Skip to main content

الرسالة الأولى: الخطاب الثامن عشر

1 يو 5: 13 – 21

"كتبت هذا إليكم أنتم المؤمنين باسم ابن الله لكي تعلموا أن لكم حياة أبدية ولكي تؤمنوا باسم ابن الله. وهذه هي الثقة التي لنا عنده إنه إن طلبنا شيئاً حسب مشيئته يسمع لنا. وإن كنا نعلم أنه مهما طلبنا يسمع لنا نعلم أن لنا الطلبات التي طلبناها منه. إن رأى أحد أخاه يخطئ خطية ليست للموت يطلب فيعطيه حياة للذين يخطئون ليس للموت. توجد خطية للموت ليس لأجل هذه أقول أن يطلب كل إثم هو خطية وتوجد خطية ليست للموت.

نعلم أن كل من ولد من الله لا يخطئ بل المولود من الله يحفظ نفسه والشرير لا يمسه. نعلم أننا نحن من الله والعالم قد وضع في الشرير. ونعلم أن ابن الله قد جاء وأعطانا بصيرة لنعرف الحق ونحن في الحق مع ابنه يسوع المسيح. هذا هو الإله الحق والحياة الأبدية. أيها الأولاد احفظوا أنفسكم من الأصنام".

يُلاحظ أن روح الله يشدد دائماً على أن المؤمنين ليس فقط لديهم لهم حياة أبدية بل يجب أن يعلموا أن لهم حياة أبدية، ذلك أنه من المحتمل – كما كان الأمر قبل المسيح – أن يكون لإنسان حياة أبدية ولكنه لا يعلم أن له هذه الحياة، بل حتى الآن هناك بعض المؤمنين ممن تظهر منهم علامات واضحة جلية تنبئ عن وجود تلك الحياة فيهم مع أنهم يجهلون حقيقة امتلاكهم إياها. ومع هذا ذلك فإن فقدان التمييز لمعطلات هذه الحياة ن شأنها أن يعرض صاحبها الذي يجهل ها الامتياز ليس فقط لفقدان سعادته الشخصي قدام الله أو تعطيلها، بل لانخفاض مستوى سلوكه الذي هو النتيجة العملية لهذا الجهل. كيف لشخص مثل هذا، ليس لديه اليقين الهادئ بالحصول على الحياة الأبدية، أن يتجنب القلق حينما يهيب الضمير بالقلب أن يفحص ويرى هل هو مسيحي أم لا، وذلك على أثر فشله في تصرفاته أو اشتباكه في صراع دائم مع المجرب الذي يحاول باستمرار إيقاعه فيما يهين الرب، ثم يخلق في نفسه عدم الثقة بنعمة الله؟.

سبب آخر لأجله يشدد روح الله بقوة على أن يكون لدينا ليس مجرد العلم بل العلم الشعوري الباطني بأن لنا حياة أبدية، كما يفعل هنا. وهذا السبب هو أنه في أيام الرسول ومنذ ذلك التاريخ وحتى اليوم وجد خصوم للحق يرتابون في إمكانية العلم بالحياة الأبدية، بحيث يجعلونها شيئاً غامضاً غير مؤكد البتة، وهذا هو دائمً الطريق الذي يسلكه عدم الإيمان في كل العصور والأجيال إذ يحاول أن يحجب اليقين بحجة جهلنا وعدم استحقاقنا وتعرضنا للوقوع في الخطأ، وهي أمور حقيقية لا يسعنا إنكارها، ولكن هذه ليست المسألة بل السؤال كله هو هذا: هل أعلن المسيح إعلاناً كاملاً واضحاً خبر هبة الحياة الأبدية للمؤمنين الآن أم لا؟ ومن الخطأ والضلال بطبيعة الحال أن يقال أن هذا الامتياز المبارك وقف على فريق معين ممتاز روحياً من أفراد عائلة الله، فإن العهد الجديد يعلن مراراً وتكراراً ويؤكد لكل من له أذن للسمع أن من حق جميع الذين يؤمنون بابن الله أن يعلوا أن لهم الحياة الأبدية.

من المحقق أن محبة الله موجهة لكل واحد من أولاده. ولذلك كانت كلمة الله واضحة وجلية في إعلان هذا الامتياز ليكون معلوماً علماً باطنياً لكل واحد من أفراد عائلة الله، وليكون موضع تمتع وممارسة كل مسيحي في شركته الشخصية وسجوده مهما كانت درجة بلوغه الروحي، كما أن الحياة الأخرى المُعبر عنها بالجسد والمبغوضة لدى الله قد صارت بفضل المسيح وروح الله المعطى لنا مبغوضة أيضاً لدى القديس. ومن هنا صار على المسيحي أن ينكر ويطرح جانباً الحياة الجسدية الساقطة ويسلك الإيمان بحسب قدوة المسيح الكاملة، في طبيعته الجديدة المسماة هنا وفي إنجيل يوحنا "الحياة الأبدية". إنها حياة المسيح، وقد صارت بالنعمة "حياتنا".

