Skip to main content

الرسالة الثانية: الخطاب التاسع عشر

2 يو 1 – 13

"الشيخ إلى كيرية* المختارة وإلى أولادها الذين أنا أحبهم بالحق لست أنا فقط بل أيضاً جميع الذين عرفوا الحق من أجل الحق الذي يثبت فينا وسيكون معنا إلى الأبد. تكون معكم نعمة ورحمة وسلام من الله الآب ومن الرب يسوع المسيح ابن الآب بالحق والمحبة."

"فرحت جداً لأني وجدت من أولادك بعضاً سالكين في الحق كما أخذنا وصية من الآب. والآن أطلب منك يا كيرية لا كأني أكتب إليك وصية جديدة بل التي كانت عندنا من البدء أن يحب بعضنا بعضاً. وهذه المحبة أن نسلك بحسب وصاياه. هذه هي الوصية كما سمعتم من البدء أن تسلكوا فيه. لأنه قد دخل إلى العالم مضلون كثيرون لا يعترفون بيسوع المسيح آتياً في الجسد. هذا هو المضل والضد للمسيح. انظروا إلى أنفسكم لئلا نضيع ما عملناه بل ننال أجراً تاماً. كل من تعدى ولم يثبت في تعليم المسيح فليس له الله. ومن يثبت في تعليم المسيح فهذا له الآب والابن جميعاً إن كان أحد يأتيكم ولا يجيء بهذا التعليم فلا تقبلوه في البيت ولا تقولوا له سلام لأن من يسلم عليه يشترك في أعماله الشريرة."

"إذا كان لي كثير لأكتب لم أرد أن يكون بورق وحبر لأني أرجو أن آتي إليكم وأتكلم فماً لفم لكي يكون فرحنا كاملاً. يسلم عليك أولاد أختك المختارة".

إنه لأمر عجيب ولا شك أن نجد في الكتاب المقدس رسالة موجهة من رسول إلى سيدة وأولادها. فإذا وضعنا في بالنا ما امتاز به الرسل من تحفظ، ورأينا اختلاف هذا الخطاب عن المألوف في كل الرسائل فإننا لا نملك إلا أن نتساءل لماذا قصد الروح القدس هنا أن يخرج عن مألوف عادته سيما وأن رسالة يوحنا الأولى قد جاءت عامة وشاملة وموجهة لكل عائلة الله. إن الرسالة الأولى لا تتناول جماعة ملية ولا تتعرض لمسائل شخصية تتعلق بأفراد معينين بل تتناول كل عضو من أعضاء عائلة الله أينما كانوا أكثر مما تفعل أية رسالة أخرى إذا استثنينا رسالة يهوذا. ومع ذلك فإن هذا الرسول نفسه وبعد كتابة رسالته الأولى، قد قاضه الروح القدس لأنه يخاطب فرداً واحداً، وهذا الفرد ليس رجلاً بل امرأة مع أولادها. لقد كتب بعد ذلك رسالته الثالثة لرجل، ومن اليسير علينا أن ندرك ما في هذا من لياقة سواء من جهة الشكل أو الموضوع، أي من جهة كون المخاطب رجلاً أو من جهة القضية التي تناولها في خطابه إليه لخيره ولخيرنا. ولذلك فقد ذكر اسمه. أما في الرسالة الثانية التي أمامنا فالخطاب موجه إلى السيدة بصفتها هذه دون ذكر اسمها، الأمر الذي نلمس فيه كياسة الرسول ولياقته. ومع أن الرسول قد سدد ولا شك حاجة السيدة، إلا أنه بهذا التصرف الحكيم قد أعفاها من بعض الألم ومن إعلان اسمهما بغير موجب، في حين أن الرسالة الموجهة إ‘ليها بالروح القدس رسالة خطيرة وعظيمة القيمة ويقصد بها جميع القديسين يومئذ وفي كل زمان.

على كل حال هذه هي الحقائق، ومن حقنا أن نخلص بالرأي الذي ليس من لضروري أن يقبله أحد ممن لا يقتنعون به. وإنما المهم هو أنه أمامنا رسالة موجزة، ولكنها من أخطر رسائل العهد الجديد وتضمن من الحقائق الجوهرية الأساسية ما يفوق الرسالة التعليمية الشائقة التي كتبت إلى غايس فيما بعد. ومع ذلك فهي مكتوبة لسيدة وأولادها. ولاشك أن أسباباً خطيرة تسمو على الاعتبارات العادية هي التي من أجلها رأى الروح القدس أن يخرج عن مألوف عادته ويبعث برسالة خطيرة كهذه إلى السيدة المختارة وأولادها. جاعلاً إياهم مسئولين مسئولية مباشرة وإلى أقصى حد للتصرف وفقاً للحق المعلن لهم فيها.

