يجب أن يكونا خدمة هؤلاء الذين يقتربون إلى خيمة الاجتماع. كان فينحاس غيوراً من جهة الداخلين إلى خيمة الاجتماع، وهكذا ينبغي أن نكون غيورين من جهة الداخلين إلى دائرة الشركة في عشاء الرب لأنه بدون ذلك لا بد أن يدخل إلى عشاء الرب كل ما هو عالمي أو جسدي. ومكتوب "تبع البر والإيمان والمحبة والسلام مع الذين يدعون الرب من قلب نقي" (2 تي 2: 22). ولكي نصل إلى هذا الوضع ينبغي أن يكون هناك سهر في حراسة الأبواب، لا ينبغي أن نسمح بدخول أشخاص غير مؤهلين للدخول. وإذا وضعنا في قلوبنا أن نكون أمناء في هذه المهمة فإن الرب سيكون معنا كما كان مع فينحاس.
- عدد الزيارات: 1747