الأصحاح 9
أقيمت الخيمة في اليوم الأول من الشهر الأول في السنة الثانية لخروج الشعب مصر (خر 40: 17)، وعمل الفصح في اليوم الرابع عشر من الشهر الأول، والفصح الذي هو عيد الفداء صار الاحتفال به في ثلاثة أماكن مختلفة- في مصر (خر 14)، في البرية (عد 9)، وفي أرض كنعان (يش 5)، والفداء هو أساس كل شيء متعلق بتاريخ ذلك الشعب، فسواء كانوا محتاجين للتحرير من عبودية مصر ومذلتها، أو لمن يحملهم ويرفعهم فوق صعوبات وأخطار البرية وحفظهم وتسديد أعوازهم، أو إلى النصرة على أريحا وهدم أسوارها المنيعة، وعندئذ يدرسون فوق أعناق ملوك كنعان، فإن كل هذا ينالونه بفضل الفداء، وعلى أساس شفك دم خروف الفصح.
والفصح الذي تم عمله في البرية هو أول خروف فصح تذكاري، وعمله حول خيمة الاجتماع الشعب المكلف بخدمة يهوه وعبادته، ولذلك فهو مختلف تماماً عن الفصح الذي تم عمله في مصر لأنه هنا "قربان الرب" (ع 7: 13) الأمر الذي يرينا قبوله منهم كتقدمة ثمينة في نظره، يهوه الساكن وسط شعبه يتكلم عن الفصح قائلاً أنه "ذبيحته" "لا تذبح على خمير دم ذبيحتي" (خر 23: 18)، ينظر إلى هذه الذبيحة كأساس اقتراب الشعب إليه.
وهذه الذبيحة التذكارية تعطينا تصويراً لممارستنا عشاء الرب في أول كل أسبوع حيث نتطلع إلى الوراء إلى سفك دم المسيح، ونسبح له من أجل خلاصه العجيب ونتطلع قدماً إلى مجيئه مرة أخرى، ونعرف أننا أثناء الطريق سوف تسدد أعوازنا بحسب غناه في المجد.
وتجذب أنظارنا في هذا الأصحاح إلى حالة غير عادية "كَانَ قَوْمٌ قَدْ تَنَجَّسُوا لإِنْسَانٍ مَيْتٍ، فَلَمْ يَحِلَّ لَهُمْ أَنْ يَعْمَلُوا الْفِصْحَ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ" (ع 6)، ولا يذكر مثل هذا الأمر في مصر، وسبب الحادثة هنا ناتج من الحقيقة أن خيمة الاجتماع وأقداس الرب كانت في وسطهم، وكان ينبغي أن يكون الشعب متوافقاً مع هذا الوضع، ولم يكن الإنسان المتنجس بميت متوافقاً مع قداسة الرب، وكان عمله للفصح عتيداً أن ينجس الخيمة، وكان هؤلاء المتنجسون منتبهين لحالتهم هذه، وأتوا إلى موسى وهرون بشعورهم هذا، وموسى كان هو الإناء المستخدم لإعلان مطاليب يهوه، وهرون كان الإناء المستخدم لإعلان نعمته ولذلك طرحت هذه المشكلة أمامها. وكم هو جميل أن يكون الضمير حساساً لما هو غير متوافق مع الله، ورأى موسى في هؤلاء الناس جمال حساسيتهم، ووعد أن يستحضر هذا الأمر أمام الرب وقال لهم "قفوا لأسمع ما يأمر به الرب من جهتكم" لم يكن لدى موسى جواب يقدمه لهذا السؤال، وعلم أن الله وحده لديه الجواب وانتظر منه الإجابة، لم يدع أنه قادر على تقديم الجواب، لم يخجل أن يقول أنه لا يعلم، لم يتردد في إظهار جهله غم مركزه الذي كان يشغله، وهذه هي الحكمة السماوية، لم يعتبر أن في هذا الأمر تقليلاً من كرامته أمام الشعب، كان عظيماَ في تواضعه وفي مركزه، كان يكلم الرب وجهاً لوجه، وتسلم إرساليته منه مباشرة، وكان أحلم رجل على سطح الأرض، وسار في الطريق الذي يجب أن يسير فيه حين لا يكون لديه جواب، وهذه هي العظمة الحقيقية.
