الأصحاح التاسع
"أَلَسْتُ أَنَا رَسُولاً؟ أَلَسْتُ أَنَا حُرّاً؟ أَمَا رَأَيْتُ يَسُوعَ الْمَسِيحَ رَبَّنَا؟ أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ عَمَلِي فِي الرَّبِّ؟!" (ع 1)
في الأصحاح السابق رأينا في الكلام عما ذبح للأوثان "أن لجميعنا علماً أنه ليس وثن في العالم" وهذه أشياء خيالية عملها الناس بواسطة خداع الشيطان والذي له هذا العالم له حرية وسلطان أن يأكل كل شيء لكن من أجل الأخ الضعيف يتنازل عن حريته وسلطانه لكي لا يضع معثرة للضعيف وهنا يستعمل الرسول نفس الكلمات: السلطان والحرية. ألست أن رسولاً؟ أي لي سلطان ألست أنا حراً؟ أي لي حرية لكن يتنازل الرسول عن سلطانه وحقوقه حتى لا يجعل عائقاً لإنجيل المسيح.
وتذكر كلمة "سلطان" في هذا الأصحاح ست مرات ونجد أن الرسول تنازل عن حريته في الزواج لأجل الخدمة ولأجل مجد الله وربح النفوس. لذلك كان للرسول الحق في أن يقول "تمثلوا بي كما أنا بالمسيح". كانت ذاته لا شيء عنده وحقوقه لا حساب لها لديه لكيلا يعثر الضعيف ولكي يربح النفوس الغالية كان يريد أن يربح على أي حال قوماً على حساب إنكار ذاته واحتماله المشقات من أجل الإنجيل وهذه هي المسيحية الحقيقية.
"أَلَسْتُ أَنَا رَسُولاً؟": سبقت الإشارة في الأصحاحات الأولى أن الكورنثيين كانوا يعملون مقارنة بينه وبين أبلوس وصفا. وبعضهم أنكر رسوليته بإيعاز من المعلمين الكذبة. فهنا يثبت بولس رسوليته ما هي علامات الرسول؟
1- أن يكون قد رأى الرب يسوع.
2- أن يكون قد قبل الإرسالية من فمه.
3- أن يصنع الآيات والعجائب التي كان يصنعها الرسل وهذا كله قد تم في الرسول بولس لقد رأى الرب لم يره في الجسد لكن رآه وهو في المجد وسمع صوته يرسله إذ نقرأ في (أع 26: 17) قول الرب له "الأمم الذين أنا أرسلك إليهم" وفي (غل 1: 11، 12) يقول الرسول أنه لم يقبل الإنجيل من إنسان ولم يتعلمه ولا أخذه من الرسل الذين في أورشليم ولا قبل إرساليته منهم لكن أخذ الإنجيل من الرب يسوع مباشرةً وقبل الإرسالية منه.
وفي بدء رسالة غلاطية يقول "بولس رسول لا من الناس ولا بإنسان بل بيسوع المسيح والله الآب الذي أقامه من الأموات" ويقول أيضاً في (2 كو 12: 12) "إِنَّ عَلاَمَاتِ الرَّسُولِ صُنِعَتْ بَيْنَكُمْ فِي كُلِّ صَبْرٍ، بِآيَاتٍ وَعَجَائِبَ وَقُوَّاتٍ".
"أَلَسْتُ أَنَا حُرّاً؟": لو كان الرسول قد قبل إرساليته من الناس لصار مستعبداً للناس فالذين يرسلهم الناس يكونون مسئولين أمام الإرساليات ويقدمون تقارير عن أعمالهم ويحاسبون أمام رئاسات بشرية لكن الرسول بولس مرسل من الله مباشرةً فهو حر من سلطان البشر.
"أَمَا رَأَيْتُ يَسُوعَ الْمَسِيحَ رَبَّنَا؟": لقد رأى يوحنا والرسل الآخرون الرب يسوع بالجسد لذلك يقول الرسول يوحنا "، الَّذِي رَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنَا، الَّذِي شَاهَدْنَاهُ، وَلَمَسَتْهُ أَيْدِينَا.. الَّذِي رَأَيْنَاهُ وَسَمِعْنَاهُ نُخْبِرُكُمْ بِهِ" (1 يو 1: 1- 3).
والرسول بولس أيضاً قد رأى الرب يسوع وسمع كلاماً منه مباشرةً وهو في المجد عندما أراد الرسل أن ينتخبوا واحداً بدلاً من يهوذا الاسخريوطي الذي تعدى رسالته، ماذا كانت الشروط التي وجب أن تتوافر فيمن ينتخبونه؟ قال بطرس: "ينبغي أن الرجال الذين اجتمعوا معنا كل الزمان الذي فيه دخل إلينا الرب يسوع وخرج.. إلى اليوم الذي ارتفع فيه عنا يصير شاهداً معنا بقيامته".
"أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ عَمَلِي فِي الرَّبِّ؟!": عندما كان الرسول بولس في كورنثوس ظهر له الرب وقال: "«لاَ تَخَفْ بَلْ تَكَلَّمْ وَلاَ تَسْكُتْ لأَنِّي أَنَا مَعَكَ وَلاَ يَقَعُ بِكَ أَحَدٌ لِيُؤْذِيَكَ لأَنَّ لِي شَعْباً كَثِيراً فِي هَذِهِ الْمَدِينَةِ»" (أع 18: 9، 10) ويقول الرسول في (ص 4: 15): "لأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ لَكُمْ رَبَوَاتٌ مِنَ الْمُرْشِدِينَ فِي الْمَسِيحِ لَكِنْ لَيْسَ آبَاءٌ كَثِيرُونَ. لأَنِّي أَنَا وَلَدْتُكُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ بِالإِنْجِيلِ" فالمؤمنون في كورنثوس هم ثمر عمل وخدمة الرسول بولس.