مسيح حق أو مسيح زائف هو محور ارتكاز هذه الرسالة. وهل في كل الكتاب المقدس موضوع أخطر من هذا وأهم منه وبخاصة بعد ظهور المسيح؟ قبل ظهوره كانت غاية الشيطان أن يشغل أذهان المؤمنين بأغراض حاضرة وثانوية. أما الآن فقد جاء المسيح الحقيقي طبقاً للوعد، الآن قد شهد لابن الله بشهادة لا تنقد، الآن قد جاء بيننا مملوءاً بالنعمة والحق أعطانا بصيرة لنعرف الحق الذي هو شخصه العزيز المبارك معلناً بأنه "الإله الحق والحياة الأبدية". فمن الجرأة بل من الوقاحة أن يجيء الشيطان بعد ذلك وهو يعرف هذه الأمور جيداً فيشغل المعترفين بالمسيحية بتزييف الحق المتعلق بالمسيح ليقيم صنماً ضد المسيح كما أقام قديماً صنماً ضد الرب-الكائن يوم كان له المجد يتعامل مع إسرائيل بحسب الجسد تحت الناموس. نعم، لقد كانت حيلة من أمكر حيل العدو، وقد جاء ابن اله بالنعمة والحق. أن يقوم بمحاولة خطيرة قوامها المناداة بأن الحق الذي وصلنا إنما هو حق أولى، يعوزه شيء من النمو والتطور، وهكذا يقدم مسيحياً زائفاً قاصداُ بذلك أن ينجس منبع كل بركة ويهلك نفوس الذين ينقادون إلى المسيح الزائف بدلاً من انقيادهم إلى ابن الله الذي ليس هو فقط المسيح الحقيقي بل الحق.

هذا بالضبط ما كان الشيطان ولا زال يحاول أن يفعله بواسطة أضداد المسح الكثيرين، ومن هنا ندرك علة كتابة هذه الرسالة وما انطوت عليه من نداء غير عادي.

يستهلها الرسول بالقول "الشيخ" وبهذا يتنازل عن أسمى مركز في كنيسة الله، ذلك المركز الذي كان من حقه أن يملأه، ولكن المحبة تسلك بالغريزة الطريق الأفضل، وهنا نرى الروح القدس يوحي بهذا المسلك نظراً للظرف الخاص. هكذا كان يفعل الرسول بولس أحياناً، وهكذا فعل رسولنا في كل رسائله. وهكذا يعلمنا الله، حتى بواسطة أصغر تغيير في أسلوب التحية الكتابية، بل بواسطة كل شيء لم يقل، دروساً نافعة قيمة بطريقة أكمل من أية طريقة أخرى. ولذلك فإنه لا يخامرنا أدنى شك في أنه كانت هناك حكمة خاصة وسبب وجيه للغاية حدا بالرسول يوحنا لأن يقدم نفسه تحت لقب "شيخ" بدلاً من رسول للسيدة المختارة كما للحبيب غايس.

نقطة أخرى يجدر بنا أن نلاحظها، وهي أنه لا يخاطب السيدة بالقول ".... إلى السيدة المحبوبة". إن بعض المسيحيين ملعونون باستعمال التعبيرات العاطفية الحارة مع الأفراد بغير حساب. وهذه عادة ليست حسنة وبخاصة حينما يكون الأمر متعلقاً بسيدة. أما إذا كان المخاطب رجلاً فلا حرج من الكتابة إليه بهذا الأسلوب. إننا إذا علمنا طبائع البشر من رجال ونساء وما يجري بينهم من قيل وقال لأدركنا حكمة الله في أن هذا "الشيخ" – وهو فعلاً شيخ متقدم في الأيام – يتجنب هذه التعبيرات في مخاطبته للسيدة مقدماً مثالاً طيباً للآخرين في هذا السبيل. فلو أنه استخدم تحية أخرى وبأسلوب مقدس طبعاً لكان كثيرون يقلدونه. أما الآن فكل شيء مرتب بحكمة، جدير بنا أن نتعلم مما نقرأ هنا.