وحالة هؤلاء الأشخاص ترينا أن الله قادر أن يجهز ما هو مناسب لكل ظرف يحدث فيه ابتعاد عنه، كانت لهؤلاء الأشخاص رغبة في حفظ فريضة الفصح، "لِمَاذَا نُتْرَكُ حَتَّى لاَ نُقَرِّبَ قُرْبَانَ الرَّبِّ فِي وَقْتِهِ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ" (ع 7) كانوا متأثرين بالعهد والنظام المقدس لخيمة الاجتماع، وكانوا يرغبون في أن يكونوا متوافقين تماماً معهما وذلك بتقديم هذه التقدمة في وقتها، وما عملوه كان فيه سرور الله، ولم يكن في نعمته يقدر أن يقول أنه ليس له تجهيز لهذا الأمر، وكل معاملاته معهم تشهد أنه يستطيع أن يقابل بنعمته كل ما يظهر فيهم من ضعف، استطاع أن يرتب للنذير تجهيزاً يبدأ به انتذاراً جديداً حين يفشل في انتذاره، كما استطاع أن يجعل التابوت يترك مكانه وسط الجماعة ويتقدم الشعب ليلتمس لهم مكاناً، وذلك حين طلب موسى من حوباب أن يتقدم الشعب في البرية ليكون لهم كعيون. وجهز الحية النحاسية لإحياء الذين كانوا على وشك الموت بلدغة الحية المحرقة لأنهم كانوا قد تذمروا على الرب. وحين لم يكن لصلفحاد أولاد ذكور يرثون ميراثه، أشار على موسى أن يرث بناته الميراث بشرط أن يتزوجن من نفس السبط لكي لا تنتقل أرض السبط إلى سبط آخر، وهكذا نرى أن تاريخ الشعب ممتلئ بنعمة الله تجاه أمور ضعفه وأخطائه.
وإذا كان هذا هو تصرف الرب قديماً اتجاه شعبه فكم بالحري تكون أعمال نعمته تجاه مؤمني العهد الجديد الذين يعيشون في ظروف غير عادية، وكل أمورهم لا تناسب سوى الشهر الثاني.
ونرى في (ع 11، 12) شيئاً يستحق الإعجاب إذ نجد القول "عَلَى فَطِيرٍ وَمُرَارٍ يَأْكُلُونَهُ. لاَ يُبْقُوا مِنْهُ إِلَى الصَّبَاحِ وَلاَ يَكْسِرُوا عَظْمًا مِنْهُ. حَسَبَ كُلِّ فَرَائِضِ الْفِصْحِ يَعْمَلُونَهُ" ونجد الأمور التي تخص الشهر الثاني فيها تحريض على التدقيق في حفظ فرائض الفصح. إن مركز الفريضة في نظر الله واحد في أهميتها، وكان هناك احتمال من هؤلاء أرباب الشهر الثاني أن يتساهلوا في عمل هذه الفرائض إذ سبق لهم التساهل.
وإذا فشل الإسرائيلي في تطهير نفسه في شهر النعمة الثاني فلا يتناول من الفصح ويحمل خطيته وتقطع تلك النفس من الشعب- وإذا كان الأمر كذلك مع الشعب الأرضي فكم هو محزن أن نرى كثيرين يهملون تناول عشاء الرب. والذي يعمل ذلك لا يقطع من شعب الرب بسبب وجودنا في زمان النعمة، لكن لا بد أن يتعرض للتأديب. أما الذين يتناولون من عشاء الرب بدون استحقاق فإنهم يشبهون الذين أكلوا من خروف الفصح في أيام حزقيا الملك وهم نجسون، لقد ضربهم الرب بالمرض، ولكن في نعمته شفاهم حين صلى حزقيا لأجلهم (2 أخ 30: 15- 20). ويوجد فرق كبير بين ما عمله حزقيا وتصرف يربعام الوارد في (1 مل 12: 32) لأن حزقيا لجأ إلى نعمة الله وعمل الفصح في الشهر الثاني حسب ترتيب الرب، أما يربعام فعمله في الشهر الثامن حسب اختراع قلب الإنسان وخداعه. ويوجد فرق هائل بين تنازل النعمة الإلهية لسد حاجة الإنسان وبين الاختراعات البشرية التي هي ضد أفكار الله ونعمته.