"إِنْ كُنْتُ لَسْتُ رَسُولاً إِلَى آخَرِينَ فَإِنَّمَا أَنَا إِلَيْكُمْ رَسُولٌ لأَنَّكُمْ أَنْتُمْ خَتْمُ رِسَالَتِي فِي الرَّبِّ. هَذَا هُوَ احْتِجَاجِي عِنْدَ الَّذِينَ يَفْحَصُونَنِي" (ع 2، 3).
كأنه يقول إن أنكر الآخرون رسوليتي فإني أنا إليكم رسول لأنكم أنتم ختم أي برهان رسوليتي ويقول في (1 كو 4: 3، 4): "وَأَمَّا أَنَا فَأَقَلُّ شَيْءٍ عِنْدِي أَنْ يُحْكَمَ فِيَّ مِنْكُمْ أَوْ مِنْ يَوْمِ بَشَرٍ... وَلَكِنَّ الَّذِي يَحْكُمُ فِيَّ هُوَ الرَّبُّ". ويقول لهم في (2 كو 3: 2، 3): " أَنْتُمْ رِسَالَتُنَا، مَكْتُوبَةً فِي قُلُوبِنَا... مَكْتُوبَةً لاَ بِحِبْرٍ بَلْ بِرُوحِ اللهِ الْحَيِّ". فالمؤمنون في كورنثوس هم أنفسهم برهان رسالته من الرب.
"أَلَعَلَّنَا لَيْسَ لَنَا سُلْطَانٌ أَنْ نَأْكُلَ وَنَشْرَبَ؟ أَلَعَلَّنَا لَيْسَ لَنَا سُلْطَانٌ أَنْ نَجُولَ بِأُخْتٍ زَوْجَةً كَبَاقِي الرُّسُلِ وَإِخْوَةِ الرَّبِّ وَصَفَا؟ أَمْ أَنَا وَبَرْنَابَا وَحْدَنَا لَيْسَ لَنَا سُلْطَانٌ أَنْ لاَ نَشْتَغِلَ؟" (4- 6).
يقول الرسول هنا: "أَلَعَلَّنَا لَيْسَ لَنَا سُلْطَانٌ أَنْ نَأْكُلَ وَنَشْرَبَ؟" أي على نفقة الإنجيل؟ وسنرى في هذا الأصحاح عدة براهين على سلطان الذين يخدمون الإنجيل أن يعيشوا من الإنجيل ثم يقول: "أَلَعَلَّنَا لَيْسَ لَنَا سُلْطَانٌ أَنْ نَجُولَ بِأُخْتٍ زَوْجَةً؟".
كان الرسل يتجولون ومعهم زوجاتهم ومن ضمنهم الرسول بطرس وأخوة الرب الذين هم أقرباء الرب حسب الجسد ومن ضمنهم يعقوب الذي كتب "رسالة يعقوب" وهو الذي كان شيخاً في كنيسة أورشليم ويهوذا أخوه كاتب "رسالة يهوذا".
فنحن نعلم أن الرسول بطرس كان متزوجاً لأن الرب دخل مرة بيته وكانت حماته محمومة فشفاها وقامت تخدمهم. وفي آخر رسالة بطرس الأولى يقول تسلم عليكم التي في بابل المختارة معكم- التي هي على الأرجح زوجته.
"أَمْ أَنَا وَبَرْنَابَا وَحْدَنَا لَيْسَ لَنَا سُلْطَانٌ أَنْ لاَ نَشْتَغِلَ؟": أي هل بولس وبرنابا وحدهما ليس لهما الحق في أن يتفرغا لخدمة الإنجيل ولا يشتغلان أشغالاً زمنية؟ كان الرسول بولس يخدم الإنجيل بالنهار ويشتغل في صناعة الخيام بالليل (أع 18: 3) ويقول في كلامه لقسوس كنيسة أفسس "أنتم تعلمون أن حاجاتي وحاجات الذين معي خدمتهما هاتان اليدان" (أع 20: 34) ويظهر أن برنابا كان أيضاً يشتغل.
وهذه الإشارة إلى برنابا إشارةً جميلة لأنه في هذا الوقت كان الرسول بولس قد اختلف مع برنابا وحدثت بينهما مشاجرة بسبب مرقس ابن أخت برنابا (أع 15: 39) وأخذ بولس سيلا وذهب في جولته إلى فيلبي وتسالونيكي ثم إلى أثينا وكورنثوس لكن هذا الخلاف لم يترك أثراً في نفسه ويتكلم عن برنابا كشريكه في الخدمة وفي إنه أيضاً أنكر ذاته ولم يستعمل سلطانه في أن لا يشتغل.
"مَنْ تَجَنَّدَ قَطُّ بِنَفَقَةِ نَفْسِهِ؟ وَمَنْ يَغْرِسُ كَرْماً وَمِنْ ثَمَرِهِ لاَ يَأْكُلُ؟ أَوْ مَنْ يَرْعَى رَعِيَّةً وَمِنْ لَبَنِ الرَّعِيَّةِ لاَ يَأْكُلُ؟ أَلَعَلِّي أَتَكَلَّمُ بِهَذَا كَإِنْسَانٍ؟ أَمْ لَيْسَ النَّامُوسُ أَيْضاً يَقُولُ هَذَا؟ فَإِنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي نَامُوسِ مُوسَى: «لاَ تَكُمَّ ثَوْراً دَارِساً». أَلَعَلَّ اللهَ تُهِمُّهُ الثِّيرَانُ؟" (ع 7- 9).
يورد الرسول في هذا الأصحاح خمسة أدلة على أن الذي يخدم الإنجيل يعيش على نفقة الإنجيل:
أولاً: مما هو متبع في الدول وهو أن المتجند لا ينفق على نفسه بل تنفق عليه الدولة.
ثانياً: من الطبيعة- "من يغرس كرماً يأكل من ثمره ومن يرعى رعية يأكل من لبنها" (ع 7).