"الشيخ إلى السيدة المختارة". يحرص الرسول أن يكتب باحترام ولكن في غير مداهنة. فلا هو يمتدح نفسه ولا يطلب ما لنفسه. وهو يفضل أن يتهم ببرود العواطف من أن يتهم بالمجاملة في التعبير، فيكتف بالقول "الشيخ إلى السيدة المختارة". إنه لم يستخف بمركزها أو يحط من مكانتها، ولكن الشيء الذي كان موضع تقديره هو اللقب الذي خلعته عليها النعمة الإلهية لا المركز الاجتماعي الذي تدين به للعناية. لقد كانت مختارة من الله، مختارة في المسيح بالله ولله. وهل من اعتبار أكرم وأعز من هذا لدى القلب المطهر بالإيمان؟ هنا نرى الرسول منقاداً لأن يستخدم التعبير الذي يعترف بعمل الله المطلق. لقد اختارها الله من وسط جميع روابطها الطبيعية، وقد وجد الرسول لذة وبهجة في الاعتراف بمركزها الجديد وإنها وحتى وهي على الأرض قد دخلت في دائرة جديدة من الروابط الإلهية. وما أبرك أن نعلم أن هذا هو للآن نصيب كل مسيحي حقيقي! على أننا حتى من خلال هذه الكلمات الافتتاحية نرى كيف أن أسلوب كل رسالة يتفق مع غرض الله منها. فالهدف هنا هو صيانة السيدة المختارة وأولادها من شراك ضد المسيح المغررة، في يحن أن هدف الرسالة إلى غايس تشجيعه في وجه الصعاب والعراقيل على مواصلة السير في طريق النعمة كما بدأ. ولذلك فإن لقب "المختارة" يستحضر الله أمام نفس السيدة، كما أن لقب "الحبيب" يشجع غايس حتى لا يكترث بتهديدات ديوتريفس، فإن الإنسان عرضة لأن يكل في صنع الخير حينما يرى نفسه وقد خدعه أولئك الذين طالما خدمهم بالمحبة، وإنه موضع مضايقة وإزعاج أولئك الذين من عادتهم الانتقاد والمقاومة دون أن يمدوا أيديهم للمساعدة في أوقات الشدة. مثل هذه الألغاز محيرة ولا شك ولكن المسيح يعيننا على حلها.

"الشيخ إلى السيدة المختارة وإلى أولادها". من ذا الذي يشك في أن الرسول يوحنا حينما كانت تقع عيناه في الظروف العادية على هؤلاء الأولاد كان يحتفي بهم ويحييهم بتحية المحبة الحارة، وإنهم كانوا يعرفون رقيق شعوره من نحوهم. غير أنه كان يكتب عن موضوع خطير للغاية تتضاءل أمامه سيدة وأولادها مهما كانوا في حد ذواتهم ولا يبقى لهم أي اعتبار لولا لم يكن من اجل اسم الرب ومن أجل اللقب أو الحق المعطى لهم بالنعمة.وهنا يضع الرسول أمامهم بأقوى أسلوب مسئوليتهم الخطيرة للحرص والغيرة على مجد المسيح، لأن الأمر لم يكن يحتمل المساومة أو التوفيق، إن محاولة الشيطان هدم حقيقة المسيح كانت تسير على قدم وساق في ذلك الحين. وقد كانوا في خطر. وقد عرف الرسول هذا الخطر المحدق بهم فكتب يحذرهم، وهنا يتضاءل كل شيء أمام مجد الله. لقد كانت القصة متعلقة بمسيح حقيقي أو مسيح كاذب، وكان يوحنا يخشى عليهم خطر الوقوع فيما يهين مجد المسيح، ولذلك فقد كانت كلماته قليلة ونشيطة ومحددة، وهكذا وصل بهم بسرعة إلى النقطة التي أردأها متكلماً بأسلوب لا يمكن أن يسيء فهمه أي مسيحي. ومع ذلك فهو يؤكد له محبته بالحق، لأن هذه المحبة الحقيقية لا تكون حيث لا يكون المسيح، لذلك هو يحيهم قائلاً "الذين أحبهم بالحق" (أو في الحق). ويا لها من عبارة خطيرة فاحصة! فهو لم يكن يحبهم بسبب صفات أو مميزات شخصية فيهم. قد يكون لمس فيهم حلاوة الخلاق وأفضل الصفات ولكنه لا يقول شيئاً عن هذا وإنما هو يذكر فقط المحبة والحق، أي المحبة الصادقة التي بحسب الحق.