"وَفِي يَوْمِ إِقَامَةِ الْمَسْكَنِ، غَطَّتِ السَّحَابَةُ الْمَسْكَنَ، خَيْمَةَ الشَّهَادَةِ. وَفِي الْمَسَاءِ كَانَ عَلَى الْمَسْكَنِ كَمَنْظَرِ نَارٍ إِلَى الصَّبَاحِ. هكَذَا كَانَ دَائِمًا. السَّحَابَةُ تُغَطِّيهِ وَمَنْظَرُ النَّارِ لَيْلاً" (ع 15، 16).
كانت المحلة بكل ما فيها 600000 رجل محارب، وما يزيد عن22000 لاوي ومئات الآلاف من النساء والأولاد، كانوا جميعاً يعتمدون على السحابة، لم يكونوا يفكرون لأنفسهم ماذا سيعملون في اليوم القادم. وحين ينزلون لا يعرفون إلى متى سيظلون هكذا في أماكنهم، وحين يرتحلون لا يعرفون متى سينتهي ارتحالهم، كانوا يثبتون أعينهم على السحابة كل صباح ومساء وأثناء اليوم يظلون متطلعين إلى أعلى نحو الرب الساكن في السحابة.
والرب لا يكتفي بشيء أقل من هذا لمؤمني العهد الجديد، ولنا فيه هذا الوعد "أعلمك وأرشدك الطريق التي تسلكها. أنصحك عيني عليك" (مز 32: 8). ينبغي أن يعرف كل مؤمن أنه محاط بعنايته. وإن كان قد قاد إسرائيل في الماضي هكذا بعنايته فكم بالحري يعمل معنا نحن أعضاء جسده. نحن كثيراً ما نفسد قيادته لنا باختبار طريقنا في برية هذا العالم الملآنة بالفخاخ والحفر، ولا يوجد فيها طريق ممهد مريح، وكم هي مباركة تلك العبارة التي قالها الرب يسوع "أنا هو الطريق" (يو 14: 6)، "أنا هو نور العالم. من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة" (يو 8: 12)، وهذه هي القيادة الحية إنها السير وراء مسيح حي- نسلك كما سلك ذاك، نتشبه به كالمثال نثبت العين عليه بحيث تظهر فينا حياته وصفاته في حياتنا اليومية، نتبع السحابة ليس فقط في سلوكنا بل أيضاً في سجودنا وعبادتنا وخدمتنا، الكل يخضع لقيادته المحبة القديرة. إن الإنسان في حالة بعده عن الله يسير طبقاً لإرادته الذاتية، يعمل ما يحسن في عينه، مستعبداً للشيطان الذي يقيده بسلاسل الخطية مستخدماً شهواته، ولكن ما أجمل حرية المؤمن الذي يسير بالاتكال المطلق على الله في حرية الطبيعة الجديدة، الحرية التي حررنا بها الرب يسوع حيث نعيش حسب الروح ونعمل كل ما هو لمسرته.
ويقول الرب في أصحاحي (9، 10) 14 مرة كلمات عن السحابة، ونزولها وارتحالها، وهو يريد بذلك أن يجذب أنظار شعبه إليها. وعند خروجهم من أرض مصر كانت السحابة تقودهم نهاراً وليلاً (خر 13: 21، 22)، وحين تبع المصريون إسرائيل انتقل عمود السحاب من أمامهم ووقف خلفهم بين الشعب والمصريين، وفي سيناء أخذتهم السحابة بعيداً عن بلاد الفلسطينيين لكي يجنبهم الحرب معهم، كان يريد ان يعلمهم الحرب أولاً (هو 11: 1- 3). وفي الأيام الأولى المبكرة من تاريخ ارتباطنا بالرب نرى هذه القيادة التي تتناسب مع ضعفنا وقلة اختبارتنا.
وبعد عمل العجل الذهبي نصب موسى الخيمة خارج المحلة، وكان عندما يدخل إلى الخيمة أن عمود السحاب ينزل ويقف عند باب الخيمة، ويتكلم الرب مع موسى (خر 33: 9) كان الرب يريد أن يظهر مصادقته على عمل عبده موسى، وأن موسى في حالة الرضى أمامه، وهكذا نرى أن السحابة كانت تتبع موسى. في أيام الضعف ترافق السحابة الأمناء الذين يعملون ما يتوافق مع الرب.