لقد كنا من نصيب الرسول يوحنا أن يعلن لا عمل المخلص الفدائي – ولو أنه تكلم عن الفداء فيما له علاقة بالمجد السماوي وغرض الله العظيم فيما يتعلق بمستقبل المسكونة أو بمشوراته – بل لكي يتكلم بالأحرى عن جلال ومجد ونعمة ذاك الذي أضفى من مجده وعظمته على الحياة التي يمنحها كما على عمله الفدائي. لقد كان من حق الله وطبقاً لبره وكل صفاته له المجد أن يجد لذته في تلك المشورات التي ستتم، ولذلك فقد انهار كل أساس للكلام عن استحقاقنا الشخصي أو مد استحقاقنا، ولم يعد للإنسان الأول أي شأن في الموضوع بل الشأن كله للإنسان الثاني، المسيح الرب. إن أساسنا هو المسيح وعمله كمن أعطانا إياه الله، وماذا يطلب المسيح وعمله من الله الذي يقدره حق التقدير؟ ولمن يطلب؟ ليس يطلب لأجل نفسه بكل يقين، فهو لم يكن ولم يكون بحاجة إلى شيء لأنه كالابن واحد مع الآب، موضوع حبة الله منذ الأزل. ولكنه جاء وبذل نفسه ليمجد الله ويظهر محبته الكاملة رداً على أكذوبة الشيطان الذي إذ ترد هو نفسه على الله سعى جهده ليوقع الإنسان تحت طائلة غضب الله وقد نجح بحسب الظاهر في مسعاه. ولكن مشورات الله لن تخيب بل سيتممها الله جميعها على أساس الفداء. فإن الفداء لم يكن فكرة طارئة أو عارضة جاءت في عرض الزمان، كما لم تكن المشورات الإلهية مترتبة على فشل في شيء مما رسمه الله أو أوجده.. صحيح إنها أعلنت لنا نحن المؤمنين بعد ظهوره فشل الإنسان فشلاً تاماً، لكن مشورات الله شأنها شأن محبة الله كانت قبل كل خليقة كما يرينا الرسول بولس في (أف 1: 3 – 14، كو 1: 26، 2 تي 1: 9، تي 1: 2).

لقد أعطى ليوحنا بصفة خاصة أن يتعمق في طبيعة الله وأن يتحدث بالتبعية عن شخصية سيدنا الأزلية كما عن تجسده وذلك لكي يثبت القلب ويسمو المؤمن فوق حالة الكنيسة الاسمية المحزنة التي انحرفت في شهادتها فأصابها التشويش والخراب وأصبحت تنتظر قضاء الله الذي بدأ من بيته. على أن ازدياد فشل المسيحية الاسمية لا يمكن أن يكون سبباً في زعزعة ثقتنا في المسيح ذرة واحدة. فكيف إذن يعمل روح الله على تقوية القلب وتعضيده؟ يقود أفكارنا إلى الحياة الأبدية التي كانت عند الآب قبل أن يوجد مخلوق وقبل أن يتنازل الله في صورة إنسان حقيقي في شخص الرب يسوع لكي تكون الحياة الأبدية نصيبنا المعلوم لنا اليوم بما لا يقل عن علمنا بها في يوم المجد. صحيح أنها لنا الآن فيه بالإيمان، ولكنه تعليم غريب أن يقال إنها كشيء "حاضر" ليس ملكاً لنا الآن بالإيمان، بقدر لنا ما هي ملك لنا كشيء "مستقبل" نتوقعه (1 كو : 22). ولكن مما يزيد في متانة القضية أن الحياة هي في المسيح الذي هو لنا، وهي من هذا الوجه فوق كل شيء أو ريب.

ولكن ما أوضح أقوال سيدنا في (يو5: 24) وأقوال الرسول في (ع 12) من إصحاحنا.فقد يمكن أن يكون لنا العلم العقلي بشيء نتوقع الحصول عليه ولكن لا يمكن أن يكون لنا العلم الواعي الباطني بشيء لا نملكه فعلاً. فحينما يقول يوحنا "لكي تعلموا أن لكم حياة أبدية" فهو يفترض أصلاً أننا فعلاً حاصلون عليها وإنما يعوزنا فقط أن نعلم ذلك علماً واعياً باطنياً. ولم يوجد قط حتى بين أتباع بيلاجيوس[6] من ذهب إلى حد إنكار إمكان الحصول المسيحي على الحياة الأبدية الآن وإن كانوا قد فسروها بما يجعلها خارج حدود الإمكان. ولكن يخيل لنا أن مهمة إنكار هذه الحقيقة المباركة إنكاراً كاملاً ومحاولة القضاء عليها قضاءاً مبرماً كان محتفظاً به لجماعة حديثة أرادت أن تحي الهرطقة الأغنوسية التي تحطمها رسالتنا تحطيماً، فما من جماعة مستقيمة الرأي سمحت لهذه الضلالة أن تعيش بينها لحظة واحدة.

ولكن الضلالة القاتلة أبشع اليوم مما كانت في أي يوم مضى لأن عدم الإيمان في يومنا لا يعرف الخجل. ولسنا بحاجة لأن نصدع رأس القارئ بالحديث عن تلك الجماعة التي تزعم إنها طائفة مسيحية مع أنها تحاول بمعول الشك أن تهدم المسيحية في أبرك وأقدس حقائقها. وإلى أين المصير؟ طبعاً إلى الارتداد، إلى إنسان الخطية، إلى سر الإثم، بابل العظيمة، أم الزواني ورجاسات الأرض.