ثالثاً: من الناموس- الناموس يقول "لا تكم ثوراً دارساً" وهذا ينطبق بالأولى على من يخدم الإنجيل (ع 9).
رابعاً: من المتبع في الهيكل- الذين يخدمون الهيكل والمذبح يأكلون من خبز الوجوه ومن الذبائح (ع 13).
خامساً: من كلام الرب نفسه- "الذين ينادون بالإنجيل من الإنجيل يعيشون" (ع 14).
ثم يقول الرسول من جهة المتجند: "لَيْسَ أَحَدٌ وَهُوَ يَتَجَنَّدُ يَرْتَبِكُ بِأَعْمَالِ الْحَيَاةِ (لكن يتفرغ من تلك الأعمال) لِكَيْ يُرْضِيَ مَنْ جَنَّدَهُ" (2 تي 2: 4). فخدام الرب مجندون في عمل الرب يقول الرب لتيموثاوس: "فَاشْتَرِكْ أَنْتَ فِي احْتِمَالِ الْمَشَقَّاتِ كَجُنْدِيٍّ صَالِحٍ لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ" (ع 3). إذاً من حقه أن تكون نفقته على الإنجيل.
"أَمْ يَقُولُ مُطْلَقاً مِنْ أَجْلِنَا؟ إِنَّهُ مِنْ أَجْلِنَا مَكْتُوبٌ. لأَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْحَرَّاثِ أَنْ يَحْرُثَ عَلَى رَجَاءٍ وَلِلدَّارِسِ عَلَى الرَّجَاءِ أَنْ يَكُونَ شَرِيكاً فِي رَجَائِهِ" (ع 10).
الله تهمه الثيران طبعاً كخليقته ولكن البشر هم الأهم "أم يقولوا مطلقاً من أجلنا": أي أن الكلام ينطبق علينا "لأنه ينبغي للحراث أن يحرث على رجاء": هذا مثل أيضاً من أمثلة الطبيعة على أن الذي يحرث يوجد أمامه رجاء فهو يتعب في حرث الأرض وهذه أول كخطوة على رجاء أنه سيزرع ويحصد محصولاً.
"إِنْ كُنَّا نَحْنُ قَدْ زَرَعْنَا لَكُمُ الرُّوحِيَّاتِ أَفَعَظِيمٌ إِنْ حَصَدْنَا مِنْكُمُ الْجَسَدِيَّاتِ؟" (ع 11).
أيهما أهم؟ الروحيات طبعاً فالرسل زرعوا للمؤمنين الزرع الأفضل فليس كثيراً أن يقدم المؤمنون للخدام حاجات الجسد. وهذا هو الكلام الذي يقوله الرسول في (غل 6: 6): "وَلَكِنْ لِيُشَارِكِ الَّذِي يَتَعَلَّمُ الْكَلِمَةَ الْمُعَلِّمَ فِي جَمِيعِ الْخَيْرَاتِ". وكما أن المعلم يشركه في كل الخيرات الروحية ولا يؤخر شيئاً من الفوائد إلا ويخبره به هكذا المعلم يشارك المتعلم في الخيرات الجسدية.
"إِنْ كَانَ آخَرُونَ شُرَكَاءَ فِي السُّلْطَانِ عَلَيْكُمْ أَفَلَسْنَا نَحْنُ بِالأَوْلَى؟ لَكِنَّنَا لَمْ نَسْتَعْمِلْ هَذَا السُّلْطَانَ بَلْ نَتَحَمَّلُ كُلَّ شَيْءٍ لِئَلاَّ نَجْعَلَ عَائِقاً لِإِنْجِيلِ الْمَسِيحِ" (ع 12).
كان للرسول سلطان عليهم ولكنه لم يستعمل هذا السلطان ولم يطالب الأخوة بهذه الإعالة بل كان يتعب ويشتغل بيديه ويتحمل كل شيء لئلا يجعل عائقاً لإنجيل المسيح كان الرسول يقظاً ومتنبهاً جداً حريصاً حتى لا يجعل شيئاً يعوق تقدم الإنجيل بل كان يريد أن كلمة الله تجري وتنمو وتنجح.
"أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ فِي الأَشْيَاءِ الْمُقَدَّسَةِ مِنَ الْهَيْكَلِ يَأْكُلُونَ؟ الَّذِينَ يُلاَزِمُونَ الْمَذْبَحَ يُشَارِكُونَ الْمَذْبَحَ" (ع 13).
كان للاويين والكهنة في العهد القديم شركة في خبز الوجوه وفي ذبائح السلامة وأجزاء من بعض الذبائح الأخرى فالمذبح له جزء إذ كان الكاهن يحرق الأجزاء السمينة على المذبح فتوقد رائحة سرور للرب.
يقول الرسول في (عب 13: 10): "لَنَا «مَذْبَحٌ» لاَ سُلْطَانَ لِلَّذِينَ يَخْدِمُونَ الْمَسْكَنَ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهُ". إذ كانوا يأكلون من مذبحهم الحرفي لكن نحن الآن لنا مذبح هو الرب يسوع المسيح نأكل منه طعاماً روحياً إذ نحن كهنوت مقدس لتقديم ذبائح روحية مقبولة عند الله بيسوع المسيح (1 بط 2: 5).
"هَكَذَا أَيْضاً أَمَرَ الرَّبُّ: أَنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَ بِالإِنْجِيلِ مِنَ الإِنْجِيلِ يَعِيشُونَ" (ع 14).
