Skip to main content

الرسالة الأولى: الخطاب الرابع

1 يو 2: 3 – 6

"وبهذا نعرف أننا قد عرفناه إن حفظنا وصاياه. من قال قد عرفته وهو لا يحفظ وصاياه فهو كاذب وليس الحق فيه. وأما من حفظ كلمته فحقاً في هذا قد تكملت محبة الله. بهذا نعرف أننا فيه. من قال إنه ثابت فيه ينبغي أنه كما سلك ذاك هكذا يسلك هو أيضاً"

إن كل مسيحي متأمل لا بد أن يحس وهو يقرأ هذه الأقوال أنها بحسب الظاهر غير مرتبطة بالأعداد السابقة، ولو أن حرف العطف الذي تبدأ به قد يعطيها شبه اتصال بما قبلها. لا شك أن هناك رابطة حية بين الاثنين، ولكن مرجع هذه الرابطة ليس حرف العطف الذي يربط به الناس عادة موضوعاتهم المنوعة لأن العبارة في الواقع تتكلم عن شيء متميز عما سبقه. ومع ذلك فهناك حلقة، وحلقة مهمة جداً، تربط الاثنين معاً، وهذه الحلقة هي في كلمة واحدة "الحياة" ليس فيما بعد مجرد الحياة الإلهية بل طبيعة الله في طهارتها المطلقة المعبر عنها بالكلمة التصويرية "نور" – ذلك النور الذي انتقل إليه المؤمن منذ لحظة تجديده.

فالنور هو الذي يؤثر بقوة من الآن فصاعداً على الضمير لأنه ليس فقط ضميراً يقظاً بل ضميراً مطهراً. والطبيعة الجديدة ترحب بنور الله وتستجيب له وبالأكثر لشعورها الأليم بمبلغ الشر الذي تنطوي عليه الطبيعة القديمة في ذاتها. ولكن المسيحي قد حصل على طبيعة جديدة من الله. ويصرح الرسول بطرس أننا نحن المؤمنين قد صارت لنا طبيعة إلهية، وذلك من اللحظة التي فيها تعمل حياة الله في نفوسنا وهي تعمل فعلاً من ذات اللحظة التي فيها نرجع إلى الله. قد لا يكون لنا بعد، بل قد يمر وقت طويل قبل أن نتمتع بالسلام تمتعاً كاملاً ومع ذلك فإننا نبتهج ونفرح فرحاً عظيماً في إيماننا أن الله قد تكلم إلى نفوسنا ونحس براحة كبيرة في خضوعنا الكلي لنور الله الذي يكشف ويدين حياتنا الماضية.

وكيف ذلك، ولماذا نفرح بإدانة نفوسنا؟ السبب لأن لنا حياة جديدة من الله والحياة في المسيح هي نور الناس. وهذه الحياة تسمى في أماكن أخرى الحياة الأبدية ولكن حياة المسيح ليست حياتين. صحيح أن لتعبير "الحياة الأبدية" معناه الخاص وتأثيره الخاص، ولكنها نفس الحياة الواحدة، وليس للمؤمن سواها. ونحن نرى كم هو لائق ومناسب أن يكون الوضع هكذا، لأن المسيح حياتنا هو نفسه الحياة الأبدية كما هو مذكور عنه في العدد الثاني من الإصحاح الأول. وكذلك الرسول بولس يقرر في رسائله بلا تردد أن المسيح حياتنا (كو 3: 4) وأنه يحيا لا هو بل المسيح يحيا فيه (غلا 2: 20). إذاً فالحق مؤكد من كل جانب. وكما أن المسيح ليس لنا ليس له حياتان، كذلك المؤمن ليس له حياتان. أقول هذا فقط عن الحياة الروحية، غير منكر الحياة الطبيعية. ففي المسيح كانت الحياة منذ الأزل، وإذا جاء من السماء صار يعطي الحياة بالإيمان ليس لليهودي فقط بل للعالم (يو 6: 32) فهي للأممي الذي يؤمن سواء بسواء. إذاً فالمؤمن له هذه الحياة، وإذا هو يتقدم في الإدراك يشعر بالفرح العظيم إذ يعرف أنها حياة أبدية.

وفي رسالة بطرس الأولى (ص 1: 2) نجد نفس هذا الحق الجوهري فيما يتعلق بتقديس الروح الذي يتكلم عنه الرسول هناك. لقد أساء الكثيرون فهم المراد من الاصطلاح "تقديس الروح" فظنوا أن المقصود هو القداسة العملية. وقد ترتب على هذا التفسير المغلوط أخطاء أخرى كثيرة، فإن بذرة الخطأ متى زرعت أنتجت حصاداً كثيراً من التشويش والارتباك. ولكن القرينة توضح تماماً أن تقديس الروح هناك معناه شيء واحد وهو تكريس المؤمن أو تخصيصه لله، الأمر الذي يتم بولادته من الله، لأنه تكريس أو تخصيص "للطاعة ورش دم يسوع المسيح" أعنى أنه سابق وليس لاحقاً لطاعة على شبه طاعة المسيح ورش دمه بالمقابلة مع طاعة الناموس ورش دمه (خروج 24) فنحن مدعوون منذ خطوتنا الأولى في الحياة الجديدة التي بها يفرزنا الروح لله ويخصصنا أو يقدسنا له أن نطيع كما أطاع المسيح كأبناء في كل حرية مقدسة ولنا الدم المرشوش الذي يعلن غفران خطايانا وإبطالها. وهذا على نقيض إسرائيل الذي بدأ مساعيه في الحصول على الحياة بمحاولة إطاعة الناموس خوفاً من عقوبة ذلك الموت الذي كان يشهد له دم الذبائح التي كان يرش على الكتاب والشعب. ونفس هذا المعنى يوضح السبب في قول الرسول بولس في (1 كو 6: 11) "لكن اغتسلتم بل تقدستم" قبل القول "بل تبررتم"، إذ لو كان الأمر متعلقاً بالقداسة العملية لانعكس الوضع. فتقديس الروح الذي يتكلم عنه الرسولان الرئيسيان (بطرس وبولس) معناه الانفصال لله، ذلك الانفصال الذي يتم حينما نولد من الله. (وهي طريقة يوحنا في الكلام) وسابق لتخصيص رش دم المسيح وممهد الطريق لطاعتنا لله كما أطاع المسيح.

في عهد الناموس كانت الحياة تقدم للإسرائيلي تحت شرط الطاعة. ومع ذلك فلم تكن ملكاً له بل كانت الحياة المضاعة التي فقد حقه فيها وكان لا بد لها من الوقوع تحت سلطان الموت كالحياة الآدمية الأولى. على أنه لا يقال أنها كانت تحت سلطان الفناء، لأنه لا فناء للإنسان على الإطلاق ولن تستطيع كل قوة الشيطان أن تبيد أضعف كائن بشري. لاشك أن هناك أشياء مخلوقة لم يكن قصد الله الأصلي أنها تحيا ثانية. أما الإنسان فليس كذلك وما موته إلا مجرد انفصال بين النفس والجسد. الإنسان المذنب يجب أن يموت ويدان، وأليس هو حقاً وعدلاً أن يحتمل وزر إثمه ضد الله والإنسان؟ أما الإنسان المؤمن فيعلم من الله أن الحياة الأبدية التي له هنا في الابن هي نفس الحياة التي تكون له عندما يتغير أو يقام من الأموات، فهي الحياة التي أهلته للشركة مع الآب والابن وهو هنا في هذا العالم، وهي التي ستؤهله للتمتع بالآب والابن طوال الأبدية.