ولكن دعنا منهم وتعال إلى أقوال الرسول الختامية. "كتبت هذا إليكم أ،تم المؤمنون باسم ابن الله لكي تعلموا أن لكم حياة أبدية". إن النعمة لن تجد فينا سوى الخطية والموت، ولكنها مع ذلك تعطينا أفضل ما استطاع الله يهبه، وذلك بالإيمان بالرب يسوع المسيح ابنه. وهل من شيء كان يناسبنا وكنا بحاجة ملحة إليه مثل الحياة الأبدية، تلك الطبيعة الإلهية التي تحب الله وابنه.وكل ما هو جليل ومقدس، وتكره الخطية وتحب البر بحسب ناموس الحرية الكامل. إذ تطيع الله ليس كما كان يفعل اليهودي بحسب ناموس الناهي والتهديد بل كما كان يفعل سيدنا بباعث البنوة. حقاً ما أشأم تلك المبادئ التي يتنكر أصحابها لمعتقداتهم القديمة ليستبدلوا بها آراء حديثة طائشة فلا يكتفون بأن يجاهروا بأنك لا تستطيع أن تعلم أن لك حياة أبدية بل أن أحداً لا يستطيع أن ينالها من الآن! وقد فاتهم أن الحياة الأبدية هي الأساس الصالح الذي لابد منه لما يسميه رسول آخر "أعمال صالحة قد سبق الله فأعدها لكي نسلك فيها".

وها هو الرسول لا يترك مجالاً وعذراً للمتشككين أو الذين يرفضون أن يؤمنوا فلا يختم الرسالة كما بدأها دون أو يؤكد بلغة العلم واليقين كل ما من شأنه تثبيت المؤمنين في المسيح ضد كل من يحاول تضليلهم. فقد أبان عظمة وملء تلك الحياة في المسيح كغرض إيمان النفوس ومحبتها في البداية، وها هو الآن في الإصحاح الأخير يؤكد امتلاك المؤمن لهذه الحياة، وعلمه اليقيني بامتلاكها. وأليس هذا ما يجب أن يكون؟ إنه لأمر جدير بالابن، وهو مسرة الآب، ومن شأنه أن يزيد في عظمة وجلال الهبة في نظر المؤمن فإذا كانت الحياة الأبدية هي أول هبات النعمة للنفوس من الآن، وإذا كانت هي التي عليها وفيها يعمل الروح القدس المعزي بقوة في كل لحظة واعية من لحظات حياتنا المسيحية، فما أعظم الخسارة وما أشنع الضلالة التي تحيط بأولئك الذين تعاطوا السم وبجميع الذين لسبب أو آخر استهانوا بالأمر ولم يبرئوا أنفسهم منه.

نأتي بعد ذلك نقطة في غاية الأهمية والخطورة خاصة بثقة القلب في علاقتنا بالله كأولاده. فبدون العلم اليقيني بامتلاك الحياة الأبدية وانتسابها لله كأولاد لن تتوفر لنا هذه الثقة. ولا عجب أن نرى أولئك الذين لا يؤمنون بأياً من هذين الامتيازين كشيء تمتلكه النفس فعلاً في الوقت الحاضر ينكرون ثقة كهذه بدعوة إنها جراءة غير لائقة. ولكن كيف يمكنهم أن يقرأوا هذه الأقوال قراءة جدية، وأقوال أخرى مثلها كثيرة تؤيد نفس الحقيقة، ويفوتهم بعد ذلك أن يتعلموا أن الله ينتظر من أولاده هذه الثقة، وأنه كتب هذه الأقوال وأمثالها ليشجعهم عليها وليدينوا أنفسهم إذا ما سمحوا لأي عائق أن يعترض سبيلهم؟ إنها المبدأ الأساسي المنشط للصلاة المسيحية، والطابع الذي يجب أن تطبع كل طلبة من طلباتنا. ليس معنى بطبيعة الحال أنه إذا ضعفت الثقة لدى أي مسيحي فعليه أن يكف عن الصلاة. كلا فإن الرب في المثل المشهور الوارد في (لو 18: 1 - 8) يوصي تلاميذه أن يصلوا ولا يملوا. على أنه من واجب المسيحي أن يربي في نفسه روح الثقة المقدسة وأن يطلب من الله باستمرار أن يزيل عنه روح الارتياب أو الخوف وما أثقلها! إن نوالنا الحياة الإلهية والفداء وحصولنا على أقرب نسبة ممكنة لله وسط عالم عديم الإيمان ولا نصيب له في واحد من هذه الامتيازات – من شأنه أن يخلق لنا مجموعة مستمرة من المخاطر والمتاعب والحاجات لنا ولإخوتنا ورجعنا الصلاة التي يشجعنا الله عليها حتى ولو لم تكن دائماً صلاة الإيمان بل في أغلب الأحيان صلاة الحيرة والارتباك. إنه جدير بنا إذا كانت أعيننا بسيطة أن نصلي دائماً بأكثر حيرة في الروح القدس، ولكن مهما كان الحال فإنه لنا كل حين أن نشجع أنفسنا حينما نصرخ إليه كأبينا الذي أحبنا يوم لم يكن فينا شيء يُحَب، والذي يحبنا الآن كأولاده الذين ألبسهم الحلة الأولى كما هو حال جميع المسيحيين الحقيقيين هنا على الأرض. وهل يا ترى، لو أن الأمر ترك لنا لنختار أقوى الأدلة على محبته لنا، كنا نستطيع أن نختار شيئاً يمكـن أن مقارنته بما أعطاه لنا في المسيح مما تؤكده لنا كلمته؟