وقد أحس الرسول وسط النفاق الذي راح ينشر ذيوله في كل مكان بسبب التهاون في الحق أنه من المهم أن يؤكد لهم صدق محبته بحسب الحق الإلهي. وحيث أنهم كانوا أشخاصاً قد أتى بهم الله إلى نفسه بواسطة الحق. فإنه يقول لهم "ولست أنا فقط بل أيضاً جميع الذين قد عرفوا الحق". ويا له من شيء عجيب أن نستطيع الاعتماد على المحبة التي من الله في عالم كهذا كله مظاهر ونفاق! أي نعم، إن يوحنا يستطيع أن يكفل محبة كل مسيحي بلا أدنى تحفظ. فحيث أن المسيح هو حياتهم فإنه يستطيع بكل يقين أن يستوثق، إن كل مسيحي يحب هذه السيدة المختارة وأولادها كما كان هو يحبهم. إن سلطانه الرسولي لم يقف حائلاً بينه وبين محبته لهؤلاء الأولاد مع أمهم، لأنهم أود الله ليسوا فقط أولادها. وقد استطاع أن يقول أنه ليس فقط الذي كان يحبهم بل أيضاً جميع الذين قد عرفوا الحق. أليست هذه ربطاً وعلاقة جديرة بحرصنا وتقديرنا أيها الإخوة الأحباء؟ إن الرسول كان يثق حينئذ أن جميع الذين يعرفون الحق يحبون هذه السيدة وأولادها بالحق. وهذا لم يكن ممكناً بدون الحياة في المسيح والروح القدس المعطى لنا بعد الفداء لممارسة هذه المحبة رغم كل الموانع والعراقيل. لقد ظهرت المحبة في كمالها في المسيح وهي الآن تتمثل في كل مسيحي.

"ومن أجل الحق الذي يثبت فينا وسيكون معنا إلى الأبد". هذا الأسلوب في الكلام عن الحق يلفت النظر ويدعو إلى التأمل والتفكير. فالرسول هنا يشخص الحق كما شخص بولس الإنجيل في (فيلبي 1) فقد كان بولس خادم الإنجيل أيضاً، ومع انه كتب عن لكنيسة بشكل تفرد به عن سواه، فإنه كرز بالإنجيل أيضاً بصورة ميزته عمن عداه. كان يسر بالعكس خدم الاثنين في عمق النعمة وسمو المجد. وكان إحساسه نفس إحساس يوحنا حين يقول هنا "من اجل الحق يثبت فينا وسيكون معنا إلى الأبد". فلا الرسول بولس ولا الرسول يوحنا كان يمكنه أن يقول مثل هذا القول عن أية فريضة مسيحية مهما يكن قدرها، إن للفريضة مكانها الذي لا يستطيع أحد أن يزدريه أو يتجاهله بغير خسارة لنفسه، ولكن ما الفريضة بالمقارنة مع "الحق"؟ إن الفريضة هي فقط لوقت قصير، وفي لحظة قد ينتهي أمرها إلى الأبد. أما الحق فإنه يثبت فينا وسيكون معنا إلى الأبد. والمفروض أن يكون له سلطان متزايد على القلب طالما نحن على الأرض، وسيكون لنا أن نتمتع به كاملاً في السماء وفي كل الأبدية.

تأتي بعد ذلك تحيته المناسبة للمقام. "تكون معكم نعمة ورحمة وسلام". "النعمة" ينبوع المحبة الإلهية من نحو الخطاة، و "السلام" ثمرة عمل المسيح للمؤمنين – وكلاهما (النعمة والسلام) يطلبان عادة للقديسين بصفة عامة. أما "الرحمة" فلازمة لمواجهة الحاجة الفردية في الضعف والتجربة – وهي هنا لازمة للسيدة المختارة وأولادها.

ونحن نستطيع أن نرى تمام مناسبتها هنا، لأن نفس الكتابة إليها وإلى أولادها هو في ذاته رحمة. فنحن عندما نفكر في أنفسنا كأفراد نشعر بالحاجة إلى رحمة الله ولكن حينما نتكلم عن الكنيسة وامتيازاتها وسمو المجد الذي ستكون فيه مع المسيح، وفي المسيح فإنه الحاجة تبتلع في مجد نعمة الله، فالنعمة والسلام هما للكنيسة كمجموع حال وجودها هنا على الأرض. أما الفرد فله أعوازنا وحاجات لا زالت تستدعي "الرحمة" بصور بارزة طوال الطريق.

"تكون معكم نعمة ورحمة وسلام من الله الآب ومن الرب يسوع المسيح ابن الآب" لاشك أن السيدة وأولادها وجدوا عزاء خاصاً وتشجيعاً كبيراً في هذه العبارة لأنها ليست مجرد رغبة أو أمنية بل هي حقيقة مصاغة في قالب يقين محقق. وهنا نقرأ عن "ابن الآب"، ولماذا؟ لقد وقف الرسول موقف الدفاع ضد نكران مجد الابن. وهنا نرى روح الله يلوح في وجه الشيطان بالراية المجيدة ليشجع هذه الأسرة المسيحية المدعوة لأن تثبت بإخلاص. "ابن الآب"! يا له من لقب مجيد! إن المسيحيين يدعون أبناء أو أولاداً، ولكن سيدنا وحده هو الذي يسمى "ابن الآب". وكل شيء مضمون لتلك العائلة في الحق والمحبة، والمسيح وحده هو الضامن، وبدونه ما كان ممكناً لنا أن ننتقل من الظلمة إلى نور الله العجيب. كما أننا مدينون له بمعرفة الآب ومعرفة شخصه. فهو كامل الحق والمحبة، وبنعمته وعمله قد أعطانا أن نعرف هذا كله ونمتلكه ونتمتع به في نفوسنا.