ثم أن روح الله هو القوة الإلهية والأقنوم الإلهي العامل للخير في هذه الحياة ضد كل ما يقاومها.وبهذا يمجد المسيح الذي وهبها لنا بالنعمة. ذلك لأننا نحتاج دائماً للرب يسوع كغرض وقوة نفوسنا كما احتجنا إليه كواهب الحياة، وكما سنحتاج إليه إلى الأبد للخدمة والتعبد والتمتع. ولكنه الآن يحيا في السماء لأجلنا فلا نستطيع القول أن يعوزنا كما لو كنا لم نمتلكه. لقد امتلكناه فعلاً وصار يلذ لنا الابتهاج به كمن بذل نفسه لأجلنا، وسرورنا الآن – قبل كل شيء – أن نعمل رضاه. وكما نحب أن نتمم مشيئة الله على الأرض هكذا سيكون الحال في الأعالي عندما تزول إلى الأبد جميع المؤثرات المضادة.

ولكننا نبدأ من الآن بما هو أبدي حتى ونحن بعد في عالم الزمان. وأليس هو أمراً مباركاً لنفوسنا أننا نتطلع إلى الأبدية ليس كمجرد مستقبل، بل نتعلم من الله كل من له حياة أبدية قد دخل فعلاً من الآن فيما سيستمر إلى الأبد؟ فنحن لا ننظر إلى الأمور التي ترى وهي وقتية بل من امتيازنا أننا ننظر إلى الأمور التي لا ترى وأبدية. والإيمان يعلم أن الأمور التي لا ترى حقيقية وغير متغيرة أكثر جداً من كل ما نراه بعيوننا. وواضح أن حلقة اتصالنا بما أبدي هو أن ذاك الذي هو نفسه لحياة الأبدية حياتنا. وكيف تعرف هذه الحياة؟ عند هذه النقطة يحاول الشيطان أن يلقي بما لا يسوغ لمؤمن أن يسمح به قط – وهو الشك، ولكن نحن الذين نؤمن بإعلان الله يجب علينا أن نعتبر الشك خطية. لأنه قيم هذا الشك؟ طبعاً ليس في حقيقة ذواتنا، لأننا قبل أن نسمع صوت ابن الله هل كنا إلا خطاة هالكين؟ ثم هو ليس شكاً في محبة الله لأن عندنا البرهان عليها وهو دم المسيح المعطى لنا بل والمصلوب لأجلنا – المسيح المعطى لنا ليس فقط في كل قيمة دمه لمحو خطايانا بل كالمقام من الأموات وكمن هو الآن في المجد حيث لا يستحق بنا بل يدعونا إخوة. فبالنعمة لنا المسيح الآن وإلى الأبد. هكذا على الأقل هو يؤكد لنا (يو 10: 28).

إن الحياة الأبدية – نظير الفداء الأبدي – هي هبة الله العجيبة في المسيح، وهي ككل هبات الله تبقى إلى الأبد غير متغيرة أو منقوصة. والمسيح قد اجتاز الموت لكي يطبع تلك الحياة بطابع الحياة المقامة وليس فقط الحياة الأبدية. وإذا أقمنا معه نعلم أن خطايانا جميعها قد غفرت (كو 2: 13) والقيامة معه معناها أن ذاك الذي مات هو الآن حي وإلى الأبد وأن لنا الحق منذ الآن أن نقف موقفه، عالمين أن النعمة قد جعلت ذلك المقام نصيبنا الحاضر. أما إذا كان إبليس يتحدانا ويناوشنا فإننا نتيح له الفرصة بإهمالنا وعدم سهرنا وإغفال الصلاة والتغذي بالكلمة كطعامنا اليومي. إن الناس يحسون بالحاجة للطعام الجسدي، ولكن أليس للنفس مثل هذه الحاجة بل أكر منها، إن لم نقل شيئاً عن أهميتها التي لا تقارن؟

ما هو إذن خبز الحياة؟ هو المسيح معلناً بالكلمة. أو بعبارة أخرى هو الكلمة جاعلة المسيح طعامنا في الروح. فلا شيء سوى المسيح يغذي النفس. ومع ذلك فعندما تستسلم النفس للتجربة وتسقط في الخطية هناك تكون فرصة العدو. فهو يستخدم السقطة لكي يقود المؤمن إلى مزالق الشك في كلمة الله تحت ستار الشك في نفسه كما يحصل عادة. ولكن هي أن الشك هو في الله تحت ستار الشك في نفسه كما يحصل عادة. ولكن الحقيقة هي أن الشك هو في الله وفي نعمته في المسيح ويا لها من شكوك مخجلة، مع وقوف المسيح مصلوب بوضوح أمام عيوننا! فها هو هناك، مقدماً في كلمة الله لإيماننا كالمصلوب، لكي يهدم كل شك هدماً كاملاً. ألم يمت من أجل الفجار والأعداء الضعفاء (رو 5: 6 - 10)؟ حقاً أننا لو لم نكن أردياء بهذه الصورة لما كانت بنا حاجة إلى مخلص إلهي نظيره. وفضلاً عن ذلك فإننا نعلم خيانة الجسد في المؤمن. وهذا ما يزعج الكثيرين من القديسين ليس ما عمله في أيام ظلامه وموته بل ما يلمسه في اختباره من فشل في طريق النعمة والحق، من فورات الإرادة الذاتية أو غباوة أو عجب أو كبرياء أو روح عالمية، إلى غير ذلك مما يحزن الروح القدس بعد كل الرحمة التي أظهرها له الله وكم هو محزن حقاً بعد اختبار كل هذا الفيض من النعمة، أن يكون المؤمن في وقت من الأوقات حاداً أو فظاً، مهملاً أو متهاوناً. ومن هنا نرى فشل المؤمن يخلق في نفسه كثيراً من الصعوبات حول نفسه أمام الله، وليس ذلك فقط بل إذا ما انزلق المؤمن في خطية وافتضح أمرها للناس فإنهم بدورهم يرتابون في حقيقة حاله.

لذلك نرى يوحنا وقد وضع أساس الرسالة التعليمي في الإصحاح الأول والعددين الملحقين به من الصحاح الثاني، يبدأ في مناقشة هذا السؤال: كيف أتأكد من وجود الحياة وما هي وسائل امتحانها؟ إن الفلاسفة يتحدثون كثيراً الطبيعية مع أنهم لا يعرفون عنها إلا القليل، فلماذا يدهشنا أن يثير الشيطان الشكوك حول الحياة الروحية وبخاصة عندما تنزلق أقدام المؤمن ويتدنس ضميره؟

فمن العدد الثالث يزودنا الوحي بأكثر من محك واحد. يزودنا بمقاييس فاحصة ليوضح لنفوسنا وللآخرين أيضاً كيف تعلن الحياة عن وجودها أو عدم وجودها. فقد حدثنا يوحنا أولاً عن غرض الإيمان في المسيح أي الحياة الأبدية، ثم عن عمل طبيعة الله الذي لابد منه في الذين هم له، أي النور. وبعد العبارة التكميلية الوجيزة الخاصة بمعدات النعمة لرد نفس المؤمن الساقط يصل بنا إلى محك الحياة الحقيقية وبراهينها. والأعداد 3 – 6 تعطينا المحك الأول. فما هو هذا المحك الأولي لأي نفس؟ هو ذلك الذي يميز تمييزاً واضحاً وفي الحال، أي من بدء الطريق، ما إذا كان الإنسان له حياة أم ليس له – وهو الطاعة. "وبهذا نعرف أننا قد عرفناه إن حفظنا وصاياه". أي أنها نتيجة مستمرة أننا عرفناه إن كنا نحفظ وصاياه. وهذه هي الطاعة ولا شيء غيرها. وهي ليست الصورة الوحيدة التي تدل على روح الحياة ولكنها بصفة عامة الصورة الأولى التي تبدأ في الحياة بلا تأخير أو إبطاء. وهي امتحان يناسب أصغر قديس لأن اختبار الطاعة هو امتحان دعواه بالحصول على الحياة. وهذا هو بالتحقيق ما تقود إليه الحياة الجديدة وهو أول وجه من أوجه نشاطها. لاحظ هذا في ذلك الإنسان الذي كان مزمعاً أن يصير رسول الأمم العظيم. فما إن وصل صوت الرب نفسه، وتحقق أن ذاك الذي مات فوق الصليب هو الله الحقيقي ظاهراً في الجسد، حتى دوت من أعماق نفسه تلك الصرخة المأثورة "يا رب ماذا تريد أن أفعل" فهو يحكم على خطأه ويريد أن يطيع. وهذه هي أول غريزة من غرائز الحياة الروحية. فإذا قد تجدد قلبه أصبح همه أن يطيع ذاك الذي يدعوه بلا تردد رباً. وهكذا إذا تابعنا البحث في كلمة الله نرى أهمية الطاعة وخطورتها العظمى وكيف أنها شاملة لكي شيء.خذ مثلاً مسألة خضوع النفس لبر الله. ذلك ما يسمى في رسالة رومية "إطاعة الإيمان" ويقصد به ليس الطاعة العملية التي ينتجها الإيمان في السلوك بل العمل الأولي في تصديق كلمة الله. هذه هي بالحقيقة طاعة القلب. طاعة الإنسان للحق وقبول النفس لشهادة الله عن ابنه. فالإنسان الذي كان إلى الآن أثيماً وبعيداً عن الله يعترف بإثمه كامل الاعتراف وينحي أمام كلمة الله ويتقبل الحق الخاص بالمسيح وبعمله فيتبرر. من ذلك يكرز بالإنجيل لجميع الشعوب ليس لكي يطيعوا الناموس كما كان الحال مع إسرائيل بل لإطاعة الإيمان. ونرجو الانتباه مرة أخرى إلى حقيقة المعنى المقصود بهذه الكلمة. ليست الطاعة التي يثمرها الإيمان. بل الخضوع للإنجيل بالإيمان. وهذا المعنى نراه يتردد في صيغ مختلفة في الكتاب المقدس.