إذن ونحن ثابتون في المحبة لنثبت في الله والله فينا. وهذا من شأنه بمعونة نعمته أن يرفع العراقيل صغيرة كانت أم كبيرة ويخلق فينا الثقة بواسطة المحبة التي لا تتغير أبداً في وسط كله تغيير. إن الله يسر بهذه الثقة التي تعتمد على عنايته بنا وسط تجاربنا وضعفاتنا وحاجاتنا وأحزان المرض والظروف المرة القاسية، وفي كل الطرق التي نجتازها لامتحان إيماننا يوماً فيوماً، فما هو شعورنا وإحساسنا وسط تجاربنا؟ هل لنا ثقة الإيمان في علاقتنا الحاضرة بالله واعتمادنا عليه بالنعمة التي أنقذتنا من الموت والخطايا وأعطتنا الحياة والروح القدس؟ أم هل نحن نفزع ونرتاب في ضيقات هذه الحياة الصغيرة؟ أليس هذا أمراً غير لائق وتناقضاً غريباً؟ ليكن لنا، ونحن متمتعون بثقة الإيمان بالبركات السامية العظمى، ثقة بما هو دونها من أمور هذه الحياة الفانية. ولنتأكد أن ذاك الذي يحبنا يتداخل في كل ما يسمح به علينا أو يرسله لامتحاننا. "وهذه هي الثقة التي لنا عنده أنه إن طلبنا شيئاً حسب مشيئته يسمع لنا". لاشك أنه مما يخجلنا أن نطلب شيئاً ليس حسب مشيئته، فإن لنا في كلمته ما يعرفنا مشيئته، ولكن هناك ما هو أكثر من ذلك فإننا "إن كنا نعلم أنه مهما طلبنا يسمع لنا نعلم أن لنا الطلبات التي طلبناها منه" (ع 14. آه، ليتنا لا نتشكك فيه ي هذه التجارب الصغيرة نسبياً بعد إذ اختبرنا محبته السامية اللانهائية في أعمق الأعواز وأشدها! ويا له من دليل في الإصحاح الرابع على أنه لا يوجد شيء أكبر من متناول الإنسان في المسيح، كما في هذه الأعداد من الإصحاح الخامس لا يوجد شيء أصغر من متناول محبة الله، وما أيسر ما ننسى أن نأتي إليه بالصلاة في اللحظة التي قد تكون مهيأة لإجابته ثم نأتي بعد ذلك بالطلبات بعد فوات الأوان. إن الصلاة من حق إلهنا علينا كما هي بركة غنية لنفوسنا وللآخرين ولكنها ليست كما يجب إن لم تكن مقترنة بالثقة التي تكرم محبة الله لنا.

وإذا نعلم أننا الله ولنا الحياة والفداء، فلنحكم على كل معطل. فإننا بالرغم من الخطية والشيطان قد صار لنا من الآن هذه الامتيازات العمى التي هي طلائع المجد الأبدي، وأفضل منها جميعاً، لنا الابن والآب والروح القدس. فنحن مباركون مع المبارك. إن أولئك المؤمنين الذين يؤجلون هذه البركة إلى يوم المجد قد يكونون على حق فيما يتعلق بأنفسهم في ذلك اليوم إلا أنهم مخطئون كل الخطأ في تأجيل أفراحهم الخاصة إلى ذلك اليوم. فالآن هو الوقت الذي نحتاج فيه لهذه البركات، وهي تعوزن بالأكثر في اليوم الشرير لمجد الله وخير أولاده. فعندما يجيء يوم المجد لا تكون هناك حاجة لمثل هذا التحريض على الثقة في الصلاة لأن الكل سيكون تسبيحاً. أما الحاجة الملحة لمثل هذه الصلاة الواثقة فهي الآن في هذا العالم بصعابه ومخاطره، ولو أنه اليوم للتمتع بأغنى البركات حينما نعلم أن المسيح في الآب ونحن فيه وهو فينا. فهو الوقت المناسب لممارسة هذه الثقة العملية في التقدم بالصلاة لنطلب من إلهنا أي شيء وكل شيء بحسب مشيئته. أما أي شيء بخلاف ذلك فلا نطلبه ولا نجرؤ على طلبه. ونحن نعلم أنه يسمع لنا. ويا له من خطأ أن نرتاب! ألم يبرهن الله على محبته الكاملة المستمرة من نحونا؟ إنه قد يرى نافعاً أن يمتحنا بتجربة قاسية. قد يسمح لمسيحي (لاهتمامه بالمال) أن يفقد كل مليم في عالم فيه نافع، حتى لقد يصل به العوز إلى القوت الضروري. لكن هل له أن يرتاب في الله بعد كل ما عرف عن صلاحه وحكمته، وكل ما عرفه عن نفسه من جهالة وغباوة؟ إن واجبه في هذه الحالة أن يطلب إلى الله أن يفعل حسب مشيئته واثقاً أنه يسمع له وأن لنا الطلبات التي طلبناها منه.