"فرحت جداً لأني وجدت من أولادك بعضاً" هو لا يقول "وجدت أولادك" ولماذا؟ لأنه ربما كان واحداً أو أكثر من أولادها لم يتعرف بعد بالمخلص والرب. وربما انزلق واحد أو أكثر تحت تأثير المضلين السيئ. فلسبب قوي يكتفي بالقول "بعضاً سالكين في الحق". وهذه هي النقطة الهامة والتحذير الخطير لأن هذا البعض ليس فقط يعرف الحق بل يسلك في الحق أو كما يقول يوحنا نفسه في الإنجيل "يفعل الحق" (يو 3: 21). لكنه يواصل كلامه فيقول "كما أخذنا وصية من الآب". إن بعض المسيحيين معرضون لأن يفسروا الوصايا بأنها لابد وأن تكون ناموسية ولذلك فإنه يجدر بهم أمام هذه الأقوال أن يقلعوا عن خطأهم هذا. فما من أحد تكلم عن الوصايا أكثر من الرب وذلك في إنجيل يوحنا ويردد الرسول نفس الكلمة مراراً في رسائله الثلاث التي تتجاوز الناموس إطلاقاً ولا تشير إليه ولو إشارة واحدة. ففي كتابات يوحنا كلها نرى ابن الله الكريم لامعاً بصورة لا تراها في أي موضوع آخر، ومع ذلك فإن ابن الله نفسه هو الذي كان يحب أن يتكلم عن الوصايا سواء فيما يتعلق بشخصه الكريم أو بنا ولكن على أسس ومبادئه كما في (يو 10: 18، 12: 49، 13: 34، 4: 15و 21 – 31، 15: 10).

ولماذا؟ ذلك لأنه يومئذ يشغل مكان الإنسان، أي مكان الاتكال المطلق والطاعة الكاملة فمع أنه ابن الآب لكنه أخلى نفسه آخذاً صورة عبد صائراً في شبه الناس. وإذ وجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه "وأطاع حتى الموت موت الصليب". وليس معنى ذلك أنه تخلى أو كان في مقدوره أن يتخلى عن اللاهوت، حاشا وكلا. وإنما هو تنازل عن المجد الخاص بكرامته الشخصية لكي يستطيع أن يبرر الله ويبارك الإنسان. ولكي يتمم هذا العمل تقبل كل شيء من الله أبيه كالعبد الكامل والإنسان المتوكل. ومن هنا جاء قوله بالنبوة "أذني فتحت" (مز 40) وذلك بتجسده. بل هناك ما هو أكثر من ذلك، فقد كانت أذنه مفتوحة كل يوم، كل صباح، كما جاء في (إش 50)، لكي يصغي إلى كل ما كان يقوله الآب له. وأخيراً، كالعبد العبراني الحقيقي (خر 21) لم يرد أن ينطلق حراً بل بالأحرى بقي عبداً إلى الأبد، الأمر الذي كانت تدل عليه علامة ثقب الأذن على مشهد من القضاة في حالة العبد الإسرائيلي، والعلامة الأعمق – الموت – في حالة سيدنا. من هذه الوجوه، وبصفاته هذه، كان سيدنا وحيداً لا مثيل له ولكننا نحن، الذين كنا يوماً خطاة هالكين، قد نلنا بالإيمان حياة المسيح وكذلك مسحة الروح القدس، فصرنا نحب وصاياه كما أحب هو وصايا أبيه وهكذا نحن مدعوون لأن نخبر بفضائله. وإلا فلأي شيء نحن متروكون هنا؟ لقد كان الرب يسوع مرتبطاً دائماً بوصية أبيه. فيه كانت المحبة والطاعة كاملتين كمالاً مطلقاً وسبيلنا أن نتبعه، ولكن ما أقصر خطواتنا!!

إن ربنا يسوع تعلم الطاعة مما تألم به. أما نحن فنتعلمها إذ نحكم على قصور خطواتنا وإحجامنا على متابعة سيدنا. هو تعلم الطاعة لأنها كانت جديدة عليه كالله أما نحن فنتعلمها لأن العصيان طبيعتنا، وما أبعد الفرق بين الأمرين. وبالنعمة أصبحنا نحب الكلمة من أعماق قلوبنا نكرم الله الذي أحبنا ونتقبل وصايا الآب بخالص الشكر.وهل من شيء صالح غير مؤسس على سلطان إلهي؟ إن إغفال السلطان الإلهي خسارة لا تعوض. لا شك أن هناك ما هو أكثر من السلطان، هناك المحبة الإلهية، ولكن بينما كانت المحبة دائماً أبداً في الله وأظهرت لنا ونحن فجار وأشرار، فإننا عندما نتجدد نبدأ دائماً بالسلطان الإلهي وخضوع القلب مقشعرين من روح العصيان والتمرد التي كنا مستعبدين لها فبلاً. ففي التجدد يخضع الإنسان خضوعاً حقيقياً لله لأول مرة في حياته وذلك بالخضوع للرب يسوع.