عندما أرسل الرب يسوع المسيح تلاميذه قال لهم: "لاَ تَقْتَنُوا ذَهَباً وَلاَ فِضَّةً وَلاَ نُحَاساً فِي مَنَاطِقِكُمْ وَلاَ مِزْوَداً لِلطَّرِيقِ وَلاَ ثَوْبَيْنِ وَلاَ أَحْذِيَةً وَلاَ عَصاً لأَنَّ الْفَاعِلَ مُسْتَحِقٌّ طَعَامَهُ" (مت 10: 9، 10) ونقرأ في (لو 10: 7): "أَقِيمُوا فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ آكِلِينَ وَشَارِبِينَ مِمَّا عِنْدَهُمْ لأَنَّ الْفَاعِلَ مُسْتَحِقٌّ أُجْرَتَهُ".
"أَمَّا أَنَا فَلَمْ أَسْتَعْمِلْ شَيْئاً مِنْ هَذَا وَلاَ كَتَبْتُ هَذَا لِكَيْ يَصِيرَ فِيَّ هَكَذَا. لأَنَّهُ خَيْرٌ لِي أَنْ أَمُوتَ مِنْ أَنْ يُعَطِّلَ أَحَدٌ فَخْرِي" (ع 15).
لا أكتب هذا لأجل نفسي إنه حق ثابت بكل هذه الأدلة أما أنا فقد تخليت عن هذا الحق وفضلت التضحية بكل شيء في سبيل مجد الله. رأينا في ص 7 أن الرسول تخلى عن الزواج وفي ص 8 أنه مستعد أن يتخلى عن حريته حتى في أكل اللحم. وفي ص 9- يتخلى عن سلطانه في أن يعال من الكنائس.
"أَمَّا أَنَا فَلَمْ أَسْتَعْمِلْ شَيْئاً مِنْ هَذَا": ما أجمل حساسية الخادم وإبائه وترفعه وعزة نفسه..! يقول الرسول في (في 4: 17): " لَيْسَ أَنِّي أَطْلُبُ الْعَطِيَّةَ، بَلْ أَطْلُبُ الثَّمَرَ الْمُتَكَاثِرَ لِحِسَابِكُمْ. وَلَكِنِّي قَدِ اسْتَوْفَيْتُ كُلَّ شَيْءٍ وَاسْتَفْضَلْتُ" ويقول في ع 11- 14: "أَقُولُ مِنْ جِهَةِ احْتِيَاجٍ، فَإِنِّي قَدْ تَعَلَّمْتُ أَنْ أَكُونَ مُكْتَفِياً بِمَا أَنَا فِيهِ. أَعْرِفُ أَنْ أَتَّضِعَ وَأَعْرِفُ أَيْضاً أَنْ أَسْتَفْضِلَ. فِي كُلِّ شَيْءٍ وَفِي جَمِيعِ الأَشْيَاءِ قَدْ تَدَرَّبْتُ أَنْ أَشْبَعَ وَأَنْ أَجُوعَ، وَأَنْ أَسْتَفْضِلَ وَأَنْ أَنْقُصَ. أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ الَّذِي يُقَوِّينِي".
ويقول أيضاً في (2 كو 12: 15): "وَأَمَّا أَنَا فَبِكُلِّ سُرُورٍ أُنْفِقُ وَأُنْفَقُ لأَجْلِ أَنْفُسِكُمْ". يا أحبائي نحن ندرس ليس فقط لكي نتعلم ونفهم المكتوب لكن لكي نطبق ما نتعلمه على أنفسنا وتمتلئ عملياً قلوبنا بالمحبة التي تحتضن الأخ الضعيف ولا تعثره. كما أننا في طريق خدمة الرب نتنازل عن كل الحقوق والحريات ويكون لنا احتمال المشقات وإنكار الذات، ليضع الرب محبة أكثر في قلوبنا لخدمته.
"لأَنَّهُ خَيْرٌ لِي أَنْ أَمُوتَ مِنْ أَنْ يُعَطِّلَ أَحَدٌ فَخْرِي": خير لي أن أموت ولا يتهمني أحد بأني أطلب شيئاً مادياً. أنا أفتخر بالرب وهو وحده الذي يسدّد حاجتي.
"لأَنَّهُ إِنْ كُنْتُ أُبَشِّرُ فَلَيْسَ لِي فَخْرٌ إِذِ الضَّرُورَةُ مَوْضُوعَةٌ عَلَيَّ فَوَيْلٌ لِي إِنْ كُنْتُ لاَ أُبَشِّرُ" (ع 16).
ما هو فخر الرسول؟ أنه لا يأخذ نفقة من الإنجيل لكن إن كان يبشر فالتبشير ليس فخراً ذاتياً له بل هو التزام. فالرب أعطاه موهبة المبشر ويجب أن يمارسها بأمانة.
"فَإِنَّهُ إِنْ كُنْتُ أَفْعَلُ هَذَا طَوْعاً فَلِي أَجْرٌ وَلَكِنْ إِنْ كَانَ كَرْهاً فَقَدِ اسْتُؤْمِنْتُ عَلَى وَكَالَةٍ. فَمَا هُوَ أَجْرِي؟ إِذْ وَأَنَا أُبَشِّرُ أَجْعَلُ إِنْجِيلَ الْمَسِيحِ بِلاَ نَفَقَةٍ حَتَّى لَمْ أَسْتَعْمِلْ سُلْطَانِي فِي الإِنْجِيلِ" (ع 17، 18).
إن كنت أفعل هذا باختياري أي بسرور فلي أجر أي آخذ أجراً من الرب ولكن إن كان كرهاً أي غصباً فقد استؤمنت على وكالة. ما دام الرب أعطاني موهبة فيلزم أن أكون أميناً فيها إن كنت أخدم بسرور آخذ أجراً أما إن كنت أخدم كرهاً أي كواجب مفروض عليّ فقد اؤتمنت على وكالة ويجب أن أكون أميناً في استخدام هذه الوكالة التي وكّلت إليّ كما يقول في ص 4: "ثم يسأل في الوكلاء لكي يوجد الإنسان أميناً" نسأل نحن وكلاء سرائر المسيح.