ولكن هناك علامات وأدلة أخرى لها أهميتها. ونفعل حسناً إن نحن نظرنا إليها منذ فجر التاريخ الإنساني. فماذا نرى هناك؟ نرى آدم الأول، أبا الجنس البشري ويا للأسف! فإن تاريخ الإنسان الأدبي يبدأ بالعصيان وعدم الطاعة. فالوصية في عدن لم تكن إلا امتحاناً بسيطاً للطاعة مقترناً بعقوبة الموت. لم يكن الأكل من شجرة معرفة الخير والشر في ذاته ذنباً أدبياً أو إجراماً كالسرقة أو القتل أو الطمع أو غير ذلك مما يعتبر نقضاً للوصايا العشر. فهذه النواهي كلها تفترض وجود استعداداً فطري لفعل الشر. لكن الأمر لم يكن هكذا مع آدم حيث كان إلى ذلك الوقت في حالة البراءة والاستقامة. وكل ما هناك أن الله نهاه عن الأكل من ثمرة تلك الشجرة. ولا علاقة مطلقاً بين هذا النهي وبين نوع الثمر، كما أنه لا يتضمن بحال من الأحوال أنذلك الثمر كان سماً. هكذا كان يجب الإنسان أن ينظر إلى المسألة، فكل همه يدور حول مدى تأثيرها على نفسه. ولكن القصد من الوصية كان تثبيت سلطان الرب الإله، ولا شيء غير ذلك. كان القصد امتحان طاعة الإنسان وثقته في كلمة الله وصلاحه. وبالاختصار كان القصد امتحان خضوعه المطلق كخليقة الله، لأنه إلى ذلك الوقت لم يكن ممكناً أن آدم يدعى بالنعمة ابناً مولوداً منه. لقد كان ابناً لله بالمعنى الذي كان الأثينيون بعد ذلك. أي ذرية الله. أعني أنه لم يكن مجرد حيوان طبيعي بلا عقل، فقد حصل من أول الأمر على نفس خالدة من نسمة خالدة من نسمة القدير. فمن هذا الوجه كان آدم ذرية الله، لكنه لم يكن حتى ذلك الوقت ابناً لله مولوداً منه بالنعمة بالإيمان. فمثل هذه الولادة ليست إلا ثمرة نعمته في المسيح ولا يمكن أن ترجع إلى أي شيء آخر. بهذه الطريقة وحدها ينال الإنسان الحياة في ابنه – الأمر الذي لم يكن لآدم شيء منه بينما كان وهو في جنة عدن مجرد إنسان في حالة البراءة.

 غير أن الواقعة الصريحة التي بدرت منه بسرعة ودمغت خرابه وسقوطه هي العصيان. لقد عصى المسكين حتى الموت، بالمباينة على خط مستقيم مع نقيضه الأعظم الإنسان الثاني، آدم الأخير، الذي أطاع حتى الموت. ومع ذلك فالابن في كيانه الأزلي، وفي مقامه الذاتي السرمدي، وفي جلاله الشخصي الملازم له، هو أقنوم إلهي، وبصفته هذه لم يكن له شأن بالطاعة. ولهذا السبب عينه قيل عنه في (عب 5: 8) أنه تعلم الطاعة مما تألم به. أعني أنه له المجد لم يكن يعرف الطاعة حتى جاء وصار إنساناً. كان يعرف جيداً معنى الطاعة وكيف تكون في حالة الآخرين، في حالة كل مخلوق، أما هو فلم يكن مخلوقاً بل الخالق. غير أنه إذ صار إنساناً ارتضى بكل إخلاص وولاء أن يقوم بواجبات الإنسان. ومن أول واجبات الإنسان الطاعة لله.

وتبارك اسم سيدنا فقد أظهر طاعة لا مثيل لها ومجد أباه في كل فكر من أفكار قلبه وفي كل كلمة من كلمات فمه وفي كل خطوة من خطوات طريقه. وقد أخضع يوحنا المعمدان لطلبته بقوله المأثور "يليق بنا أن نكمل كل بر" وواجه تجارب الشيطان بشيء واحد هو الطاعة. وهذا في الواقع هو الفرق العظيم بين الرب يسوع كإنسان وبين كل إنسان آخر. فما من إنسان أطاع على طول الخط نظيره. والطاعة هي مميز أسمى بكثير من عمل المعجزات. وكثيرون سيقولون للرب في ذلك اليوم "يا رب يا رب أليس باسمك تنبأنا وباسمك أخرجنا شياطين وباسمك صنعنا قوات كثيرة. فحينئذ أصرح لهم أني لم أعرفكم قط. اذهبوا عنى يا فاعلي الإثم" (مت 7: 21 - 23) فصنع المعجزات وحده ليس بحال من الأحوال علامة ضرورية على السمو الأدبي. إنها كآية أو علامة كانت بصفة عامة تتبع عبيد الله الأمناء الذين افتتحوا تدبيراً معيناً طبقاً لمشيئة الله المعلنة أو الذين برروا هذه المشيئة كلما طغت أمواج الارتداد. ولكن الله – لحكمة سامية في نفسه – قد أرانا أشر الناس صانعين معجزات عظيمة، وفي مقدمتهم خائن الرب يسوع نفسه كما سبقت الإشارة، وسيأتي الكلام بعد قليل عن شخصية أخرى كان لها شأنها الخاص من هذا النوع ولكن الأول من هؤلاء وهو الذي يدعوه سيدنا "ابن الهلاك" قد أظهر بما لا يحتاج إلى دليل أنه لم يكن يحمل للمسيح أقل تقدير. لقد نال قوة وأخذ سلطاناً، ولكنه مجرداً من الطاعة ومن الإيمان الذي يقود إليها.

ومن الطبيعي وقد ذكرنا ابن الهلاك الأول أن تنتقل أفكارنا إلى ابن الهلاك الأخير، أي ضد المسيح. وما الذي يؤهله لأن يكون أداة طيعة ومطيعة ذلولاً للشيطان إلى أقصى درجة؟ إن الطريقة التي أظهر بها يهوذا تمرده وخيانته في تسليم ابن الله المحبوب لا تعدلها طريقة أخرى في إهانة الله. وهكذا سيكون ضد المسيح سبباً في خراب اليهود والأمم بدرجة لم يسبقه فيها أي إنسان عاش على الأرض.