أذكر أنني منذ نصف قرن تقريباً التقيت بشخص مسيحي تقي كان يوماً من الأيام من رجال الإكليروس وإذا بصديق يسأله ونحن على قارعة الطريق كيف يعيش هو وأسرته. فكان جوابه أنه لا يعرف كيف، ولكنهم مع ذلك يعيشون بنعمة الله. قال هذا وإذا بساعي البريد يُقبل لا بكلام بل بحوالة مالية قدمها خادم الرب التقى لصديقه قائلاً: "لعلك ترى من هذه الورقة كيف أعيش". إن إلهنا حي ويجيب الإيمان بما يراه صالحاً مهما كانت الظروف. إن التجربة الثقيلة شرف للمسيحي الآن كما كانت لإبراهيم قديماً، قد يكون هناك من يجربهم الرب قليلاً لأنهم ضعاف في الإيمان ولا يستطيعون أن يحتملوا. أما المؤمن القوي في الرب فمن المحقق أنه يجرب، وذلك للبركة، فإن الرب "لا يحول عينيه عن البار". ومع ذلك فنحن محاطون بألوان من العوز والشقاء والحزن، ومن واجبنا ألا ننشغل بتجارنا الخاصة ونتغاضى عن الآخرين. هناك آخرون مشتركون معنا في نفس علاقة النعمة يقاسمون آلاماً من نوع أو أآخر. أفلست أطلب لأجلهم بقلبي من الله كما أطلب لنفسي، وأتصرف إزاءهم كما يليق بأخ في المسيح؟

غير أن الثقة الجريئة في الله بحسب محبته هي لكل واحد وللجميع. ومن هذا نتعلم ألا نثق في مشيئتنا بل أن نطلب فقط ما نعلم أنه يتفق مع مشيئته. وماذا تكون النتيجة؟ "يسمع لنا". فإذا لنا الامتياز بل المسؤولية أن نطلب بثقة ن ذاك الذي يحبنا ويعلم كل شيء، فعلينا أن ننتظر جواب نعمته على سؤالنا ونعتمد عليه. وإن كنا نعلم (ليس علماً موضوعياً بل علماً باطنياً شعورياً)، إنه مهما طلبنا يسمع لنا، نعلم (نفس العلم الباطني) أن لنا الطلبات التي طلبناها منه. وهل من شيء يستطيع أن يشجع المؤمن ويملأه بالثقة أكثر من هذه الأقوال؟ قد لا تكون الإجابة بحسب أفكارنا ولكنها دائماً بحسب حكمته الأعمق وطريقته الأكمل.

والكل مؤسس على محبة الله الذي بذل المسيح لأجلنا كخطاة وأعطاه لنا كقديسين، كما أعطانا الروح القدس ليحقق هذه المحبة في قلوبنا وفي سلوكنا ولئن كان الله يشجعنا على أن نطلب بثقة فإننا معرضون لآن ننسى الشق الآخر وهو أنه لا يمكننا أن نطلب بحسب مشيئته ما لم ننم في معرفة كلمته. وهنا نتجلى القيمة العملية لتربية نفوسنا وتدريبنا على التفهم الروحي العميق للكتاب المقدس. إن الله قد عظم كلمته فوق كل اسمه، وهكذا فعل الرب والرسل، هكذا يجب أن نفعل نحن وفي الحق أن يكون رداً تعيساً من جانبنا على محبته ووفرة الحق المعلن لنا في كتابه وعطية الروح القدس الذي أوحى الكتاب أن نقف عند حد خلاصنا الشخصي ونسلم أنفسنا للجوع الروحي متعامين عن غنى النعمة المعلن لنا بلا حد.

وفي العددين 16 و 17 يتناول الرسول القضية الشائكة التي لنا فيها أن نطلب أو لا نطلب من الله. "إن رأى أحد أخاه يخطئ خطية ليست للموت يطلب فيعطيه حياة للذين يخطئون ليس للموت. توجد خطية للموت. ليس لأجل هذه أقول أن يطلب كل إثم هو خطية وتوجد خطية ليست للموت".

لقد طالما كانت هذه الفقرة مثاراً لصعوبات لدى الذين يتناولونها بأفكار هي ولية تجاهلهم لسياسة الله الأدبية التي تسري على المؤمنين في كل العصور والأجيال إنها السياسة التي يدور حولها سفر أيوب والتي فشل أصحابه الثلاثة عن فهمها فشلاً ذريعاً. وهي السياسة التي أوضحها العهد الجديد إيضاحاً كاملاً في أماكن كثيرة نذكر من بينها (يو 15: 1 – 10، 1 كو 11: 27 – 32، عب 12: 5 – 11، ا بط 1: 17)، ثم إصحاحنا هذا. فالنقطة التي تدور حول محورها هذه الفصول جميعاً ليست الموت الثاني بل قطع قديس وانتزاعه من هذا العالم بسبب خطية لها من الصفة أو الظروف ما يجعل الله يؤدب عليها بالموت. فقد يكون، كما نرى في العهد القديم، باستبعاد قديسين كانوا قبلاً كانوا قبلاً يشغلون مركز سامية، كموسى وهرون اللذين أغاظا الرب في قادش (سفر العدد 20) أو قد تكون بتوقيع الحكم فوراً كما في حالة حنانيا وسفيره (أع 5) على أن الرسول بولس شرح هذا المبدأ للقديسين في كورنثوس الذين كان كثيرون منهم ليسوا فقط ضعفاء ومرضى بل كثيرون يرقدون، فقال لهم "لأننا لو كنا حكمنا على أنفسنا لما حكم علينا و لكن إذ قد حكم علينا نؤدب من الرب لكي لا ندان مع العالم". هذه إذن كانت خطية للموت أدب الرب من أجلها القديسين الذين فعلوها و ذلك بصريح اللفظ لكي لا يدانوا بالموت الثاني مع العالم.