"فَمَا هُوَ أَجْرِي؟": إن كنت أبشر بلا نفقة فهذا هو فخري وهذا هو أجري أن أجعل إنجيل المسيح بلا نفقة ولا أثقل على أحد أنا ملزم أن أخدم لكن غير ملزم أن أجعل إنجيل المسيح بلا نفقة لأني لي سلطاناً أن أعيش على نفقة الإنجيل ولكن إذا لم أستعمل هذا السلطان فلي أجر.
"فَإِنِّي إِذْ كُنْتُ حُرّاً مِنَ الْجَمِيعِ اسْتَعْبَدْتُ نَفْسِي لِلْجَمِيعِ لأَرْبَحَ الأَكْثَرِينَ" (ع 19).
لماذا كان الرسول حراً من الجميع؟
أولاً: لأنه كان مرسلاً من قبل الله مباشرة وليس من قبل رئاسات بشرية.
وثانياً: لأنه كان يخدم بأمانة ولم يثقل على أحد فهو ليس مستعبداً لأحد لكن يقول أنه استعبد نفسه للجميع أي إنه خدمهم كعبد للجميع وما هو الغرض؟ لكي يربح أكبر عدد من النفوس ويقول الرسول في (2 كو 4: 5): "فَإِنَّنَا لَسْنَا نَكْرِزُ بِأَنْفُسِنَا، بَلْ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبّاً، وَلَكِنْ بِأَنْفُسِنَا عَبِيداً لَكُمْ مِنْ أَجْلِ يَسُوعَ".
وهنا يا أحبائي تتكرر كلمة أربح خمس مرات فكان ربح النفوس هو الهدف الموضوع أمامه وهو أعظم ربح. النفس أغلى شيء في الوجود لأن النفس خالدة. يقول الرب له كل المجد: "ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟" (مت 16: 26) فالنفس أغلى من العالم كله.
إن ربحت نفسك فقد ربحت أعظم ربح ليس كثيراً يا أخي العزيز إن كنت تنكر نفسك وأنا أنكر نفسي لكي نربح نفساً للمسيح ليس كثيراً أن أحرم نفسي من امتيازاتي وحقوقي وحيتي في هذا السبيل ماذا فعل الرب يسوع له المجد لكي يربحنا ويدخلنا إلى المجد كأبناء كثيرين؟ "كملّ بالآلام" إذ أخلى نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب (فيلبي 2).
فإذا نظرت إلى السيد الذي فعل هذا يسهل عليك أن تحتمل كل شيء لكي تربح على كل حال قوماً وكلما كثرت الآلام والأتعاب في هذا السبيل كلما عظم الفرح وعظم الإكليل.
"فَصِرْتُ لِلْيَهُودِ كَيَهُودِيٍّ لأَرْبَحَ الْيَهُودَ وَلِلَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ كَأَنِّي تَحْتَ النَّامُوسِ لأَرْبَحَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ" (ع 20).
هل يعني أنه كان يحاربهم؟ كلا غير ممكن أن يكون ربح النفوس بطريقة تخالف الحق الإلهي ينبغي أن يكون ربح النفوس في طريق الحق لكن ممكن أن يكون بطريق تضحية حريتنا يعني مثلاً أنا قوي روحياً أعتبر نفسي ضعيفاً. أنا عندي علم أتخلى عن هذا العالم لكي أربح نفساً فأضع نفسي في مستوى هذه النفس- أنزل إلى مستواها لكي أربحها- هذه هي الفكرة أما تضحية الحق الإلهي فمستحيلة مثلاً لا يأتي لليهودي ويقول له إن الناموس قد أصبح لاغياً وانتهى- عتق وشاخ وصار قريباً من الاضمحلال- بل يقول هذا للمؤمنين الذين استنيروا وعرفوا وقبلوا الإيمان لكي إن كان واحد لا يزال يهودياً وأريد أن أربحه ماذا أعمل؟
أبدأ معه بالكلام من الناموس نفسه وأقول له إن الناموس يقول: "افعل هذا فتحيا" هذا صحيح وهو كلام الله لكن هل قدر واحد أن يعمله؟ هل وجد إنسان استطاع أن يعمل كل ما هو مكتوب في الناموس بحسب المقياس الإلهي؟ أبداً. إذاً لا بد أن نلجأ إلى طريق نعمة الله لأن طريق الاستحقاق بالناموس لا يوصلنا. وأبدأ معه من الناموس مؤيداً للناموس لأنه ناموس الله إلى أن أصل به إلى النعمة لأنه مكتوب: "الناموس كان مؤدبنا للمسيح" (غلا 3: 24) وأيضاً "لأن غاية الناموس هي المسيح للبر لكل من يؤمن" (رو 10: 4) الناموس يقنعنا أنه لا بر فينا بواسطته ثم يوصلنا إلى المسيح.
لكي أربح الأممي أضع نفسي في مستوى الأممي وأبدأ من معلوماته كما فعل الرسول بولس عندما ذهب إلى أثينا وقال لهم: "أَرَاكُمْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَأَنَّكُمْ مُتَدَيِّنُونَ كَثِيراً وتريدون أن ترضوا الآلهة وتخافون لئلا تكونوا قد نسيتم واحداً فعملتم هيكلاً لإله مجهول لكن هذا الإله المجهول أنا أعرفه وأنا أبشركم به هذا هو الذي خلق السموات والأرض" ثم كلمهم من معلوماتهم فقال إن أحد شعرائكم قال نحن ذريته لا يمكن أن يكون الله شيئاً جامداً كالأصنام التي تعملونها..." (انظر أع 17: 22- 30).
"وَلِلَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ كَأَنِّي تَحْتَ النَّامُوسِ": في حاشية الكتاب المشوهد في أسفل يقول: "مع أني لست تحت الناموس" فهو لا يغير من الحق الإلهي ولا ينقص منه ذرة واحدة ولكنه ينزل إلى مستوى الذين لا يريد أن يربحهم ويرفعهم إلى المستوى الصحيح.
