الأصحاح 6
بعد أن تم تنظيم المحلة وتحديد خدمة كل فرد منها، وقدم الرب علاجاً في ص 5 للأخطاء التي يحتمل عملها بواسطة الشعب الأمر الذي يقود إلى العيشة بأمانة في السلوك والمشاعر الداخلية. ومع أننا مؤمنو العهد الجديد قديسون شرعاً بعمل المسيح على الصليب، ولكن يطلب الرب منا القداسة العملية التي تعني الانفصال عن الشر والأشرار الأمر الذي يشير إليه الانتذار للرب. والانتذار للرب إما أن يكون فردياً أو ببقية صغيرة وسط الجماعة التي قد يكون طابعها العام عدم الأمانة للرب، كان للمؤمنين في مكدونية طابع التكريس، ويقول عنهم الرسول في 2 كو 8: 5 " أعطوا أنفسهم أولاً للرب ولنا بمشيئة الله" وكان تيموثاوس قريباً من بولس في تكريسه إذ يقول عنه "لأنه يعمل عمل الرب كما أنا أيضاً" (1 كو 16: 10)، "لأنه ليس لي أحد آخر نظير يهتم بأحوالكم بإخلاص إذ الجميع يطلبون ما هو لأنفسهم لا ما هو ليسوع المسيح وأما اختباره فأنتم تعرفون أنه كولد مع أب خدم معي لأجل الإنجيل" (في 2: 20- 22). ويجذب الروح القدس أنظارنا إلى بعض المكرسين للرب مثل أكيلا وبريسكلا وغايس وأبفرودتس وأبفراس وبيت استفاناس، ويعلن الرسول بولس للمؤمنين صفة النذير بالقول "لأن لي الحياة هي المسيح" (في 1: 12)، "إني أحسب كل شيء أيضاً خسارة من أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربي الذي من أجله خسرت كل الأشياء وأنا أحسبها نفاية لكي أربح المسيح" (في 3: 8). وإن كانت أنظارنا تتجه ولو إلى لحظة إلى هؤلاء الأشخاص فإنها يجب أن تستقر على النذير الكامل ربنا يسوع المسيح الذي انفصل انفصالاً كاملاً للآب من بداءة حياته وإلى نهايتها حيث لم يدع مطاليب الأرض أو الحياة تحول قلبه عن العمل الذي جاء ليعمله والذي كرس نفسه له، وقال لأمه ولرجلها يوسف "ألم تعلما أنه ينبغي أن أكون فيما لأبي" (لو 2: 49) وقال "طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله" (يو 4: 34).
وأول شيء يجب أن يعمله النذير "فَعَنِ الْخَمْرِ وَالْمُسْكِرِ يَفْتَرِزُ، وَلاَ يَشْرَبْ خَلَّ الْخَمْرِ وَلاَ خَلَّ الْمُسْكِرِ، وَلاَ يَشْرَبْ مِنْ نَقِيعِ الْعِنَبِ، وَلاَ يَأْكُلْ عِنَبًا رَطْبًا وَلاَ يَابِسًا" (ع 3، 4)، ويشير الخمر والمسكر إلى المسرات العالمية التي يقدمها هذا العالم الفقير والتي يستخدمها إله هذا الدهر لكي يضل قلوب المؤمنين ويبعدهم عن الرب، وتوجد أشياء في هذا العالم عديمة الضرر مثل الأفراح التي تبدو أنها بريئة وهي التي يشير إليها العنب الرطب أو اليابس ولكنها لا تعطي المؤمن الفرح الذي في الرب الذي يشبع قلبه والذي يقول عنه الرسول بطرس "إن كنتم لا ترونه الآن لكن تؤمنون به فتبتهجون بفرح لا ينطق به ومجيد" (1 بط 1: 8)، والفرح بما هو في الأرض لم يأت بعد، الفرح الذي أشار إليه الر ب يسوع له المجد بالقول "الحق أقول لكم أني لا أشرب بعد من نتاج الكرمة إلى ذلك اليوم حينما أشربه جديداً في ملكوت الله (مر 14: 25). كان هو النذير الحقيقي الذي لم يفرح بالأفراح الأرضية، ولكنه سوف يفرح حين يأتي ملكوته.
كان للنذير في العهد القديم جماله وتكريسه، ويذكر عنه في مراثي 4: 7 "كان نذرها أنقى من الثلج وأكثر بياضاً من اللبن وأجسامهم أشد حمرة من المرجان جزرهم كالياقوت الأزرق" وبالنسبة لمؤمني العهد الجديد فإن قلب الله لا يسر بالمواهب التي يعطيها لنا لبركة وبنيان إخوتنا بقدر ما يسره تكريسنا له، لأن الشهادة تعتمد اعتماداً كبيراً على روح الانفصال.