ولذلك فإننا نخطئ فكر الرب إذا نحن طلبنا من أجل إطالة حياة أخ أخطأ خطية من هذا النوع بحيث يقصد الرب إنهاء حياته على الأرض تحت التأديب. إن العالم الذي لا يفعل سوى الخطية ويرفض المخلص محفوظ لذلك الموت الثاني الرهيب الذي هو الدينونة الأبدية. فاقتحام فكرة الموت الثاني في الأعداد التي أمامنا ليس هو إلا تشويش للفهم الروحي. ولكنها من الجهة الأخرى أعداد كريمة ترينا بأسلوب آخر حرص إلهنا و تنازله العجيب لحفظ ثقتنا سليمة وغير مقيدة حتى لتتأثر بما قد تلاقيه من عدم الإجابة في هذه الحالة، وإنما هو فقط يحذرنا من الوقوع في خطأ نحن معرضون للوقوع فيه لولا هذه النصيحة.

إن الكذب خطية كبيرة وبخاصة من المسيحي. ولكن كم من خطايا كذب وقعت دون أن يترتب عليه الموت. أما في بكور تاريخ الكنيسة يوم أعطي الروح القدس في البداية وكانت نعمة عظيمة على الجميع وقوة ملحوظة في كل مكان – هذا كله أعطي خطية الكذب في ذلك اليوم صفاتها الشريرة الخاصة. ومما زاد الطين بلة إن رياء ذينك الزوجين واتفاقهما العمد وإنكار كل منهما للاتهام الخطير الذي وجهه إليهما بطرس مما طبع خطيتهما بطابع خاص وجعلهما خطية للموت. ذلك لأنها كانت أكذوبة زاد في شناعتها تلك البركة العجيبة التي كان الله يجريها تكريماً لابنه المحبوب. فكم هو بغيض والحالة هذه الادعاء بدرجة من التكريس الذي لا أصل له على الإطلاق! وهكذا كان في كورنثوس لأنهم بسوء سلوكهم كانوا يدنسون مائدة الرب.

وهذا يذكرني بحادثة شاهدتها منذ بضع سنوات. ففي يوم من الأيام سمعت أن أخاً كان بحسب الظاهر قوى الصحة والبدن مرض مرضاً مفاجئاً فذهبت لزيارته ولما كان ذك الأخ طبيباً فإنه على الأرجح كان أفضل من غيره لمعرفة مرضه. لكنه أخبرني في هدوء وتأثر أنه سيموت. وكانت نغمة كلامه جادة وخطيرة كما كان إحساسه. ولم يكن يبدو عليه مظهر للمرض، ولم يستطيع هو أن يعرف مرضه، ولكنه كان متأكداً أن آخرته على الأرض قد جاءت، ثم قال لي: " لقد أخطأت خطية الموت" ثم كشف لي عن تلك الخطية. لم تكن له رغبة في أن يعيش، فلم يصل من أجل نفسه ولا طلب مني أن أصلي من أجله، وإنما استسلم لتأديب الرب ولم يؤلمه سوى أن خطيته كانت السبب في ذلك التأديب. على أنه كان مسروراً للغاية أن ينطق ويكون مع الرب. فعلاً رقد، لقد أدرك يد الرب العادلة ومات أن يخامره شك من جهة قبوله.

هذه إحدى طرق الرب الخطيرة، وإنها في الحق لخطيرة. ولكن لا سبيل إلى قصرها على عهد أو زمن معين.

فما هو الفرق العظيم إذاً؟ الفرق ليس في جسامة الخطية وكبرها بل في وقوعها في ظروف تجعلها فظيعة وهائلة وهي كذلك محل إدراك روحي من القديس ذاته الذي لا يرغب في الصلاة من أجله بعد ذلك ولا في أن يعيش يوماً واحداً على الأرض. وفي الحادثة التي ذكرتها عرف الأخ أنه من الخطأ الصلاة لأجله، ولست أذكر أن أحداً صلى من أجله، والواقع أنه مات سريعاً. وفي الأحوال العادية من واجبنا بل نحن مطالبون أن نصلي فإن عواطفنا تتجه بقوة نحو إخوتنا المرضى ويسرنا أن نراهم بيننا مدة أطول وأن نسمع عن سلوكهم المسيحي وعن امتحان وتزكية إيمانهم بطريقة أو أخرى وعن صبرهم وهم يجتازون هذه التجارب، فنحن وإياهم في حاجة للتقويم.

يقول الرسول "توجد خطية * للموت" ثم "كل إثم هو خطية". ومعنى ذلك أن عمل يناقض نسبتنا الجديدة هو خطية، فنحن قد تركنا على الأرض لكي نصنع مشيئة الله، ولكن وقوع مثل هذا العمل الخاطئ في ظروف خاصة مهينة لله سراً أو علناً يضاعف من شناعة هذا العمل ويجعله خطية للموت. أما في الظروف العادية فهي لا تحسب هكذا.