"وَلِلَّذِينَ بِلاَ نَامُوسٍ كَأَنِّي بِلاَ نَامُوسٍ - مَعَ أَنِّي لَسْتُ بِلاَ نَامُوسٍ لِلَّهِ بَلْ تَحْتَ نَامُوسٍ لِلْمَسِيحِ - لأَرْبَحَ الَّذِينَ بِلاَ نَامُوسٍ" (ع 21).
تتكرر كلمة "كأني" في ع 20، 21 وتفيد أن ما بعد كلمة "كأني" حالة ظاهرية فقط وليست الحقيقة.
"تَحْتَ نَامُوسٍ لِلْمَسِيحِ": أي خاضع للمسيح وتعاليمه في (غلا 2: 11- 15) نجد أن بولس قاوم بطرس مواجهة لأنه كان ملوماً، لأنه قبل أن يأتي قوم من عند يعقوب كان يأكل مع الأمم وهذا عمل سليم ولكن لما أتوا كان يؤخر ويفرز نفسه خائفاً من الذين هم من الختان وراءى معه بعض اليهود أيضاً حتى إن برنابا انقاد إلى ريائهم. لماذا فعل بطرس ذلك؟ ظناً منه أن في ذلك ربحاً لليهود الضعفاء لكن بولس دافع عن الحق وقاوم بطرس. فهنا لم يتنازل بولس عن الحق لكن تنازل عن الحرية الشخصية.
"صِرْتُ لِلضُّعَفَاءِ كَضَعِيفٍ لأَرْبَحَ الضُّعَفَاءَ. صِرْتُ لِلْكُلِّ كُلَّ شَيْءٍ لأُخَلِّصَ عَلَى كُلِّ حَالٍ قَوْماً، وَهَذَا أَنَا أَفْعَلُهُ لأَجْلِ الإِنْجِيلِ لأَكُونَ شَرِيكاً فِيهِ" (ع 22، 23).
واحد ضميره ضعيف لا يقدر أن يأكل لحماً مما ذبح للأوثان فالرسول يقول مثل هذا أشاركه ولا آكل لحماً طول حياتي إن كان هذا يعثر أخي. فهو يتنازل عن سلطانه لكن لا يتنازل عن شيء من حق الله. أنت ليس لك حق أن تتنازل عن حق الله ولكن من حقك أن تتنازل عن سلطانك وحريتك.
لكي يقيم أليشع الصبي الميت ابن المرأة الشونمية (2 مل 4) تمدد عليه مع أن أليشع كبير والصبي صغير لكن أليشع وضع وجهه على وجه الصبي ووضع عينيه على عينيه وأنفه على أنفه وفمه على فمه انكمش حتى أصبح قادراً أن يتمدد على الولد الصغير هكذا الذي يريد أن يربح شخصاً يجب أن ينزل إلى مستواه.
لكن يقول واحد أذهب إلى الملاهي لكي أجتذب أناساً من هناك وأعمل صداقات مع أهل العالم وأجاريهم وأندمج في وسطهم لكي أكسبهم! هل هذا معقول؟ كلا هذا خداع من العدو يقول يهوذا في رسالته (ع 23): "وَخَلِّصُوا الْبَعْضَ بِالْخَوْفِ مُخْتَطِفِينَ مِنَ النَّارِ، مُبْغِضِينَ حَتَّى الثَّوْبَ الْمُدَنَّسَ مِنَ الْجَسَدِ". هل الذي يختطف من النار يدخل النار لكي يختطف؟ كلا. من الخارج فقط.
"صِرْتُ لِلْكُلِّ كُلَّ شَيْءٍ": استطاع الرسول أن يصل إلى مستوى كل واحد لكي يخلصه تنازل عن كل شيء لكي يصل إلى الهدف الذي أمامه وهو أن يخلص على كل حال قوماً لماذا فعل الرسول كل ذلك؟ لأجل الإنجيل- لكي يكون شريكاً فيه أجمل شيء أن يكون الشخص مثمراً مشتركاً في أثمار الإنجيل.
"أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِينَ يَرْكُضُونَ فِي الْمَِيْدَانِ جَمِيعُهُمْ يَرْكُضُونَ وَلَكِنَّ وَاحِداً يَأْخُذُ الْجَعَالَةَ؟ هَكَذَا ارْكُضُوا لِكَيْ تَنَالُوا، وَكُلُّ مَنْ يُجَاهِدُ يَضْبِطُ نَفْسَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ. أَمَّا أُولَئِكَ فَلِكَيْ يَأْخُذُوا إِكْلِيلاً يَفْنَى وَأَمَّا نَحْنُ فَإِكْلِيلاً لاَ يَفْنَى" (ع 24، 25).
يبين الرسول هنا أن الحياة المسيحية جهاد، ليست حرباً لكن سباق يقول أيضاً في (عب 12: 1): "لِنَطْرَحْ كُلَّ ثِقْلٍ وَالْخَطِيَّةَ الْمُحِيطَةَ بِنَا بِسُهُولَةٍ، وَلْنُحَاضِرْ بِالصَّبْرِ فِي الْجِهَادِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَنَا". والذي يجاهد يضبط نفسه في كل شيء أي لا يأخذ حريته تماماً ولا حقوقه كاملة ولا يعطي الجسد راحته تماماً فمثلاً الذي يتسابق في الألعاب الرياضية يخفف من كل شيء ويطرح كل ما يثقله ويعوقه وعندما يريد أن يركض أو يلعب الكرة لا يأكل أكلة ثقيلة بل يأكل أكلة خفيفة وربما لا يأكل بالمرة حتى يكون أكثر لياقة للسباق هكذا الحياة المسيحية جهاد وسباق ويلزم أن نتعامل مع العالم معاملة خفيفة على قدر الحاجة ولا ننغمس في أمور هذا العالم ولا سيما إن هؤلاء الكورنثيين كانوا منغمسين في حالة تَرَف.