لكننا نسأل ما العلامة التي ستميز ضد المسيح قبل أن يتاح للشيطان لأن يعمل فيه بتلك القوة الهائلة زمناً يسيراً؟ ما الذي سيؤهله لهذا الدور الخطير الشنيع؟ لا شيء كإرادته (دا 11: 36) أي أنه لا يتمم إرادة الله بل إرادة الشيطان. هذا هو "إنسان الخطية" وهو "الأثيم" (2 تس 2: 3 و 8) إنك حينما تفعل إرادتك الذاتية تكون بكل أسف عبداً للشيطان، أما هذا المخلوق الغريب فسيكون في هذا الميدان.

ومن هنا نرى المكانة الخطيرة التي تحتلها الطاعة من الأول إلى الآخر. فمنذ فجر التاريخ نرى الإنسان الأول يتنكب طريقها وإذا بالخراب الشامل يحل بالعالم على الأثر. وعندما جاء الإنسان الثاني، الرب يسوع الذي هو من السماء كان هو الإنسان المطيع الكامل الذي جاء للإنسان ليس بالبركة المجانية الكاملة فقط بل و أيضاً بالكفارة والسلام بدم صليبه إذ هو يمحو خطايا الخطاة محواً تاماً متى آمنوا. وقد نزل الروح القدس من السماء كالشاهد لشخصه العزيز ولعمله المبارك للفداء الأبدي ومصالحة الخليقة في مجيئه الثاني. ومن هنا كانت الطاعة شوق النفس وتصميمها وسرورها بمجرد أن تعرف الرب يسوع وتعترف به. فالقلب المتكبر المتهاون المظلم يقع تحت تأثير كلمة الله وروحه القدوس الذي يملأه بالرعب من شره ويقدم له المسيح في ملء صلاح الله الذي بذل المسيح لأجل نفسه فينحني أمام سيده ومخلصه مشتاقاً لأن يطيع من تلك اللحظة فصاعداً. وكما أن للطاعة أهميتها الكبرى منذ لحظة بدء الحياة في النفس كذلك هي بالغة الأهمية في كل طرق الله العلنية حتى فيما يتعلق بضد المسيح في نهاية الدهر الحاضر كما رأينا.

ومن هنا يتضح ما لمبدأ الطاعة من أفق بعيد وأهمية بالغة لمجد الله وخير الإنسان، بل ما هو أبعد كثيراً من دائرة الإنسان. فقد علمنا أن الملائكة الذين سقطوا كانوا قبل سقوطهم كائنات سماوية، وأنه بسبب عصيانهم وكبريائهم تركوا رياستهم أي المكان الذي عينه لهم الله واتخذوا لأنفسهم مركزاً آخر لم يكن من قرعتهم بحسب ترتيب الله. فالطاعة لله إذن هي دائماً وفي كل زمان ومكان طريق البركة الحقيقية.

فلا يدهشنا (والأمر كما قدمنا) أن نرى روح الله يبادر على الفور بإدخال الطاعة في رسالتنا وفي هذا القسم منها. فإذا ارتاب واحد في نسيته لله، أو ارتاب الآخرون فيه، فها هو روح الله يقدم الطاعة باعتبارها المحك الأول العظيم. فهل عندنا روح الطاعة؟ لما كنا في أيام ظلمتنا كنا ندعى بحق "أبناء المعصية" (أف 2) ولكن عندما جاءت نقطة التحول، نقطة تجديدنا ورجوعنا إلى الله، أصبحنا ندعى "أولاد الطاعة" (1 بط 1: 14) فالطاعة من الأول هي ميل وديدن القلب المطهر بالإيمان. ومن تلك اللحظة فصاعداً يصبح حنين الإنسان الباطن أن يطيع الله، ربما قبل أن تستقر النفس بيقين السلام الكامل الراسخ بزمن طويل، ولو أن هذا الاستقرار قد يتم في وقت قصير نسبياً. ولكن هناك على أي حال كراهة للخطية وحكم على الذات ونعمة المسيح التي تجعل الإنسان ليس فقط مشتاقاً للطاعة بل مؤهلاً لها لأنه ما من شخص يتجدد بدون شعاع ولو ضئيل من النعمة. فالرعب لا يجدد أحداً ولو أنه قد يوقف الإنسان ويره الطريق. وما من رعب استطاع أن يجدد أحداً ولو أنه قد يهديه لسماع صوت الإنجيل. فلا بد لنا من شيء آخر يربحنا لله أكثر من الرعب والخوف. وهذا الشيء هو النعمة. قد لا تعرف النفس عن المسيح حينئذ سوى القليل. ولكن هذا القليل لابد منه لكي ينال بالإيمان النور الإلهي والحياة الأبدية. وهذه الحياة تعمل بالطاعة، وتبرهن على وجودها بعزم الإنسان الباطن على إطاعة الله باعتبارها ناموس الحرية وليس ناموس العبودية، فإن حياة المسيح فينا (كما هي فيه بصورة كاملة) تسر أن تفعل مشيئته دون سواها.

ومن هنا الاختلاف العجيب، بحسب الظاهر، بين هذا الجزء من الرسالة وما سبقه. ولكن التشديد على الطاعة هنا هو في محله المناسب. لقد رأينا في القسم السابق مصدر البركة الإلهي وهو معرفة الآب بواسطة الابن والشركة التي لنا مع الآب والابن على أساس هذه المعرفة. ورأينا أيضاً الخبر الذي لنا منه عن طبيعة الله في ملء قداستها بالاقتران بطبيعة الحال مع الأمر الأول وهو نعمته المطلقة. فإذا كنا ننال البركة (بركة الشركة) فلا يسعنا إلا الترحيب بمسؤولية الوجود في نور الله والسلوك فيه. وكيف يتم ذلك فينا؟ يتم على أساس أن الحياة الأبدية التي هي المسيح هي نفس الحياة التي لنا. وبرهان النور والحياة هو الطاعة. وكما لمعت الطاعة طوال حياة المسيح على الأرض، كذلك هي جوهرية في القديس وتشغل المكان الأول في تاريخه الروحي باعتبارها المحك الحياة هنا على الأرض – "بهذا نعرف أننا قد عرفناه إن حفظنا وصاياه".

والطاعة المشار إليها ليست هي الغيرة في التبشير – كما نرى كثيراً في هذه الأيام. فسرعان ما يتجدد الإنسان حتى يظهر رغبته أحياناً في أن يصير مبشراً، وقد يكون ولداً صغيراً بعد كما هو الحادث الآن بين الطوائف في أماكن كثيرة. كلا، ولا هي تنمية ما يسمونه (موهبة الصلاة) وخاصة في الأماكن العامة حيث يتطلب الوقف أن يتلو المصلي على مسمع الحاضرين قائمة متقنة من الأعواز المطلوب تسديدها والأخطاء المراد تصحيحها في كافة أنحاء العالم. على أنه مهما تكن هذه الأمور فإن طريق الله المعلنة تختلف عن ذلك كل الاختلاف. خذ مثلاً مسألة التبشير: إنها شرك المغرور، وكثيرون هم الذين يطمعون فها مع خلوها من القوة اللازمة لها. أما حيث توجد الموهبة فالكرازة خدمة عزيزة وعمل مبارك من أعمال الإيمان والمحبة. فقط ليكن هناك أساس صحيح ولتكن هناك محبة صادقة للنفوس وليس مجرد الرغبة في الكرازة، بعد أن يكون الله قد عمل في القلب لنعرف حقيقة ما نحن، فوق الكل، لنعرف ما هو الله في المسيح من نحو الهالكين.