ثم نأتي إلى الأعداد 18 – 21 وهي خاتمة جديرة بالرسالة. ففي تلك الأيام الأولى يوم كان بعض المعترفين يركضون حسناً مع سائر المؤمنين ولكنه سرعان ما تقاعسوا وأظهروا خلوهم من الإيمان والحياة بتركهم المسيح وأتباعهم علماً كاذب الاسم انتهى بهم على عداء مكشوف للآب والابن، نرى الرسول يأخذ مكانه مع المؤمنين الذين يستطيعون بالنعمة أن يقولوا "(نحن) نعلم". وعلمهم هذا كما تدل عليه الكلمة الأصلية كان عملاً باطنياً ولو أنهم في بادئ الأمر تعلموه من مصدر خارجي. أما الذين لم يولدوا من الله فلم يصبح العلم في يوم من الأيام ممتزجاً بأرواحهم ولكن هذا هو امتياز كل واحد من أولاد الله الذين لم يكن في نفسهم أية رغبة أو قيمة لذلك العلم الخارجي الذي يخدع الإنسان الطبيعي ويفتنه. أما غير المؤمنين الذين تنكروا للحق فلم يكونوا سرى (أغنوسطيين) يفخرون بما هو في الحقيقة عار وشنار، من الخرافات والفلسفات التي ميزت ليس فقط أضداد المسيح بل حتى بعض الآباء الأولين نظير إكلميندس الاسكندري ومن على شاكلته. ولكن ليس هكذا التلاميذ الحقيقيون الذين يجدون في المسيح سواء على الأرض (أو في السماء حيث يتجلى "السر" كما في رسائل بولس) كل كنوز العلم والحكمة الإلهية التي كانت مخبوءة سابقاً. وهم في تتبعهم لهذا العلم ونموهم فيه يقودهم الروح القدس ويرشدهم إلى كل الحق، ذلك الحق القديم الجديد على الدوام والذي هو دائماً حي بخلاف أي علم أرضي، لأن الروح القدس بأخذ مما للمسيح ويخبرنا، وكما هو مدون الآن في الكلمة المكتوبة.

"نعلم أن كل من ولد من الله لا يخطئ بل المولود من الله يحفظ نفسه والشرير لا يمسه". العلم هنا كما قلنا علم باطني إلهي من نصيب كل فرد، وهو أمر في غاية الأهمية لقلب المسيحي لكي تظل نفسه لامعة مبتهجة على الدوام. فمن حيث الشكل، يحدثنا هذا العدد عن حقيقة عامة لا تقبل تبديلاً أو تعديلاً، مهما اختلفت وجهات النظر في تفسيرها وتطبيقها. وإنما نلاحظ أن هناك ظلاً من الاختلاف بين لفظتي "من ولد" في الجزء الأول من العدد ولفظة "المولود" في الجزء الثاني، ولو أن كلا الوصفين ينطبقان على الشخص الواحد أي المسيحي، فإن أولهما يعني به الأثر الدائم للولادة بينما الآخر يعنى به حقيقة الولادة في ذاتها بغض النظر عن دوام أثرها. فإذا كانت الخطية أمراً تافهاً أو عملاً هيناً في نظر الأغنوسطيين يتجاهلونه أو يقبلونه كشر لابد منه (لأن هؤلاء كانوا مختلفين فيما بينهم) فإنها على العكس كانت شيئاً خطيراً في تقدير أولاد الله كما هي كذلك في تقدير الله. وأنه لأمر مبهج وفي الوقت نفسه منذر للمولود من الله أن يقال له بصورة خطيرة أنه باعتباره مولوداً من الله لا يخطئ والشرير لا يمسه. لأن كلمة الله حية وفعالة بخلاف أية كلمة أخرى، والروح القدس ماكث في كل مسيحي ليهب الكلمة قوة وفاعلية. ومن أجل ذلك فإن الشركة والسلوك والخدمة والسجود تملأ حياة المؤمن هنا على الأرض.

"نعلم أننا نحن من الله والعالم كله قد وضع في الشرير". حقيقة مجددة خالية من كل إبهام أو غموض، وتفرقة حازمة قاطعة بيننا كعائلة الله من جانب وبين العالم في خضوعه المرعب للشرير من الجانب الآخر، فبنفس العلم الباطني الواحد كان جميع المسيحيين يعلمون أن كيانهم الجديد مشتق من الله نفسه وأن العالم كله واقع في قبضة الشرير. وهل من فاصل بين الجانبين أشد من هذا وأقوى؟ الله مصدر الجميع من الجانب الواحد، وخضوع مطلق للشيطان من الجانب الآخر. ولاحظ أن الكلام هنا ليس عن الكنيسة بالمقابلة مع اليهود أو الأمم، بل عن إدراكنا الواعي بحقيقة كوننا "من الله" بالمقابلة مع العالم كله واقعاً وهو لا يدري تحت سلطان الشرير. ومن خصائص الحياة الجديدة أن ندرك هذا وبالإيمان نستمتع بالبركات العظيمة بحسب مشيئة الله.