فالرسول يقول: إني أتنازل عن سلطاني وحقوقي وأكون للضعفاء كضعيف وأضبط نفسي ولا أعطيها حريتها وأسعى وأمامي في نهاية الطريق إكليل لا يفنى ونلاحظ اتصال الكلام وتسلل الفكر الإلهي.
في ص 7 نقرأ: "الْوَقْتُ مُنْذُ الآنَ مُقَصَّرٌ لِكَيْ يَكُونَ الَّذِينَ لَهُمْ نِسَاءٌ كَأَنْ لَيْسَ... وَالَّذِينَ يَسْتَعْمِلُونَ هَذَا الْعَالَمَ كَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَعْمِلُونَهُ". فنحن نتعامل مع العالم تعاملاً محدوداً ولا نأخذ حقنا بالكامل فلا نتلذذ بالأكل مثلاً وأمور هذه الحياة ولا نهتم بتمتعات الجسد بل نعيش فيه كغرباء ونزلاء سائحين وعابرين مسافرين فنأخذ وجبات خفيفة في الطريق.
وفي ص 8 نقرأ: "وَلَكِنَّ الطَّعَامَ لاَ يُقَدِّمُنَا إِلَى اللهِ لأَنَّنَا إِنْ أَكَلْنَا لاَ نَزِيدُ وَإِنْ لَمْ نَأْكُلْ لاَ نَنْقُصُ... وإِنْ كَانَ طَعَامٌ يُعْثِرُ أَخِي فَلَنْ آكُلَ لَحْماً إِلَى الأَبَدِ لِئَلاَّ أُعْثِرَ أَخِي".
وفي ص 9 يقول الرسول: "أَلَسْتُ أَنَا رَسُولاً؟ أَلَسْتُ أَنَا حُرّاً؟ أَلَعَلَّنَا لَيْسَ لَنَا سُلْطَانٌ أَنْ نَأْكُلَ وَنَشْرَبَ؟ (على نفقة الإنجيل) أَلَعَلَّنَا لَيْسَ لَنَا سُلْطَانٌ أَنْ نَجُولَ بِأُخْتٍ زَوْجَةً لَكِنَّنَا لَمْ نَسْتَعْمِلْ هَذَا السُّلْطَانَ بَلْ نَتَحَمَّلُ كُلَّ شَيْءٍ لِئَلاَّ نَجْعَلَ عَائِقاً لِإِنْجِيلِ الْمَسِيحِ".
ونجد أن الكلام عن الجهاد في الحياة المسيحية في فكر الرسول دائماً فيقول في (في 3): "لَيْسَ أَنِّي قَدْ نِلْتُ أَوْ صِرْتُ كَامِلاً، وَلَكِنِّي أَسْعَى... وَلَكِنِّي أَفْعَلُ شَيْئاً وَاحِداً: إِذْ أَنَا أَنْسَى مَا هُوَ وَرَاءُ وَأَمْتَدُّ إِلَى مَا هُوَ قُدَّامُ أَسْعَى نَحْوَ الْغَرَضِ لأَجْلِ جَعَالَةِ دَعْوَةِ اللهِ الْعُلْيَا فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ".
وفي (2 في 2): "فَاشْتَرِكْ أَنْتَ فِي احْتِمَالِ الْمَشَقَّاتِ كَجُنْدِيٍّ صَالِحٍ لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ لَيْسَ أَحَدٌ وَهُوَ يَتَجَنَّدُ يَرْتَبِكُ بِأَعْمَالِ الْحَيَاةِ... إِنْ كَانَ أَحَدٌ يُجَاهِدُ لاَ يُكَلَّلُ إِنْ لَمْ يُجَاهِدْ قَانُونِيّاً يَجِبُ أَنَّ الْحَرَّاثَ الَّذِي يَتْعَبُ يَشْتَرِكُ هُوَ أَوَّلاً فِي الأَثْمَارِ".
هل المجند ينام على سرير فاخر وفراش وثير أم يضحي براحته ويتحمل التعب لكي يرضي من جنده؟ وهل يحرث الحراث بدون تعب؟ "الَّذِينَ يَزْرَعُونَ بِالدُّمُوعِ يَحْصُدُونَ بِالاِبْتِهَاجِ. الذَّاهِبُ ذِهَاباً بِالْبُكَاءِ حَامِلاً مِبْذَرَ الزَّرْعِ مَجِيئاً يَجِيءُ بِالتَّرَنُّمِ حَامِلاً حُزَمَهُ" (مز 126: 5، 6). ويقول الرسول لتيموثاوس أيضاً: "جاهد جهاد الإيمان الحسن..." (1 تي 6: 12). ويقول عن نفسه: "قَدْ جَاهَدْتُ الْجِهَادَ الْحَسَنَ، أَكْمَلْتُ السَّعْيَ، حَفِظْتُ الإِيمَانَ، وَأَخِيراً قَدْ وُضِعَ لِي إِكْلِيلُ الْبِرِّ، الَّذِي يَهَبُهُ لِي فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الرَّبُّ الدَّيَّانُ الْعَادِلُ، وَلَيْسَ لِي فَقَطْ، بَلْ لِجَمِيعِ الَّذِينَ يُحِبُّونَ ظُهُورَهُ أَيْضاً" (2 تي 4: 7، 8).
لكن في السباق الأرضي مع إن كثيرين يركضون لكن واحداً يأخذ الجعالة، أما نحن فجميعنا نركض ويقول الرسول: "اركضوا لكي تنالوا" كل من يجاهد يأخذ إكليلاً بحسب تعبه أما أولئك فيأخذون إكليلاً يفنى- إكليلاً من الزهور أو كأساً فضية- على أي حال أشياء تفنى أما نحن فإكليلاً لا يفنى يقول الرسول بطرس: "وَمَتَى ظَهَرَ رَئِيسُ الرُّعَاةِ تَنَالُونَ إِكْلِيلَ الْمَجْدِ الَّذِي لاَ يَبْلَى" (1 بط 5: 4).