والأمر الثاني الذي ينبغي أن يعمله النذير- "كُلَّ أَيَّامِ نَذْرِ افْتِرَازِهِ لاَ يَمُرُّ مُوسَى عَلَى رَأْسِهِ. إِلَى كَمَالِ الأَيَّامِ الَّتِي انْتَذَرَ فِيهَا لِلرَّبِّ يَكُونُ مُقَدَّسًا، وَيُرَبِّي خُصَلَ شَعْرِ رَأْسِهِ" (ع 5).
ويعطينا ما جاء في (1 كو 11: 1- 15) كيفية تطبيق ذلك على مؤمني العهد الجديد "أم ليست الطبيعة نفسها تعلمكم إن الر جل إن كان يرخي شعره فهو عيب له. أما المرأة إن كانت ترخي شعرها فهو مجد لها لأن الشعر قد أعطي لها عوض برقع (غطاء)" ويرينا الشعر الطويل للمرأة-السلطان الذي وضعت تحته سلطان الرجل، وهكذا فإن الرجل الذي يرخي خصل شعره- فإن هذا يعني تنازله عن كل سلطان وخضوعه المطلق للرب، وفي هذا الطريق يتخلى عن كل مجد عالمي، وهذا ما فعله الرب يسوع له المجد، فلم يكن له صيت أو شهرة، ترك حقوقه في كل شيء حتى استطاع أن يقول "أنا فدودة لا إنسان" (مز 22) أخذ في طريق خضوعه لله أدنى مكان، وصل إلى حيث أوصلتنا الخطية، وهكذا نحن إن أردنا نسلك طريق الانتذار فعلينا أن نتنازل عن أمجاد الطبيعة ونسير في خضوع مطلق للرب- الأمر الذي يؤدي إلى احتقار العالم لنا.
والأمر الثالث الذي يجب أن يعمله النذير "كُلَّ أَيَّامِ انْتِذَارِهِ لِلرَّبِّ لاَ يَأْتِي إِلَى جَسَدِ مَيْتٍ. أَبُوهُ وَأُمُّهُ وَأَخُوهُ وَأُخْتُهُ لاَ يَتَنَجَّسْ مِنْ أَجْلِهِمْ عِنْدَ مَوْتِهِمْ، لأَنَّ انْتِذَارَ إِلهِهِ عَلَى رَأْسِهِ" (ع 6، 7).
نرى في سفر العدد مكرراً أن لمس جثة شخص ميت ينجس، ويشير الميت
إلى الميت أدبياً بالذنوب والخطايا حتى ولو كان له اسم أنه حي (رؤ 3: 1) أي حتى ولو كان له نشاط خارجي أو صورة ظاهرية للتقوى (2 تي 3: 5)، وقال الرب للرجل الذي أراد أن يتبعه "دع الموتى يدفنون موتاهم وأما أنت فاذهب وناد بملكوت الله" (لو 9: 60) وبقول الرب يسوع عن أمثال هؤلاء الأموات أدبياً في يو 5: 25 "تأتي ساعة وهي الآن حين يسمع الأموات صوت ابن الله والسامعون يحيون" وفد لا يكون في حالة هؤلاء الأموات شر عظيم بل أحياناً أعمال حسنة ونشاط ديني وكلمات جميلة تقال عن المكتوب ولكن لا يوجد فيهم حياة روحية، وليست فيهم أشياء الله، ويقول الرسول في (2 تي 1: 1، 10) "بولس رسول يسوع المسيح بمشيئة الله لأجل وعد الحياة التي في يسوع المسيح.... الذي أبطل الموت وأنار الحياة والخلود بواسطة الإنجيل" فإذا كانت الحياة قد أعطيت لنا طبقاً لمقاصد الله الأزلية ونعمته، فينبغي حفظها في نقاوة عملية بالانفصال عن الأشخاص الأموات أدبياً، ويقول الرسول في 2 كو 6: 14 "لا تكونوا تحت نير غير المؤمنين لأنه أية خلطة للبر والاثم، وأية شركة للنور مع الظلمة" وإذ لم يكن هناك انفصال عن هؤلاء الأشخاص، فإن هذا ينجس رأس النذير. ونرى إمكانية هنا تنجيس رأس النذير الأمر الذي لا يذكر عند شرب الخمر أو تربية خصل الشعر، كما يذكر التعبير "بغته على فجأة" الذي يرينا خطورة هذا الأمر وحاجة النذير إلى الحذر والسهر. ويقول الرب "اسهروا وصلوا لكي لا تدخلوا في تجربة" ويأتي عدم السهر من الثقة في الذات. والفشل في الانتذار يحمل في ذاته تدريباً إذ يتعلم الشخص أن يحكم على كل شيء فيه ينتسب إلى الجسد.