هنا إذاً يبدأ الرسول بالطاعة . وهل هناك ما هو جدير بالله وجميل بنا أكثر من الطاعة؟ إنها شيء شخصي، تنطبق على كل شيء، وفي جميع الأحوال. إنها تتطلب الاتضاع وتصونه وتولد الثبات والاستقرار. تتطلب الاعتماد على الله وتحمي القديس م ذاته ومن تأثير الآخرين غير اللائق. فلا بد للنفس من تعامل شخصي مع الله للحصول على القوة الحقيقية وتجنب الغرور وهنا نرى الطاعة تتجلى أولاً في صورة "حفظ وصاياه" وهذا يأتي بنا إلى خاصية بارزة من خواص الرسالة التي أمامنا، وهي أنك في أكثر مواضعها لا يمكن أن تحدد بالضبط من هو المقصود بالضمير "هو" ومشتقاته – هل هو الله أم المسيح، فإن الرسول ينتقل بينهما بلا أدنى تغيير في صيغة الكلام والسبب لأن كلاً من الاتجاهين صحيح فإن المسيح وإن كان قد صار إنساناً فذلك لم يوقف كونه الله، فإذا قلنا "وصايا الله" فإننا نقصد أيضاً وصايا المسيح. ولطالما رأينا الرسول يوحنا يبدأ بالكلام عن المسيح بصفة واضحة ثم ينتقل متكلماً عن الله بنفس الوضوح. فالمسيح هو الله، وكلمة الله، أي الذي يعبر شخصياً عن فكر الله قولاَ وعملاً. وكما عمل الروح القدس في المسيح هكذا يعمل في المؤمن فيجعل الطاعة فيه شيئاً فعلياً واقعياً بحيث لا يصبح منقاداً بفكره الخاص ولا يفعل مشيئته الخاصة بل منقاداً بالله. وهذا عمل من أعمال الروح القدس المجيدة.

فنحن من هنا نبدأ تعليمنا، تماماً كالأطفال الطبيعيين في بكور تاريخهم. قد يفهمون القليل في بادئ الأمر ولكنه من الضروري والمهم للغاية أن يتعلموا الطاعة لكي يصلوا إلى الفهم الكامل ولكي يتعلموا الطاعة يجب أن يدربوا عليها بأسلوب واضح يتفق مع عقولهم المتفتحة، فلا نتوقع من طفل مثلاً أن يدرك بسهولة الحقائق المعنوية المجردة، كما لا نتوقع أن يكون للقدوة تأثيرها على الطفل في كل الأحوال. فقد يكون من السهل أن يقال له "هذا لائق ببابا أو ماما، أو بهذا الرجل أو تلك السيدة" ولكن المهم هو مدى ارتباط مدى الكلام بدائرة نفسه الصغيرة.

فأول صورة من صور الطاعة هي بكل بساطة ودقة - الخضوع لوصاياه. وليس المقصود بوصايا الناموس العشر فإن يوحنا لا يشير إلى هذا مطلقاً في كلامه عن الوصايا هنا، فإن الأمر كله مرتبط بالمسيح وبشخصه الكريم ونستطيع أن نقول باختصار أن الفارق بين اختبار الناموس وامتحان هذه الوصايا هو أن الناموس كان برهان على حقيقة ما هو الإنسان بينما الإنجيل هو إعلان ما هو الله في المسيح. ولذلك فقد وضع الإنسان تحت الناموس ليثبت هل يستطيع هل يتخلى عن إرادته الذاتية ينفذ مطاليب الله لنوال الحياة، فكانت الحياة معروضة للذين تحت الناموس إن هم أطاعوا الناموس. وهذا يختلف كل الاختلاف عما يمنح الله الآن للمؤمنين. فالمفروض أن الإيمان قد امتلك الحياة فعلاً، تماماً كما كانت الحياة في المسيح قبل مجيئه إلى العالم. فهو كان الحياة الأبدية عن الآب ولما اتخذ الناسوت كان لا يزال الحياة الأبدية وقد أظهر هنا ليس فقط كأقنوم إلهي جاء ليظهر المحبة كإله الحق وابن الله، بل كالحياة الأبدية ليعطي حية للذين لم يكن لهم سوى الموت والخطية التي جلبت الموت. فمن الواضح أن الوصايا المشار إليها هنا هي لتوجيه الحياة الجديدة الممنوحة فعلاً عوض أن تكون مجرد دستور أدبي يجب أن يطاع لنوال الحياة. وبعبارة أخرى هي ممارسة الحياة التي وهبتها النعمة للمؤمن في المسيح. على أن الصورة الأولى للطاعة هي "إن حفظنا وصاياه".

إن الله في نعمته يضع الأمور في صيغة الأمر والسلطان لكي يشعر الطفل، وليد النعمة الشبيه بالطفل، بخطورة الطاعة وأهميتها والحاجة إليها لذلك نراه تبارك اسمه يصوغ وصاياه في حالات كثيرة في قالب الأمر، وبكل وضوح وسلطان. وأليس هذا حسناً وصواباً؟ وهل يتصور عاقل أن الله يمكن أن يتكلم بغير أسلوب السلطان المطلق، أو أن سلطانه غير مرتبط بكل ما يفرضه على الإنسان؟ هذا ولا يخطرن ببالك أن وصية الله هي دائماً شيء يجب على الإنسان أن يعمله. ألم يعمل هو شيئاً للإنسان لكي يؤمن به؟ في (1 يو 3: 23) نجد الإيمان باسم ابنه وصية من وصاياه. تماماً كوصيته بأن نحب بعضنا بعض، أي أن الله يوصي جميع الناس أن يؤمنوا بالإنجيل كما يوصي القديسين أن يحبوا بعضهم بعضاً. إذاً فهو يوصي لكي يرينا أن سلطانه مرتبط بالأمر، ليس فقط محبته بل حقه في أن يأمر ويوصي. ومن الواضح بأن الطاعة مفروضة على الإنسان بحسب الله.

خذ مثلاً آخر. في (أع 17: 30) يقول الرسول بولس للأثينيين أن الله يأمر جميع الناس أن يتوبوا، وهو ما يقابل بالإيمان باسم ابنه يسوع المسيح. فالأمر الآن لا يتعلق بنجاة نينوى من الدمار بل بإنقاذ الخطاة من جهنم. طبعاً لا يونان ولا رجال نينوى كانوا يفكرون يومئذ في الخلاص من الدينونة الأبدية، ولا في نوال الحياة الأبدية للتمتع بالشركة مع الآب والابن كما في الوقت الحاضر ثم الوجود مع المسيح إلى الأبد في الأعالي. أما نحن فلنا وصيته الآن لهذه الغاية الصريحة، ومع وجود النفس في حالة صحيحة يجب أن يكون لهذه الوصية أعظم وزن وتقدير. فهي ترينا مبلغ اهتمام الله بأمرنا. أو ليس خبراً طيباً لنفس متمرغة في التراب والرماد بسبب خطاياهم أن تعلم أن الله مهتم بأن يقدم بركة مجانية كاملة مع خالص نعمته لشخص مسكين كهذا محتاج للتوبة والإيمان؟ هذا والأمر مرتبط في الوقت نفسه بجلاله وعظمته ، وهو لن يسلم عزه ليرضي غرور الإنسان الفارغ المتكبر. حقاً إن الناس لابد وأن يكونوا عمياناً في خطاياهم وعداوتهم لله كل أيام حياتهم وإن هم لاموا الله رغم كل هذا الاهتمام العظيم من جانبه بأمر نفوسهم – الله الذي بذل ابنه الوحيد الحبيب لكي يخلص أشر الخطاة.

عندما نحب شخصاً يسرنا أن نفعل ما قد يضعه في صيغة أمر أو وصية. وحيث يوجد سلطان، فالأمر أو الوصية هي الصيغة السائدة حتى بين الناس. فكم بالأحرى يجب أن يكون الأمر مع الله الذي لا يمكن أن يكذب أو يخدع. الإله المملوء صلاحاً ورحمة وطول أناة. حتى تجاه المتمردين والمتهاونين؟ هذا وحفظ وصاياه هنا إنما هو لبركة النفس الآن وإلى الأبد. إن الخاطئ الذي أزمن في حياة الشر يحتاج في الواقع إلى كل ما هو حسن وصالح، وهكذا يتغير مجرى الحياة كلها عندما يتوب الإنسان توبة حقيقية ويرجع إلى الله مؤمناً بالرب يسوع المسيح، وهكذا في كامل النعمة يعلن الله مشيئته وفكره بغاية الوضوح لكي يسير التائب في ضوء ما يعلنه على أن هذه العناية من جانب الله من شأنها أن تجعل عناد الإنسان وعدم مبالاته بوصاياه أكثر جرماً وشراً وبخاصة إذا كان الإنسان يحمل اسم الرب باطلاً.