في ع 15 نرى السحابة تغطي خيمة الاجتماع ومنظر نار عليها إلى الصباح، وهكذا نرى أن فكر الله ظاهر ومبرهن في الخيمة وكما كان الأمر قديماً في الخيمة، فإن عمل الله حسب فكره في المسيح ظاهر ومبرهن بثمار عمله في مؤمني العهد الجديد. ويذكر ثماني مرات اسم خيمة الشهادة، كما يذكر اللاويين معينون لخدمتها وحراستها، وهرون وأولاده يخدمون أمامها ككهنة، وهكذا يرى بنو إسرائيل إما كمحاربين أو كخادمين أو ساجدين ويحملون الخيمة في البرية بعناية عظيمة، وهذا هو وضع مؤمني العهد الجديد- فهم إما محاربون عن الحق الإلهي أو خادمون الشهادة أو ساجدون ويحملون الشهادة في البرية في عناية كاملة، الكل يخدم بالارتباط مع الخيمة، وتغطي السحابة هذا كله.
"وَمَتَى ارْتَفَعَتِ السَّحَابَةُ عَنِ الْخَيْمَةِ كَانَ بَعْدَ ذلِكَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَرْتَحِلُونَ، وَفِي الْمَكَانِ حَيْثُ حَلَّتِ السَّحَابَةُ هُنَاكَ كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَنْزِلُونَ" (ع 17) أي أن ما هو من الله ومقدس بحضوره ليس شيئاً ثابتاً، فكانت الخيمة مصممة لتحمل من مكان إلى مكان بالخدمة اللاوية، والوقت الذي تقضيه الخيمة في أي مكان يحدد بتمادي السحابة فوق المكان، وهذا غير مرتبط بالظروف المحيطة أو بظروف فرد من الأفراد وهذا يرينا أننا لا يجب أن نتحرك طبقاً إرادتنا الذاتية كأفراد، بل يكون تحركنا مرتبطاً بتدريبات الجماعة، وإذا لم نتحرك مع الجماعة نفقد النور وقوة حضوره، والرب في عنايته بنا كالشفيع يرد نفوسنا للسير مع الجماعة.
ومعنى تحرك السحابة بعد مدة محددة أن الله يريد أن يعطينا اختباراً جديداً ولا يعني ذلك تغير الشهادة بل هي نفسها في إطار جديد.
ونحن الآن لا ننظر إلى الشهادة من نفس الموقع الذي كنا فيه منذ عشر سنين، إذا فعلنا ذلك فمعناه أننا لسنا متحركين مع السحابة، وهو أمر جميل أن نعرف كل ما كان من الله في الماضي، ولكن مع ذلك نتحرك، وخدمة الحاضر لا تنكر خدمة الماضي، بل تطورها وتجعلها أكثر وضوحاً بقوة الروح القدس.
وعندما كان يميز الكهنة تحرك السحابة كانوا يضربون بالأبواق، عندئذ ينبهون بني إسرائيل بذلك، وهذا ما يعمله المؤمنون الروحيون الآن، يميزون صوت الروح القدس، وعندئذ ينبهون كل الجماعة "من له أذن للسمع فليسمع ما يقوله الروح للكنائس".
والذين لا يتحركون مع السحابة يتطلعون إلى الذين يفعلون ذلك في وشك قد تضرب الأبواق ويعم الفرح بعظمة الشهادة ولكن الذين لا يرغبون في التحرك لا يشاركون في أفراح تقدمها.
"وَإِذَا تَمَادَتِ السَّحَابَةُ عَلَى الْمَسْكَنِ أَيَّامًا كَثِيرَةً كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَحْرُسُونَ حِرَاسَةَ الرَّبِّ وَلاَ يَرْتَحِلُونَ" (ع 19).
الحراسة أمر هام وينبغي أن تظل في حالة السهر لكي يستوعب الاختبار الإلهي الذي يريد الرب منا أن نستوعبه أثناء تمادي السحابة فوق الخيمة. ونكون على استعداد للتحرك حيث ترتفع السحابة، إن تحرك السحابة اختبار لمشاعر القديسين ونشاطهم إذ ينبغي أن نكون دائماً عاملين لأجل النضارة الروحية، وإثراء الذين يتحركون معنا.
- عدد الزيارات: 1769