"والآن أطلب منك ياكيرية (أو أيتها السيدة) لا كأني أكتب إليك وصية جديدة بل التي كانت عندنا من البدء، أن يحب بعضنا بعضاً" (ع 5). لعل الأمر لا يدعو إلى كلام كثير عن هذا العدد لأننا كثيراً ما تحدثنا فيما سبق عن المحبة، غير أننا نفعل حسناً إذ نذكر أنفسنا دائماً بأن المحبة ليست فقط المميز الأكبر للطبيعة الجديدة والتعليم الإلهي بل بكونها غير منفصلة عن الطاعة التي هي مميز عظيم آخر للولادة من الله كما نرى في العدد السادس "وهذه هي المحبة أن نسلك بحسب وصاياه" فهما متحدثان معاً ولا يفصلهما عن بعضهما سوى الإرادة الذاتية الشريرة عن الإنسان الساقط، فإننا نلاحظ فضلاً عن كونهما وصيتي الله، ووصيتي المسيح كما هو حق أيضاً، فهما غي منفصلتين عن الحياة التي لنا في المسيح كما تبين من اقترانهما معاً في العدد الذي أمامنا. بل إنك لتراهما مرتبطتين معا في النصف الآخر من العدد فيما سبق أن أوصى به الرب تلاميذه "هذه هي الوصية كما سمعتم من البدء أن تسلكوا فيها". وقد حرص الروح القدس أن يورد عبارة "سمعتم من البدء" لكي يذكر الجميع بأن الوصية ليست جديدة بل يرجع عهدها إلى وقت ظهور المسيح على الأرض.

لقد كان آدم بداية الجنس البشري على الأرض. أما المسيح فهو البداية بالنسبة للمسيحي، فمع المسيح جاءت النعمة والحق، كما جاء نبع الطاعة المسيحية والمحبة المتبادلة. ولكن قبل مجيء المسيح وظهوره على الأرض كيف كان يمكن لإنسان على الأرض أن يعرف الحق المتعلق بالمسيح؟ لا شك أن المؤمنين كانوا يتوقعون مجيئه لبركة الإنسان والأرض، ولكن ما أقل ما كان يدركه إيمانهم إدراكاً محدداً دقيقاً. فقد كان التمييز الكامل محفوظاً للمستقبل. فالذين كانوا يهتمون بالأرضيات لم يفكروا في الرب إلا فيما يتعلق بمطامعهم الأرضية وآمالهم البشرية. أما المولودون من الله فكانوا يجدون رجاء إيمانهم في إعلان الله. ومع ذلك فإنه حتى القديسين كانت آمالهم وانتظارا تهم قبل مجيء المسيح غامضة. ولكن حينما ظهر ابن الله في الجسد بحسب النبوات، جاءت فيه النعمة والحق وظهر النور الحقيقي فأدان كل شيء متناقض مع طبيعة الله، كما أظهر الحق كل شيء وكل إنسان على حقيقته. "هذه هي الوصية كما سمعتم من البدء أن تسلكوا فيها".

ولكن أفظع الشرور كانت تضغط من كل جانب. فالشيطان الذي لم يكفه عمل الفساد، راح الآن ينكر الحق بواسطة أولئك الذين كانوا يعترفون به يوماً من الأيام. ومن هنا كان النداء العاجل لتوكيد الحق بوضوح والسلوك بموجبه بأمانة أكثر من ذي قبل. "لأنه قد خرج* إلى العالم مضلون كثيرون". فقد كان هؤلاء المضلون في الكنيسة ذات يوم ثم خرجوا ليواصلوا عملهم الشرير في تحدي كلمة الله وإنكار الابن. تركوا الاعتراف المسيحي حين غرر بهم الشيطان ليتنكروا لحق المسيح. فيوصفهم الوحي بالمضلين الذين "لا يعترفون بيسوع المسيح آتياً في الجسد" – "هذا هو المضل والضد للمسيح". في رسالة يهوذا كان هذا الشر القتال صادراً من أناس مضلين لا زالوا داخل الكنيسة ولو أنهم كانوا هناك معتزلين بأنفسهم. أما رسائل يوحنا فتتناول يوماً تالياً أو "ساعة أخيرة" حينما خرج أولئك القوم للمقاومة كخصوم علنيين. ومن أسف أن الشخص الذي يدخل كنيسة الله ويأخذ مكانه فيها بعض الوقت كمسيحي يخرج منها شراً مما دخل. فهو بعد خروجه يبغض الحق والذين يتمسكون به ويصبح شغله الشاغل تضليل القديسين والافتراء على الحق وإنكار المسيح.