أما في العدد الخامس فيطالعنا الرسول بشيء أعمق إذ يقول "وأما من حفظ كلمته". هذا شيء يختلف عن حفظ "وصاياه" ويتضمن طبيعة الطاعة ومداها لأن يفترض تقدماً روحياً ونمواً في الإدراك وعزماً في الاختبار، فلا تصبح مجرد "الوصية" الواضحة هي التي تتحكم في النفس بل "كلمته". وكلمته قد لا تتخذ شكل الوصية المحددة لكنها بكل يقين تكشف عما هو مرضى قدامه وذو قيمة في عينيه. وعندما تكون روح الطاعة قوية في القديس فإنه تكفيه إشارة بسيطة للأمانة في السلوك وإرضاء الله ولو لم ينطق الرب بما يشبه الوصية الصريحة.

وأليس عجباً ومؤلماً كيف أن روح القلب الناموسية تعمل في اتجاه عكسي؟ ففي النصرانية، ولاسيما بين جماعة المعمدانيين، ينتشر الرأي بحسبان المعمودية وعشاء الرب وصيتين صريحتين، مع أنهما في الواقع ليستا شيئاً من هذا القبيل. فأين نجد وصية للشخص أن يتعمد أو يشترك في عشاء الرب؟ إن الوصية تقلل من قيمة الشيء وتجعلنا ننظر إليه من وجهة نظر خاطئة. فالمعمودية المسيحية هي امتياز ممنوع للنفس بسلطان الرب يسوع. لذلك نسمع الخصي الحبشي يقول من تلقاء نفسه "ماذا يمنع أن أعتمد". وبطرس في حادثة كرنيليوس وأماكن أخرى يقول "أترى يستطيع أحد يمنع الماء؟" فلو كانت المعمودية وصية أو أمراً لكان في القولين شيء من الغرابة إذ من ذا يفكر في منع وصية الرب والوقوف في وجه تنفيذها؟ ولكن هنا يتخاصم الذين من أهل الختان بشدة. ومع ذلك فتش الكتاب أيها القارئ كما تريد فلن تجد المعمودية في صورة وصية في أي مكان. لاشك أن الشخص الذي تناول قضية المسيحي المعترف حديثاً قد يعمده أو يرشده إلى من له أن يعمده. ولكن القوم لا يقصدون ذلك بل يعتبرون المعمودية وصية من الرب يسوع للمعترف نفسه. ولكن الرب لا يضع المعمودية هذا الوضع. إنها امتياز يسره أن يمنحه بحسب كلمته؟ ولهذا فهي ليست وصية بالمعنى الأدبي أو الناموسي. وهكذا الحال مع عشاء الرب. يقول الرب "خذوا كلوا". فهل هذا يجعله وصية؟ هبني في ساعات احتضاري وقد وقف أحد أحبائي إلى جانب سريري فقلت له: "خذ كتاب المقدس هذا واحفظه". إنك لو اعتبرت هذا أمراً فاسمح لي أن أقول أن عقليتك وتفكيرك ليس من النوع الرفيع. فما كان ذلك أمراً بل علامة محبة. وهنا كل الاختلاف. صحيح أن له قوة الوصية وتأثيرها ولكنه أعظم منها بكثير ومختلف عنها. إنه مرتبط بعواطف وذكريات شخص كان حبيباً إلى النفس وغالياً عليها في زمان طويل حتى في ساعة رحيله. هكذا أعطيت من سرير المحتضر وهكذا قبلت بنفس الروح، وهكذا يجب أن يفهمها كل ذي فهم وتمييز.

وإليك مثلاً آخر قد يجعل المسألة أكثر وضوحاً. لنفترض عائلة صغيرة متواضعة تعتمد في معاشها على أتعاب عائلها اليومية. ومن عادة الرجل أن يمضي إلى عمله مبكراً جداً. ففي أحد الأيام وهو يتهيأ لمغادرة المنزل وإذ بالزوجة قد فاجأها مرض مباغت والزمها الفراش. وهنا تقوم صعوبة. فها هي شريكة حياته التي تعودت أن تبكر القيام مسرورة لتعد له طعام إفطاره وربما بعض ما يعوزه طوال يوم عمله، قد أصبحت مريضة بحيث لا تحتمل سمع الكلام. فما العمل في هذا الظرف المفاجئ الطارئ؟ ها هي فتاة صغيرة من أفراد الأسرة تدرك حقيقة الموقف لم يأمرها أبوها بعمل شيء ما لكنها تلمس الظرف. هي ترى أن الظروف اليوم تختلف عنها بالأمس. وحيث أن الأم ربت الدار لا تقو على العمل وإدارة الموقف فهي تتقدم لتفعل ذلك. بالأمس كانت تساعد أمها أما اليوم فهي تدير الدفة بنفسها، وها هي تنهض مبكرة وتعد لأبيها طعام إفطاره وغذاءه في ساعات غيابه عن الدار. ليس في هذا الحادث أي وصية أو أمر، ولكنه يساعد على توضيح المراد من القول "كلمته". فكما أن لكمة الله تعبر عن إرادته ولو لم تحمل في طياتها أمراً، كذلك هذه الابنة عرفت ما يلزم لتنفيذ إرادة أمها لو كانت قادرة على الكلام. لقد رأت أباها في حالة ارتباك بسبب مرض زوجته بحيث لم يقدر أن يفعل شيئاً في أمر تهيئة طعامه في الوقت الذي كان لابد له أن يذهب إلى عمله كالمعتاد. أدركت هذا كله وبدون ضجيج قامت بالعمل التي كانت تعمله الأم. ذلك لم يكن حفظاً لوصية ولكنه يبين المعنى المقصود من "حفظ كلمته".

هكذا ينمو المؤمن في معرفة الله ويسر في عمل ما يرضيه. ليس فقط بإتمام ما هو في صورة وصية أو أمر صريح بل في صنع مشيئته الصالحة حينما يعرفها هذا فيه كل الكفاية للقلب المطيع والأمر في ذلك لا يحتاج إلى التماس الإرشاد للضمير من الخارج أو استشارة أي شيء في الداخل. كلا، فأنا مطلوب مني أن أكون خاضعاً لله وذلك بحفظ كلمته. على أن أفعل مشيئة الله، وهي معلنة الآن في كلمته المكتوبة، أي الكتب المقدسة التي أعطيت لنا لإنذارنا كما لتعزيتنا وهكذا لاق بالرسول بولس في ساعة الوداع الأخيرة أن يستودع القديسين لله ولكلمة نعمته فإذا كنا نريد أن يصنع جميع القديسين مشيئة الله فلنبدأ نحن بكل تواضع في صنعها من جانبنا. وها هي مشيئته معلنة بكل وضوح في كلمته. ولا ننسى أن أحسن طريقة لقراءة كلمته قراءة صحيحة هي أن نرى المسيح نفسه كغرض الله في كل جزء من أجزائها ليس المقصود ما قاله المسيح فقط ولو أن ذلك مهم وعظيم. ولا ما أوصى به ولو أن لذلك قيمته العظمى وخطورته البالغة، بل ما أظهره المسيح في كل ساعة من ساعات حياته هنا على الأرض، فمرة نراه مع الله مبكراً قبل طلوع النهار، فهل لا يوجد لي ولك صوت في هذا؟ ثم لاحظه حينما يكون أمامه في اليوم التالي أن يعمل عملاً خطراً، كيف يقضي الليل كله في الصلاة مع الله. يقيناً أن في ذلك درساً في نفوسنا. صحيح أنه لا يخطر ببالنا أننا نستطيع أن نفعل عين ما كان يفعله المسيح أو أن ننفذ الأمور كما كان ينفذها تماماً ولكن من منا ينكر أنه كان في ذلك تاركاً لنا مثالاً؟ والمثال ليس أمراً أو وصية ومع ذلك فالمقصود به على أي حال أن يترك تأثيره القوي على اهتمام النفس وطاعتها.