"ونعلم أن ابن الله قد جاء وأعطى بصيرة لنعرف الحق (أو الذي هو الحق) ونحن في الحق في ابنه يسوع المسيح. هذا هو الإله الحق والحياة الأبدية". إن العلم اليقيني الباطني بموضوع الإيمان، كمن قد جاء في الجسد له من الأهمية ما للطبيعة الجديدة نفسها إذ هو مصدرها الإلهي. وها هو الوحي يخبرنا أن هذا العلم هو أيضاً من نصيبنا بكل معنى الكلمة. فنحن "نعلم أن ابن الله قد جاء" بالمباينة مع اليهود الذين يتوقعون مسيحاً آخر هو دون المسيح الحقيقي من كل الوجوه، وبالمباينة مع اليهود الذين يتوقعون مسيحاً آخر هو دون المسيح الحقيقي من كل الوجوه، وبالمباينة أيضاً مع الأمم الذين لا يعرفون الله ويعبدون الشياطين هم أكثر جهلاً إن جاز التعبير. ولكن ابن الله، الذي به كل شيء كان، صار في المحبة إنساناً لكي يعطينا ليس فقط حياة أبدية بل يعطينا نفسه كفارة عن خطايانا كما تشهد بذلك كلمة الله. ولئن كان شيئاً عظيماً أن يخلق العالمين من لا شيء، فقد كان أعظم أن يصنع الفداء بموته. لكن يقال هنا أنه جاء ليعطينا بصيرة ليعرف الحق، أي الإله الحقيقي، لأنه وحده الذي كان في مقدوره أن يكون صورة الله غير المنظور في عالم من الظلمة والعار والضلال، تدفعهم من خلف قوات الشر الخفية لزخرفة الباطل وتشجيع أناس عميان لمقاومة الحق. فهي ليست مجرد نظرية غالية وعزيزة على المخادعين المضللين بل شخص إلهي حقيقي، أو بالحري الحياة الأبدية كحقيقة حية، يقوم على أساسها الحق العميق السامي الذي نعرفه في المسيح، والذي تشهد له الكنيسة باعتبارها شاهده الجماعي المسئول – ولو إنها فشلت في هذه الشهادة وهي الآن أكثر فشلاً. لكن للإيمان مورده في اليوم المظلم، بل في أشد الأيام ظلاماً، وها هي ذي رسالة يوحنا تقوم بدورها العظيم في الكشف عن ذلك المورد، مع سلطان إلهي في يسوع المسيح الذي هو أمساً واليوم هو إله الأبد – للمؤمن وفي ذاته.

هذا الامتياز الأبدي الذي لا يتغير ولا يتبدل معبر عنه هنا بإيجاز وقوة "ونحن في الحق في ابنه يسوع المسيح". وهكذا يوضح لنا أن سبيلنا للاحتماء في ضمان الإله الحقيقي هو وجودنا في ابنه، كما يخبرنا هو نفسه له المجد في (يوحنا 14: 20) "في ذلك اليوم تعلمون إني أنا في أبي وأنتم فيّ وأنا فيكم" فلسنا فقط فيه، بل نعلم أننا فيه مع سائر الحقائق الأخرى المجيدة المذكورة هنا. ولنلاحظ أن "ذلك اليوم" هو الآن هذا اليوم الذي نعيش فيه والذي بدأ من قيامته وصعوده. وهل هناك ما كان يمكن عمله أعظم من منحنا الطبيعة الإلهية في المسيح، مع الثبوت في الله بروحه الماكث فينا؟ تلك الحقائق العجيبة وبالأكثر لأن أولئك الذين يكتفون أو لا يكتفون بالمسيحية الاسمية يبدون وكأنهم ليس لديهم حتى مجرد الفكر من أنهم من حق كل ابن أن يدرك هذه الامتيازات ويعيش فيها. وما أعمق وأبرك الكلمات الختامية في هذا الفصل "هذا (يسوع المسيح ابنه) هو الإله الحق والحياة الأبدية" هذه عبارة مليئة بالمعنى والبركة فذاك الذي نحن منه وفيه هو الإله الحق، بالمقابلة مع كل الآلهة الكاذبة أو مع ما يعرفون الله. ولكن الله كحقيقة لا يمكن أن يعرف إلا في ابنه يسوع المسيح، لأنه فيه وحده سيعرف، في ذاك الذي تخلى عن كل شيء في سبيل إتمام المهمة وفي سبيل تأهيلنا للوجود فيه بواسطة منحنا طبيعته. هو الإله الحق، وهو أيضاً الحياة الأبدية، التي بدونها ما كنا نستطيع أن نعرف لا الآب ولا ذاك الذي أرسله. وفي المسيح المقام لنا تلك الحياة في كامل صفاتها لنفوسنا الآن، كما أننا سننالها لأجسادنا في القيامة أو التغيير عند مجيئه إلينا.

وأخيراً، بجانب الحق والنعمة موضحون بهذه القوة العجيبة المؤثرة، يقدم الرسول تحذيراً قصيراً خطيراً "أيها الأولاد احفظوا أنفسكم من الأصنام". إن كل غرض خارج عن المسيح، كل ما يتعلق به القلب، يجعل الشيطان منه صنماً قد لا تكون الأصنام في الوقت الحاضر من ذهب أو فضة من حجر أو خشب، بل من طبيعة أدهى وأمكر. ومع ذلك فسيأتي اليوم الذي فيه يعود اليهود إلى خطتهم القديمة مهما ظنوا أن ذلك قليل الاحتمال، وكذلك النصرانية حتى حيث فاخروا بتعاليمهم وبغضهم الشديد للوثنية الرومانية. فإنهما سيتحدان في الارتداد العتيد إذ سيعبدان إنسان الخطية، ضد المسيح، حينما يجلس في هيكل الله مظهراً نفسه إنه إله، ولكنه سيلقى في الهلاك مع حليفه السياسي العظيم، وحش روما في ذلك اليوم. الرب قريب. آمين.

  • عدد الزيارات: 3037