هنا خرج إلى العالم أولئك الذين "لا يعترفون بيسوع المسيح آتياً في الجسد". وهنا نجد مجيء المسيح معبراً عنه بصيغة الحاضر المجرد وليس بصيغة الحاضر التام كما في (1 يو 4: 2) (أي النتيجة الحاضرة لفعل مضى). ولا فرق بين التعبيرين من جهة الحق فالمقصود في الحالتين هو الاعتراف بشخصه كمن جاء في الجسد. فحقيقة شخصه هي التي كان ينكرها هؤلاء المضلون أي أنهم لا يعترفون به. ليس بالضرورة أنهم كانوا ينكرون الحقيقة العظمى العجيبة هي أن ذاك الذي هو ابن اله منذ الأزل قد جاء إلى العالم متجسداً. وهذا هو اعتراف كل من لهم حياة ومسحوا بروح الله. فقد كان يمكن للرب أن يأتي في الجسد. وهذا ما كان يقاومه المضلون. إنه الاعتراف ليس هو كل ما تعنيه المسيحية، ولكنه أساسها الذي بدونه يستحيل الفداء. فكل من لا يعترف بالرب يسوع آتياً أو كمن جاء في الجسد فهو المضل والضد للمسيح.

"انظروا إلى أنفسكم لئلا نضيع ما عملناه بل ننال أجراً تاماً" (ع 8). وهذا ليس تحذيراً خطيراً فقط بل نداء حار للمحبة الكاملة بأسلوب الرسول الجميل كما في (1 يو 2: 28). فهو استنهاض مؤثر لمحبتهم. فكما استنهض كل عائلة الله في (1 يو 2: 28) ها هو هنا يستنهض السيدة المختارة وأولادها بنفس الأسلوب الواثق في محبتهم المتبادلة.

"كل من تعدى ولم يثبت في تعليم المسيح". من الواضح أن كلمة تعدى هنا معناها "تجاوز" إذ لا شأن للناموس بهذا الموضوع فالمقصود هو "كل من تجاوز" حق المسيح. وهذه ضربة أخرى يصوبها الرسول نحو أولئك المفتونين بالتقدم والتطور كما لو كان الحق الإلهي المعلن شبيهاً بالعلم البشري القابل للتطور. بل على العكس، فإن الشخص الذي لا يقنع بالحق الذي أعطاه الله في المسيح ومن أجل ذلك يتعدى أو يتجاوز ذلك الحق، إنما في الواقع يترك الحق يفقده ثمناً لأوهام وخيالات من صنع الذهن البشري. "كل من تعد ( أو تجاوز) ولم يثبت في تعليم المسيح فليس له الله. ومن يثبت في تعليم المسيح فهذا له الآب والابن جميعاً". فمهما يكن ادعاء الإنسان بحق أو نور أسمى، ومهما تكن ثقته في هذه النظريات المستحدثة، فإن الذي يتجاوز الكلمة الموحى بها ويخرج عن نطاقها إلى نطاق أفكاره الخاصة أو تصورات الآخرين "فليس له الله". ليست له أية علاقة حاضرة بالله. أما "من يثبت في تعليم المسيح فهذا له الآب والابن جميعاً". وهذا هو أسمى وأعمق إعلان للاهوت.

"إن كان أحد يأتيكم ولا يجيء بهذا التعليم فلا تقبلوه في البيت ولا تقولوا له سلام لأنه من يسلم عليه يشترك في أعماله الشريرة". هنا نجد واجباً من أشق الواجبات التي وضعت أو يمكن أن توضع على مسيحي. ونراه هنا يوضع على عاتق السيدة وأولادها بصورة الأمر.