وموضوع انتذار المؤمن لا علاقة له مطلقاً بخلاص النفس ولا بالحياة الأبدية، ولا بثبات مركز المؤمن في المسيح ثباتاً كاملاً، وتوجد في الحياة المسيحية حلقتان لا يمكن فصلهما وهما الشركة والحياة الأبدية، الحياة الأبدية لا يمكن لشيء في الوجود أن يسلبها من المؤمن، أما الشركة الروحية فقد تنقطع من أقل شيء. إن القوة المستمدة للتكريس لا بد أن تأتي من الشركة السرية مع الله، ومحاولة الظهور بمظهر التكريس دون أن يكون هناك شركة فهو أمر يدل على الرياء.
وحين يفشل النذير انتذاره لا يترك شعره بل يحلق رأسه بوم طهره وذلك بممارسة الطقس الذي ورد في سفر العدد ص 19 للتطهير إذ يرش الماء التطهير علبه في اليوم الثالث وفي اليوم السابع وهو تدريب فاحص يستحضر أمامه ما كان من الجسد في أيام انتذاره الأولى، ولكنه الآن يحكم عليه. وتتم عملية التطهير هذه في ضوء موت المسيح الأمر الذي يشير إليه موت اليمامتين وفرخي الحمام (ع 10) وحيث نراهما كذبيحة خطية فيها تكفير عن خطيته، أمام المحرقة فتشير إلى قبوله أمام الله في المسيح، وهكذا نرى المسيح قد قابل بموته فشل النذير ووضع أساساً جديداً لتقديس رأس انتذاره الذي حلقه في اليوم السابع وفيه الحكم على ذاته- إن انتذاره الماضي قد فشل، كما أن تقديم اليمامتين وفرخي الحمام في اليوم الثامن يبدو كما لو كان هذا الأمر مرتبطاً بانتذاره الأول والذي أصبح مجرد ذكرى يحتاج إلى التفكير ووضع أساس جديد للقبول أمام الله ويبدأ انتذاره الجديد بأساس جديد وهو عدم الثقة في ذاته ويستحضر أيضاً خروفاً حولياً ذبيحة إثم. وكبر حجم الذبيحة بالنسبة لفرخي الحمام يظهر إدراكه أن فشله كان عظيماً، حتى أنه لا يمكن أن يصلحه سوى موت المسيح، كما يصبح له التقدير العظيم للمسيح.
"فمتى نذر الرب أيام يأتي انتذاره بخروف حولي ذبيحة إثم وأما الأيام الأولى فتسقط لأنه نجس رأس انتذاره".
متى تنجس النذير كان عليه أن يبدأ من جديد لأن كل أيام انتذاره الماضية ذهبت بلا جدوى وهذا يرينا أننا إذا عرجنا عن طريق شركتنا وابتعدنا عن الرب فعلينا أن نرجع ثانية لذات النقطة التي ضللنا منها أولاً ونستأنف السير ثانية من جديد. ونرى في حادثة نزول إبراهيم لمصر تطبيقاً عملياً لذلك. حيث كان لا بد له أن يرجع إلى نفس المكان الذي ضل منه ثم يستأنف سيره من جديد. "وسار في رحلاته من الجنوب إلى بيت إيل إلى المكان الذي كانت خيمته فيه في البداءة" (تك 13: 3).
وحين تكمل أيام انتذار النذير أي انتذاره الجديد "يؤتى به إلى باب خيمة الاجتماع فيقرب قربانه للرب خروفاً واحداً حولياً صحيحاً محرقة ونعجة واحدة حولية صحيحة ذبيحة خطية وكبشاً واحداً صحيحاً ذبيحة سلامة وسل فطير من دقيق أقراصاً ملتوتة بزيت ورقائق فطير مدهونة بزيت مع تقدمتها وسكائبها". وهكذا نرى النذير يبدأ بخروف واحد حولي وينتهي بهذه الذبائح الكثيرة التي ترينا عظمة التقدير للمسيح، واستحضار النذير إلى خيمة الاجتماع نقطة الاقتراب إلى الله يرينا ما يحصل عليه المؤمن من اختبار يجب أن يكون سبباً في الإثراء الروحي لكل الجماعة، كما أن استحضار هذه الذبائح يتيح الفرصة لكل الجماعة لكي تفرح بما هو مقدم لله وتشارك في شركة ذبيحة السلامة بينما يحصل الكاهن على نصيبه في صدر الترديد وساق الرفيعة.