"إِذاً أَنَا أَرْكُضُ هَكَذَا كَأَنَّهُ لَيْسَ عَنْ غَيْرِ يَقِينٍ. هَكَذَا أُضَارِبُ كَأَنِّي لاَ أَضْرِبُ الْهَوَاءَ. بَلْ أَقْمَعُ جَسَدِي وَأَسْتَعْبِدُهُ حَتَّى بَعْدَ مَا كَرَزْتُ لِلآخَرِينَ لاَ أَصِيرُ أَنَا نَفْسِي مَرْفُوضاً" (ع 26، 27).
يقول الرسول أنه يركض عن يقين وليس بدون هدف لكنه يركض في ميدان جهاد وأمامه غرض هو الرب يسوع المسيح في المجد الذين يركضون في ميادين سباق ليسوا عن يقين بالفوز لكن المسيحي يركض وهو متيقن أن كل من يركض لا بد أن يكلل على قدر جهاده.
"هَكَذَا أُضَارِبُ كَأَنِّي لاَ أَضْرِبُ الْهَوَاءَ": أضارب يعني أضرب أو ألاكم أو أحارب. فهذه كلها تشبيهات مأخوذة من الرياضة. فهنا سباق ومصارعة "فَإِنَّ مُصَارَعَتَنَا لَيْسَتْ مَعَ دَمٍ وَلَحْمٍ، بَلْ مَعَ الرُّؤَسَاءِ، مَعَ السَّلاَطِينِ، مَعَ وُلاَةِ الْعَالَمِ، عَلَى ظُلْمَةِ هَذَا الدَّهْرِ، مَعَ أَجْنَادِ الشَّرِّ الرُّوحِيَّةِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ" (أف 6: 12). ويقول الرسول أنه لا يضرب في الهواء بل لنا أعداء حقيقيون غير منظورين نجاهد معهم.
"بَلْ أَقْمَعُ جَسَدِي وَأَسْتَعْبِدُهُ": أي لا أعطيه أمياله وشهواته بل أكون متسلطاً على الطبيعة العتيقة وأحفظها بقوة الروح القدس في حكم الموت. أما جسدي المادي فهذا يقول عنه الرسول: "لا يبغض أحداً جسده قط بل يقوته ويربيه" (أف 5). وهذا الجسد هو هيكل للروح القدس وبه أخدم الرب نقرأ في (رو 6: 13): "وَلاَ تُقَدِّمُوا أَعْضَاءَكُمْ آلاَتِ إِثْمٍ لِلْخَطِيَّةِ بَلْ قَدِّمُوا ذَوَاتِكُمْ لِلَّهِ كَأَحْيَاءٍ مِنَ الأَمْوَاتِ وَأَعْضَاءَكُمْ آلاَتِ بِرٍّ لِلَّهِ".
"حتى بعدما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضاً".
الرسول هنا يتكلم عن نفسه لأنه يقول في أماكن أخرى من كلمة الله أنه متأكداً من خلاصه وذهابه إلى المجد انظر (2 تي 1: 12): "لأَنَّنِي عَالِمٌ بِمَنْ آمَنْتُ، وَمُوقِنٌ أَنَّهُ قَادِرٌ أَنْ يَحْفَظَ وَدِيعَتِي إِلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ" وأيضاً "لِيَ اشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ وَأَكُونَ مَعَ الْمَسِيحِ. ذَاكَ أَفْضَلُ جِدّاً" (في 1: 23). ولذلك لا يمكن أن الرسول يناقض نفسه في التعليم إنما يضع نفسه كمثال لكي يقرر مبدأ أن الذي يسعى ويركض بدون أن يضبط نفسه في كل شيء ويقمع جسده ويستعبده يكون في النهاية مرفوضاً.
وكلمة "مرفوضاً" هنا لهما تفسيران:
بمناسبة الركض والجعالة يكون مرفوضاً من المكافأة من الجائزة لأنه لم يركض قانونياً ولم يضبط نفسه في كل شيء.
إذا كان هناك شخص من المؤمنين يكرز للآخرين وفي النهاية يكون مرفوضاً فهذا دليل على أنه لم يكن مؤمناً أصلاً بل دخل خلسة بين المؤمنين. هذا ليس غريباً. ألم يكن يهوذا الاسخريوطي من تلاميذ المسيح؟ ألم يقل الرب له المجد "لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَا رَبُّ يَا رَبُّ يَدْخُلُ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. بَلِ الَّذِي يَفْعَلُ إِرَادَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. كَثِيرُونَ سَيَقُولُونَ لِي فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ: يَا رَبُّ يَا رَبُّ أَلَيْسَ بِاسْمِكَ تَنَبَّأْنَا وَبِاسْمِكَ أَخْرَجْنَا شَيَاطِينَ وَبِاسْمِكَ صَنَعْنَا قُوَّاتٍ كَثِيرَةً؟ فَحِينَئِذٍ أُصَرِّحُ لَهُمْ: إِنِّي لَمْ أَعْرِفْكُمْ قَطُّ! اذْهَبُوا عَنِّي يَا فَاعِلِي الإِثْمِ!" (مت 7: 21- 23).
والآن أيها الأحباء يوجد في العالم كثيرون لهم صفة خدام وهم غير مولودين من الله إنهم من العصريين وشهود يهوا وغيرهم- كثيرون منهم لا يؤمنون بالكتاب ولا بالمسيح ابن الله ولا بالصليب ولهم منابر وكنائس وفي الآخر سيكونون بلا شك مرفوضين من الله رفضاً تاماً.
- عدد الزيارات: 5026