فمتى كان تعليم المسيح في خطر فإن واجبنا ألا نقف موقف التردد والتخاذل لأن محاولة التوفيق في هذا الظرف خيانة لرب. وإذا لم نكن مخلصين للمسيح فلن نكون مخلصين لأي شيء أعلنه لنا الله. إن كرامة الله متركزة في ذاك الذي به جاءت إلينا النعمة والحق. فإن أتى واحد ليس معه هذا التعليم، حتى ولو كان فيما سلف أعز صديق مسيحي على الأرض، فإن هذه السيدة وأولادها كانوا تحت أخطر وأشد التزام أن يتجاهلوه من أجل خاطر المسيح، فها هنا دعوة الله الحاضرة. إن لم يجيء بتعليم المسيح، اقفل الباب، ولا يكن لك أية معاملة مع واحد هو ضد المسيح قد يبدو هذا التصرف قاسياً في نظر الذين لا يعنيهم اسم المسيح وأقل شيء أو لا شيء. وحتى المسيحيون بالاسم لهم ما يقولونه في هذا، يقولون "إننا نشفق على الوحدة من أن تتأثر بهذه المسائل. أليس غايتهم الكبرى وواجبهم الأول أن نتماسك معاً وأن نجنب وحدتنا التمزيق الذي هو الشر المريع. وفوق هذا فإن صاحبنا أخ لطيف عزيز، وقد يرى التنازل عن فكرته الصغيرة هذه إذا أنت لم تضخمها وتكبر الموضوع". هذه لهجة المحايدين، وهم أكبر خطراً من المضلين المخدوعين.

ولكن كلا يا إخوتي. فنحن مدينون بكل ما حصلنا ليه بالنعمة لابن الله، والآب الذي أرسله وبذله. وإذا كنا مدعوين كمسيحيين لأن نقف من أمر موقف الحزم وعدم التخاذل مهما كلفنا الأمر، فذلك حينما يكون مجد المسيح وحقه عرضة للهدم والتقويض.

وأخيراُ يختتم "الشيخ" خطابه بالعددين (12 و 13) الذين ينطويان على شهادة لطيفة للمحبة المقدسة القلبية التي كانت تؤلف بين القديسين الأوائل وتربطهم معاً، كما نرى هنا بين الرسول الشيخ وبين هذه الأسرة المسيحية. "إذا كان لي كثير لأكتب إليكم لم أرد أ، يكون بورق وحبر لأني أرجو أن آتي إليكم وأتكلم فماً لفم لكي يكون فرحنا كاملاً، يسلم عليك أولاد أختك المختارة".

فنستطيع أن نستخلص من أمل الرسول في زيارتهم ومن تحيته لهم مبلغ ثقته فيهم بأنهم سيضعون على قلوبهم المهمة التي أوصاه بها وأنهم سينفذونها إلى التمام آلا وهي استبعاد وطرد كل شخص ليس مخلصاً للمسيح ممن خرجوا يجولون لإيقاع الآخرين في شراكم الشريرة مع الإحاطة بأنه لا يهددهم بشيء من العواقب أكثر من التحذير بأن التساهل في هذه الحالة معناه مشاركة المضل في أعماله الشريرة. كلا ولا هو يحاول أن يبني تنفيذهم للوصية على سلطان مركزه أ، على ما كانوا يكنون له من الصداقة الوثيقة والمودة الخالصة حتى الآن، بل هو يبني كل شيء على ما أوجدته النعمة فينا من شعور بما يليق بالمسيح. فقد نرى الأحداث يقفون موقف الحم وعدم التردد بينما الذين لسبب طول الزمان كان ينبغي أن يزداد إحساسهم نراهم يعبثون بالشرور الصغيرة وهكذا يقل إحساسهم بقيمة المسيح غبر المحدودة فيقفون موقف الظرفاء اللطفاء في الوقت الذي يكون أشد الحزم هو التصرف الجدير باسمه الكريم. ذلك لأن المسألة في حقيقتها بين ابن الله والشيطان. أنستطيع أن نلمس مبلغ ثقة الرسول في أمانة أولئك القديسين وإخلاصهم للمسيح من قوله أنه حينما يزورهم سيكون فرحهم كاملاً – الأمر الذي ما كان له أن يرجوه له أنه كان يرتاب في أمانتهم.

ولعله من الخير أن نضيف هنا أنه ليس من روح الله في شيء أن نطبق في الاختلافات الصغيرة الشدة التأديبية التي هي واجبنا المحتوم حينما يكون الأمر متعلقاً بالمسيح. فإن مثل هذه الغلطة يحولها العدو الكبير فيمزق بها شمل أولئك الذين مات المسيح لكي يجمعهم إلى واحد. فإنه حتى الخطأ في التعليم ليس سبباً كتابياً للإتباع مثل هذا التصرف الشديد ما لم يكن متعلقاً بالحقائق الأساسية. ولا هو يجوز تطبيقه على الاختلاف حول الفرائض المسيحية، سواء فريضة المعمودية أو فريضة عشاء الرب. أما تعليم المسيح فهو جدير بولاء كل قديس، وكل من يهين شخصه الكريم يجب طرده ليس فقط منم اجتماعاتنا العمة بل من دوائرنا لخاصة، مهما كلفنا الأمر.

  • عدد الزيارات: 3012