"وَيَحْلِقُ النَّذِيرُ لَدَى بَابِ خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ رَأْسَ انْتِذَارِهِ، وَيَأْخُذُ شَعْرَ رَأْسِ انْتِذَارِهِ وَيَجْعَلُهُ عَلَى النَّارِ الَّتِي تَحْتَ ذَبِيحَةِ السَّلاَمَةِ" (ع 18).
يقدم الكبش ذبيحة سلامة ويحرق شحم ذبيحة السلامة فوق المذبح رائحة سرور للرب ويجعل النذير شعر رأس انتذاره على النار التي تحت الذبيحة، وهكذا يصبح شعر النذير الشاهد على أمانته هو تقدمة فريدة مقدمة ليهوه متوافقة مع رائحة السرور المتصاعدة من شحم ذبيحة السلامة وهذا يرينا كم هو عظيم تكريس العملي للقديسين في نظر الله.
"وَبَعْدَ ذلِكَ يَشْرَبُ النَّذِيرُ خَمْرًا" (ع 20) وينبغي أن نعرف أن الخمر الذي يشربه النذير بعد انتذاره يختلف عن الخمر الذي كان ممتنعاً عنه، وكلمات ربنا يسوع المسيح التي تشير إلى انتذاره تؤكد ذلك "وأقول لكم إني من الآن لا أشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم حينما أشربه معكم جديداً في ملكوت أبي" (مت 26: 29) إن ملكوت الآب سوف يستحضر للمسيح فرحاً يختلف عن الفرح المستحضر بالخمر الذي كان ممتنعاً عنه، سوف يأخذ ذلك الفرح صفته الكاملة. ولكن بالنسبة لنا فإن الخمر الجديدة لذلك أصبحت متاحة لنا من الآن، إنها لا تتوقف على الأفراح الأرضية ولكن بالإشراق علينا بمحبة الله ونعمته في المسيح. وفي مزمور 4 "كثيرون يقولون من يرينا خيراً" ويجاوب الإيمان على هذا السؤال بالقول "ارفع علينا نور وجهك يا رب جعلت سروراً في قلبي أعظم من سرورهم إذ كثرت حنطتهم وخمرهم" ونلاحظ التعبير "حنطتهم وخمرهم" لهم خمرهم وأحياناً بكثرة ولكن يتطلع النذير إلى مصدر آخر لفرحه يختلف تماماً عن أفراحهم. إن فرح النذير ناتج من أن الرب يرفع نور وجهه عليه حيث تشرق نعمته ومحبته وعندئذ يتمتع بسرور أعظم من سرورهم وهذا ما نراه في نهاية الأصحاح حيث نرى بركة كهنوتية تتبع كمال انتذار النذير وهي تظهر ما في قلب الله تجاه شعبه وهذا يحدد الخط الذي تأتي عليه البركة، فإذا كانت هناك بقية منفصلة لله فإنها تعطيه الفرصة لاستحضار أفكاره المباركة لكل الجماعة، الأمر الذي نراه في التعبير "يباركك الرب ويحرسك" كل ما يجعل الناس سعداء نابع من قلبه ويتوافق مع أفكاره، هو الحارس وهو المبارك، وهو يريد أن يقنع قلوبنا أننا نحتاج إلى حراسته- حين تكلم الابن عن خاصته للآب تكلم عن الحفظ ثلاث مرات (يو 17) ونحن ضعفاء بالنسبة لمشهد الشر الذي نجتاز فيه، وأمانة الله هي مستندنا الوحيد لحفظنا في هذا العالم. "يضيء الرب بوجهه عليك ويرحمك".
في وجه الوسيط المكشوف يشرق الله بمجد نعمته، أفكاره الثابتة من نحونا أشعة مشرقة، لا تتغير أفكاره بتغيرنا نحن إنما تظل ثابتة طبقاً لطبيعته المحبة، وهو يحفظنا برحمته في كل ظروف حياتنا.
"يرفع الرب وجهه عليك ويمنحك سلاماً".
يسر الرب بأن يملأ قلوبنا سلاماً، وحين نشعر بالقلق بسبب ظروف محيطة بنا ونأتي بها أمامه فإن سلام الله الذي يفوق كل عقل يحفظ قلوبنا وأفكارنا في المسيح يسوع.
هذه هي الخمر الجديدة لملكوت الله المتاحة لنا الآن، فنحن مباركون بكل بركة روحية في السماويات، محروسون، تشرق علينا المحبة الإلهية والنعمة، كما تحيط بنا الرحمة في كل ظروف حياتنا ويملأ قلوبنا السلام ليس فقط مع الله بل من جهة ظروف الحياة المختلفة.
- عدد الزيارات: 2250