ولذلك "من قال قد عرفته وهو لا يحفظ وصاياه فهو كاذب وليس الحق فيه" (عدد 4) لأنه معنى هذا انعدام روح الطاعة في شخص كهذا. فهو ليس فقط لا يحظ كلمته بل إنه لا يحفظ حتى وصاياه. إنه يهمل التزاماته ويطرح جانباً الوصايا الإلهية ليست التي في العهد القديم فحسب بل التي في العهد الجديد وهي ما تعنيه بصفة خاصة لأن هذه الوصايا الجديدة هي أول صورة معنية لاختبار اعترافه المسيحي وإذا لم يكن له ضمير يحفزه على حفظ وصاياه، فلا داعي أن نسأل كيف يعامل المسيح أو العهد الجديد في مجموعه.

وفي العدد الخامس نأتي إلى نقطة أخرى – "وأما من حفظ كلمته فحقاً في هذا قد تكلمت محبة الله" هنا اهتمام واضح بكل فكر الله والباعث عليه لأن كلمته محبوبة فنحن هنا أمام قلب ذات يبرهن على طاعته لا بحفظ وصاياه فقط بل أيضاً بحفظ كلمته والكلمة عنده ليست ذات سلطان وتأثير على النفس فقط بل غالية وعزيزة لذلك هو يفتش فيها بسرور ويخرج منها بفائدة. وحيث يكون الأمر كذلك، فإن يوحنا لا يتردد في القول بأن محبة الله قد تكلمت في شخص كهذا.

وهنا أيضاً أجد الفرصة مناسبة لإبداء ملاحظة عامة عن أسلوب الرسول يوحنا الخاص ليس في هذه الرسالة فقط بل في كل كتاباته. فهو ينظر إلى الأمور طبقاً للمبدأ الإلهي المعلن دون أن يشغل نفسه بالعوائق والتقصيرات من جانب الإنسان. فتراه لا يتناول السقطات التي قد تعترض طريقنا بسبب التهاون أو الإهمال، بل حينما يتكلم عن المسيحي الحقيقي فإنه ينظر إليه كمن هو سالك في تنفيذ فكر الله ولذلك هو لا يشوه المبدأ بإدخال شيء من التقصير هنا أو قليل من التهاون هناك، وإنما يرسم بوضوح ما يرضي الله ويليق بأولاده. وهذا يتم حتى في حالة الأولاد (أحدث المؤمنين) بحفظ "وصاياه" أما في حالة البالغين المحنكين فليس فقط بحفظ وصاياه بل بحفظ "كلمته" بصفة عامة، وهي الكلمة التي تعبر عن مشيئته تعبيراً كاملاً وبكل صورة.

من أجل ذلك نقرأ عن سيدنا له المجد قوله المأثور "هأنذا أجيء لأفعل ... " ماذا .... ناموسك؟ كلا وصيتك؟ كلا. مع أنه بكل يقين حفظ ناموسه وتمم وصيته، بل أكثر من ذلك إنه أكرم الناموس وبرره وعظم سلطانه ومداه كما لم يفعل إنسان قط. ولكنه جاء ليفعل "مشيئة" الله. وهو لا يقول ذلك فقط بل "في درج الكتاب مكتوب عني" ذلك الدرج الذي لم يعرفه سوى الآب والابن والروح القدس. مشورات الله السرية وفكره السرمدي الذي تسجل بعد ذلك في سفر المزامير. وهذا الذي قيل مغاير للناموس وطقوسه. بمحرقات وذبائح للخطية لم تسر، ومع ذلك فهو هناك مكتوب ومسجل. وعندما جاء الابن كإنسان كان هذا ما جاء ليفعله – مشيئة الله. ومشيئة الله هذه فاقت بكثير ما كان يعرفه الناس كالعشر كلمات أو العشر وصايا. كانت النعمة المطلقة هي إعلانها. ولم يكن عمله مجرد صنيع مشيئة الله بل احتمال الآلام في تنفيذها، لأنه أطاع حتى الموت موت الصليب، ومتى كان الناموس يطلب أو يتوقع مثل هذه التضحية من البار؟ هل كان يخطر ببال الناموس شيء كهذا أن قدوس الله يموت من أجل الفجار؟ ولكن مشيئة الله لم تكن شيئاً أقل من هذا، وهو له المجد قد عرفها قبل أن يكون زمان.

عبثاً كان الكلام عن الذبائح والقرابين من دائرة الخليقة، فكأن الله كان يقول بلغة الواقع "إن هذه كلها لن تنفع ولن تفيد". إن دم ثيران وتيوس لا يمكن أن ترفع خطايا، أو تنجى من بحيرة النار أو تخلص الأثيم من دينونة الله. ولا يستطيع أي طقس ما أن يجعل الإنسان الرديء إنساناً صالحا ً أو يأتي به إلى الله بلا عيب وأبيض كالثلج. فماذا إذن؟ - "مكتوب عني". وهكذا صار حتى أنه نزع الأول أي الناموس وثبت الثاني أي مشيئة الله. ومشيئة الله في النعمة المطلقة هنا هي خلاص أشر الخطاة بواسطة موت الرب يسوع. أليس ذلك يدل على مبلغ القوة التي تنطوي تحت ما أعطاه لنا الله في الكتب المقدسة؟ إن خلاصنا كان غرض الله ومشيئته قبل كل شيء. وقد عرف الرب هذه المشيئة منذ الأزل ولما أتى ملء الزمان جاء ليتممها، وفي تتميمها تألم إلى أقصى حد. إن أي عمل من أعمال القوة مهما كان عظيماً لم يكن كافياً لإتمام هذه المشيئة. أكان مستعداً أن يجعله الله خطية وأن يحتمل ل النتائج لكي يمجد الله حتى من جهة الخطية وذلك يجعله عملاً باراً من جانب الله أن يمنحنا الغفران الكامل، بل أن يبررنا ويمجدنا؟ إذن فليتألم من أجل الخطايا تحت يد الله المقدسة الممتدة ضد الخطية والموقعة عليها ما تستحقه من دينونة عادلة. ومع ذلك فقد احتمل الكل بخضوع كامل مهما كانت الكلفة على نفسه البارة. هنا يتجلى البون الشاسع بين الناموس والنعمة.

وكما المسيح هكذا المسيحي من جهة هذا المبدأ مع الفارق العظيم وهو أنه الله الكائن على الكل وأنه صنع الكفارة لأجلنا. فنحن أيضاً لنا قبل أن ندخل ميدان العمل، كما كان لسيدنا الحياة في ذاته طوال الأزلية قبل أن يجيء إلى العالم. فشأننا إذن هو العمل من فيض الحياة، وليس لأجل نوال الحياة، كما هو شأن الإنسان تحت الناموس. نعم، فإن السلوك المسيحي هو ممارسة الحياة الجديدة الأمر المستحيل على من ليس له حياة، والممكن فقط للشخص الذي له هذه الحياة بتثبيت عينه على الرب يسوع. وإلا فلا تكون العين بسيطة إذ قد تنشغل بهذا الشخص أو ذاك الشيء حينما لا يكون السلوك بحسب النور – "إن كانت عينك بسيطة فإن جسدك كله يكون نيراً". والمسيح وحده هو الذي يجعل العين بسيطة.

ذلك مشار إليه بكل وضوح هنا، ولكن يوحنا يضيف شيئاً آخر. "بهذا نعرف" ليس فقط أننا قد عرفناه بل "إننا فيه" ذلك يفترض حصول النفس على امتياز عظيم وبهذه الطريقة يشجع الله أولئك الذين هم بحق طائعون بالروح. فهم ليسوا فقط يعرفون بل هم فيه. ويا له من أمر عجيب أن يتأكد القديس أنه في المسيح! هو غير المحدود، ونحن المحدودون الضعفاء المساكين، مهما كنا مباركين بالنعمة. ولكن الحياة هنا معلقة بالاعتماد على الله وابنه، وروح الله يقوي الشعور بهذا الاعتماد ويستخدم الكلمة لتثبيتنا وتأييدنا في هذا الوضع. وماذا ترينا هذه الكلمات؟ فما أسعد إذن أن نعرف ما هو الله لنا وما كان لأجلنا! ويا لها من تعزية وقوة تحملها لنا هذه الكلمات في شعورنا بضعفنا!

وإذا قارنا (يو 14: 20) نتعلم أن الوجود في المسيح هو جزء من تلك المجموعة الغنية من الامتيازات المسيحية التي أكدها له المجد للتلاميذ ابتداء من اليوم الذي جاء فيه الروح القدس ليكون فيهم ومعهم بعد صعوده إلى الآب، إذ قال "في ذلك اليوم تعلمون أني أنا في أبي وأنتم فيّ وأنا فيكم". فهناك أولاً المركز العجيب العادل، مركز الرب المقام في أبيه. أنه لا عجب أن يكون وه الابن الوحيد الحبيب في ذلك المركز الذي هو حقه الجوهري في اللاهوت ولكنه يعلن الآن لهم لأول مرة أنه مكانه الحق باعتباره الإنسان المقام كما كان حينئذ وسيظل كذلك إلى الأبد. هذا مكانه عند الصعود ومكافأته العادلة بسبب رفض العالم إياه (يو 16: 10) ونحن المؤمنين نعرف بالروح المرسل لنا من الآب باسم المسيح أنه في أبيه هناك، وهو مركز يسمو بكثير عن مركزه كالمسيا عن عرش داود، أو حتى كابن الإنسان متسلطاً على جميع ممالك الأرض في الملكوت العتيد. هذا هو مركزه وما كان ممكناً أن يكون له إلا باعتباره أقنوماً إلهياً وواحداً مع الآب مع كونه الإنسان المقام بعد إتمام الفداء، وهذا ما يعطي المسيحية سموها وعظمتها الفريدة.

ولكن كان يجب أن يعرفوا بعد ذلك أنهم فيه، ليس فقط أنهم بفضل موته وقيامته صاروا جزءاً من الثمر الكثير الناتج من حبة الحنطة التي وقعت في الأرض وماتت، بل أنهم لهم فوق ذلك مركزاً وثيقاً سماوياً في شخصه المحبوب بقدر ما كان ذلك ممكناً للمخلوق، ليس فقط الحياة المقامة بل مركز القرب المضمون فيه هناك وهو المركز الذي نعرف أنه نصيبنا الآن ونحن على الأرض. كذلك كان عليهم أن يعرفوا أن المسيح فيهم، وهو حق تتميز به رسالة كولوسي (1: 27)كما تتميز رسالة أفسس بكونهم في المسيح (1: 3، 2، 6 و 10 الخ) مع الفارق أن رسولنا يتناوله كحق من ناحية الفرد بينما بولس يتناول في ناحية وحدانية جسد المسيح أي الكنيسة وهو نصيب كل مسيحي بالحق، وعدم معرفته هو عار عدم الإيمان في النصرانية الاسمية. ومن أسف أن عدم الإيمان هذا قد شوه أذهان الكثيرين من المؤمنين في الوقت الحاضر بل منذ انتقال الرسول الذي يوضح هنا أن إدراك هذا الحق وتحقيقه توقف على حفظ كلمة الله وتكميل محبة الله في النفس. على أن هذا ليس شيئاً أكثر مما يليق بكل مسيحي، وانعدامه يحزن روح الله القدوس الذي به ختمنا ليوم الفداء، أي فداء الجسد. أما قلة الإيمان أو الأمانة فتضع غشاوة على بصرنا الروحي فلا تر بالأسف أحسن امتيازاتنا وأفخرها.

"من قال أنه ثابت فيه" ا شيء آخر قد يكون مجرد تفاخر، وتفاخر أجوف فارغ فيقابله الرسول بطريقة تختلف عما اتبعه مع المتهاون لمزدري بسلطان الله فهذا قد حكم عليه بأنه كاذب وليس الحق فيه، وبمنى آخر قد دمغه بطابع من لم يأخذ شيئاً حقيقياً من الله، أما في حالة الاعتراف بالثبات فيه، فما أهدأ الاستنتاج وأقواه. أتقول أنك ثابت فيه؟ إذن ينبغي أن تسلك كما سلك هو أيضاً. هنا لا يوجد ادعاء بالخلو من الخطية. ولكن إن قلنا أننا ثابتون في المسيح، فلنعلم أن تأثير الثبوت في المسيح لابد وأن يظهر على الفور وبقوة في السلوك. فالسلوك هو المعبر عن الحياة في نور الله. وإن كنت ثابتاً في ذلك الذي هو الحياة والنور، فما الذي يمنع سلوكي كما سلك المسيح؟ إننا في محضره لا نخطئ، ولكننا نخطئ متى فقدنا الإحساس بذلك المحضر. وسلوكنا هو بالنعمة نفس سلوك المسيح من حيث المبدأ وإن كنا لا ندعي بأنه من نفس المقياس. المسيح هو المقياس وليس الناموس.

نحن نعلم أنه من السهل أن ننزلق، ومن اليسير أن ننسى الرب قليلاً، وأن نسمح لنشاط طبيعتنا أن يلعب دوره. وكل ذلك ليس ثابتاً فيه، ولكن الرسول لا يتجه نحو التفاصيل. بل ينظر إلى المبدأ. والمبدأ شيء مطلق. والشخص الذي يأبى أن ينظر إلى الحق المطلق لأن في الإنسان هذا الخليط الشاذ، فذاك معناه ترك الإيمان والاستعاضة عنه بالشعور والإحساس. وكيف يمكن لشخص كهذا أن يفهم حق المسيح هنا وفي غيره من المواضع الكتابية؟ إن الحق يجب أن يكون مطلقاً في المسيح وعمله. والنعمة يجب أن تكون مطلقة ليستفيد منها الخاطئ الهالك. إن كان يعطيني تبريراً، فهو تبرير كامل ومؤكد. وإن كان الله يبرر الفاجر، فهو تبرير مطلق كمنحة الحياة الأبدية في المسيح تماماً. والمؤمن له الحياة الأبدية لكي يتسنى له أن يطيع وأن يتمتع بالشركة مع الآب ومع ابنه. ومن أجل هذا نقرأ هنا "من قال أنه ثابت فيه ينبغي أنه كما سلك ذاك هكذا يسلك هو أيضاً". والرسول يترك هذا ليفعل فعله في الضمير، إذ لا يوجد هنا ادعاء اسمي من قول الإنسان أنه ثابت في المسيح. ليس هذا مجرد معرفتي أنني فيه، مع ما في هذا من بركة عظمى، بل إنني اعترف بجعل إياه مقراً لنفسي لكل فرح وكل ألم، لكل خطر ولكل صعوبة. هذا هو الثبات فيه. وإذا كان الأمر هكذا معي فينبغ أن أسلك كما سلك هو. ولكن هل هذا الواقع بالعمل والحق؟ إن فشلنا في الثبات الحقيقي فيه ظاهر في تقصيرنا في السلوك ولكننا كمسيحيين نعترف بالمسيح كمقياسنا الحقيقي مهما كان هذا مذلاً لنا. نحن لا ندعي أننا نسلك بنفس قياس سلوك المسيح لكننا نسعى بالنعمة لنسلك حسب هذا القياس.

  • عدد الزيارات: 3178